يا نفس! تيقنى ما أقوله لك وتدبريه: إن كنت متحققة لشىء غير ما تدركينه بالحواس الخمس فقد توجهت إلى طريق نجاتك. وإن كنت لم تتحققى شيئا من الأشياء إلا ما شاهدته ببصر الجسد وسمعه وذوقه وشمه ولمسه فأنت إذن موقفة على طريق العطب ومقاساة العذاب.
يا نفس! إن حد التقى كلمة ينبغى أن تعقليها وتتيقنى معناها. فحد التقى أن تتقى الأشياء الضارة لك. وكل شيئين يكون أحدهما ضارا للآخر فينبغى أن يكونا مختلفين فى معناهما، لأن المضرة إنما تكون بالمخالفة، كما أن المنفعة إنما تكون بالاتفاق. ومن اتقى الأشياء المضرة كان متقيا بالحقيقة؛ ومن واصل الأشياء المضرة له مع الأشياء النافعة فقد صار لا متقيا بالحقيقة ألبتة: لا لضار ولا لنافع. ومن واصل الأشياء الضارة له واتقى الأشياء النافعة له فقد يقال له أيضا إنه غير متق إذا اتقى ما ينفعه وواصل ما يضره. وليس يوجد من الموجودات شىء آخر يكون لا نافعا ولا ضارا. فإن آثرت يا نفس المنفعة فواصلى الأشياء الموافقة لك فى معاييك، وإن آثرت المضرة فواصلى الأشياء المخالفة لك فى معانيك. وإن آثرت الحيرة والتوهان والإشراك والشكوك فواصلى الأشياء النافعة والأشياء الضارة جميعا. إذ لا تجدين حالا من الأحوال غير ما قد رسمته لك.
فتيقنى يا نفس هذه المعانى: فإن كنت نيرة مضيئة فلا تشافهى الظلمة، وإن كنت حية ناطقة فلا تشافهى الموتى البكم. وإن كنت عاقلة مميزة فلا تشافهى الجهال والعميان.
مخ ۸۹