مصر په د نهیم پېړۍ پیل کې
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
ژانرونه
وأما عنوان هذه الخطة التي سار عليها محمد علي، من حيث تطويع الجند، وإقصاء المشايخ والقضاء على المماليك بعد أن استنفد كل الوسائل لمصالحتهم، فهو الانفراد بالسلطة، ولا يعني الانفراد بالسلطة، أن الباشا كان مدفوعا إلى الاستئثار بكل أسبابها عن نزعة استبدادية، جعلته بطبعه يؤثر الطغيان على الشورى، ويستحل بعض الإقطاعات التي تمكنهم من العيش في هدوء وتحت كنفه ورعايته، ويعمد إلى إبعاد رؤساء الجند البارزين ليتخلص من منافسين يبغون مشاركته الحكم والسلطان في البلاد.
بل إن الانفراد بالسلطة، كان الدعامة التي يقوم عليها استقرار الحكم، ولا معدى عن استقرار الحكم إذا شاء محمد علي دعم أركان ولايته، وإنقاذ البلاد من شرور الفوضى الماضية، وبدء عهد من الإصلاح والإنعاش الداخلي، يرقى بأهلها إلى مصاف الأمم الفتية الحديثة، ولا يتسنى دعم أركان الولاية إلا إذا رضخ الجيش لسلطان صاحب الحكم في الولاية، واستطاع الحاكم إدارة شئون الحكم بما يكفل له تحقيق الأغراض التي توخاها، وقدر على بسط سلطانه حتى يشمل كل ركن في باشويته، ولقد أثبتت الحوادث أثناء فترة التجربة والاختبار الماضية، كما سوف تثبت في السنوات التي تتناولها هذه الدراسة، أن الجيش المتمرد، سواء بسبب تأخر مرتبات الجند، أم لتحريض بعض كبار الضباط والقواد المغامرين لهؤلاء الجند على الثورة والعصيان، أم لأن الجند أنفسهم، وكلهم من المرتزقة، كان حب السلب والنهب مغروزا في طبائعهم؛ أثبتت الحوادث أن هذا الجيش المتمرد عامل اضطراب وقلقلة، ومصدر خطر على الباشوية ذاتها، ثم إن هذه الحوادث أثبتت كذلك، أنه وإن كانت الفرصة قد تهيأت ليلعب الأشياخ والمتصدرون للزعامة الشعبية دورا هاما على مسرح الفوضى السياسية السابقة، فقد أظهر هؤلاء العجز كل العجز عن تفهم كنه الزعامة التي ينشدونها، وأقاموا الدليل بتحاسدهم وانقسامهم من جهة، وتكالبهم على الدنيا وإيثارهم لمصالحهم المادية والذاتية على كل ما عداها، ثم عدم فهمهم لدقائق السياسة، وقصورهم عن استشفاف ما وراء أعمال الباشا من مقاصد قريبة أو بعيدة من جهة أخرى، على أنهم لا يصلحون للزعامة التي ينشدونها، وأن اشتراكهم في الحكومة عن طريق إبداء النصح والمشورة معرقل لدولابها، ومعطل لمشروعات الباشا. وأما البكوات المماليك، فقد ظلوا خطرا يهدد بتقويض عروش الباشوية ذاتها، ولا سبيل إلى دفع هذا الخطر إلا بتقرير سلطان الباشوية في أرجاء الولاية بأسرها، وأثبتت الوقائع أن لا ندحة عن استئصال شأفة البكوات المماليك لبلوغ هذه الغاية.
ذلك إذا كان معنى الانفراد بالسلطة، وفي هذا المعنى أضحى الانفراد بالسلطة بمثابة حجر الزاوية في البرنامج الذي توفرت كل جهود محمد علي لتحقيقه، والذي استهدف رفع مصر إلى مرتبة وجاقات الغرب على أساس الحكم الوراثي في أسرته، وبينما سعى محمد علي سواء في علاقاته مع الباب العالي أم مع إنجلترة وفرنسا لبلوغ مقصده بالوسائل الدبلوماسية، فقد صار يعمل من أجل استقرار الحكم، وتشييده على دعائم ثابتة، حتى يخلق من الولاية المستقرة قوة تؤازره بثبوت وجودها فيما يبذل من مساع سياسية، فارتبط لذلك شقا برنامجه الخارجي والداخلي بعضهما ببعض ارتباطا وثيقا. وكما تكللت جهوده الخارجية بالنجاح، من حيث ظفره بوعد قاطع من الباب العالي برفع إيالة مصر إلى مرتبة الباشوية الوراثية عند إنفاذه جيشه إلى الحجاز والانتصار على الوهابيين، واستخلاص الحرمين الشريفين من أيدي هؤلاء، فقد أسفرت جهوده الداخلية عن استقرار الحكم ودعم أركان الولاية بفضل تطويعه الجند، وإخماد فتنتهم وعصيانهم، وإقصاء المشايخ عن شئون الحكم وسياسة الدولة والقضاء على البكوات المماليك. (1) تطويع الجند
ولقد كانت أولى المشكلات التي صادفت محمد علي عقب جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، وكانت مبعث خطر كبير - لا على باشويته فحسب، بل وعلى حياته هو نفسه كذلك - عصيان الجند وتمردهم على سلطانه، وقد شهدنا كيف بدأت حركة العصيان هذه والباشا لا يزال في الإسكندرية، وخشي كثير من المعاصرين المتطيرين أن يكون هذا الحادث نذير شؤم على حكومة الباشا، وقوى تشاؤمهم بسبب انقلاب السفينة التي نزل منها محمد علي وحسن باشا طاهر وسليمان آغا (وكيل دار السعادة سابقا) حال رجوع الباشا من الإسكندرية، وذلك عند زفتية، ثم ما حدث عند دخول محمد علي القاهرة؛ حيث كبا به حصانه وأصابته رضوض شديدة، فضلا عن حادث آخر ذكره «دروفتي» في كتابه إلى «سباستياني» في 10 أكتوبر، هو سطو اللصوص على غرف الباشا التي ينام فيها وسرقتهم أشياء ثمينة بجواره، ومما كان عليه هو نفسه.
وحق لهؤلاء المتطيرين أن يتشاءموا من هذه الحوادث، وبخاصة من تمرد الجند؛ لأن الجيش هو الذي أنزل الهزيمة بالبريطانيين، وهو القوة التي اعتمد عليها محمد علي دائما في مطاردة البكوات المماليك، ثم كان بفضل وثوقه من ولاء كبار ضباطه وتعاون هؤلاء معه أن أمكن طرد حكومة البكوات من القاهرة، وإقصاء أحمد خورشيد من الولاية، وتأييد محمد علي نفسه في منصب الحكم والسلطان بعد المناداة بباشويته، علاوة على أن مؤازرة الجيش له في أثناء أزمة النقل إلى سالونيك، جعله يقدر على نبذ أوامر الباب العالي ظهريا وإبطال مسعى الألفي خصوصا من أجل استرداد الحكم في القاهرة، ويعلن أنه لن يتخلى عن باشويته إلا بحد السيف، وإذا أرغم على ذلك إرغاما. فإذا انتقض الجيش عليه الآن، وتناسى البكوات خلافاتهم وأحقادهم، وجمعوا كلمتهم على انتهاز هذه الفرصة السانحة لمهاجمة غريهم، لاستطاعوا هدم باشويته، ناهيك بما قد يفعله الباب العالي، وهو الذي لن يتوانى عن انتهاز الفرصة هو الآخر، لبسط سلطانه على الولاية، الغاية التي يسعى إليها دائما.
وحقيقة الأمر، أن الباشا كان من واجبه تطويع الجند، لضمان بقاء الجيش مواليا له، لأسباب عدة، غير التي ذكرناها، أهمها ما ظل يذيع عن الغزو الأجنبي المرتقب، بعد جلاء الإنجليز عن الإسكندرية، وحاجة الباشا إلى جيش قوي لدفع هذا الغزو إذا وقع، فمع أنه كان قد أراد إنقاص الجيش إلى العدد الذي يكفي لضمان استتباب الأمن الداخلي، والقضاء على العناصر المناوئة لحكمه، لا سيما البكوات المماليك، واستخدام العدد الذي لا يعجز الباشا عن دفع مرتباته وعلائفه ولا يسبب بقاؤه إرهاقا لميزانيته، فقد اضطر منذ أواخر عام 1807 وأوائل العام التالي، إلى إلغاء الإجراءات التي كان قد اتخذها لترحيل أعداد كبيرة من جنده إلى الشام، وذلك منذ أن تطايرت الشائعات عن قرب خروج حملة من المواني الفرنسية لغزو هذه البلاد، ومنذ أن راح «بتروتشي» وسائر الوكلاء الإنجليز يؤكدون قرب وصولها، وكان هؤلاء الجند الذين أراد إبعادهم الباشا الآن، من الذين اشتركوا في حركة العصيان الخطيرة التي وقعت في القاهرة في أكتوبر 1807 على نحو ما سنذكره، وقد ظلت هذه الشائعات تتجدد بصورة مستمرة في الشهور التالية، وعمد الجند إلى إزعاج الإفرنج في القاهرة والإسكندرية، والاعتداء على الأهلين في كل مكان، على مألوف عادتهم في كل مرة يطلب إليهم التهيؤ للخروج إلى الثغور والشواطئ للدفاع عنها، أو التأهب لصد غارات المغيرين على القاهرة ذاتها، أو الذهاب في تجريدة لمطاردة البكوات المماليك.
ثم إنه كان لا مناص من تطويع الجند، إذا شاء الباشا إنفاذ جيشه إلى الحجاز، وقد لقي صعوبات جمة في حشد الجند برئاسة محمد طاهر باشا منذ أن طلب إليه الباب العالي النجدة، فلم يستقم أمر الجيش إلا بعد أن قضى محمد علي على محركي الفتنة بين الجند، وأخرجهم من البلاد، واستبدل بهم قوادا على جيشه من أهله وعشيرته والموثوق في إخلاصهم وولائهم له.
وفضلا عن ذلك، فقد ساهم الجيش في كل الانقلابات التي أطاحت بحكومات الباشوات منذ خروج الفرنسيين من البلاد، فالأرنئود ساهموا في طرد محمد خسرو، والإنكشارية قتلوا طاهر باشا ونصبوا مكانه أحمد باشا، والأرنئود هم الذين طردوا هذا الأخير، ثم اعتمد عليهم محمد علي في تقويض عروش حكومة البكوات في القاهرة، بعد أن ضلعوا مع المماليك في قتل علي باشا الجزائرلي، ثم قضى الجيش على ولاية خسرو باشا الثانية المعروفة بالكناية، وكان بفضل اعتماد محمد علي عليه أن تولى أحمد خورشيد، ثم اشترك الأرنئود والدلاة في عزل هذا الأخير بعد ذلك، وكان اشتراك الجيش في هذه الانقلابات الكثيرة من أسباب زيادة الفوضى في صفوفه، وجنوحه إلى العصيان عن أول بادرة، أضف إلى هذا، ما أحدثه الانقلاب الذي قام به الإنكشارية (أو الينكرجية) في قصر الخلافة والسلطنة ذاتها، وهو الانقلاب الذي أسفر عن مقتل السلطان سليم، وانتهى بالمناداة بمحمود الثاني سلطانا للدولة في الظروف التي عرفناها، فقد قوى هذا الانقلاب من اعتداد الجند وكبار ضباطهم بأنفسهم، فتزايدت روح التمرد والعصيان في صفوف الجيش.
وساعد على انتشار الفوضى بين الجند، أن هؤلاء كانوا خليطا من أجناس منوعة، فمنهم التركي والأرنئودي، والكردي، والشامي، والمغربي، والنوبي، واليوناني، عدا جماعة من الفرنسيين والليفانتيين الذين انضم منهم فريق كذلك إلى البكوات المماليك، ولقد كانوا جميعا من المرتزقة، لا يربطهم بقوادهم وقائدهم الأعلى سوى المرتبات والعلوفات التي ينالونها، ولا صلة تربطهم بالبلاد حتى يعنيهم أمرها، استقامت الأمور بها في ظل حكومة مستقرة موطدة، أم سادت بها الفوضى، وكثرت الانقلابات، طالما ضمنوا حصولهم على مرتباتهم ممن يئول إليه الحكم، وكانوا غرباء عن المصريين، ولم يمتزجوا بهم إلا في حالات شاذة معينة، كان مبعثها إما الخوف من ثورة الأهلين عليهم، وهذا ما ندر حدوثه، وإما الطمع في أموال الأهلين وأرزاقهم؛ ولنهب متاعهم ودورهم، وسبي نسائهم وأولادهم، وتلك كانت القاعدة المعمول بها، ولطالما انبث هؤلاء المرتزقة في كل مكان بالقاهرة ينهبون ويسلبون، ولطالما انتشروا في القرى يهلكون الحرث والضرع، وينزلون الكوارث بالفلاحين، فاتخذوا من خروجهم في أية تجريدة من التجريدات، أو عودتهم منها، أو مجرد تهيؤهم لمغادرة القاهرة، والذهاب إلى ميدان القتال، ذريعة للاعتداء على الأهلين وإيذائهم وقتل من يعترض طريقهم منهم، كما أنهم ألحقوا بالأوروبيين وسائر الأجانب خصوصا بالقاهرة والإسكندرية، مختلف الإهانات، ولم يسلم هؤلاء من أذاهم وشرهم، ووجد الجند فيما حدث من انقلابات حكومية فرصا مواتية للمضي في إفراط، في أعمال السلب والنهب، والاعتداء على سكان البلاد من مصريين وأجانب على السواء.
ولم يكن الضباط ورؤساء هذا الجيش يقلون جشعا وحبا للمال عن جنودهم، أو لا يطمعون في نهب الأهلين وسلبهم دورهم ومتاعهم وأرزاقهم وأموالهم، فلم تربطهم هم الآخرين أية صلة بالبلاد التي وفدوا إليها مرتزقة كسائر الجند، ولم يعنهم شيئا أمر أهلها وهم الغرباء عنهم، ولم يشعروا بأي ولاء لشاغل منصب الولاية، فهم يشتركون مع سائر صفوف الجيش في كل الانقلابات التي تحدث، وينبذون سلطان الباب العالي وأوامره بسهولة، طالما استولوا هم على مرتباتهم ومخصصاتهم، وكانت هذه جسيمة، وينالونها وفق نظام سبق ذكره، حصل كل كبير من هؤلاء بفضله على مرتبات لعدد من الجند يربو على ثلاثة أمثال العدد الموجود فعلا تحت قيادته، بل إن هؤلاء كثيرا ما احتفظوا بهذه المرتبات لأنفسهم ولم يدفعوا إلا النزر اليسير منها لجنودهم، مما كان من أسباب ثورة هؤلاء وعصيانهم، ولم تهتم أكثرية هؤلاء الكبار إلا بالثراء السريع في أثناء خدمتهم، شأن كل مرتزقة، ولقد شاهدنا كيف أن عديدين من هؤلاء صاروا يزمعون مغادرة البلاد بالثروات التي جمعوها، وكيف استطاع بعضهم العودة إلى بلاده غنيا، بينما حال الجند دون سفر الآخرين حتى يدفعوا لهم مرتباتهم المتأخرة، وفطن محمد علي من مبدأ الأمر، ومنذ أن صح عزمه على الوصول إلى الولاية، إلى ضرورة ضمان ولاء الجند له، وجذب رؤسائهم إليه، بالحرص على دفع مرتباتهم وعلائفهم في أوقاتها، كما صار ديدنه بعد أن تسلم أزمة الحكم، السهر على دفع هذه المرتبات كذلك دون تأخير، وكان الشاغل الأكبر له في سنوات التجربة والاختبار التي مرت به، تدبير المال بكل الوسائل لدفع هذه المرتبات منه.
ناپیژندل شوی مخ