ستقرأ هذا الكتاب ما في ذلك شك؛ لأنك تقرأ كل ما أكتب كما أقرأ أنا كل ما تكتب، فأنت مريض بي كما أني مريض بك، لا نلتقي، ولا نتزاور، ولا نتحدث، ولكننا نتصل على رغم هذا كله اتصالا يشوبه الرضى حينا، ويشوبه السخط حينا، ويشوبه الحزن دائما.
ستقرأ هذا الكتاب، وستعلم أنه موجه إليك، وسترى نفسك فيه فتنكرها أشد الإنكار، وتود لو تجهلها، ولو تستطيع أن تفلت منها، وستحاول ذلك ما وسعتك المحاولة، ولكنك لن تبلغ من ذلك شيئا.
فهناك شيئان لا يستطيع الإنسان أن يفلت منهما مهما يجهد، ومهما يحاول ... لا يستطيع الإنسان أن يفلت من نفسه، ولا يستطيع الإنسان أن يفلت من ملك ربه كما يقول أبو العلاء.
سترى نفسك في هذا الكتاب، وستنكرها أشد الإنكار، وسيلذع الندم قلبك على ما أضعت من حق، وما بددت من مودة كان يجب عليك أن تحتفظ بها، ولكنك ستتكلف النسيان، وستنسى أحيانا، وسيعود إليك الندم فيعذب قلبك عذابا شديدا. إنك تود لو تستطيع أن تصل ما انقطع من الأسباب، وتجمع ما تفرق من الشمل، ولكنك ستجد بينك وبين هذا أمدا بعيدا لا سبيل إلى قطعه، وهوة سحيقة لا سبيل إلى عبورها، فالدواعي التي دفعتك إلى القطيعة ما زالت قائمة لم تمحها الظروف بعد، وستمحوها الظروف من غير شك غدا أو بعد غد، ولكنك حينئذ ستستحي من التفكير في وصل ما قطعت من سبب، وجمع ما فرقت من شمل، وستؤثر الموت على العودة إلى صديق قطعت أسباب وده طلبا للمنفعة، وتهالكا على أعراض الحياة، ورغبة في الوصول إلى ما كانت نفسك تتقطع عليه حسرات.
لقد كنت تجهل نفسك جهلا شديدا، وما أرى إلا إنك تجهل نفسك جهلا شديدا، وإن كنت قد بلغت سن «الشيوخ»، وليس عليك من ذلك بأس؛ فالحكمة التي كتبت على معبد دلف لم تكتب عبثا ... طلبت إلى الإنسان أن يعرف نفسه بنفسه، وقد اجتهد سقراط في أن يستجيب لهذه الحكمة، وفي أن يعرف نفسه، فلم يبلغ ما أراد. وما أحسبك أذكى قلبا، ولا أمضى عزما، ولا أشد جلدا من سقراط.
لقد كنت تجهل نفسك. كنت ترى نفسك رجلا خيرا مؤثرا، فكشفت لك الأيام عن رجل قد يكون خيرا، ولكنه ليس من الإيثار في شيء، وإنما هو من الأثرة في كل شيء!
كنت ترى نفسك زاهدا في متاع الدنيا، وأعراض الحياة، فكشفت لك الأيام عن رجل قد يرتفع بنفسه عن المتاع الدنيء، والأعراض المخزية، ولكنه يتتبع الثراء ما استطاع إليه سبيلا، والجاه ما وجد إليه مسلكا، وغرور المنصب ما أتيح له هذا الغرور ... يؤثر هذا كله على كل شيء حتى على الوفاء، وعلى كل إنسان حتى على الأخ العزيز، والصديق الكريم. إنك «أديب»، ولكنك تحب الأدب السهل، وتكره الأدب العسير. ولم يكن شيء يغيظك في أيام الصفاء تلك كما كان يغيظك تحدثي إليك عن بعض آيات الأدب الرفيع. كنت تراني أعيش في السحاب، وكنت تطلب إلي أن أهبط إلى الأرض، وكنت تشكو إلي ما أشق به عليك من هذه المعاني التي لم نألفها في شعر شعرائنا، ونثر كتابنا، ومن هذه الآمال التي لم نألفها في حياتنا المتواضعة الراكدة.
فدعني أشق عليك مرة أخرى ببعض هذا الأدب الرفيع الذي كنت تضيق به أشد الضيق. وعلم الله ما كتبت إليك لأشق عليك، ولكن هذا الأدب الرفيع قد يظهر الناس على نفوسهم أحيانا، وأنا أحب أن أظهرك على بعض نفسك لعلك تتذكر أو تخشى، ولعلك تستقبل أيامك بغير ما تعودت أن تستقبلها به إلى الآن. إني أقرأ في قصة تمثيلية لشاعر يوناني لست في حاجة إلى أن أسميه؛ لأن اسمه لن يدلك على شيء. أقرأ في هذه القصة اليونانية حديث أم إلى ابنها، وقد لقيته بعد نفي طويل ... فهي تسأله عن حياته في المنفى، وتقول له فيما تقول: ألم يعنك أصدقاء أبيك، وهؤلاء الذين نزلت عليهم ضيفا؟ فيجيبها: يجب أن يكون الإنسان سعيدا ليجد مودة الأصدقاء، فإن الأصدقاء لا يغنون عن الصديق البائس شيئا.
وأقرأ في قصة فرنسية لكاتب لا أسميه؛ لأن اسمه لن يدلك على شيء، إن الصداقة تقف الإنسان عن أن يتقدم إلى أمام، وقد ترجع به أحيانا إلى وراء . فمن الخير ألا يستبقي الإنسان صداقة تمنعه من الرقي إلى ما يطمح إلى تحقيقه من الآمال.
أرأيت لم يهجر الصديق الصديق؟ أرأيت لم يعرض الخليل عن ود الخليل؟ أرأيت لم قال الشاعر العربي القديم:
ناپیژندل شوی مخ