رسالة الشكر والكفر
رسالة الأمر والنهي
الوشاية والوشاة
رسالة القصد والغرور
رسالة إلى ...
قلب مغلق
من بعيد
صرعى
نفوس للبيع
كما أنت
ناپیژندل شوی مخ
مصر بين النعيم والجحيم
الحرية أولا
ويل الشجي من الخلي
لا ونعم
صحائح الأنباء
إخوان الصفاء
رسالة الشكر والكفر
رسالة الأمر والنهي
الوشاية والوشاة
رسالة القصد والغرور
ناپیژندل شوی مخ
رسالة إلى ...
قلب مغلق
من بعيد
صرعى
نفوس للبيع
كما أنت
مصر بين النعيم والجحيم
الحرية أولا
ويل الشجي من الخلي
لا ونعم
ناپیژندل شوی مخ
صحائح الأنباء
إخوان الصفاء
مرآة الضمير الحديث
مرآة الضمير الحديث
تأليف
طه حسين
رسائل تنسب إلى الجاحظ، وأراها محمولة عليه لأن تكلف التقليد فيها ظاهر.
رسالة الشكر والكفر
أقبل علي صاحبي مبتهجا باسم الثغر، مشرق الوجه والنفس جميعا، يقول: لقد جئتك بطرفة ما أشك في أنك ستنعم بها بالا، وسترضى عنها كل الرضى، وستؤثرها على كثير من الطيبات في هذه الأيام التي تقل فيها الطيبات.
قلت: وما ذاك؟ قال: كتاب مخطوط لم تعرفه المطبعة بعد. ظفرت به عند بعض الوراقين، وفيه رسائل مختلفة للجاحظ، وغير الجاحظ، من كتاب القرن الثالث والرابع للهجرة. ولم أكد أنظر فيه حتى بهرني، وسحرني، وكرهت أن أوثر نفسي بقراءته؛ فجئت أظهرك عليه، وأشركك في الاستمتاع به. ثم أخذ يقرأ علي منه رسالة للجاحظ كتبها إلى محمد بن عبد الملك الزيات، وسماها «رسالة الشكر والكفر»، وابتدأها على هذا النحو:
ناپیژندل شوی مخ
رسالة الشكر والكفر
يسرك الله للخير، ويسر الخير على يديك، وهداك الله إلى الحق، وجعلك إلى الحق هاديا، ودلك الله على الصواب، وجعلك على الصواب دليلا، وعصمك الله من الشر الذي يلقي بأصحابه إلى التهلكة، وجنبك الباطل الذي يوفي بأهله على النار، وحماك من الخطأ الذي يورط أهله في الحيرة، ويشرف بهم على الزيغ، وألهمك الله شكر النعمة، فإنه تمام المروءة، وكمال الرجولة، وسبيل الاستزادة من الخير، وآية الارتفاع عن النقص، والتنزه عما يجعل الرجل نذلا فسلا، وخسيسا لئيما. ولهذا أخبر الله - عز وجل - بقلة الشاكرين للنعمة الذاكرين للعرف، فقال:
اعملوا آل داوود شكرا وقليل من عبادي الشكور . والله - عز وجل - يريد لعباده الخير، ويأبى لهم الشر، ويدعوهم إلى أن يرتفعوا عن النقائص، ويتنزهوا عن الصغائر، فهو يذكرهم بنعمه عليهم، وآلائه فيهم، ويأمرهم ألا ينسوا ما يهدي إليهم من فضل، ويسدي إليهم من معروف، وينذرهم بالعقاب الشديد، والعذاب الأليم إن كفروا النعمة أو جحدوا الصنيعة. يعجل لهم العذاب في الدنيا، ويؤجل لهم العذاب في الآخرة؛ ولهذا قال عز وجل في سبأ:
ذلك جزيناهم بما كفروا وهل نجازي إلا الكفور ، وقال في أهل مكة كما روي عن ابن عباس:
وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون .
وقد أدب الله رسله المكرمين، وأنبياءه المعصومين بهذا الأدب فجعلهم حراصا على الشكر، أباة للكفر لا يمسهم جناح رحمة إلا شكروا، ولا تنزل بهم النائبات إلا صبروا عليها، وشكروا لله إلهامهم الصبر، وتمكينهم من الاحتمال؛ ولذلك قال عز وجل على لسان سليمان - عليه السلام - لما سخر له الريح، والجن، وعلمه منطق الطير، والحيوان:
رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحا ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين .
ومن تمام الشكر لله ولي كل نعمة، والمبتدئ بكل إحسان؛ الشكر للمنعم من الناس، والقيام بمكافأته بما أمكن من قول وفعل؛ لأن الله تبارك وتعالى نظم الشكر له بالشكر لذي النعمة من خلقه، وأبى أن يقبلهما إلا معا لأن أحدهما دليل على الآخر، وموصول به، فمن ضيع شكر ذي نعمة من الخلق فأمر الله ضيع، وبشهادته استخف. ولقد جاء بذلك الخبر عن الطاهر الصادق
صلى الله عليه وسلم
فقال: «من لم يشكر الناس لم يشكر الله.» ولعمري إن ذلك لموجود في الفطرة قائم في العقل؛ أن من كفر نعم الخلق كان لنعم الله أكفر؛ لأن الخلق يعطي بعضهم بعضا بالكلفة والمشقة، وثقل العطية على القلوب، والله يعطي بلا كلفة. ولهذه العلة جمع بين الشكر له، والشكر لذوي النعم من خلقه.
ناپیژندل شوی مخ
وقد أدب رسول الله
صلى الله عليه وسلم
أصحابه بهذا الأدب، وفقههم في هذا النحو من العلم، فضرب لهم فيه الأمثال الرائعة، وعلمهم فيه الحكمة البالغة. وقد روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله
صلى الله عليه وسلم
يقول: «إن ثلاثة من بني إسرائيل أبرص، وأعمى، وأقرع بدا لله - عز وجل - أن يبتليهم؛ فبعث إليهم ملكا فأتى الأبرص، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال لون حسن، وجلد حسن، قد قذرني الناس. قال فمسه فذهب عنه فأعطي لونا حسنا، وجلدا حسنا. فقال: أي المال أحب إليك؟ قال: الإبل. فأعطي ناقة عشراء، فقال: يبارك لك فيها. وأتى الأقرع، فقال: أي شيء أحب إليك؟ فقال: شعر حسن، ويذهب مني هذا، قد قذرني الناس. قال فمسحه فذهب، وأعطي شعرا حسنا. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: البقر. قال فأعطاه بقرة حاملا، وقال: يبارك لك فيها. وأتى الأعمى، فقال: أي شيء أحب إليك؟ قال: يرد الله إلي بصري فأبصر به الناس. قال فمسحه فرد الله إليه بصره. قال: فأي المال أحب إليك؟ قال: الغنم، فأعطاه شاة والدا، فأنتج هذان، وولد هذا فكان لهذا واد من إبل، ولهذا واد من بقر، ولهذا واد من الغنم.
ثم إنه أتى الأبرص في صورته وهيئته، فقال: رجل مسكين تقطعت بي الجبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي أعطاك اللون الحسن، والجلد الحسن، والمال؛ بعيرا أتبلغ عليه في سفري، فقال له: إن الحقوق كثيرة. فقال له: كأني أعرفك، ألم تكن أبرص يقذرك الناس، فقيرا فأعطاك الله؟ فقال: لقد ورثت لكابر عن كابر. فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت.
وأتى الأقرع في صورته، وهيئته فقال له مثل ما قال لهذا. فرد عليه مثل ما رد عليه هذا. فقال: إن كنت كاذبا فصيرك الله إلى ما كنت. وأتى الأعمى في صورته فقال: رجل مسكين، وابن سبيل، وتقطعت بي الجبال في سفري فلا بلاغ اليوم إلا بالله ثم بك، أسألك بالذي رد عليك بصرك شاة؛ أتبلغ بها في سفري. فقال: كنت أعمى فرد الله بصري، وفقيرا فقد أغناني، فخذ ما شئت، فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله. فقال: أمسك مالك فإنما ابتليتم، فقد رضى الله عنك، وسخط على صاحبيك.»
والشاكرون للنعمة بعد ذلك يختلفون، فمنهم من يرى شكر المنعم من الناس حقا يجب أن يؤدى، ولكنه يؤدى على الكره والمشقة، وتتعرض النفس فيه لما لا تحب، وتؤثر ألا تتلقى النعمة من أحد، فلا تحتاج إلى الشكر والاعتراف باليد المهداة.
ولما أعان بعض المشركين أبا سفيان يوم أحد فأنجاه من حنظلة بن أبي عامر، وقد كاد حنظلة يقتله، قال أبو سفيان:
ولو شئت نجتني كميت طمرة
ناپیژندل شوی مخ
ولم أحمل النعماء لابن شعوب
أراد أنه خير بين خزي الفرار - وكان رئيس القوم - وبين الصبر، حتى أنقذه ابن شعوب؛ فاضطر إلى أن يعرف له النعمة، ويشكر له الصنيعة، على ما في ذلك من المشقة والكلفة.
ومنهم من يرى في الشكر لذة، وفي الكفر ألما، فهو ينأى بنفسه عن ألم الكفر، وما يورث من نقص المروءة، وهو يمعن في الشكر، ويغالي بالنعمة التي أسديت إليه.
وقد قال العباس الصولي يشكر عمرا بن مسعدة:
سأشكر عمرا ما تراخت منيتي
أيادي لم تمنن وإن هي جلت
رأى خلتي من حيث يخفي مكانها
فكانت قذى عينيه حتى تولت
فتى غير محجوب الغنى عن صديقه
ولا مظهر الشكوى إذ النعل زلت
ناپیژندل شوی مخ
وقال بعض الحكماء: إذا استطاع الرجل الحر ألا يدينه أحد بنعمة يسديها إليه أو صنيعة يصطنعها عنده فليفعل، فإن شكر النعمة شيء لا يطيقه إلا أولو العزم. وقال أزدشير: الدين على ضربين؛ أحدهما يمكن أداؤه في غير زيادة، ولا نقص، وهو دين المال الذي تقترضه من الذهب، والفضة، والعروض، والثاني لا سبيل إلى أدائه مهما تفعل، ومهما تبذل، وهو دين النعمة المسداة، والصنيعة المهداة؛ لأن المعاني لا تقوم بالثمن، ولا تحدد بالكيل والوزن والعدد. قال أبو إسحاق النظام: فإذا أديت إلى دائنك ما أقرضك من ذهب أو فضة أو عرض، فقد أديت أخف الدينين حملا، وأيسرهما مئونة، وبقى في عنقك دين آخر لن تؤديه إلا بالشكر المتصل، والوفاء الدائم، والثناء الذي لا ينقضي. والهزل في هذا الباب - جعلت فداك - متصل بالجد؛ فحياة الناس في جميع أبوابها، وألوانها قد وصل فيها الهزل بالجد، والحق بالباطل، والحزامة الصارمة بالدعابة الحلوة، والفكاهة المسلية.
وكان لنا صديق يعرف بأبي الرمل، لم أر أجمل منه وجها، ولا أحسن منه منظرا، ولا أحلى منه حديثا، ولا أزكى منه ذكاء، ولا أزكن منه زكانة، ولا أنفذ منه بصيرة، ولا أدق منه فطنة، ولا أصفى منه ذهنا، وكان مع ذلك من أكفر الناس للنعمة، وأجحدهم للصنيعة، وأنساهم للمعروف، وأعقهم للصديق، وأشدهم إنكارا لحق الولي، والتواء بدين المحسن إليه. وقد سمعني أيام كنت أملي على أصحابنا فصولا من كتاب الحيوان في الجن، والغول، وفي السعلاة، والعفاريت، وما قالت العرب في ذلك من الجد، والهزل، ومن الصدق، والكذب، ومن الصحيح، والمحال، فكان يظهر الرضى بما يسمع، والارتياح له. ثم افتقدناه أياما، فلما سألت عنه بعض أصحابنا أخبرت أنه مريض، قد ألزمته العلة داره، فرأيت عيادته علي حقا، وزيارته من بعض ما تفرضه العشرة المتصلة، والمخالطة الطويلة. فسعيت إليه مع أصحابنا، فلم أكد أراه حتى أنكرت من أمره كل شيء. فقد رأيت رجلا غيرته العلة، وأنهكه المرض، حتى ذهبت نضرته، وذوت زهرته، واستحال جماله قبحا قبيحا، وصار إلى شر ما كان يكره له الصديق، ويتمنى له العدو. فلما سألته عن أصل علته، قال: ويحك أبا عثمان عفا الله عنك - وما أراه يفعل - فأنت أصل علتي، ومصدر بلائي، وأنت الذي جر علي المحنة، وصب علي النقمة، وملأ قلب الصديق - وما أقلهم - علي إشفاقا، وأفعم قلب العدو - وما أكثرهم - بي شماتة، فلولا ما حدثتنا به من أخبار الجان، والعفاريت، والغيلان والسعالي لما أصابني شر، ولا نزل بي مكروه. قلت: وما ذاك أبا الرمل! قال لقد أطلت التفكير فيما سمعت منك، وأكثرت إعادته، والحفظ له حتى شغلت به عن كل لون من ألوان العلم، وعن كل ضرب من ضروب المعرفة، وعن كل فن من فنون الحكمة.
ودفعت ذات يوم إلى البادية لا أعرف لذلك سببا إلا إني كنت أحدث نفسي بأني قد ألقى فيها من الأعراب من يحدثني بمثل حديثك عن الجن، والغول. وإني لفي بعض الطريق في الصحراء، وقد ارتفع الضحى، وامتلأت الأرض حرا، ونورا، وترقرق الآل على الكثبان من بعيد ... وإذا امرأة تعرض لي لم أر أحسن منها حسنا، ولا أبرع منها جمالا، ولا أملح منها قدا، وقد اتخذت زي نساء البادية، وتزينت بزينتهن، فأسألها من هي فتنبئني ضاحكة بأنها هي التي خرجت ألتمس الحديث عنها. قلت مرتاعا: يا هذه، أوضحي ما تقولين، فإني لا أفهم عنك منذ اليوم! قالت: ألم تخرج ملتمسا لأنباء الغول متتبعا لأحاديثها؟ قلت: ومن أنبأك بذلك؟ قالت متضاحكة: ويحك أيها الرجل! ألم تعلم أننا نتصور فيما شاء الله من الصور، وأنا نخالط الناس فنسمع منهم، ونتحدث إليهم، ونشاركهم فيما يأتون، وما يدعون من الأمر، نراهم إن شئنا، ولا يروننا، ونسمعهم إن أحببنا، ولا يسمعوننا، ثم ننصرف عنهم إلى ديارنا، والأرض كلها لنا دار، فإني قد سمعت من صاحبك مثل ما سمعت من أخبارنا، وأحاديثنا، فأنكرت منه ما أنكرت، وعرفت منه ما عرفت ورأيتك بهذا الحديث معنيا، وله حافظا، وعليه مقبلا، فعلمت أنك قد خلقت للجن، والغول، ولم تخلق للناس الذين تعيش معهم، وتضطرب بينهم فلزمتك مصبحا وممسيا، ورافقتك غاديا ورائحا، وراقبتك يقظان ونائما، حتى إذا غدوت اليوم لما غدوت له رأيت أن قد بلغ الكتاب أجله، وانتهى أمرك إلى مدته، وآن أن تبلغ ما أنت ميسر له من عشرة الجن والغول، فتراءيت لك ثم أقبلت عليك، ثم إني لن أفارقك منذ اليوم، فستكون لي رفيقا، سواء أرضيت عن ذلك أم سخطت عليه.
وقد وليت عنها مدبرا، وعدت إلى داري مسرعا، ولكني لم أخط خطوة إلا رأيتها تخطو معي مثلها، وحديثها إلي متصل لا ينقطع، وإذا هي تلزمني لزوم الظل، وإذا هي تبلغ معي هذه الدار ، وتقوم بيني وبين أهلي وولدي، لا أقول لهم شيئا إلا ردته علي، ولا يقولون لي شيئا إلا ردت علي غيره، ثم هي تتشكل لي في أشكال مختلفة، وتتلون لي في ألوان متباينة، فإذا أحست مني إنكارا لبعض ما أرى من أمرها قالت بصوت كأنه صوت الشياطين:
فما تدوم على حال تكون بها
كما تلون في أثوابها الغول
قال أبو الرمل: فأنت كما ترى أصل علتي، والحق عليك أن تجد لي منها مخرجا، وتلتمس لي منها شفاء. ولم يكد يبلغ هذا الموضع من حديثه حتى ارتعنا جميعا، وأخذنا خوف أي خوف، فقد سمعنا صوتا يأتي من بعض نواحي الحجرة نسمعه، ولا نرى مصدره، وهو يقول: هيهات هيهات أبا الرمل لن يجد لك أبو عثمان من ضيقك مخرجا، ولن ينتهي بك من علتك إلى شفاء إلا أن تتغير نفسك فتصبح شاكرة للنعمة، عارفة للصنيعة، وهي قد فطرت على الكفر والجحود. وقد خرجنا من عند أبي الرمل، وليس منا إلا من يتلو:
قل أعوذ برب الناس * ملك الناس * إله الناس * من شر الوسواس الخناس * الذي يوسوس في صدور الناس * من الجنة والناس .
قلت لصاحبي: أجاد أنت في إضافة هذا الكلام إلى الجاحظ؟ قال، وهو يغرق في الضحك: ما أكثر ما أضاف الجاحظ إلى الناس ما لم يقولوا؛ فما يمنعني أن أضيف إليه ما لم يقل ...!
رسالة الأمر والنهي
ناپیژندل شوی مخ
وفقك الله إلى الخير والبر، وعصمك من الشر والإثم، وهداك إلى الرشد المفضي بأهله إلى الجنة، ووقاك من الغي الموفي بأهله على النار، وحبب إليك الحق الذي يملأ العقل نورا وحكمة، وكره إليك الباطل الذي يملأ القلب غرورا وجهالة، وحملك على الجادة التي تنتهي بك في كل ما تعمل إلى خير ما تحب لأمير المؤمنين من نصح، ولرعيته من العافية، ولنفسك من النجح، وارتفاع الذكر، وبعد الصوت، وقهر العدو، والاستعلاء على الخصم.
فقد قال الله عز وجل:
وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين .
وصرف الله عنك سوء الظن، فإنه مفسد لصدق الإخاء مكدر لسريرة الصديق، منغص لذات النفس. وجعل الله موقع النصح الذي يقدمه إليك الصديق الحميم، والمشير الأمين؛ حلوا في سمعك، عذبا في قلبك، حبيبا إلى نفسك. فقد كان يقال لا يحسن بالوزير الناصح للملك، والمشير الأمين عند السلطان إلا يقبل نصح أوليائه إن رفعوه إليه، فإنه إن أساء الظن بالناس أساء الناس الظن به، وكان خليقا أن يسوء به ظن السلطان.
وحدثني بعض أصحابنا من علماء الهند أن بيدبا الفيلسوف كان يقول لدبشليم الملك: إن علمت أن في بعض وزارئك استبدادا في الرأي، واستكبارا على الإشارة، وازورارا عن نصح الناصحين؛ فاعلم أنه جدير ألا يصدقك الرأي، ولا يخلص لك في النصح، فليس بناصح لك من لا ينتصح، وليس بمخلص لك من يشك في إخلاص الناس له. ولا ينبغي أن تأمن من لا يأتمن الناس، ولا أن تطمئن لمن لا يطمئن إلى أحد.
وكتب أرسطاطاليس صاحب المنطق إلى الإسكندر: لا خير في الصديق إذا لم يؤثرك على نفسه، ولم يظهرك على دخيلة قلبه، ولم ينصح لك في الغيب والشهادة. ولا خير فيه إن أصفاك بكل ذلك، ولم يكن له صديق يقدم له من ذات نفسه مثل ما يقدم إليك. فإن الرجل الذي يصادق من فوقه من ذوي الدرجات، وأصحاب المكانة، ولا يصادق من دونه من الأولياء، والسوقة خليق أن يكون أثرا يحب نفسه، ولا يحب غيره، ويبتغي بما يقدم إليك من النصح والمشورة أن يستأثر بك من دون الأولياء، وأن يختص نفسه بما يجد عندك من معروف أو سلطان.
جعلت فداك، إنما أكتب إليك ما أكتب من هذه الحكمة، وأسوق إليك ما أسوق من هذه الأحاديث لأمر عرفته اليوم في الديوان، فضاقت به نفسي، وحزن له قلبي، وأشفقت عليك من عاقبته، وكرهت لك مغبته، وخشيت أن يتجاوز الديوان إلى مجالس الإشراف في قصورهم، والقواد في جنودهم، والعامة في أنديتهم ومجالسهم، فيتحدث الناس عنك بما لم يتحدثوا بمثله عن الوزراء من قبلك، وتقع في نفوسهم لك مهابة تقوم على الخوف والبغض ، ولا تقوم على المحبة والتجله، وشر ما يتعرض له أصحاب السلطان أن يهابهم الناس خوفا، ورهبا، وخير ما يتاح لأصحاب السلطان أن يهابهم الناس حبا، وإكبارا، وطمعا فيما عندهم من الخير، ورغبة فيما يجدون عندهم من البر، والمعروف.
وقد كان كاتبك الحسن بن وهب يتحدث إلى بعض أصفيائه، وأنا أسمع على غير علم منه بمكاني؛ بأن شعرا قد رفع إليك فيه عيب لك، ونقد لبعض عملك، فغضبت له، وضقت به، وأمرت بالبحث عن قائله لتذيقه غضبك، وتصب عليه عذابك، وتعلمه عاقبة طيشه، ومغبة استخفافه بالسلطان، واجترائه على الحكام. ثم لم يكفك ذلك، ولم يقنعك، فأمرت أعوانك من الكتاب، والعمال أن يتقدموا إلى أصحاب الشعر المنظوم، والكلام المنثور، وإلى ذوي الأقلام المشرعة، والألسنة المنطلقة ألا يذكروك فيما ينظمون من شعر أو يكتبون من نثر أو يديرون من حديث إلا بالخير، فإن جنح منهم عن ذلك جانح أو انحرف منهم عن ذلك منحرف فإن السجن له مهيأ، والعقاب له مرصد، والعذاب عليه محتوم. وهو خليق إن مسه الأذى، ونزلت به العقوبة ألا يذوق للعافية طعما، ولا يجد للحرية روحا، ولا ينعم بلقاء الأهل، ومودة الصديق، ونعمة الدعة، حتى يخرج من هذه الحياة ملوما مدحورا.
جعلت فداك، فإني لم أكد أسمع هذا الحديث يسره الحسن بن وهب إلى بعض خاصته، وذوي مودته فيبسم له حين يتحدث، ويبسمون له حين يستمعون إليه، وتظهر في وجهه ووجوههم آية الطاعة الساخرة، والرهبة المستخفة، حتى جزعت، وفزعت، وحتى ارتعت والتعت، وحتى أشفقت عليه من أمر تعرف موارده، وتوشك ألا تعرف مصادره، وتتبين أوله، وتوشك ألا تتبين آخره.
وهو بعد ذلك لم يتح لأحد من الناس منذ كانت هذه الأمة، وقامت هذه الدولة، واستقر سلطان المسلمين في يثرب أيام الخلفاء الراشدين، وفي دمشق أيام بني أمية، وفي بغداد أيام بني العباس.
ناپیژندل شوی مخ
وما علمت - أصلحك الله - أن خليفة من الخلفاء أو ملكا من الملوك أو وزيرا من الوزراء تقدم إلى الناس بمثل ما تتقدم به إليهم، وما علمت أن الناس استمعوا لمثل ذلك أو أذعنوا له أو أطاعوه، وقد هم زياد ببعض ذلك فأوعد، وغلا في الوعيد، وأنذر، وأسرف في النذير، وطلب إلى الناس أن يكفوا عنه أيديهم وألسنتهم؛ ليكف عنهم يده ولسانه، فصانعه من صانعه، ونصح له من نصح، وعارضه أبو بلال مرداس، فقال له: إنك تحدثنا بغير ما يحدثنا به الله عز وجل، تزعم أنك ستأخذ البريء بذنب المسيء، والله - عز وجل - يقول:
ولا تزر وازرة وزر أخرى .
قال له أبو بلال ذلك، في جماعة المسلمين، والمسجد بهم ممتلئ، وزياد على منبره لم يفارقه، وعليه شارة الملك، ومن حوله قوة السلطان، ثم انصرف أبو بلال مرداس، لم ينله من زياد كيد، ولم يمسسه منه أذى. وقد كان لزياد ما علمت من القوة والبأس ومن العنف والبطش، ومن اليد التي لم تكن تعرف القصر، والسهام التي لم تكن تعرف الخطأ، وإنما تسدد فتصيب، وترمي فتصمي.
جعلت فداك، وما زال الناس يعدون على عبد الملك قوله حين جد الجد، وعظم الخطب، وانتشر الفساد في الأطراف، وتفرق الناس شيعا، وأصبح في كل جزيرة أمير ومنبر: «من قال لنا اتقوا الله ضربنا عنقه»، يرون أنه تحدث بما لم يكن له أن يتحدث به، وتكثر بما لم يكن يستطيع أن يبلغ من الأمر، وما أكثر ما قال الناس له اتق الله، وما أقل ما ضرب من الأعناق. وما أعرف أنه عاقب على مشورة أو عذب في معارضة، وإنما عاقب من شق عصا المسلمين، وخلع يدا من طاعة، وفرق كلمة الأمة.
جعلت فداك، ولو أن هذا الأمر صدر عن أمير المؤمنين - أيده الله - لما رضينا ذلك له، ولا قبلنا ذلك منه، وهو خليفة رسول الله، وابن عمه، والقائم على سلطان المسلمين أعطوه بيعته عن رضى، ودانوا له بالطاعة عن ثقة، فكيف بك، وقد وليت الوزارة اليوم، وقد يعزلك عنها أمير المؤمنين غدا. وأنت لا تمضي ما تمضي من الأمر إلا عن إذنه ورضاه، فكيف بك إذا نلت أحدا بأذى، وكفه عنه أمير المؤمنين ؟ وكيف بك إذا ألقيت أحدا في سجن، وفتح بابه له أمير المؤمنين؟ وكيف بك إذا تقدمت في تعذيب هذا الشاعر أو هذا الكاتب؟ ثم سعى السعاة إلى أمير المؤمنين بأنك تتهم بالظن، وتأخذ بالريبة، وتعاقب في غير تثبت، وعفو أمير المؤمنين أوسع من سخطتك، ورحمة أمير المؤمنين أوسع من نقمتك، فماذا يقول الناس إن سخطت أنت، ورضي هو، وعاقبت أنت، وعفا هو؟! وعفو أمير المؤمنين لا يصدر عنه إلا مصاحبا بالبر والنعمة، فماذا يقول الناس إذا عاقبت أنت، وعفا أمير المؤمنين؟ ثم أتبع عفوه بالنعمة والجائزة، وبالنائل والنافلة؛ ألست خليقا إذن أن تطلق ألسنة الناس فيك بما لا تحب، وأن تعرض سلطانك للضعف، وعزك للسخرية؟!
جعلت فداك، إن خير الوزراء من عرف لنفسه قدرها، ولم يجاوز بسلطانه حده، ولم يرفع نفسه إلى أعلى من الموضع الذي وضعه فيه أمير المؤمنين، ولم يعرض نفسه بذلك لإنكار المنكر، واحتجاج المحتج. واحذر - جعلت فداك - أن يرقى الشك فيك إلى قلب الخليفة فيظن بك تجاوز الحد، ويتهمك بأنك تعطي نفسك من السلطان ما لم يعطك، وتخولها من القوة ما لم يخولك. وأمير المؤمنين لم يتخذ الوزراء ليبسطوا على الناس أيديهم بالأذى، وليصبوا عليهم النقمة صبا، وإنما اتخذ الوزراء ليشيعوا في الناس رحمته، ونعمته، وينشروا فيهم بره، وعدله، ويرفعوا فيهم ذكره بالخير، ويطلقوا ألسنتهم بالثناء عليه، ويملئوا قلوبهم بالحب له. والحب لا ينال بالقسوة، والنصح لا يكتسب بالظلم، وليست إشاعة النقمة، وسيلة إلى اكتساب الود، ولا إلى اصطفاء النفوس. فانظر - أصلحك الله - في أمرك، وانصح لنفسك، ولأمير المؤمنين. وانظر بعد ذلك فيما بينك وبين الله من حساب تستطيع أن تجعله يسيرا إن شئت، وتستطيع أن تجعله عسيرا إن أحببت.
واعلم - جعلت فداك - أن الزمان لا يثبت، وإنما هو منطلق دائما، وأن الأيام لا تستقر، وإنما هو نهار يتبعه نهار، والأحداث في أثناء ذلك تحدث، والخطوب في أثناء ذلك تلم، والنوائب في أثناء ذلك تنوب، والوزراء يولون ويعزلون، والحكام ينصبون ويصرفون، والدنيا تقبل وتدبر، والحوادث تحلو وتمر، والرجل اللبيب من اعتبر بهذا كله فلم يسرف على نفسه، ولم يسرف على الناس، ولم يقدم بين يديه من العمل ما يسوءه في الدنيا، ويخزيه في الآخرة. وقد أطلقت لسانك - جعلت فداك - في ابن أبي دؤاد، وتقدمت إلى عمالك في أن يقولوا فيه مثل ما تقول، وفي أن يبثوا حوله الأرصاد، وينثروا عليه، وعلى أصحابه العيون، ويرفعوا إليك من أمره ما ظهر، وما خفي، وينقلوا إليك من حديثه وحديث أصحابه ما قالوا، وما لم يقولوا. فكيف بك إذا دارت الدائرة، وألمت الملمة، ودعي ابن أبي دؤاد إلى الوزارة، وصرفت أنت عنها، وأمر فيك ابن أبي دؤاد غدا بمثل ما تأمر فيه أنت اليوم؟!
جعلت فداك، إن كرام الناس - وأنت منهم - يرفعون أنفسهم عن الصغائر، وينزهونها عن آثام القول والعمل، ويكبرونها عن تتبع الهفوات، والتماس العثرات، ويصمون آذانهم عن عيب العائبين، ولوم اللائمين. ولعلهم أحيانا أن يسمعوا للوم، والعيب أكثر مما يسمعون للحمد، والثناء، يجدون في اللوم والعيب ما يصلحون به أنفسهم، وينقون به ضمائرهم، ويقومون به أعمالهم، ويجدون في الحمد والثناء تملقا يدفع إلى الغرور، ويغري بالصلف، ويخدع عما قد يكون في النفس من خصال السوء.
وإني لأحب لك أن تلام فتعفو، وأن تعاب فتصفح؛ أكثر مما أحب لك أن تمدح فتعطي، وأن يثنى عليك فتكافئ على حسن الثناء.
وأنت بعد ذلك لا تستطيع أن تعقل الألسنة المنطلقة، ولا أن تحطم الأقلام المشرعة، ولا أن تمنع القلوب من الشعور، والعقول من التفكير، فدع الناس، وما يشاءون أن يقولوا فيك من الخير والشر، ومن الحمد والذم، وانتفع بذلك كله في إصلاح نفسك، وفي تجنب ما يشينك إلى ما يزينك.
ناپیژندل شوی مخ
واذكر قول الشاعر القديم:
إذا لم تستطع شيئا فدعه
وجاوزه إلى ما تستطيع
وكان بعض حكماء الروم يقول: إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون.
جعلت فداك، إن الله لم يعصم أحدا من الخطأ، ولم ينزه أحدا من الزلل، وإنما وهب الناس عقلا يحسن مرة، ويسيء أخرى، ويخطئ حينا، ويصيب حينا، وجعل من الناس على الناس رقباء يدلونهم على مواضع الخطأ، ومواطن الزلل.
ولست بخير من عمر، وقد قال عمر للناس: من رأى منكم في اعوجاجا فليقومه! فقال له قائلهم: لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بسيوفنا!
وقد لام اللائمون عثمان، فقبل اللوم، واعتذر من الخطأ، وتاب إلى الله من السيئات. فما أنت بخير من عمر، وما أنت بخير من عثمان، وما أنت بخير من رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وقد رضي أن ينصف من نفسه.
فأنصف من نفسك إذن، ولا تكلفها ما لا تطيق، وضعها حيث وضعها الله، وحيث وضعها أمير المؤمنين، واذكر أنك لم تكن أمس شيئا فأصبحت اليوم بفضل أمير المؤمنين شيئا مذكورا.
فاشكر لله نعمته عليك، ولأمير المؤمنين يده عندك. وخير شكر لله أن تذيع في الناس العدل، وتشيع فيهم الخير، وخير شكر لأمير المؤمنين أن تشعر الناس بحبه لهم، ورفقه بهم، وأنهم عنده سواء.
ناپیژندل شوی مخ
وأنا أعلم - جعلت فداك - أن الحق مر، وأن النصح ثقيل، وأن الصدق بغيض إلى أصحاب السلطان. ولكنني أوثرك على نفسي، وأصفيك خالص ودي، وقد علمت ما علمت فكتبت ما كتبت، وأنا مرسل إليك هذا الكتاب، فمرتحل إلى البصرة لأقيم فيها بعيدا عن بغداد. فلأن أكون مغمورا في البصرة أحب إلي من أن أكون مشهورا معروفا في بغداد.
ومضى الجاحظ في رسالته تلك إلى محمد بن عبد الملك الزيات على ما تعود أن يمضي فيه من الاستطراد، والتنقل بين ألوان الحديث، ولكن وقت القارئ أضيق من أن أتم له هذه الرسالة.
الوشاية والوشاة
هداك الله إلى الرشد، وجعلك إلى الرشد هاديا، وللحق داعيا. وحماك الله من الغي، وجعلك من الغي حاميا، وعن الإثم ناهيا. ودلك الله على الخير، وجعلك على الخير دليلا، وبالبر كفيلا، وعصمك الله من الشر، وجعلك من الشر عاصما، وللفتنة حاسما. ووقاك الله سعي الساعين بالأذى، ودعاء الداعين إلى القطيعة، وإرجاف المرجفين بالكذب، وإسراف المسرفين في الكيد، ومشي الماشين بالنميمة.
فقد كان يقال إن صاحب القلب الذكي، والحكم الراجح ، والبصيرة النافذة؛ خليق أن يحذر الساعين إليه بالناس، وأن يقدر أنهم إن يسعوا إليه اليوم فقد يسعون به غدا، وإن يكيدوا لخصمه عنده، والأيام مقبلة عليه، فقد يكيدون له عند خصمه، والأيام مدبرة عنه. وكان يقال إن الدهر قلب، وإن الأيام لا تؤمن، وإن الزمان كلف بالغدر، موكل بالمساءة، يبسم ليعبس، ويعبس ليبسم! وكان يقال إن الرجل الحذر خليق ألا يؤتى من مأمنه، وسبيله إلى ذلك ألا يطمئن إلى الأيام، ولا يستريح إلى الدهر، وأن يستقبل النعماء مقدرا أنها قد تزول عنه، وأن يستقبل البأساء مقدرا أنها الغمرات ثم ينجلين!
وإذا كان الحزم للرجل اللبيب ألا يأمن الأيام، ولا يطمئن إلى الدهر، فأحزم من ذلك ألا يأمن الناس، ولا يستريح إليهم ... فهم يسعون إلى الرجل ذي السلطان والبأس؛ رغبا إليه أو رهبا منه، يلتمسون عنده الخير، ويبتغون إليه الوسيلة، ويسلكون إليه السبل حراصا على أن يخلو لهم وجهه، ويصفو لهم وده، ويخلص لهم ضميره، فتغمرهم نعمته، وتعدوهم نقمته، وهم يعلمون أن صاحب السلطان والبأس لا بد له من أن ينعم، فهم يحرصون على أن يستأثروا بأنعامه، ولا بد له من أن ينتقم، فهم يجهدون في أن يصرفوا نقمته عن أنفسهم. وهم في كل ذلك يطلبون إلى صاحب السلطان والبأس أكثر مما يطلبون إلى أنفسهم، ويأخذون منه أكثر مما يعطونه؛ يطلبون إليه أن يخصهم بصفو نفسه، وصدق وده، وشامل معروفه، ولا يعطونه من أنفسهم إلا الكدر والرنق، ولا يمنحونه من ودهم إلا التكلف والرياء، ولا يهدون إليه من معروفهم إلا تربص الدوائر به، وانتهاز الفرص فيه، وانتظار اليوم الذي يتحولون فيه عنه إلى من ينافسه ويناوئه. فهم يعرضون قلوبهم، ونفوسهم، وعقولهم، وضمائرهم للبيع، ويقبلون ما يعرض عليهم لها من ثمن. فأي الناس أرضاهم مالوا إليه، وأي الناس قصر في إرضائهم انحرفوا عنه، وتألبوا عليه!
ثم هم بعد ذلك لا يحفظون ودا، ولا يرعون حرمة، ولا يذكرون جميلا. وإنما يسرع النسيان إلى قلوبهم فيمحو منها كل ذكرى، ويلقي بينها وبين ما قدم إليهم من الخير، والمعروف حجبا وأستارا. ثم هم بعد ذلك لا يكتفون بالنسيان، ولا يقنعون بنكران الجميل، وكفر النعمة، وإنما يضيفون شرا إلى شر، ونكرا إلى نكر، وجحودا إلى جحود. قد أقاموا حياتهم على الكذب، وأجروا سيرتهم على الرياء، وطووا ضمائرهم على النفاق. فهم لا يستطيعون أن يعيشوا بأنفسهم، وإنما يستمدون حياتهم من المنعمين عليهم، المحسنين إليهم، ومن المغترين بهم، والمنخدعين لهم ... فهم يتملقون من أتيح له السلطان، يسعون إليه من كل سبيل، ويسلكون إليه كل طريق، يرقون إليه على أعناق سادتهم الذين أحسنوا إليهم، وبروا بهم، وغمروهم بالمعروف، لا يتحرجون من غدر، ولا يتأثمون من نكر، قد استحبوا المنافع العاجلة على المنافع الآجلة، وآثروا المكر على الإخلاص، والغدر على الوفاء. فخليق بصاحب السلطان أن يعرفهم حق معرفتهم، وأن يضعهم حيث وضعوا أنفسهم، وأن يخشى أن يمكروا به كما مكروا بمن كان من قبله، وأن يتخذوه وسيلة إلى التماس المنافع عند غيره كما اتخذوا من كان قبله وسيلة إلى التماس المنافع عنده!
وهذا الصنف من الناس - أيدك الله - رذل الطبع، موبوء القلب، مدخول الضمير، لا يحسب لشيء حسابا، ولا يرجو لأحد وقارا، لا يفرق بين خير وشر، ولا يميز عرفا من نكر، وإنما الخير ما انتهى به إلى ما يريد، والشر ما حال بينه وبين ما يريد، وإنما العرف ما أداه إلى غايته، والنكر ما باعد بينه وبين غايته، فليس للفضيلة عنده وزن، وليس للخلق الكريم في نفسه قدر، وهؤلاء الناس ينتهي بهم مراسهم للكيد، وإمعانهم في المكر إلى أن يستعذبوا الإثم، ويستحبوه، وإلى أن يكذبوا حبا في الكذب، ويشوا إيثارا للوشاية. يجدون في ذلك رضى لنفوسهم التي لا ترضى إلا بالشر، ولا تنعم إلا بالوقيعة، ولا تستريح إلا إلى الإفساد بين الناس.
وقد أدب الله - عز وجل - رسوله
صلى الله عليه وسلم
ناپیژندل شوی مخ
فأحسن تأديبه، ونهاه، ونهى المسلمين معه عن طاعة كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم، فما أجدر المسلم الذي ينظر لأمر دينه كأنه يموت غدا، ولأمر دنياه كأنه يعيش أبدا، أن يتأدب بهذا الأدب الذي أدب الله به الأنبياء، والصديقين، والأبرار الصالحين.
والوشاية - جنبك الله شرها، وعصمك من نكرها، ورد عنك أذاها، وصرف إلى عدوك شباها - تكون على ضروب مختلفة، وألوان مفترقة؛ فمنها ما امتحن به نابغة بني ذبيان في قصر النعمان، وذلك حيث يقول:
حلفت فلم أترك لنفسك ريبة
وليس وراء الله للمرء مذهب
لئن كنت قد بلغت عني وشاية
لمبلغك الواشي أغش وأكذب
وحيث يقول:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني
وتلك التي تصطك منها المسامع
فبت كأني ساورتني ضئيلة
ناپیژندل شوی مخ
من الرقط في أنيابها السم ناقع
فإنك كالليل الذي هو مدركي
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع!
ومنها وشاية بين الصديق والصديق، وبين الأليف والأليف تحول الصفاء جفاء، والمودة عداء ... ومنها الوشاية بين الحبيبين تلك التي قال فيها الشعراء فأجادوا، وأحسنوا.
والقول في شكوى المحبين من وشاية الوشاة، وعذل العذال، ورقابة الرقباء، خليق أن يطول، وتلتوي مذاهبه، ولكني - أيدك الله - لم أكتب إليك في ذلك، ولم أرد أن أظهرك عليه. وإنما هو شيء عرض أثناء الحديث فألممت به إلماما ... وأعود إلى ما بدأت به من تحذيرك سعي الوشاة إليك، وسعي الوشاة بك، فأذكرك - وما أنت في حاجة إلى التذكرة - بما ترجم ابن المقفع في كليلة ودمنة، وبما روى الرواة عن ملوك العرب والعجم، وبما قالت الحكماء في ذلك من بارع الموعظة، وروائع الحكم. وأنت - حفظك الله - حين تنظر في بعض ذلك خليق أن تستقبل أمرك بالحزم، وأن تقيم سيرتك على الحذر، وأن تسوس أصحابك بالتحفظ، وألا تمضي من أمرك ما تمضي، ولا تدع منه ما تدع، حتى تروي فتطيل الروية، وتستبصر فتحسن الاستبصار.
ومن حقك على نفسك، ومن حق الناس عليك، أن تتهم الذين يسعون إليك، ويطيفون بك. فإن اتهام فريق من الناس، والتثبت قبل الاستجابة إلى ما يدعونك إليه؛ خير لك، وأسلم عاقبة من ظلم البريء، والإساءة إلى المحسن، والإحسان إلى المسيء، والتجاوز عن المجرم. وقد أمر الله - عز وجل - نبيه
صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه رضي الله عنهم أن يتثبتوا إن جاءهم فاسق بنبأ مخافة أن يصيبوا قوما بجهالة فيصبحوا على ما فعلوا نادمين. والله - عز وجل - قد وضع في أعناق العلماء أن ينصحوا للحكام فيخلصوا في النصيحة، وأن يعظوهم فيحسنوا الموعظة، وأن يذكروهم بآيات الله كلما تعرضوا لنسيانها أو هموا أن يتحولوا عنها. ومن أجل هذا كتبت إليك ناصحا لك أمينا في النصيحة، وواعظا لك مخلصا في الموعظة، ومحذرا لك من الله الذي حذر الناس نفسه، ومذكرا لك بآيات الله الذي طلب إليهم أن يتذكروا آياته.
وما أجدر الذين يسوسون الناس، ويدبرون أمورهم، ويقضون في أنفسهم وأموالهم؛ أن يضعوا أمامهم صحيفة يلقون عليها نظرهم بين حين وحين، وقد كتبت فيها هاتان الآيتان الكريمتان من سورة الحجرات:
يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون * يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم .
ذلك أحرى أن يعصمهم من المظالم، وأن ينزههم عن الكيد، ويجنبهم كثيرا من الظن، ويحملهم على ألا يأخذوا الناس بالشبهات.
ناپیژندل شوی مخ
رسالة القصد والغرور
يسرك الله للخير، ويسر الخير لك، وصرفك الله عن الشر، وصرف الشر عنك، ودلك الله على الحق، ودل الحق عليك، وساقك الله إلى الصواب، وساق الصواب إليك، وأشاع الله في قلبك الغبطة، وأسبغ على نفسك البهجة، وأنزل على ضميرك السكينة، ونقى دخيلتك من الموجدة والضغينة، وجعل ما ظهر من أمرك بشرا ويمنا، وما خفي من سرك دعة وأمنا، ووطأ كنفك للصديق المقارب، ومهد عفوك للعدو المجانب، ورفع مكانك عن كيد الكائدين، وحسد الحاسدين، وخفض جناحك للائذين بك، واللاجئين إليك، وثبتك على ما ركب في طبعك من إعطاء المحروم، وإغاثة الملهوف، وإعانة المحتاج، وتعزية الملتاع، والأخذ بيد الضعيف، والتجاوز عن إساءة المسيء، والإعراض عن جهل الجاهلين. •••
بهذا كله أدعو لك حين ألقاك، وحين أنأى عنك، وبهذا كله أدعو لنفسي حين أخلص لها خاليا إليها، وحين أشغل عنها نافرا منها، فالله يشهد ما أحببت إليها، وحين أشغل عنها نافرا منها، فالله يشهد ما أحببت لنفسي شيئا إلا أحببت لك مثله أو خيرا منه، وما كرهت لنفسي أو من نفسي شيئا إلا تمنيت أن يعصمك الله منه، وينزهك عنه، ويجنبك التورط فيه. فأنت رفيق الصبا، وصديق الشباب، وأنت شقيق نفسي، وأليف قلبي، والشريك في النعمة حين تظل، والحليف على النائبة حين تنوب، والمعين على الخطب حين يدلهم، والظهير على الأيام حين تحدث فيها الأحداث، وتتعقد فيها المشكلات. فما نصحت لك قط، ولا أشرت عليك، ولا رفقت بك إلا رأيتني لها ناصحا، وعليها مشيرا، وبها رفيقا.
وما أعلم أنك احتجت قط إلى نصح الصديق، ومشورة الخليل كما تحتاج إليهما الآن حين ارتفعت منزلتك عند أصحاب الشأن، وألقي إليك الخطير من أزمة الحكم، فطمع فيك الطامعون، وأشفق منك المشفقون، وانعقدت بك الآمال، ولاذت بك الأماني، وأصبحت من وفور النعمة بسطة الجاه بحيث لا تستقبل النهار، ولا تستقبل الليل، ولا تعبر ساعة من ساعاتهما أو لحظة من لحظاتهما إلا فكر فيك مفكر يريد أن يستظل بجناح من نعمتك أو يتقي طائفا من نقمتك، فأنت المرجو المخوف، وأنت المحبب المبغض، وأنت المرموق الموموق، وأنت المغبوط المحسود. وإذا بلغ الإنسان مثل ما بلغت من ارتفاع المنزلة، وعلو المكانة، وانبساط السلطان، وامتداد القوة كان خليقا أن ينأى بنفسه عن الغرور والتيه، ويبرئها من الصلف والكبرياء، ويحميها من الاندفاع في الثقة، والاعتداد بالحول والطول، والاستغناء بالثراء والبأس، ويذكر أنه قد قوي بعد ضعف، وأثرى بعد فقر، واستغنى بعد احتياج، وإن ضمائر الأيام تحفظ للناس من أسرار الغيب ما يحبون وما يكرهون، وتدخر لهم من الأحداث ما يعرفون وما ينكرون. فمن أتيحت له القوة قد يقدر له الضعف، ومن مكن له في الأرض قد تنبو به الدار، ومن ابتسمت له الأيام قد يعبس له الدهر. النعمة وديعة في أيدي أصحابها قد يطلبها من استودعهم إياها، والقوة عارية في أيدي الأقوياء قد تؤخذ منهم لترد على الضعفاء، والله - عز وجل - يقول:
وتلك الأيام نداولها بين الناس .
وقد قال الشاعر القديم:
فيوم علينا ويوم لنا
ويوم نساء ويوم نسر
فأحذرك أول ما أحذرك أيها الأخ الصديق، والخليل الشفيق، الاعتداد بالنفس، والاغترار بالحول والطول، والانخداع بابتسامات الدهر، فإنها قد تصدقك اليوم لتكذبك غدا، فاحذر نفسك أول ما تحذر، وأشفق عليها منها قبل أن تشفق عليها من الناس، واذكر قول الله - عز وجل - في قصة يوسف عليه السلام:
وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء
ناپیژندل شوی مخ
فلا تنفذ لنفسك أمرا تتلقاه منها حتى تتدبره، وتفكر فيه فتطيل التفكير. ومهما يواتك الحظ فاذكر حالك قبل أن يواتيك، وقدر أنك قد تعود إلى مثل ما كنت فيه، واذكر رأيك في أصحاب الرأي قبل أن تكون منهم، ونقدك لهم، وحكمك عليهم قبل أن ترقى إلى مكانك بينهم. واعلم أن الناس يقولون فيك مثل ما كنت تقول فيهم، ويحكمون عليك بمثل ما كنت تحكم عليهم. واذكر في أول ما تذكر أن لك ضميرا يرضى ويسخط، ويعرف وينكر، ويحمد ويذم، وأن أعباء الحكم قد تشغلك عنه أو تشغله عنك؛ ما امتدت لك أسباب القوة. ولكنك ستفرغ له كما أنه سيفرغ لك ذات يوم أو ذات ليل، فاحرص على ألا تسمع منه إلا خيرا. •••
وأنت بعد ذلك محتاج إلى نصح الصديق، ومعونة الخليل فيما أحدث الحكم بينك وبين الناس من صلات، فأنت تدبر أمورهم، وترعى مرافقهم، تسوسهم باللين حينا، وتسوسهم بالشدة أحيانا. فأنت تطمع وتخيف، وأنت تشيع الرعب، وتشيع الرهب، وأنت تمد أسباب الرجاء، وترسل إلى القلوب صواعق اليأس. فالناس بين مبتغ إليك الوسيلة، ومتربص بك الدائرة، ومنتهز فيك الفرصة. كلهم يظهر لك المودة، وأكثرهم يضمر الموجدة عليك، ويطوي قلبه لك على شر ما تطوى عليه القلوب .
وأخوف ما أخاف عليك من الناس؛ سعيهم عندك بالنميمة، ومشيهم إليك بالوقيعة، وابتغاؤهم رضاك بالوشاية. فالناس يبتغون إلى الحاكم كل وسيلة، ويتقربون إليه من كل سبيل. يتنافسون فيما عنده، ويغريهم ذلك بأن يكيد بعضهم لبعض، ويمكر بعضهم ببعض، ويتكذب بعضهم على بعض، كلهم يريد أن ينال من الحكومة أكثر مما ينال غيره من النظراء، وهم من أجل ذلك في هم مقيم، وتحاسد متصل، وتباغض ملح، يسعون إلى آمالهم بما يستقيم من الطرق وما يعوج، وبما يباح من السيرة وما يحظر، وبما يحسن من القول والعمل وما يقبح، يتبادلون المساءة فيما بينهم، ولكنهم يختصونك بشر ما يتبادلون من النكر والسوء، ويفسدون قلبك على الناس فيفسدون قلوب الناس عليك، ويسيئون رأيك فيهم فيسيئون رأيهم فيك. ثم ينتهون آخر الأمر إلى أن يفسدوا عليك أمرك، ويسيئوا رأيك في نفسك، ويباعدوا بينك وبين ضميرك، وينغضوا عليك راحة الليل، ونشاط النهار. •••
وإذا أوجب عليك أن تحذر نفسك، وأن تحذر الناس، فقد يستبين لك أن الحكم نقمة لا نعمة، ومحنة تبتلى بها النفوس، وتفتن بها القلوب، وتمحص بها الضمائر، فهو عناء لا راحة، وهو شقاء لا سعادة، وهو قلق لا هدوء، وهو خوف لا أمن. واذكر - أصلحك الله - أيام كنا نلتقي فنذكر فلانا وفلانا من الحكام الذين سبقوك، نعيبهم كثيرا، ونثني عليهم قليلا، ونرثي لهم دائما، ونتمنى للصديق منهم أن يجلي الله عنه الغمرة، ويفرج عنه الكربة، ويحط عنه أعباء الحكم وأوزاره، ويرده إلى الحياة الحرة السمحة التي لا يحمل الإنسان فيها إلا أوزار نفسه، والتي لا يثقل الإنسان نفسه فيها بأوزار الناس، وما أكثر أوزار الناس!
ولقد تبسم راضيا أو ساخطا حين تعلم أني أكتب إليك هذه الرسالة، وفي نفسي من الحب لك، والرفق بك، والإشفاق عليك، ما يحملني على أن أسأل الله لك العافية، وأتمنى عليه أن يضع عنك إصر الحكم وأغلاله، وأن يردك إلي من هذه المحنة سالما موفورا، وقانعا من الغنيمة بالإياب. فخير غنيمة للحاكمين أن يخرجوا من الحكم أتقياء كما كانوا قبل أن يدخلوا فيه، لم يغنموا منه إلا سلامة بالإياب.
رسائل وقعت لي لم أعرف، على طول البحث وشدة الاستقصاء، كاتبها ولا من كتبت إليه.
رسالة إلى ...
لست أدري كيف أدعوك! فقد كنت فيما مضى من الأيام أدعوك بالأخ العزيز، والصديق الكريم، وأنا أخشى أن أسوءك، وأن أسوء الحق أن دعوتك بهاتين الصفتين؛ إحداهما أو كلتيهما.
أخشى أن أسوءك بإثارة الحزن، والأسى في نفسك، وبإثارة الندم فيها أيضا، فأنت تعلم أنك لم تبق لي أخا عزيزا لأنك ألغيت هذا الإخاء، ولا صديقا كريما لأنك قطعت أسباب هذه الصداقة. وقد يسوءك تذكيرك بما مضى، وقد يحزنك ردك إلى ما سلف، وقد يشق على نفسك أن تتبين أن لا سبيل إلى استدراك ما فات، ولا إلى استئناف ما فرط، فلأمر ما أرسل القدماء مثلهم المعروف «سبق السيف العذل».
وقد يثير الندم في نفسك إن تصدقك الذكرى بعد أن بعد العهد، وسكت الغضب، ورضيت الأطماع، وتغيرت الظروف، فتنبئك بأنك قد تجنيت في غير موضع للتجني، وتكلفت القطيعة في غير مقتض لتكلفها، وأقدمت عليها حين كان كل شيء يدعوك إلى أن تحجم عنها، وترفع نفسك عن إثمها ...
ناپیژندل شوی مخ
نعم لست أدري كيف أدعوك! فلست أريد أن أسوءك، ولست أريد أن أسوء الحق، فالحق يعلم أنك كنت لي أخا عزيزا وصديقا كريما، ثم ألغيت الإخاء إلغاء، ومحوت الصداقة محوا. وما أحب أن أدعوك سيدي كما تعود الناس أن يدعوا من ليس بينهم وبينه صلة من مودة أو إخاء، فإني أشق على نفسي، وأكلفها أكثر مما تطيق أن دعوتك بهذا الاسم، وقد أشق على شيء هو أكرم علي من نفسي، وإن لم يكن عليك كريما، وهو الذكرى.
ولعلك لم تنس بعد ما كنا نتحدث به أيام الصفاء من أننا قد بلغنا السن التي يحرص الناس فيها على الذكرى كما يحرصون على أنفس الكنوز؛ لأنها خير من كل ما بقي لهم، أو هي خير ما بقي لهم من حياة قد مضى أكثرها، ولم يبق إلا أقلها، وليس إلى استئنافها من سبيل.
وكنا نقول في أيام الصفاء تلك أنا قد بلغنا السن التي يحتفظ فيها الرجل الكريم بشيئين أشد الاحتفاظ، ويحرص عليهما أعظم الحرص، ويضن بهما أكثر مما يضن البخيل بماله؛ وهما الذكرى التي تستبقي له حياته أو ما يمكن استبقاؤه من هذه الحياة، والصداقة التي تصل بينه وبين الدنيا حين تنقطع الأسباب بينه وبين الدنيا كلما مرت ساعة من ليل أو ساعة من نهار. وكنا نتواصى في أيام الصفاء تلك بأن يخلو كل واحد منا إلى نفسه ما استطاع، فيستحضر الماضي كله، ويعصره عصرا ليستخلص منه ما يستطيع أن يستخلصه من الذكرى، وليسجله في كتاب حتى لا تعبث به الأحداث، وحتى لا تذهب به الأيام، وحتى لا تمحوه هذه الشيخوخة التي تسرع إلينا أو نسرع إليها، والتي تفني كل شيء فينا قليلا قليلا، فكنا نريد أن نستخلص الذكرى من الأحداث والأيام والشيخوخة، ونكرها على البقاء؛ لأننا نجد العزاء كل العزاء في الرجوع إليها، والاستماع لما تقص علينا من أحاديث أنفسنا، والاستمتاع باستحضار ما عملنا، وما لا نستطيع أن نعمل.
وكنت أحبك أشد الحب، وأوثرك على الناس جميعا، وأوثرك على نفسي قبل أن أوثرك على الناس. وكنت تحبني أشد الحب، وتؤثرني على الناس جميعا، وتؤثرني على نفسك قبل أن تؤثرني على الناس. وكان كل واحد منا حريصا من أجل ذلك على أن يعرف من أمر صاحبه كل شيء.
كنت أنت قد بلغت الثلاثين، وكان بيني وبينها أعوام قليلة حين التقينا، وحين اصطفى كل واحد منا صاحبه على غيره من اللدات والأتراب. ومنذ ذلك الوقت لم يخف على أحدنا من أمر صاحبه شيء. ولكن كلا منا كان يجهل صبا صاحبه وشبابه، وكان يحرص على أن يعرف صبا صاحبه وشبابه. وكنا نتواصى في أوقات الصفاء تلك بأن نستقصي فنحسن الاستقصاء، وبأن نحصي فنتقن الإحصاء، وبأن نسأل الأهل عما كان من أمر طفولتنا حتى لا يفوت أحدنا من أمر صاحبه قليل أو كثير. كان كل واحد منا حريصا على أن يعمر قلبه بصورة من صاحبه كاملة إلى أقصى ما يتاح للأشياء الإنسانية من الكمال.
أتذكر هذا كله، أم نسيته كما نسيت كثيرا غيره من الأشياء؟ أما أنا فأذكره كما أذكر نفسي، وأنعم به كما أنعم بنفسي، وأشقى به كما أشقى بنفسي أيضا. فأنت تعلم أن الإنسان المتفكر يجد في نفسه ينبوعين يفيض أحدهما بالسعادة، ويفيض ثانيهما بالشقاء.
لم أنس من هذا كله شيئا، ولن أنسى من هذا كله شيئا، وسأنعم بهذا كله فأجد شقاء في هذا النعيم لأنه لا يزداد ولا ينمو، ولا يتجدد، وسأشقى بهذا كله فأجد نعيما في هذا الشقاء؛ لأنه يستبقي لي سعادة قد بلوتها فحمدت بلاءها، وما زلت أذوقها، وأحرص على استبقاء هذا المذاق.
كل هذا أقوله لأني لا أدري كيف أدعوك ... فلست أخي العزيز، ولست صديقي الكريم لأنك لا تريد أن تكون هذا ولا ذاك، ولست سيدي؛ لأني لا أريد أن أدعوك بهذا اللفظ السخيف الفارغ الذي لا يدل على شيء. وما حاجتي إلى أن أدعوك! وما حاجتك إلى هذا الدعاء! وما يمنعني أن أكتب إليك دون أن أبدأ رسالتي بما تعود الناس أن يبدءوا به رسائلهم من هذه الألفاظ. إنك لتفهم عني، وإن لم أدعك، وإني لأوجه إليك القول، وإن لم تسمع دعائي. وما حاجتي إلى أن أدعوك، وأنا لن أرسل إليك هذا الكتاب في بيتك في القاهرة، أو في مصيفك في الإسكندرية، أو غيرها من مصايف مصر، فلست أعرف أين تصطاف، وقد مضى زمن كنت أسأل فيه عنك في أي فصل من فصول السنة، وفي أي شهر من شهورها، وفي أي يوم من أيام الشهر، وفي أي ساعة من ساعات اليوم، فأعرف أين تكون ... وأدل سائلي على مكانك من دارك، أو مكتبك، أو ناديك، أو ما شئت من هذه الأماكن التي كنت تضطرب بينها، وتختلف إليها. فأما الآن فأنا أجهل من أمرك كل شيء إلا هذه الأنباء التي أقرؤها في هذه الصحيفة أو تلك.
فأنت رجل تتحدث عنه الصحف فتكثر الحديث، وتروي أنباءه فتحسن رواية الأنباء. لا أعرف من أمرك إلا ما يعرفه كل قارئ للصحف، ولا ألقاك إلا حين تفرض علينا ظروف الحياة أن نلتقي في هذا الحفل أو ذاك. وقد يقبل أحدنا على صاحبه مكرها فيهدي إليه تحية فاترة ملؤها الاستحياء أو الاستخذاء، وفيها كثير من التعجل، وفيها كثير الرغبة في أن يطرأ طارئ أو يقبل مقبل أو يكون شيء من هذه الأشياء الكثيرة التي يفترق لها الناس بعد اجتماع، ويشغل بها بعض الناس عن بعض في هذه المواطن التي يقوم الأمر كله فيها على التكلف، والتجمل، والرياء. ولا أعرف من أمرك إلا ما يعرف الناس جميعا، ولا ألقاك إلا كما يلقى بعض الناس بعضا في هذه الاجتماعات السخيفة البغيضة التي تسوء أكثر مما تسر، وتغيظ أكثر مما ترضي، والتي لا أشهدها إلا رجعت منها بالسخط على نفسي، وعلى الناس.
أتذكر؟! لقد كنا نتحدث في ذلك فنطيل الحديث، نضحك منه كثيرا، ونحزن له كثيرا، ونسخر منه دائما. لا أعرف من أمرك إلا ما يعرف الناس جميعا، ولا ألقاك إلا في هذا الفصل الذي يلتقي الناس فيه حول مائدة من موائد الشاي أو موائد الطعام. لا أسمع صوتك في التليفون قبل أن يرتفع الضحى، ولا أسمع صوتك في التليفون حين يتقدم الليل، ولا تسعدني زيارتك حين أقيم، ولا تؤنسني رسائلك حين أغترب. ومن أجل ذلك أكتب إليك دون أن أضع عنوانك على هذا الكتاب، ودون أن أسلم هذا الكتاب إلى البريد؛ لأنا فقدنا عادة المكاتبة كما فقدنا عادة التزاور، وكما فقدنا عادة الحديث بالتليفون. وأنا مع ذلك أكتب إليك، وأسلم كتابي إلى مجلة الهلال؛ لأني واثق بأنه سيصل إليك دون أن تعرف مجلة الهلال لمن أكتب أو إلى من أسوق الحديث! ودون أن يعرف أحد من قراء الهلال لمن أكتب، وإلى من أسوق الحديث، إلا أنت، فستعرف حق المعرفة لمن أكتب، وإلى من أسوق الحديث.
ناپیژندل شوی مخ
ستقرأ هذا الكتاب ما في ذلك شك؛ لأنك تقرأ كل ما أكتب كما أقرأ أنا كل ما تكتب، فأنت مريض بي كما أني مريض بك، لا نلتقي، ولا نتزاور، ولا نتحدث، ولكننا نتصل على رغم هذا كله اتصالا يشوبه الرضى حينا، ويشوبه السخط حينا، ويشوبه الحزن دائما.
ستقرأ هذا الكتاب، وستعلم أنه موجه إليك، وسترى نفسك فيه فتنكرها أشد الإنكار، وتود لو تجهلها، ولو تستطيع أن تفلت منها، وستحاول ذلك ما وسعتك المحاولة، ولكنك لن تبلغ من ذلك شيئا.
فهناك شيئان لا يستطيع الإنسان أن يفلت منهما مهما يجهد، ومهما يحاول ... لا يستطيع الإنسان أن يفلت من نفسه، ولا يستطيع الإنسان أن يفلت من ملك ربه كما يقول أبو العلاء.
سترى نفسك في هذا الكتاب، وستنكرها أشد الإنكار، وسيلذع الندم قلبك على ما أضعت من حق، وما بددت من مودة كان يجب عليك أن تحتفظ بها، ولكنك ستتكلف النسيان، وستنسى أحيانا، وسيعود إليك الندم فيعذب قلبك عذابا شديدا. إنك تود لو تستطيع أن تصل ما انقطع من الأسباب، وتجمع ما تفرق من الشمل، ولكنك ستجد بينك وبين هذا أمدا بعيدا لا سبيل إلى قطعه، وهوة سحيقة لا سبيل إلى عبورها، فالدواعي التي دفعتك إلى القطيعة ما زالت قائمة لم تمحها الظروف بعد، وستمحوها الظروف من غير شك غدا أو بعد غد، ولكنك حينئذ ستستحي من التفكير في وصل ما قطعت من سبب، وجمع ما فرقت من شمل، وستؤثر الموت على العودة إلى صديق قطعت أسباب وده طلبا للمنفعة، وتهالكا على أعراض الحياة، ورغبة في الوصول إلى ما كانت نفسك تتقطع عليه حسرات.
لقد كنت تجهل نفسك جهلا شديدا، وما أرى إلا إنك تجهل نفسك جهلا شديدا، وإن كنت قد بلغت سن «الشيوخ»، وليس عليك من ذلك بأس؛ فالحكمة التي كتبت على معبد دلف لم تكتب عبثا ... طلبت إلى الإنسان أن يعرف نفسه بنفسه، وقد اجتهد سقراط في أن يستجيب لهذه الحكمة، وفي أن يعرف نفسه، فلم يبلغ ما أراد. وما أحسبك أذكى قلبا، ولا أمضى عزما، ولا أشد جلدا من سقراط.
لقد كنت تجهل نفسك. كنت ترى نفسك رجلا خيرا مؤثرا، فكشفت لك الأيام عن رجل قد يكون خيرا، ولكنه ليس من الإيثار في شيء، وإنما هو من الأثرة في كل شيء!
كنت ترى نفسك زاهدا في متاع الدنيا، وأعراض الحياة، فكشفت لك الأيام عن رجل قد يرتفع بنفسه عن المتاع الدنيء، والأعراض المخزية، ولكنه يتتبع الثراء ما استطاع إليه سبيلا، والجاه ما وجد إليه مسلكا، وغرور المنصب ما أتيح له هذا الغرور ... يؤثر هذا كله على كل شيء حتى على الوفاء، وعلى كل إنسان حتى على الأخ العزيز، والصديق الكريم. إنك «أديب»، ولكنك تحب الأدب السهل، وتكره الأدب العسير. ولم يكن شيء يغيظك في أيام الصفاء تلك كما كان يغيظك تحدثي إليك عن بعض آيات الأدب الرفيع. كنت تراني أعيش في السحاب، وكنت تطلب إلي أن أهبط إلى الأرض، وكنت تشكو إلي ما أشق به عليك من هذه المعاني التي لم نألفها في شعر شعرائنا، ونثر كتابنا، ومن هذه الآمال التي لم نألفها في حياتنا المتواضعة الراكدة.
فدعني أشق عليك مرة أخرى ببعض هذا الأدب الرفيع الذي كنت تضيق به أشد الضيق. وعلم الله ما كتبت إليك لأشق عليك، ولكن هذا الأدب الرفيع قد يظهر الناس على نفوسهم أحيانا، وأنا أحب أن أظهرك على بعض نفسك لعلك تتذكر أو تخشى، ولعلك تستقبل أيامك بغير ما تعودت أن تستقبلها به إلى الآن. إني أقرأ في قصة تمثيلية لشاعر يوناني لست في حاجة إلى أن أسميه؛ لأن اسمه لن يدلك على شيء. أقرأ في هذه القصة اليونانية حديث أم إلى ابنها، وقد لقيته بعد نفي طويل ... فهي تسأله عن حياته في المنفى، وتقول له فيما تقول: ألم يعنك أصدقاء أبيك، وهؤلاء الذين نزلت عليهم ضيفا؟ فيجيبها: يجب أن يكون الإنسان سعيدا ليجد مودة الأصدقاء، فإن الأصدقاء لا يغنون عن الصديق البائس شيئا.
وأقرأ في قصة فرنسية لكاتب لا أسميه؛ لأن اسمه لن يدلك على شيء، إن الصداقة تقف الإنسان عن أن يتقدم إلى أمام، وقد ترجع به أحيانا إلى وراء . فمن الخير ألا يستبقي الإنسان صداقة تمنعه من الرقي إلى ما يطمح إلى تحقيقه من الآمال.
أرأيت لم يهجر الصديق الصديق؟ أرأيت لم يعرض الخليل عن ود الخليل؟ أرأيت لم قال الشاعر العربي القديم:
ناپیژندل شوی مخ
غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت
مسافة الخلف بين القول والعمل
عد الآن إلى نفسك، وسلها: متى رثت أسباب الود بينك وبيني، ومتى انقطعت هذه الأسباب؟ ... فستفهم كل شيء، وستعرف من أمر نفسك ما خفي عليك. والله يداول الأيام بين الناس، والأرض تدور، والظروف تتغير، وسترى قوما يألفونك الآن، ويتهالكون عليك كما يتهالك الذباب على الطعام الشهي. ستراهم حين يتم الزمن دورة من دوراته، وحين يبدل الله من قوم لقوم، وحين تذهب ظروف، وتأتي مكانها ظروف أخرى، وقد انصرفوا عنك كما انصرفت أنت عن بعض الناس، وتنكروا لك كما تنكرت أنت لبعض الناس. فإذا مضت الأيام استحيوا منك كما تستحي أنت الآن من بعض الناس.
صدقني إني لا أعرف الرجل الكريم حقا إلا بخصلة واحدة، هي أن يتجنب فيما بينه وبين الناس من صلة، ما من شأنه أن يخزيه أمام نفسه ... فالرجل الذي لا يخزى أمام نفسه خليق ألا يخزى أمام الناس، والرجل الذي يكره أن يستحي أمام ضميره حين يجنه الليل، ويسكن من حوله كل شيء؛ خليق أن يتجنب ما يضطره إلى أن يستحي من الناس.
صدقني إن نفوس الناس معادن، ومن المعادن ما يعلوه الصدأ، ومنها ما لا يجد الصدأ إليه سبيلا. وكم كنت أتمنى أن تكون نفسك أصفى وأنقى وأقوم، وأمتن من أن يعلوها الصدأ أو تعبث بها الخطوب. ولكن لا بد مما ليس منه بد، ولا سبيل إلى إصلاح ما أفسدت الأيام! •••
أفهمت الآن لم لم أرسل كتابي إليك؟ ... أفهمت الآن لم لم أعرف كيف أبدأ كتابي إليك؟ وهناك شيء آخر أحب أن تفهمه، فقد يكون في فهمك إياه بعض هذا العزاء الرخيص؛ لماذا كتبت هذا الكتاب، وقد انقطعت الأسباب بينك وبيني، ولماذا نشرت هذا الكتاب في الهلال؟! لسبب يسير جدا، وهو أن أمثالك في الناس كثيرون بل أكثر جدا مما تظن، فليس هذا الكتاب إلا مرآة لن تكون أنت الشخص الوحيد الذي يرى نفسه فيها.
قلب مغلق
لا تغضب، فلم أرد إلى إغضابك، ولو قد أردت إليه لما استطعته، ولا قدرت عليه، فأنت رجل متئد رزين، شديد الوقار، عظيم الحلم. لا يشبه حلمك بالبرد كما كان يصنع أبو تمام؛ لأنه ليس حلما حضريا مترفا، وإنما يشبه بثبات الصخر، واستقرار الجبال كما كان يصنع الفرزدق، لا لأنه حلم بدوي ساذج كحلم قيس بن عاصم أو الأحنف بن قيس أو معاوية بن أبي سفيان، بل لأنه حلم يأتي من هذا الحجاب الصفيق الذي ضرب بين قلبك وبين الأحداث والخطوب. فأنت رجل لا تبلغك الأحداث، ولا تصل إليك الخطوب. قد ألقيت بينك وبين حياة الناس أستار كثاف، وعشت أنت من دون هذه الأستار مشغولا بنفسك عن كل شيء، ومنصرفا إلى نفسك عن كل إنسان. يستطيع الناس من حولك أن يرضوا، ويسخطوا، وأن يثوروا، ويهدءوا، وأن يأمنوا، ويخافوا، وأن يتجهوا إليك ليشركوك في رضائهم وسخطهم، وليقسموا لك حظا من هدوئهم، وثورتهم، ولينعموا معك بالأمن إن أتيح لهم الأمن، وليستعينوا بك على الخوف إن سلط عليهم الخوف، ولكنهم لن يبلغوا من ذلك شيئا؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يتجاوزوا ما ألقي بينك وبينهم من حجب، ولا ما أسدل بينك وبينهم من أستار. •••
إنما أنت رجل محصن، لا يبلغه العدو، ولا يصل إليه الصديق، واكاد أعتقد أن ليس لك عدو، ولا صديق. شغلت بنفسك حتى يئس الناس منك، وأعرض الناس عنك؛ فلم يطمع فيك منهم طامع، ولو قد فعل لما نال منك شيئا، ولم يعطف عليك منهم عاطف، ولو قد فعل لما نالك منه شيء. والناس مع ذلك لا يرون شيئا من هذا الحصن المؤشب الذي حصنت فيه نفسك، ولا من هذه الحجب الصفاق التي قامت بينك وبينهم، ولا من هذه الأستار الكثاف التي ألقيت عليك من دونهم. وإنما هم يرونك مصبحا وممسيا، ويلقونك غاديا ورائحا، يقولون لك فتسمع منهم، وتقول لهم فيسمعون منك، يجاذبونك هذه الأطراف الرثة السخيفة التي يتجاذبها الناس حين يحيون في البيئة الواحدة، ويخضعون للنظام الواحد، ويشاركون في هذا العيش الذي يعيشه المتحضرون، فأنت قريب منهم كأشد ما يكون القرب، تمد إليهم يدك، ويمدون إليك أيديهم، ترد عليهم تحيتهم، ويردون عليك تحيتك. وأنت بعيد عنهم كأقصى ما يكون البعد، تلقاهم وكأنما تحلم بلقائهم، ويلقونك وكأنما يلقون ظلا لك مستعارا. بينك وبينهم أسباب مصنوعة، وصلات متكلفة لا تبلغ النفس، ولا تتصل بالقلب، فهي لا تثير في عقلك تفكيرا، ولا تثير في قلبك شعورا، لمكان هذا الحصن المؤشب الذي لا يرى، ولمكان هذه الأستار، والحجب الكثاف التي لا تحس. وما أدري أحاولت قط أن تعرف أم حاولوا هم قط أن يعرفوا طبيعة هذا الحصن المؤشب، ومادة هذه الحجب الأستار الكثاف. ولكن أنا قد حاولت، وكتب لمحاولتي النجاح والتوفيق. وأنا أكتب إليك لأعلمك من أمر هذا الحصن ما لم تعلم، وأعرفك من أمر هذه الحجب والأستار ما لم تعرف، وما يعنيني أن تنتفع بهذا العلم أو لا تنتفع، وأن تستفيد من هذه المعرفة أولا تستفيد. فلو قد أردت أن أنفعك أو أفيدك لخصصتك بهذا الكتاب من دون الناس، ولكنك ترى أني لم أرسله إليك، وإنما نشرته في الهلال لتقرأه أنت أو لا تقرأه، وليقرأه غيرك من الناس على كل حال. فمن حق الناس أن يعلموا أن بينك وبينهم حصنا مؤشبا، وحجبا صفاقا، وأستارا كثافا، وأن ينظروا لأنفسهم أيطمعون فيك، وينتظرون منك الخير، فيجب عليهم أن يحتالوا في اقتحام هذا الحصن، وإزالة هذه الحجب، وتمزيق هذه الأستار؛ أم يستيئسون منك فيجب عليهم أن يخلوا بينك وبين هذه العزلة التي اخترتها أو اختارتك، وأن يمضوا في طريقهم، ويسعوا إلى غايتهم لا يشغلون أنفسهم بك كما أنك لا تشغل نفسك بهم. •••
فما ينبغي أن يظل الناس من أمرك في هذه الحيرة المتصلة، يرونك واحدا منهم، ويقدرون أنك متضامن معهم في حمل أثقال الحياة، والنهوض بأعبائها، حتى إذا جد الجد افتقدوك فلم يجدوك، وإذا أنت سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد عنده الحزن، واليأس، وخيبة الأمل، وكذب الرجاء. إنهم ينظرون فيرون غنى موفورا، ونعمة واسعة، وعيشا لينا، وثراء عريضا، وإنهم يسمعون فيقع في آذانهم صوت عذب ممتلئ تشيع فيه القوة، وتفيض منه الحرارة، ويحمل إلى قلوبهم ألفاظا حلوة رائقة شائقة، فيها كثير من أمل، وفيها كثير من وعد، وفيها إحياء للطمع الميت، وإيقاظ للطموح النائم، وإشعار بأن الناس قد خلقوا للتعاون والتضامن، وليظاهر بعضهم بعضا حين تنوب النوائب، وليشد بعضهم أزر بعض حين تدلهم الخطوب. ولكنهم يستقبلون من أمورهم ما يظلم وما يشرق، وينهضون من أعمالهم بما يخف، وما يثقل، ويلتمسونك ليستعينوا بك على تبديد الظلمة، ويبتهجوا معك بجمال النور المشرق، ويستمتعوا معك بحمل الأعباء الخفاف في فرح ومرح ونشاط، ويجهدوا معك بحمل الأعباء الثقال في صبر وأيد وحزن وثبات. يلتمسونك فلا يجدونك، أو هم يجدونك حين تشرق النعماء، ويفقدونك حين تظلم البأساء. أنت شريكهم في العيش الرضي، والحياة المقبلة، وأنت أبعد الناس عنهم حين يغلظ العيش، ويعظم البأس، وتدبر الحياة. تسرع إليهم حين ينعمون لتشارك في نعيمهم على أن ذلك حق لك لا ينبغي لأحد أن يردك عنه أو أن يجادلك فيه، ولعلك تأخذ من هذا النعيم - إن أتيح - بحظ أعظم من حظوظهم، ولعلك تنظر إليهم، وهم يأخذون بحظوظهم المتواضعة الضئيلة، ساخطا عليهم ضيقا بهم، مزدريا لهم، ترى أنهم واغلون يشاركون فيما لا حق لهم أن يشاركوا فيه، ويأخذون مما لا حق لهم أن يأخذوا منه، ولعلك أن تردهم عن هذا النعيم إن استطعت لهم ردا، وأن تذودهم عن هذا الصفو إن استطعت لهم ذيادا. وأنت على كل حال تنظر إليهم شزرا، وتقيم معهم على مضض، تستأثر من دونهم بالكثير، وتحسدهم على ما يتاح لهم من القليل. فإذا أدبرت الدنيا، وأظلمت الحياة، واكتأب الأمل، وجد الجد، والتمس الناس المعين على ما يلم بهم من شقاء وبأس، آويت إلى حصنك هذا المؤشب، وألقيت من دونك هذه الحجب الصفاق، وأسدلت بينك وبين الناس من الأستار الكثاف، ونعمت بعزلتك نعمة هادئة مطمئنة، لا ينغصها منظر البؤس، ولا يكدرها صوت الشكاة، ولا يشوبها تفكير في البائسين، سواء منهم من احتمل البؤس صامتا صابرا جلدا، ومن احتمل البؤس صائحا صاخبا شاكيا إلى الله وإلى الناس.
ناپیژندل شوی مخ
ما طبيعة هذا الحصن المؤشب، وما مادة هذه الحجب والأستار؟ وكيف السبيل إلى أن يخرجك الناس من عزلتك هذه الراضية؟ لتسعد معهم إذا سعدوا، وتشقى معهم إذا شقوا، وتشاركهم في استقبال الحياة حين تشرق، وحين تظلم.
هذه هي المسألة التي حاولت أن أجد لها حلا، وأتيح لمحاولتي هذه شيئا من التوفيق.
إن حصنك هذا المؤشب يا سيدي، ليس إلا قلبك المقفل الذي لا ينفذ إليه شعور بالتضامن أو حاجة إلى التعاون، والذي لا تصل إليه رحمة حين يحتاج الناس إلى الرحمة، ولا رفق حين يحتاج الناس إلى الرفق، ولا رثاء حين يحتاج الناس إلى الرثاء. إنه قلب قد صور من صخر مجوف تستطيع أن تودعه كل ما شئت من أمل لا حد له، وطمع لا ينتهي إلى غاية، وجشع بشع له قرار، وشهوات جامحة لا سبيل إلى ضبطها، وطموح لا يحده إلا الموت، ولكنه على ذلك مقفل مصمت من جميع جوانبه، لا ينفذ إلى داخله أيسر الضوء، ولا أرق النسيم، ولا سبيل إلى تحطيمه لأنه أقسى، وأصلب من أن تبلغ منه المعاول. فهو كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء.
ولكن قلبك لا يتفجر منه نهر على الناس برحمة أو بر أو مودة أو إخاء، ولكن قلبك لا ينشق فتخرج منه قطرة تروي ظمأ الظامئ أو تخفف من لوعة المكروب، قد صور من صخر صلب صلد مصمت من جميع جوانبه.
ولم يكفك ما فطر عليه من صلابة، وصلادة، وإصمات، فوضعت عليه قفلا لا أدري أقصدت به الإغراق في التحفظ والاحتياط، أم قصدت به إلى التأنق، والزينة، وكيد الحسود، فهو قفل رشيق أنيق، تراه العين فتمتلئ النفس له إكبارا، وإعظاما، ويمتلئ القلب به إعجابا، وتتقطع الأفئدة له حسرات. قفل من ذهب نضار ترصعه ضروب الجوهر، والأحجار الكريمة النادرة، قد صاغته لك الأيام في كرها، والليالي في مرها، فأنت به معجب، وله مكبر، وعليه حريص. وأنت به مفاخر، حينا تظهره حتى يملأ النفوس حسدا وحقدا، وأنت به ضنين تخفيه حينا حتى تتقطع القلوب تشوقا إليه، وتفكرا فيه، وأنت في داخل هذا القلب الصلب الصمد المصمت ذي قفل الذهبي المرصع، هادئ لا تحس اضطراب من حولك من الناس، وادع لا تسمع اصطخاب من حولك من البائسين، قد أغمضت عينيك فلا ترى ما يسوءك، وقد سددت أذنيك فلا تسمع ما يؤذيك، وقد ألغيت حواسك كلها أو سخرتها لهواك فلا تحمل إليك إلا ما تحب، وأنت قد تفتح عينيك وأذنيك، وترهف حسك، فترى وكأنك لا ترى، وتسمع وكأنك لا تسمع، وتجد غلظ الحياة وقسوتها، وكأنك لا تجد شيئا. قد حصنت نفسك بهذا القلب الصخري الصلد الذي لا تعمل فيه المعاول، ولا ينفذ منه الضوء أو النسيم، وقد وضعت عليه هذا القفل الذهبي المرصع لتملأ القلوب الأخرى، التي لم تصور من صخر، وإنما صورت من لحم ودم حزنا ويأسا وحقدا وحسدا.
وأنت تنظر إلى هذه القلوب التي يحرقها الحزن، وتمزقها الحسرات في كثير جدا من التعالي والكبرياء، وفي كثير جدا من الاحتقار والازدراء. ولعلك تنعم بما ترى من الشر، ولعلك تسعد بما ترى من البؤس، ولعلك تقول لنفسك حين تتحدث إلى نفسك، وما أقل ما تتحدث إلى نفسك، لقد صرف عني هذا الشر، وعدل عني بهذا البؤس، وأريد أن أحيا هذه الحياة الحلوة التي تشتق حلاوتها مما يحيط بها من مرارة، اللينة التي يستخلص لينها مما يحيط بها من شدة، الناعمة التي يستصفى نعيمها مما يحيط بها من البأساء.
فلأنعم ما دام قد كتب لي النعيم، ولأسعد ما دامت قد أتيحت لي السعادة، وليبتئس غيري، وليشق ما دام قد كتب على غيري البؤس والشقاء.
حدثني، أليست هذه دخيلة نفسك حين تخلو إليها، إن خلوت إليها، وحين تشغل عنها بما تستمتع به لذة، وبما تجمع من ثروة، وبما تحقق من فوز؟
أليست هذه دخيلة نفسك التي لا تتحرج من أن تصارح بها حين يجري الحديث بينك وبين نظرائك، عما يملأ الأرض من بؤس وبغض وشقاء؟ بلى هذه دخيلة نفسك تخفيها كثيرا، وتظهرها قليلا، وتشغل عنها بلذتك، وثروتك في أكثر الأحيان، ولكن انظر، إنك ترى في الأرض أنهارا تجري، وينابيع تفيض، وإنك تستغل هذه الأنهار الجارية، وهذه الينابيع المتدفقة لتمعن في لذاتك، وتزيد إلى ثرائك ثراء، فهل علمت كيف تفجرت هذه الأنهار؟ وهل علمت كيف انشقت الارض عن هذه الينابيع؟ وهل علمت أن قلبك مهما يكن حظه من الصلابة، والصلادة، ومن الإصمات والقسوة، لن يستطيع أن يقاوم الأحداث، ولا أن يثبت للخطوب، ولا أن يحتفظ بهذا القفل الذهبي المرصع الذي علقته أو علقته لك الأيام عليه؟ •••
إن الحوادث والخطوب تعبث بالقلوب مهما تكن قسوتها، ومهما تكن أقفالها، وإن ساعة من الدهر تأتي على هذه القلوب الصلبة الصلدة المصمتة القاسية فتذيبها، أو تحيلها هباء تذروه الرياح. انظر! لقد كانت قبلك قلوب صلبة صلدة مقفلة قد احتبست من ألوان اللذة، والإثم، ومن ضروب الطمع والجشع، ومن خصال الأثرة والبخل ما لا يحصى، ولا يوصف. ثم أتت عليها هذه الساعة من ساعات الدهر فذهبت بها، وبأصحابها. وهذه الساعة آتية عليك وعلى قلبك، فذاهبة بك وبقلبك إلى حيث يذهب الناس، ثم لا يرجعون.
ناپیژندل شوی مخ