ووجد الفاتحون العرب في وادي النيل فنانين مهرة ولا سيما في النسج والحفر في الخشب وصناعة الزجاج، وكان للمعماريين المصريين شهرة واسعة في فجر الإسلام، فقد وجدت أوراق بردية على مقربة من سوهاج ثبت من نصوصها أن فريقا من مهرة البنائين المصريين استخدموا في المسجد الجامع بدمشق، وفي المسجد الأقصى ببيت المقدس.
والمعروف أن المحاريب المجوفة التي تعين اتجاه القبلة في المساجد لم تكن فيها منذ البداية، بل كانت ظاهرة حادثة في عمارتها. وقد تبين علماء الآثار الإسلامية أن هذه الظاهرة المعمارية منقولة عن الكنائس المسيحية، وأن أول محراب مجوف بني في الإسلام شيده بناءون من القبط كانوا يعملون في الحرم النبوي بالمدينة المنورة، ولا ريب في أن العمارة والفنون الزخرفية الإسلامية في مصر احتفظت بطابع مصري يميزها إلى حد ما عن الطرز الفنية في سائر العالم الإسلامي. فضلا عن أن كثيرا من الموضوعات الزخرفية التي استخدمها الفنانون المسلمون في مصر مشتقة من الموضوعات الزخرفية القبطية، والإغريقية الرومانية في وادي النيل.
وكانت المنسوجات المصرية الإسلامية، والتحف المصنوعة من البلور الصخري ذات شهرة عالمية في العصور الوسطى، كما أن أقدم ما نعرفه من جلود الكتب الفنية الإسلامية تنسب إلى مصر في القرنين الثاني والثالث بعد الهجرة (8-9م)، ولا ريب في أن سائر الأقطار الإسلامية تأثرت بزخارفها وأساليبها الصناعية، بل إن تأثيرها امتد إلى جنوبي أوروبا، ولا سيما إيطاليا.
وكان الإنتاج المعماري والفني في مصر الإسلامية عظيما في مقداره ونوعه، بل إننا لا نجد له نظيرا في سائر الأقطار الإسلامية اللهم إلا في إيران، وحسبنا أن نقرأ وصف التحف الفنية التي جمعها الخلفاء الفاطميون، أو أن نرى التحف المحفوظة في المتاحف والمجموعات الفنية الخاصة، أو نقلب النظر في العمائر الإسلامية التي تزدحم بها مدينة القاهرة، والتي جعلت أعظم متحف للطرز المعمارية الإسلامية في ممر العصور.
ولا غرو فقد كانت خيرات مصر واسعة إلى أبعد حد، وكان بين يدي حكام مصر ثروتها الطبيعية، فضلا عن الأرباح الوافرة التي كانوا يجنونها من مرور تجارة الشرق في مصر والشام. وأصبحت مصر المركز الرئيسي لتبادل التجارة بين آسيا وأفريقية وأوروبا منذ أن ضعفت بغداد، ثم سقطت في يد المغول؛ فصار ثغر الإسكندرية «مخزن العالم» كما كانوا يسمونه إلى أن كشف طريق رأس الرجاء الصالح، فكان ذلك سببا في خراب مصر المالي، وإيذانا بسقوط دولة المماليك.
خاتمة
ولسنا نريد أن نعرض في هذه الرسالة الصغيرة لنصيب مصر الحديثة في بعث الحضارة الإسلامية، وتقويم دعائمها، والعمل على نهضة العالم الإسلامي، فقد عقدت لمصر الزعامة الثقافية في الأمم الإسلامية منذ انتشلها محمد علي من عصر الحكم التركي المظلم، فنظم التعليم، وأرسل البعثات إلى أوروبا، وأصلح إدارة البلاد وأحوالها الاقتصادية، ونسج خلفاؤه على منواله فانتشرت الطباعة، ونمت الصحافة، وقامت الجمعيات العلمية، وأنشئت المكتبات والمتاحف والجامعة. والحق أن مصر تنهض في العصر الحديث بمهمة التوفيق بين الحضارة الإسلامية التي ازدهرت فيها منذ العصور الوسطى والحضارة الغربية التي تأثرت بها منذ الحملة الفرنسية على وادي النيل.
وصفوة القول أن مصر - على عكس إيران وتركيا والأندلس - تخلت في الإسلام عن لغتها، وماضيها القومي، وكرست كل جهودها للحضارة الإسلامية فساهمت فيها بنصيب وافر، وأنجبت كثيرين من أعلام المسلمين في العلوم والآداب والفنون والسياسة.
ناپیژندل شوی مخ