يا نفس! تمثلى وتصورى ما أنا مورده لك من المعانى العقلية الموجودة وجودا دائما. فما تصورته فقد عقلته واقتنيته وتيقنته كتيقنك أن الحى جنس لنوع الإنسان، وأن المتنفس جنس لنوع الحى، وأن الجسم جنس لنوع المتنفس، وأن الجوهر الأقصى جنس لنوع الجسم؛ وكتيقنك أيضا أن المستوى غير المعوج، وأن الكل أعظم من الجزء، وأن الماء يروى من العطش وأنه بارد رطب بالطبع، وأن النار تحرق وتنضج وأنها حارة يابسة بالطبع — وكسائر ما قد عقلته وشاهدته وشافهته فى عالم العقل وعالم الحس، وما خفى عنك يا نفس مما أنا مبينه لك، فاستعملى فيه التمثل العقلى المتقن الصحيح البرىء ومن الاختلاط والاختلاف، فإنه سيدلك ظاهر ما شاهدته على باطن ما خفى عنك، كما استدل الناظر إلى الصورة الممثلة فى الحائط على وجود المصور لتلك الصورة الممثلة، وكما استدل بما عاين من حركات يده على سرائر تخطيطها وتشكيلها على لطائف ما كان قائما فى فكره ونفسه من جملة ذلك، يا نفس: فإنه قد يستعمل التمثيل على سائر الأشياء بالآثار الموجودة عند غيبة المؤثرين لها، وأيضا قد يستعمل التمثيل له فى الاعتبار والتعجب مما قد ورد ومما هو وارد لا محالة بضروب الأمثال على غائب الأشياء وشاهدها. فاستعملى، يا نفس، التصور والتمثل فى سائر الأشياء الموجودة عقلا وحسا. واعلمى أن الشىء الذاتى بالحقيقة الأصلى التام النورى هو المفيد الحكم اللطيفة والتمييزات الشريفة والحياة الدائمة وسائر الأشياء التى هى جزئيات له لا أجزاء، وهو كلى لها لا كلا. فاعتبرى ذلك يا نفس وتيقظى واحذرى الغفلة والتوانى، واستعملى التهذب من أوساخ الطبيعة؛ واستعينى على ذلك بالخضوع والرغبة والابتهال إلى ينبوع الخير ومظهره، وأصل العقل ومبدعه، ومفيد الحياة والحكمة والجود التام والرحمة، تحيى بذلك يا نفس وتسعدى.
يا نفس! عن مبدع الأشياء ومبدئها ومنشئها — جل جلاله وتقدست أسماؤه — صنعك وأبدعك وجعلك ذات التصور والتمثل: فأما التصور فتصورك الشىء على حقيقة ما أبدعه مبدعه؛ وأما التمثل فتمثلك ما خفى عنك معناه من عالم العقل بما شاهدته فى عالم الحس، مثلا بمثل، ومعنى بمعنى، كما أن تدل ذات الصورة المطبوعة فى الشمع على معناها وحقيقتها فى الطابع، وكما تدل الصورة الممثلة فى الطابع على معنى حقيقتها فى نفس ممثلها ومصورها؛ وكما يؤثر الماء فى الرمل والطين معانى حركاته وتموجه.
مخ ۵۶