مؤسس مصر حديثه
الاتجاه السياسي لمصر في عهد محمد علي: مؤسس مصر الحديثة
ژانرونه
ثم بعد أن استتب له الأمر في هذه البقاع التعيسة يمم وجهه بعزيمة مضاعفة شطر الدجلة والفرات، وهناك أخذ يفكر في أي الفتوحات أعود بالفائدة والكسب. وقد صرح مرة، فقال: «لقد أكسبني السيف بأسا، ووضع في يدي من السلطان ما أكون معه ناكرا للجميل إن لم أواصل استعماله في سبيل خدمة الإمبراطورية التركية وإنقاذها.» وهنا اعترض الضابط الفرنسي الذي قيلت أمامه هذه العبارات الخصوصية، فقال: «ولكن أتظن يا باشا أن الإنجليز يتركون لك الوقت الكافي لإتمام هذه المشاريع الهائلة؟!»
أما الحقيقة فهي أن الباشا ما كان في استطاعته أن يحقق شيئا من هذه المشروعات ما لم يتوصل قبل ذلك إلى اتفاق مع بريطانيا العظمى، وبذا يضمن معونتها. وأغلب الظن أنه كان يعلم كغيره هذه الحقيقة حق العلم، ولعل الوقت كان يقترب لإدراك هذه الغاية أكثر من أي زمن في تاريخ حياته، وكان لا بد لجعل المعاهدة مقبولة في أعين الإنجليز من توفر شرطين؛ أولا: أن تتوتر علاقاتنا مع السلطان أشد توتر - هذا إن لم تقطع بتاتا - وهو شرط لم يكن مناص منه قبل التفكير في الاعتراف لمصر بوجود سياسي مستقل. الشرط الثاني: أن يكون لدى الباشا مزايا يستطيع منحها أو منعها تتناسب مع ما تتضمنه المحالفة من الالتزامات. وقد بذلت فعلا محاولة في هذا الصدد بعقد معاهدة مع حكومة الشركة في الهند، ولكن تبين في سنة 1810م للسلطات الإنجليزية أن تنمية التجارة عن طريق السويس مشكوك فيها؛ ولذا لم تبرم المعاهدة المذكورة. أما الآن فلعل فتح إبراهيم لشبه جزيرة المورة يكون بمثابة ضمان أقوى له قيمته العظمى.
فلقد كان من شأن الثورة اليونانية أن تثير الاهتمام في كافة أنحاء أوروبا؛ ولهذا حياها الشعراء والأحرار شعرا ونثرا ووصفوها بأنها بمثابة مولد الحرية من جديد، بل إن الخاملين من المؤرخين أحسوا في حجراتهم المهجورة بروح الإعجاب تجيش في صدورهم؛ لما اعتبروه تكرارا لذكريات ماراتون وسلاميس، فلما تبين لأولئك المعجبين أن الثورة توشك أن تقمع في بحر من الدماء هاج هائجهم وراحوا يجأرون بصيحة الغيظ والحنق على محمد علي وولده إبراهيم. ومن ثم، اشتدت النعرة ضد مساوئ الحكم التركي وأخذوا يبالغون في وصف تلك المساوئ، لا بل إن أولئك المولهين في حب اليونان رفضوا في حدة وغضب قول القائلين بأنه يوجد بين اليونان الحديثة واليونان المعروفة في التاريخ بون شاسع. ثم سارت الركبان بالأراجيف بأن إبراهيم قد بيت نيته على استعباد الشعب اليوناني كله، وأنه يزمع إقصاءه عن بلاد المورة وإحلال الأتراك أو العرب مكانه. وحتى جورج كاننج الذي لم يكن يحفل بالأراجيف رأى أن الحالة تتطلب التدخل؛ فكتب إلى ابن عم له، وهو سفير بريطانيا في الآستانة، يقول: «إن بيع الناس في سوق الرقيق وتحويلهم عن عقائدهم الدينية بالعنف وإقصاء المسيحيين عن أوطانهم واستبدالهم بأناس من البلاد الإسلامية، وبالجملة فإن السعي لإنشاء سلطة بربرية جديدة كل هذه الحقائق ... جديدة في نفسها وجديدة فيما تنطوي عليه من المبادئ وجديدة وغريبة وغير مفهومة إلى الآن فيما قد تؤدي إليه من العواقب، أقول: إن هذه الحقائق يصح في رأيي أن تكون قاعدة جديدة للتخاطب إن لم تكن للعمل ...»
وليس من شك في أن اتجاه حرب المورة في سبيل قسمة الأراضي وتوزيعها، وما كان للجيوش الإسلامية من التقاليد المعمول بها قد أحدثا حالة شبيهة بالتي أسخطت كاننج وأثارت استهجانه. وقد جربنا نحن - كما قدر لنا أن نجرب مرة أخرى في أرلندا - فقد كان يستحيل علينا التمييز بين الفلاح وبين الجندي؛ لأن الشخصيتين قابلتان للتبديل والتغيير. ثم إنه كان من العادات المعمول بها أن الأسرى من الرجال قد يصبحون أو لا يصبحون ملكا للقائد، ولكن الأسرى من النساء والأطفال يصبحن ملكا خاصا لمن يأسرهن. وحدث أن الآستانة كانت غاصة بالرقيق المجري أثناء انهماك الأتراك في الحرب مع المجر، كذلك أصبحت سوق النخاسة بالقاهرة غاصة بالرقيق اليوناني أثناء حرب إبراهيم في المورة، وكان من شأن هذا أن تصطدم عواطف الجيل الذي قد ينشأ حديثا بفظائع النخاسة وما يمر على الإنسانية من الويلات والنكبات.
على أنه ليس من الإنصاف في شيء توجيه أي لوم شخصي إلى محمد علي أو ابنه إبراهيم. وبهذه المناسبة أشار قنصلنا الجنرال إلى الحقيقة المرة الكاملة، فقال: «ينبغي ألا يفوتنا أن هذه المسألة لا تعتبر صفة خاصة ملازمة للنزاع الحاضر، بل هي وسيلة ألفها الأتراك في كافة ما أثاروا من الحروب ... كما لا ينبغي أن نفترض أن الباشا كان في وسعه إلى الآن أن يحدث تعديلا مذكورا في هذا الصدد، وإنه إذا كان قد تمكن من تحقيق شيء فإنما كان ذلك لعدم خروجه عن المعتقدات الراسخة في نفوس رعاياه.»
ثم إن العدو كان أقل بمراحل من الآلات التي ابتدعها الخيال؛ فلقد كان مجموع الرقيق اليوناني الذين جيء بهم إلى القاهرة 3000، وقد جاء بهم فريق من محبي المضاربة، وقد ابتاعوهم من الجنود.
ثم إن أكثر من نصف هذا العدد قد أطلق سراحهم بتدخل هيئات مختلفة، فقد افتداهم بالمال بعض السكان الأوروبيين الموجودين في مصر، كما أن البعض الآخر قد أفرج عنهم الذين ابتاعوهم بمجرد شفاعة خدمهم اليونانيين.
ولقد شجع محمد علي نفسه على الإفراج عن هؤلاء الرقيق إما بإصدار الأوامر وإما بتقديم المال من جيبه الخاص.
15
ولقد كانت أساليب هذه الحرب بربرية بلا جدال، ثم إن الوقت كان قد حان للقضاء عليها ولكنها لم تكن شخصية ولا متعمدة، ثم إنها لم تكن بهذا المقياس الهائل الذي زعموه. وعلى كل فإن صحة الرواية ليست لها علاقة تذكر بما تتركه من الأثر في النفوس.
ناپیژندل شوی مخ