وقال: "إنه وصف الحباب في البيت الأول بالبياض حين شبهها بالشيب ووصف الخمر بالسواد حين شبهها بسواد العذار، ثم وصف الحباب في البيت الثاني بالسواد حين شببه بتفري الليل ثم وصف الخمر بالبياض حين قال عن بياض نهار، وكون كل واحد من الحباب والخمر أسود أبيض مستحيل". وقد سأل أبو الفرج نفسه فقال: "إن قيل إنه لم يصف الحباب في البيت الثاني بالسواد وإنما شبهه بالليل في تفريه وانسحاره عن النهار دون انفس اللون". وأجاب عن هذا: "بأن أبا نواس قد صرح بأنه لم يرد غير اللون فقط لقوله عن بياض نهار".
وقد يحتمل قول أبي نواس وجوها من التأويل لا يكون معها فيه تناقض.
فمن ذلك أن يكون أراد أن يشبه سواد الخمر بالليل والحباب بالنجوم، فلم يتسع له الكلام لهذا التشبيه، فلوح له في البيت الثاني تلويحا لطيفا بقوله: "تفري ليل عن بياض نهار" حيث كانت النجوم في ضمن الليل تفري الليل ونجومه عن بياض النهار. فالضمير في قوله انفرى راجع إلى ما تردت به الخمر من لون السواد المشبه تفريه بتفري الليل، ولو كان لاضمين في قوله انفرى راجعا على الحباب لكان أليق بكلام أبي نواس في هذه القصيدة أن يقول تحلت به فيجعل الحباب حليا لها على ما جرت عليه عادة الشعراء - فإنا لا نعلم أحدا جعل الحباب رداء- والمشبه ببياض النهار بياض الماء الممزوج بالخمر، شبه تفري سواد الخمر عن بياض الماء الذي جلاه إذ مزج به بتفري الليل عن بياض النهار. وقد يمكن أن يكون في هذا التشبيه غشارة إلى تشبيه الحباب بالنجوم ولم يذكرها لأنها في ضمن الليل وتابعة له في انحساره. وقد يمكن أن يكون الضمير في انفرى راجعا إلى الحباب ويكون قوله تفري ليل في قوة تفري نجوم ليل أو يكون قد اكتفى بذكر الليل لأن النجوم في ضمنه.
٦- تنوير: وليس لقائل أن ينفصل عما ألزمه الفرج قدامة من أن أبا نواس أراد بالبياض نفس اللون بأن يقول: لعله لم يرد بقوله بياض نهار حقيقة اللون، ولكنه استعمله على حد قولهم أقمنا بمكان كذا بياض نهار وأديم ليل، لأن قول القائل أقمنا أديم ليل وبياض نهار معناه أقمنا يوما من أوله إلى آخره وليلة من أولها إلى آخرها.
وقد يقال أيضًا أقمت بها أديم يوم كما قال بشر ابن أبي خازم: (الوافر -ق- المترادف)
وباتت ليلة وأديم يوم ... على الممهى، يجز لها الثغام
فالمراد في مثل هذا الاستعمال ببياض يوم مخالف للمراد به في قول أبي نواس، إذا لا يمكن أن يريد تفري ليل عن نهار من أوله إلى آخره. فبياض النهار إذن على ما ألزمه أبو الفرج، ومعنى الشعر على ما تأولناه لا على ما تأوله، إذ المعنى الذي قلناه صحيح والعبارة قابلة له على ما فيها من الاختصار الذي كاد أن يخل بالمقصود.
وكلما أمكن حمل بعض كلام هذه الحلبة المجلية من الشعراء على وجه من الصحة كان ذلك أولى من حمله على الإحالة والاختلال لأنهم من ثبت ثقوب أذهالهم وذكاء أفكارهم واستبحارهم في علوم اللسان وبلوغهم من المعرفة به الغاية القصوى.
وقد قال الخليل بن أحمد: "الشعراء أمراء الكلام يصرفونه أنى شاءوا. ويجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم من إطلاق المعنى وتقييده ومن تصريف اللفظ وتعقيده ومد المقصور وقصر الممدود والجمع بين لغاته والتفريق بين صفاته واستخراج ما كلت الألسن عن وسفه ونعته والأذهان عن فهمه وإيضاحه. فيقربون البعيد ويبعدون القريب ويحتج بهم ولا يحتج عليهم ويصورون الباطل في صورة لاحق والحق في صورة الباطل".
فلأجل ما أشار إليه الخليل، ﵀، من بعد غايات الشعراء وامتداد آمادهم في معرفة الكلام واتساع مجالهم في جميع ذلك، يحتاج أن يحتال في تخريج كلامهم على وجوه من الصحة، فإنهم قل ما يخفى عليهم ما يظهر لغيرهم، فليسوا يقولون شيئا إلا وله وجه، فلذلك يجب تأول كلامهم على الصحة والتوقف عن تخطئتهم فيما ليس يلوح له وجه.
1 / 46