يا نفس! أليس سائر ما يتكون من التراب كالحجارة وغيرها يرجع متحللا إلى التراب الذى هو أصله ونبعته، حتى إنه لو أخذ جزء من الأرض فعلى به على وجه الأرض ثم خلى سبيله لعاد مسرعا بحركته الطبيعية إلى عنصره وأصله؟ وكذلك سائر المياه تراها أبدا منحدرة بالطبع ذاهبة مجتازة إلى عنصرها الأعظم مالم يعقها عائق — كسائر العيون التى تنضاف إلى الأنهار، وكسائر الأنهار التى تنضاف إلى البحر الذى هو عنصر الماء. وكذلك كل شىء مما سوى ذلك كسيلان النار إلى العلو راجعة إلى عنصرها الأعلى، وكسيلان الهواء راجعا إلى عنصره. فإذا كانت هذه الأشياء التى ليس لها عقل ولا تمييز، وإنما حركتها حركة هيام وطبع به يتحرك كل واحد منها إلى حيث شرفه وعزه وقوته، ويأبى الغربة والبعد عن وطنه ومحله — فما بالك أنت، يا نفس، وأنت ذات العقل والتمييز، تأبين الرجوع إلى وطنك وعنصرك الذى هو شرفك وعزك، وتكرهين ذلك وتحبين البعد عن أصلك ونبعك، وتختارين اللبوث فى الأرض الغريبة، ومقاساة الذل والهوان؟! فياليت شعرى! أبالطبع تختارين ذلك، أم بالعقل؟ فإن كان ذلك بالطبع فساوى الطبيعة فى أفعالها ورجوعها أمدا إلى عناصرها. وإن كان هذا منك بالعقل والتمييز، فكيف يجوز للعاقل المميز أن يختار الغربة على الوطن، ومحل الخساسة على محل الشرف، ومقاساة الذل والهوان على الراحة والعز والكرامة؟! ومن حصل على هذه الرتبة فقد بان أنه لا يعد فى رتبة الطبيعيات ولا فى رتبة العقليات. وما لم يكن من هذين الجنسين فليس بشىء ولا يعد فى الموجودات، بل ينبغى أن يكون منفيا منها. — فتصورى يا نفس هذه المعانى، وارجعى بعقلك إلى شرفك الأعلى ومحلك الأقصى.
يا نفس! إنى تأملت اللذات كلها فلم أجد ألذ من ثلاثة أشياء، وهى: الأمن، والعلم، والغنى. ولكل واحد من هذه الأشياء أصل وينبوع يحركه: فمن طلب العلم فليذهب إلى معنى التوحيد فإنه بالتوحيد تكون المعرفة والعلم والتحقيق، وبالإشراك تكون النكرة والجهل والشك. ومن طلب الغنى فليذهب إلى رتبة القنوع، فإنه حيث لا قنوع لا غنى. ومن طلب الأمن فليعتقد التمنى لمفارقة عالم الطبيعة، وهو الموت الطبيعى.
مخ ۷۵