غاض الوفاء وفاض الغدر وانفرجت
مسافة الخلف بين القول والعمل
عد الآن إلى نفسك، وسلها: متى رثت أسباب الود بينك وبيني، ومتى انقطعت هذه الأسباب؟ ... فستفهم كل شيء، وستعرف من أمر نفسك ما خفي عليك. والله يداول الأيام بين الناس، والأرض تدور، والظروف تتغير، وسترى قوما يألفونك الآن، ويتهالكون عليك كما يتهالك الذباب على الطعام الشهي. ستراهم حين يتم الزمن دورة من دوراته، وحين يبدل الله من قوم لقوم، وحين تذهب ظروف، وتأتي مكانها ظروف أخرى، وقد انصرفوا عنك كما انصرفت أنت عن بعض الناس، وتنكروا لك كما تنكرت أنت لبعض الناس. فإذا مضت الأيام استحيوا منك كما تستحي أنت الآن من بعض الناس.
صدقني إني لا أعرف الرجل الكريم حقا إلا بخصلة واحدة، هي أن يتجنب فيما بينه وبين الناس من صلة، ما من شأنه أن يخزيه أمام نفسه ... فالرجل الذي لا يخزى أمام نفسه خليق ألا يخزى أمام الناس، والرجل الذي يكره أن يستحي أمام ضميره حين يجنه الليل، ويسكن من حوله كل شيء؛ خليق أن يتجنب ما يضطره إلى أن يستحي من الناس.
صدقني إن نفوس الناس معادن، ومن المعادن ما يعلوه الصدأ، ومنها ما لا يجد الصدأ إليه سبيلا. وكم كنت أتمنى أن تكون نفسك أصفى وأنقى وأقوم، وأمتن من أن يعلوها الصدأ أو تعبث بها الخطوب. ولكن لا بد مما ليس منه بد، ولا سبيل إلى إصلاح ما أفسدت الأيام! •••
أفهمت الآن لم لم أرسل كتابي إليك؟ ... أفهمت الآن لم لم أعرف كيف أبدأ كتابي إليك؟ وهناك شيء آخر أحب أن تفهمه، فقد يكون في فهمك إياه بعض هذا العزاء الرخيص؛ لماذا كتبت هذا الكتاب، وقد انقطعت الأسباب بينك وبيني، ولماذا نشرت هذا الكتاب في الهلال؟! لسبب يسير جدا، وهو أن أمثالك في الناس كثيرون بل أكثر جدا مما تظن، فليس هذا الكتاب إلا مرآة لن تكون أنت الشخص الوحيد الذي يرى نفسه فيها.
قلب مغلق
لا تغضب، فلم أرد إلى إغضابك، ولو قد أردت إليه لما استطعته، ولا قدرت عليه، فأنت رجل متئد رزين، شديد الوقار، عظيم الحلم. لا يشبه حلمك بالبرد كما كان يصنع أبو تمام؛ لأنه ليس حلما حضريا مترفا، وإنما يشبه بثبات الصخر، واستقرار الجبال كما كان يصنع الفرزدق، لا لأنه حلم بدوي ساذج كحلم قيس بن عاصم أو الأحنف بن قيس أو معاوية بن أبي سفيان، بل لأنه حلم يأتي من هذا الحجاب الصفيق الذي ضرب بين قلبك وبين الأحداث والخطوب. فأنت رجل لا تبلغك الأحداث، ولا تصل إليك الخطوب. قد ألقيت بينك وبين حياة الناس أستار كثاف، وعشت أنت من دون هذه الأستار مشغولا بنفسك عن كل شيء، ومنصرفا إلى نفسك عن كل إنسان. يستطيع الناس من حولك أن يرضوا، ويسخطوا، وأن يثوروا، ويهدءوا، وأن يأمنوا، ويخافوا، وأن يتجهوا إليك ليشركوك في رضائهم وسخطهم، وليقسموا لك حظا من هدوئهم، وثورتهم، ولينعموا معك بالأمن إن أتيح لهم الأمن، وليستعينوا بك على الخوف إن سلط عليهم الخوف، ولكنهم لن يبلغوا من ذلك شيئا؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يتجاوزوا ما ألقي بينك وبينهم من حجب، ولا ما أسدل بينك وبينهم من أستار. •••
إنما أنت رجل محصن، لا يبلغه العدو، ولا يصل إليه الصديق، واكاد أعتقد أن ليس لك عدو، ولا صديق. شغلت بنفسك حتى يئس الناس منك، وأعرض الناس عنك؛ فلم يطمع فيك منهم طامع، ولو قد فعل لما نال منك شيئا، ولم يعطف عليك منهم عاطف، ولو قد فعل لما نالك منه شيء. والناس مع ذلك لا يرون شيئا من هذا الحصن المؤشب الذي حصنت فيه نفسك، ولا من هذه الحجب الصفاق التي قامت بينك وبينهم، ولا من هذه الأستار الكثاف التي ألقيت عليك من دونهم. وإنما هم يرونك مصبحا وممسيا، ويلقونك غاديا ورائحا، يقولون لك فتسمع منهم، وتقول لهم فيسمعون منك، يجاذبونك هذه الأطراف الرثة السخيفة التي يتجاذبها الناس حين يحيون في البيئة الواحدة، ويخضعون للنظام الواحد، ويشاركون في هذا العيش الذي يعيشه المتحضرون، فأنت قريب منهم كأشد ما يكون القرب، تمد إليهم يدك، ويمدون إليك أيديهم، ترد عليهم تحيتهم، ويردون عليك تحيتك. وأنت بعيد عنهم كأقصى ما يكون البعد، تلقاهم وكأنما تحلم بلقائهم، ويلقونك وكأنما يلقون ظلا لك مستعارا. بينك وبينهم أسباب مصنوعة، وصلات متكلفة لا تبلغ النفس، ولا تتصل بالقلب، فهي لا تثير في عقلك تفكيرا، ولا تثير في قلبك شعورا، لمكان هذا الحصن المؤشب الذي لا يرى، ولمكان هذه الأستار، والحجب الكثاف التي لا تحس. وما أدري أحاولت قط أن تعرف أم حاولوا هم قط أن يعرفوا طبيعة هذا الحصن المؤشب، ومادة هذه الحجب الأستار الكثاف. ولكن أنا قد حاولت، وكتب لمحاولتي النجاح والتوفيق. وأنا أكتب إليك لأعلمك من أمر هذا الحصن ما لم تعلم، وأعرفك من أمر هذه الحجب والأستار ما لم تعرف، وما يعنيني أن تنتفع بهذا العلم أو لا تنتفع، وأن تستفيد من هذه المعرفة أولا تستفيد. فلو قد أردت أن أنفعك أو أفيدك لخصصتك بهذا الكتاب من دون الناس، ولكنك ترى أني لم أرسله إليك، وإنما نشرته في الهلال لتقرأه أنت أو لا تقرأه، وليقرأه غيرك من الناس على كل حال. فمن حق الناس أن يعلموا أن بينك وبينهم حصنا مؤشبا، وحجبا صفاقا، وأستارا كثافا، وأن ينظروا لأنفسهم أيطمعون فيك، وينتظرون منك الخير، فيجب عليهم أن يحتالوا في اقتحام هذا الحصن، وإزالة هذه الحجب، وتمزيق هذه الأستار؛ أم يستيئسون منك فيجب عليهم أن يخلوا بينك وبين هذه العزلة التي اخترتها أو اختارتك، وأن يمضوا في طريقهم، ويسعوا إلى غايتهم لا يشغلون أنفسهم بك كما أنك لا تشغل نفسك بهم. •••
فما ينبغي أن يظل الناس من أمرك في هذه الحيرة المتصلة، يرونك واحدا منهم، ويقدرون أنك متضامن معهم في حمل أثقال الحياة، والنهوض بأعبائها، حتى إذا جد الجد افتقدوك فلم يجدوك، وإذا أنت سراب يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، ووجد عنده الحزن، واليأس، وخيبة الأمل، وكذب الرجاء. إنهم ينظرون فيرون غنى موفورا، ونعمة واسعة، وعيشا لينا، وثراء عريضا، وإنهم يسمعون فيقع في آذانهم صوت عذب ممتلئ تشيع فيه القوة، وتفيض منه الحرارة، ويحمل إلى قلوبهم ألفاظا حلوة رائقة شائقة، فيها كثير من أمل، وفيها كثير من وعد، وفيها إحياء للطمع الميت، وإيقاظ للطموح النائم، وإشعار بأن الناس قد خلقوا للتعاون والتضامن، وليظاهر بعضهم بعضا حين تنوب النوائب، وليشد بعضهم أزر بعض حين تدلهم الخطوب. ولكنهم يستقبلون من أمورهم ما يظلم وما يشرق، وينهضون من أعمالهم بما يخف، وما يثقل، ويلتمسونك ليستعينوا بك على تبديد الظلمة، ويبتهجوا معك بجمال النور المشرق، ويستمتعوا معك بحمل الأعباء الخفاف في فرح ومرح ونشاط، ويجهدوا معك بحمل الأعباء الثقال في صبر وأيد وحزن وثبات. يلتمسونك فلا يجدونك، أو هم يجدونك حين تشرق النعماء، ويفقدونك حين تظلم البأساء. أنت شريكهم في العيش الرضي، والحياة المقبلة، وأنت أبعد الناس عنهم حين يغلظ العيش، ويعظم البأس، وتدبر الحياة. تسرع إليهم حين ينعمون لتشارك في نعيمهم على أن ذلك حق لك لا ينبغي لأحد أن يردك عنه أو أن يجادلك فيه، ولعلك تأخذ من هذا النعيم - إن أتيح - بحظ أعظم من حظوظهم، ولعلك تنظر إليهم، وهم يأخذون بحظوظهم المتواضعة الضئيلة، ساخطا عليهم ضيقا بهم، مزدريا لهم، ترى أنهم واغلون يشاركون فيما لا حق لهم أن يشاركوا فيه، ويأخذون مما لا حق لهم أن يأخذوا منه، ولعلك أن تردهم عن هذا النعيم إن استطعت لهم ردا، وأن تذودهم عن هذا الصفو إن استطعت لهم ذيادا. وأنت على كل حال تنظر إليهم شزرا، وتقيم معهم على مضض، تستأثر من دونهم بالكثير، وتحسدهم على ما يتاح لهم من القليل. فإذا أدبرت الدنيا، وأظلمت الحياة، واكتأب الأمل، وجد الجد، والتمس الناس المعين على ما يلم بهم من شقاء وبأس، آويت إلى حصنك هذا المؤشب، وألقيت من دونك هذه الحجب الصفاق، وأسدلت بينك وبين الناس من الأستار الكثاف، ونعمت بعزلتك نعمة هادئة مطمئنة، لا ينغصها منظر البؤس، ولا يكدرها صوت الشكاة، ولا يشوبها تفكير في البائسين، سواء منهم من احتمل البؤس صامتا صابرا جلدا، ومن احتمل البؤس صائحا صاخبا شاكيا إلى الله وإلى الناس.
ناپیژندل شوی مخ