يا نفس! ليس الزهد فى الدار ترك تزويقها وإصلاحها مع الرضا بالمقام فيها. وإنما الزهد التام الرضا بالتحول عنها، والاشتياق إلى النقلة منها. وكذلك يا نفس: ليس الزهد فى عالم الطبيعة ترك لذاته وشهواته مع الرضا بالمقام فيه. وإنما الزهد بالحقيقة شدة الشوق إلى مفارقته والراحة منه ومن معاندته ومضادته واختلافه وظلمته. — فينبغة لك يا نفس أن تعتقدى الشوق إلى الموت الطبيعى والرضا به؛ وتحاذرى الفشل عنه. فبالخوف منه تكون الهلكة، وبالتشوق إليه تكون السلامة. أليس تعلمين يا نفس أن بالموت الطبيعى تنتقلين من الضيق إلى السعة، ومن الفقر إلى الغنى، ومن الحزن إلى السرور، ومن الخوف إلى الأمن، ومن التعب إلى الراحة، ومن الألم إلى اللذة، ومن المرض إلى الصحة، ومن الظلمة إلى النور؟ فلا تأسى يا نفس أن تسلبى حلل الشر والشقاء، وتلبسى حلل الخير والبقاء، مع تيقنك حقيقة ذلك ومشافهتك إياه ومشاهدتك له بذاتك الفاردة الوحيدة.
يا نفس! تطالبين بالإخوان والأصحاب فى عالم الكون، وقد علمت أن ذلك من جنس الممتنع، وإنما يوجد ذلك فى عالم الروحانيين لانفراد ذواتهم وتمحضها وصفائها. فإن أحببت ذلك فصيرى إلى هناك لتظفرى بمطلوباتك، ولا تطلبى فى عالم الكون ما ليس فيه، لأن سكانه أسرى ومماليك. وأى أخوة لأسير، وأى عهد لمملوك! فتيقنى ذلك، واعملى به، واعتقديه.
يا نفس! اعلمى وتيقنى أن كل فاقد تائه، وأن كل تائه هالك. فاحذرى أن تقتنى ما تفقدينه فتتوهى وتهلكى.
يا نفس! ما أشد مفارقة الأحباب! وأشد من ذلك محبة كل مفارق!
يا نفس! إن أهل الدنيا مظلومون ظالمون، مغرورون غارون: ومن ذلك أنهم يستقبلون النفس الواردة إلى دار الهموم والأحزان بالطرب والسرور، ويشيعونها — إذا صدرت عنها — بالبكاء والعويل. وكفى بهذا، يا نفس، ظلما ومخالفة للحق والعدل!
مخ ۷۱