ما طبيعة هذا الحصن المؤشب، وما مادة هذه الحجب والأستار؟ وكيف السبيل إلى أن يخرجك الناس من عزلتك هذه الراضية؟ لتسعد معهم إذا سعدوا، وتشقى معهم إذا شقوا، وتشاركهم في استقبال الحياة حين تشرق، وحين تظلم.
هذه هي المسألة التي حاولت أن أجد لها حلا، وأتيح لمحاولتي هذه شيئا من التوفيق.
إن حصنك هذا المؤشب يا سيدي، ليس إلا قلبك المقفل الذي لا ينفذ إليه شعور بالتضامن أو حاجة إلى التعاون، والذي لا تصل إليه رحمة حين يحتاج الناس إلى الرحمة، ولا رفق حين يحتاج الناس إلى الرفق، ولا رثاء حين يحتاج الناس إلى الرثاء. إنه قلب قد صور من صخر مجوف تستطيع أن تودعه كل ما شئت من أمل لا حد له، وطمع لا ينتهي إلى غاية، وجشع بشع له قرار، وشهوات جامحة لا سبيل إلى ضبطها، وطموح لا يحده إلا الموت، ولكنه على ذلك مقفل مصمت من جميع جوانبه، لا ينفذ إلى داخله أيسر الضوء، ولا أرق النسيم، ولا سبيل إلى تحطيمه لأنه أقسى، وأصلب من أن تبلغ منه المعاول. فهو كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار، وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء.
ولكن قلبك لا يتفجر منه نهر على الناس برحمة أو بر أو مودة أو إخاء، ولكن قلبك لا ينشق فتخرج منه قطرة تروي ظمأ الظامئ أو تخفف من لوعة المكروب، قد صور من صخر صلب صلد مصمت من جميع جوانبه.
ولم يكفك ما فطر عليه من صلابة، وصلادة، وإصمات، فوضعت عليه قفلا لا أدري أقصدت به الإغراق في التحفظ والاحتياط، أم قصدت به إلى التأنق، والزينة، وكيد الحسود، فهو قفل رشيق أنيق، تراه العين فتمتلئ النفس له إكبارا، وإعظاما، ويمتلئ القلب به إعجابا، وتتقطع الأفئدة له حسرات. قفل من ذهب نضار ترصعه ضروب الجوهر، والأحجار الكريمة النادرة، قد صاغته لك الأيام في كرها، والليالي في مرها، فأنت به معجب، وله مكبر، وعليه حريص. وأنت به مفاخر، حينا تظهره حتى يملأ النفوس حسدا وحقدا، وأنت به ضنين تخفيه حينا حتى تتقطع القلوب تشوقا إليه، وتفكرا فيه، وأنت في داخل هذا القلب الصلب الصمد المصمت ذي قفل الذهبي المرصع، هادئ لا تحس اضطراب من حولك من الناس، وادع لا تسمع اصطخاب من حولك من البائسين، قد أغمضت عينيك فلا ترى ما يسوءك، وقد سددت أذنيك فلا تسمع ما يؤذيك، وقد ألغيت حواسك كلها أو سخرتها لهواك فلا تحمل إليك إلا ما تحب، وأنت قد تفتح عينيك وأذنيك، وترهف حسك، فترى وكأنك لا ترى، وتسمع وكأنك لا تسمع، وتجد غلظ الحياة وقسوتها، وكأنك لا تجد شيئا. قد حصنت نفسك بهذا القلب الصخري الصلد الذي لا تعمل فيه المعاول، ولا ينفذ منه الضوء أو النسيم، وقد وضعت عليه هذا القفل الذهبي المرصع لتملأ القلوب الأخرى، التي لم تصور من صخر، وإنما صورت من لحم ودم حزنا ويأسا وحقدا وحسدا.
وأنت تنظر إلى هذه القلوب التي يحرقها الحزن، وتمزقها الحسرات في كثير جدا من التعالي والكبرياء، وفي كثير جدا من الاحتقار والازدراء. ولعلك تنعم بما ترى من الشر، ولعلك تسعد بما ترى من البؤس، ولعلك تقول لنفسك حين تتحدث إلى نفسك، وما أقل ما تتحدث إلى نفسك، لقد صرف عني هذا الشر، وعدل عني بهذا البؤس، وأريد أن أحيا هذه الحياة الحلوة التي تشتق حلاوتها مما يحيط بها من مرارة، اللينة التي يستخلص لينها مما يحيط بها من شدة، الناعمة التي يستصفى نعيمها مما يحيط بها من البأساء.
فلأنعم ما دام قد كتب لي النعيم، ولأسعد ما دامت قد أتيحت لي السعادة، وليبتئس غيري، وليشق ما دام قد كتب على غيري البؤس والشقاء.
حدثني، أليست هذه دخيلة نفسك حين تخلو إليها، إن خلوت إليها، وحين تشغل عنها بما تستمتع به لذة، وبما تجمع من ثروة، وبما تحقق من فوز؟
أليست هذه دخيلة نفسك التي لا تتحرج من أن تصارح بها حين يجري الحديث بينك وبين نظرائك، عما يملأ الأرض من بؤس وبغض وشقاء؟ بلى هذه دخيلة نفسك تخفيها كثيرا، وتظهرها قليلا، وتشغل عنها بلذتك، وثروتك في أكثر الأحيان، ولكن انظر، إنك ترى في الأرض أنهارا تجري، وينابيع تفيض، وإنك تستغل هذه الأنهار الجارية، وهذه الينابيع المتدفقة لتمعن في لذاتك، وتزيد إلى ثرائك ثراء، فهل علمت كيف تفجرت هذه الأنهار؟ وهل علمت كيف انشقت الارض عن هذه الينابيع؟ وهل علمت أن قلبك مهما يكن حظه من الصلابة، والصلادة، ومن الإصمات والقسوة، لن يستطيع أن يقاوم الأحداث، ولا أن يثبت للخطوب، ولا أن يحتفظ بهذا القفل الذهبي المرصع الذي علقته أو علقته لك الأيام عليه؟ •••
إن الحوادث والخطوب تعبث بالقلوب مهما تكن قسوتها، ومهما تكن أقفالها، وإن ساعة من الدهر تأتي على هذه القلوب الصلبة الصلدة المصمتة القاسية فتذيبها، أو تحيلها هباء تذروه الرياح. انظر! لقد كانت قبلك قلوب صلبة صلدة مقفلة قد احتبست من ألوان اللذة، والإثم، ومن ضروب الطمع والجشع، ومن خصال الأثرة والبخل ما لا يحصى، ولا يوصف. ثم أتت عليها هذه الساعة من ساعات الدهر فذهبت بها، وبأصحابها. وهذه الساعة آتية عليك وعلى قلبك، فذاهبة بك وبقلبك إلى حيث يذهب الناس، ثم لا يرجعون.
ناپیژندل شوی مخ