صدقني إن من الخير لك، ولمن حولك من الناس أن تحدث في قلبك هذه المصمت المقفل صدعا يسيرا ينفذ منه الضوء ليبدد بعض ما فيه من ظلمة، وينفذ منه النسيم ليطفئ بعض ما فيه من لظى. وصدقني إن من الخير الكثير لك، ولغيرك من الناس أن تدير مفتاحك الذهبي في قفلك هذا المرصع، وأن تفتح قلبك، ولو قليلا ليصل إليه بعض ما في هذا العالم مما يثير الرحمة، ويشيع الرفق، ويعطف بعض الناس على بعض. •••
صدقني إن من الخير الكثير لك، ولغيرك أن تصدع قلبك قبل أن تصدعه الأحداث، وأن تفتح قلبك قبل أن تفتحه الخطوب، وأن تشعر من حولك من الناس بأنك تجد بعض ما يجدون، وتعتقد مثل ما يعتقدون. إنك مثلهم قد خلقت من تراب، وستعود إلى التراب، وإن الذين يستوون قبل أن يدخلوا الحياة، ويستوون بعد أن يخرجوا من الحياة ليسوا في حاجة إلى أن يتمايز بعضهم من بعض، ويبغي بعضهم على بعض، في هذه الطريق القصيرة التي يسلكونها بين المهود واللحود.
من بعيد
لست أدري ما سؤالك عن هؤلاء النفر من أصدقائنا القدماء، إلا أن تكون نفسك في حاجة إلى شيء من الألم بعد أن أغرقت في اللذة، وإلى شيء من الحزن بعد أن أسرف عليها السرور. فأنت رجل قد أتيحت لك الحياة النائية الراضية، وقضت لك الأقدار أن تستقبل النهار مغتبطا حين يشرق نوره، وتستقبل الليل مبتهجا حين تدلهم ظلمته، وتنفق ما بين إسفار الصبح، وإظلام الليل في عمل هادئ مريح، وتنفق ما بين مغرب الشمس، وانتصاف الليل في فنون من اللذات تملأ النفوس بشرا، والقلوب حبورا. وكل شيء منته إلى السأم إذا اتصل، حتى الحياة الراضية، والنعمة السابغة، والعيش الهادئ المطمئن، فلست أنكر منك أن تمل هذا النعيم المقيم، وتطمع في الترفيه على نفسك بقليل من البؤس يأتيك من بعيد، وفضل من الحزن يعبر إليك البحر، ويبلغ نفسك الوداعة الهادئة، كأنه الصدى الضئيل النحيل، والناس يرفهون على أنفسهم كما يستطيعون، والله يقسم الحظوظ بينهم كما يريد.
قوم يتعزون عن النعيم المقيم، واللذة الملحة، بالحزن الطارئ، والألم الملم. وقوم يتعزون عن الشقاء المتصل، والبؤس اللازم، بالنسمات الخفاف اللطاف، يتنسمونها من الشمال والجنوب، إن أتيح لهم إن يتلقوا نسيم الشمال أو نسيم الجنوب. وفيك والحمد لله جموح وجنوح واعوجاج والتواء، وانحراف عن الجادة حين يطول عليك السير في الجادة، وطموح إلى الشر حين تتصل عليك صحبة الخير، ورغبة في البؤس حين يثقل عليك اتصال النعيم. وعلل نفسك إن شئت بما شئت، فقل إنك غريب تريد أن تتصل بذوي مودتك، وتتعرف من أنبائهم ما يخفف عليك ثقل الغربة، وقل إنك وفي لا تنسى الصديق، وقل إنك مؤثر لا تريد أن تنفرد بالسعادة والغبطة، وأن تشغل بنفسك في حياتك الجديدة الناعمة؛ عن الذين شاركوا في حياتك القديمة البائسة. قل ما شئت من ذلك فقد يصدقك غيري من الناس. فأما أنا فقد عرفتك حق المعرفة، وبلوت من سيرتك، وأخلاقك، ومن طبعك، ومزاجك، ما يعصمني من الخطأ في تقدير ما يصدر عنك، من قول أو عمل.
لست غريبا يسأل عن الصديق ليخفف عن نفسه ثقل الغربة، ولست وفيا يسأل عن الصديق ليبرهم، ويسرهم، ويؤذنهم بأنه لم ينسهم، ولن ينساهم. ولست مؤثرا يسأل عن الصديق ليشعرهم بأنه لا يريد أن ينفرد من دونهم، بما أتيح له من الطيبات، وإنما أنت رجل قلق لا يستقر على حال، سئوم لا يطمئن إلى لون من العيش، طلعة لا يستطيع أن يعيش إلا إذا أظهرته الأيام على جديد من الأمر، وأنت بعد هذا كله أثر لا تستمتع بالنعمة التي تتاح لك، إلا إذا عرفت النقمة التي تصب على غيرك، ولا تسيغ اللذة التي تسعى إليك إلا إذا استيقنت أن قوما غيرك يتجرعون من الألم غصصا، ويلقون منه أهوالا. •••
ولقد قرأت كتابك فسرني، وساءني، وفي كل شيء يأتي منك ما يسر، وما يسوء. سرني من كتابك أنك طيب النفس، قرير العين، رضي البال، ولست مثلك أحسد الصديق على ما يتاح لهم من الخير. وسرني من كتابك هذه السذاجة الظاهرة، التي تثير الابتسام، وتبعث الضحك، وتدعو إلى التأمل والتفكير. وساءني من كتابك أنك ماكر تتكلف السذاجة، وغادر تتصنع الوفاء، وخبيث الطوية تتعمل طيبة النفس، وواثق بنفسك إلى أبعد حدود الثقة، تظن أنك وحدك الماهر الماكر، وأن غيرك من الذين تكتب إليهم أغرار محمقون، لا يفهمون ما تضمر، ولا يفطنون لما تريد.
وما أريد أن أغير من أخلاقك شيئا، فليس إلى تغيير أخلاقك من سبيل، ولو تغيرت أخلاقك لضقت بك، وزهدت فيك، ورغبت عنك، فأنت كما أنت تعجبني، وترضيني؛ لأنك معقد النفس ، وأنا أحب النفوس المعقدة، أجد اللذة في حل تعقيدها، وكشف ما يصدر عنها من الرموز والألغاز. وقد أحب النفوس السمحة اليسيرة، وأكلف بما يصدر عنها من الكتب الواضحة الصريحة التي تصدر عن القلوب؛ لتصل إلى القلوب، والتي تملؤها العواطف الحادة، ويفيض فيها الشعور الدقيق، وتتيح للقلوب والنفوس أن يتصل بعضها ببعض في غير مشقة، ولا جهد، ولا عناء، ولكني على ذلك لا أكره النفوس الملتوية المعقدة التي تقول وتريد غير ما تقول، وتعمل وتقصد إلى غير ما تعمل، وتدعو الناس إلى أن يفكروا فيطيلوا التفكير، وإلى أن يرووا فيمعنوا في الروية؛ ليفهموا ما يصدر عنها من قول أو عمل، فعقد نفسك ما وسعك تعقيدها، والتو بقلبك ما استطعت إلى الالتواء به سبيلا، واكتب إلي عن هذه النفس المعقدة، وعن هذا القلب الملتوي ما شئت من الرموز والألغاز، فإني موكل بحل الرموز، وفك الألغاز.
وما أريد بعد هذا أن أبخل عليك بما طلبت إلي من أنباء هؤلاء النفر من أصدقائنا القدماء. فهم على خير ما تحب لهم نفسك المعقدة، وقلبك الملتوي، وهم على شر ما تكره نفوسنا السمحة، وقلوبنا المستقيمة من الأحوال. قد رفعتهم أعراض الحياة إلى أرقى الدرجات، وانحطت بهم حقائقها إلى الدرك الأسفل من الضعة، فهم سادة قادة، يدبرون، ويقدرون، ويأمرون، وينهون، وينفعون، ويضرون. وهم عبيد أرقاء، يملكون من أمور الناس كثيرا، ولا يملكون من أمور أنفسهم شيئا. •••
ولست أدري، أأنت كما عرفتك، محب للقراءة، منوع لما تقرأ، أم أنت قد شغلت بحياتك الجديدة عن القراءة وتنويعها؟ ولست أدري أقرأت قصة ذلك الفتى الذي أفاق من نومه ذات صباح، فإذا هو قد مسخ حشرة بشعة قذرة، كأبشع ما تكون الحشرات، وأقذرها، ولكنه احتفظ على ذلك بحظ من عقل، فهو يعرف ما صار إليه أمره، ويشقى به شقاء بغيضا، وهو يلقى أهله بعد جهد، فإذا هم محزونون عليه، منكرون له، ضائقون به، وهو يلقى الناس الذين يلمون بأهله بين حين وحين، فإذا هم نافرون منه أشد النفور، مبغضون لمنظره أشد البغض، وهو يعلم هذا كله، فتتأذى به نفسه، ويشقى به شقاء لا حد له، وما تزال الخطوب تختلف عليه، والأحداث تؤذيه في جسمه البشع، ونفسه البائسة حتى يستأثر به الموت ذات يوم، وقد هان على أهله، وعلى غيرهم من الناس فلم يحفل به حافل، ولم يلتفت إليه ملتفت، وإنما كان موته فرجا من حرج، وسعة من ضيق. •••
ناپیژندل شوی مخ