إن لم تكن قد قرأت هذه القصة فاقرأها، واستحضر أثناء قراءتها شئون مواطنيك عامة، وشئون هؤلاء النفر من الأصدقاء القدماء خاصة، فسترى في كثير من الحزن إن كنت خيرا، وفي كثير من الرضى إن كنت شريرا؛ أن كاتب هذه القصة كأنما كان ينظر إلى مواطنيك، وإلى هؤلاء النفر من أصدقائك، ويستمليهم قصته هذه البشعة المروعة، فكل شيء في حياتنا يذكر بالمسخ، ويلفت إليه، ويدعو إلى إطالة التفكير فيه. أتذكر أن وطنك العزيز، قد كان فيما مضى، وطنا مجيدا يهابه الأقوياء، ويستظل به الضعفاء، وطنا خصبا لا يؤثر نفسه بما أتيح له من الخصب، وإنما ينشر النعمة من حوله على غيره من الأوطان، لا ينشر هذه النعمة المادية وحدها، وإنما ينشر معها النعمة المعنوية التي تغزو القلوب والعقول، وتمد ضوء الحضارة إلى أبعد الآماد، أتذكر هذا كله؟ فانظر إلى وطنك الآن، كيف انزوى وتضاءل، وكيف هان أمره على نفسه، وعلى الناس، وكيف أصبح أضعف من أن يستقل بأيسر شئونه، وينهض بأهون أعبائه، وكيف أصبح قليل الخطر، هين الشأن، ينظر إليه الناس ضيقين به، أو مشفقين عليه. أتراه قد مسخ كما مسخ ذلك الفتى، أم تراه قد ظل كما كان مصدرا للخصب، والقوة، والمجد، والبأس، ولكن أهله قد مسخوا، كما مسخ ذلك الفتى، فأصبحوا لا يصلحون للعيش فيه، وأصبح هو لا يصلح لإيوائهم؟! •••
أتذكر هذا البيت الذي يرويه أبو العلاء في رسالة الغفران:
اعجبي أمنا لصرف الليالي
مسخت أختنا سكينة فاره
لقد كنا نضحك حين كنا نقرأ هذا البيت، فأما الآن فلو قد عبرت إلينا البحر، وشاركت في الحياة التي نحياها؛ لأنشدت هذا البيت غير ضاحك، ولا باسم، بل لأنشدت هذا البيت كما كان ينشده صاحبه، في كثير من الحزن والعطف والرثاء؛ لأنه كان يعتقد عن يقين أن أخته سكينة، قد مسخت فأرة، ولأنك سترى كما أرى، أن كثيرا من أخواتنا القدماء، قد مسخوا جرذانا أو حيوانات أخرى، ليست أحسن حالا من الجرذان. كل ما بينهم وبين هذه الجرذان من الفرق، هو أن أجسامهم قد احتفظت بصورها القديمة، فهي معتدلة القامة، تمتد طولا، وعرضا، كما تمتد أجسام الناس، لم يصبها المسخ، وإنما أصاب ما يعيش فيها من النفوس، وذلك أشد نكرا، وأعظم بلاء. وأي شيء أبشع من أن تتقمص نفوس الجرذان أجسام الناس!
صنع الله لصديقنا فلان! لقد كنا نراه ذكي القلب، أبي النفس، نافذ البصيرة، مستقيم الخلق، طموحا إلى الرفيع من الأمر، متنزها عن الدنيات، خرج من بيئته القديمة المتواضعة، فمضى أمامه هادئا مطمئنا، ناظرا دائما إلى أمام، غير ملتفت إلى وراء إلا قليلا، كأنما كان يريد أن يتبين طول الطريق التي قطعها، منذ فارق بيئته تلك، وكأنما كان يريد أن يعتبر بقديمه، ليستقبل جديده في غير غرور ولا كبرياء. وقد استقام له الأمر ما مضى أمامه هادئا مطمئنا، وكان خليقا أن يستقيم له لو أتيح له أن يمضي هادئا مطمئنا، ولكنه دفع في غير أناة، واختطف في غير ريث، ووثب إلى أرقى مما كان يطيق، فارتقى فجأة في غير إعداد ولا تمهيد، وانتهى إلى بيئة جديدة، قد بعدت الآماد، وتقطعت الأسباب، بينها وبين بيئته القديمة، فأصبح أشبه بالديك الذي يوضع موضع النسر، ويراد على أن يحلق في أشد الأجواء ارتفاعا، وليس هو من هذا التحليق في شيء، وإنما قصاراه شرف متواضع، يرقى إليه ليستقبل الصباح بالصياح، ولينفش ريشه كلما أتيح له أن ينفشه. فأما أن يرقى في أجواز السماء فلا؛ لأن جناحيه أضعف من أن يبلغا به هذه المنازل المسرفة في العلو. ولو قد رأيته كما أراه، ديكا يسير سيرة النسر، لضحكت قليلا، وبكيت كثيرا، فقد كان خليقا بمنزلة أخرى غير منزلة الديك ، وخلق آخر غير خلقه، ولكن المنبت لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى، وقد انبت صاحبنا، فلم يقطع أرضا، ولم يبق ظهرا. •••
وعفا الله عن صديقنا فلان، لقد كنا نراه نقي النفس، طاهر القلب، صافي الطبع، مصقول الضمير، حريصا أشد الحرص، على أن يتبع الصراط المستقيم، لا ينحرف عنه إلى يمين أو إلى شمال، مهما تكن الظروف والخطوب. وكنا نعجب بحبه للاستقامة، وبغضه للاعوجاج، وكنا نضربه للقصد مثلا، ونراه للاعتدال نموذجا.
ولكن طريق الحياة لا تستقيم إلا لأولي العزم من الناس، أو قل إنها لا تستقيم لأحد، وإنما يكرهها أولو العزم من الناس على أن تستقيم، يقتحمون ما يقوم فيها من العقاب، ويرتفعون عما يعترض فيها من دواعي المحنة والفتنة والفساد. ولم يكن صاحبنا من أولي العزم، ولا من ذوي البصائر، وإنما كان رجلا طيب القلب، ومن طيبة القلب ما يكون ضعفا. فقد مضى في الطريق المستقيمة ما استقامت له، فلما انحرفت به انحرف معها، ولم يستطع أن يمتنع عليها، وقد نثرت الحياة أمامه أشواكا فأشفق منها، ونثرت أمامه أزهارا فتهالك عليها. نشرت أمامه الهول فخاف، ونصبت أمامه المغريات فاندفع، وما هي إلا أن تتصور نفسه بهذه الصورة المرنة اللينة، التي لا تثبت لشيء، ولا تمتنع على شيء، وإنما هي تجزع للنبأة اليسيرة، وتستجيب لأيسر المغريات، تفر عند الفزع، وتقبل عند الطمع، والغريب أنها على ذلك كله ترى في نفسها الخير، وتؤمن لنفسها بالحكمة، ومضاء العزم.
قيل لها ذلك فصدقته، واطمأنت إليه، ولم تنس إلا شيئا واحدا، وهو أنها تبعت أحداث الحياة، وتأثرت بها، في غير مقاومة، حتى أصبحت أشبه شيء بالكلب؛ إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث. وأشهد ما رأيت هذين الصاحبين القديمين، إلا رجعت من فوري إلى كتاب الحيوان للجاحظ، فقرأت فيه طرفا من احتجاج صاحب الكلب للكلب، وطرفا من احتجاج صاحب الديك للديك. •••
ورفق الله بصديقنا فلان، أتذكره؟ لقد كان في أول عهده بالشباب تقيا نقيا، وسمحا رضيا، حلو العشرة، عذب المنطق، حسن المدخل، سهل القياد. كنا نضحك من سلامة قلبه، وبراءة نفسه، وسذاجة عقله. كنا نغره فيغتر، وكنا نخدعه فينخدع، وكنا نضحك من استجابته لكل دعاء، وتصديقه لكل كلام. ولكن كنا نجهل أن من الحيات ما لا يعيش إلا في كثبان الرمل المتهيلة، التي لا تتلبد، ولا تتجمد، ولا تستطيع الأقدام أن تمضي فيها دون أن تغوص.
ناپیژندل شوی مخ