١- إضاءة: فإن تقابل المعنيان من جهتين، لم يكن ذلك تناقضا مثل أن يقال إن العشرة ضعف ونصف، لكنها ضعف الخمسة ونصف العشرين. ولو قيل إنها نصف العشرين وضعفها كان محالا. وكذلك قول القائل: زيد بصير القلب أعمى العين صحيح. ولو قيل إنه أعمى العين بصيرها كان محالا. وكذلك في التضاد يصح أن يقال في الفاتر إنه حار عند البارد وبارد عند الحار، ولا يكون حارا باردا عند أحدهما. وكذلك في السلب والإيجاب نحو زيد كريم بالمال، زيد ليس كريما بالجاه، فهذا صحيح. ولا يصح أن يكون كريما بأحدهما غير كريم به في حال واحدة.
٢- تنوير: فضروب التقابل الأربعة إنما يصح منها ما لم يتواف المتقابلان فيه من جهة واحدة، ولكن نيط هذا بجهة وهذا بجهة.
فمن الكلام الذي انصرف فيه أحد المتقابلين بالسلب والإيحاب إلى غير الجهة التي انصرف إليها الآخر، فكان ذلك صحيحا سالما من التناقض، قول ابن الرومي: (الطويل -ق- المترادف)
وليسوا بأجذال الطعان ذوى القنا ... ولكنهم بالحزم والرأي أجذال
ولم يخلقوا أبطال بأس ونجدة ... ولكنهم بالرفق واللين أبطال
فجعلهم أبطالا من جهة وغير أبطال من جهة، وأجذالا من وجه وغير أجذال من وجه.
٣- إضاءة: وربما تسامح بعضهم في أني يورد معنى في بيت ثم يأتي في بيت آخر بمعنى يقابله على أحد الأنحاء المتقدمة منه التقابل ويجمع بينهما من جهة واحدة، وذلك إذا كان البيت منقطعا عن البيت فيجري البيتين إذا كان كلاهما مستقلا بنفسه مجرى قصيدتين، فكما جاز للشاعر أ، ينقص في قصيدة ما قال في قصيدة أخرى كذلك يجوز له في البيتين المتميز أحدهما عن الآخر.
فأما إذا كان معنى البيت الواحد متعلقا بمعنى البيت الآخر، فإن الجمع بين المتقابلين فيهما من جهة واحدة غير سائغ. وإنما يجوز ذلك مع عدم الاتصال.
وترك التناقض على كل حال أحسن. وقد قال أبو عثمان الجاحظ: "إن الناس يغلطون على العرب ويزعمون أنهم يمدحون بالشيء الذي يهجون به. وهذا باطل، ليس شيء إلا وله وجهان وطريقان. فإذا مدحوا ذكروا أحسن الوجهين. وإذا ذموا ذكروا أقبحهما". وقال الخفاجي تلميذ أبي العلاء: "إنهم على ذلك يتصرف قولهم. فإن أبا تمام لما وصف يوم لا فراق بالطول فقال: (الكامل -ق- المترادف)
يوم الفراق، لقد خلقت طويلا ... لم تبق لي جلدا ولا معقولا
علل طوله بما لقي فيه من الوجد لرحيل أحبابه عنه.
وأبو عبادة البحتري لما وصفه بالقصر فقال: (الكامل -ق- المترادف)
ولقد تأملت الفراق فلم أجد ... يوم الفراق على امرئ بطويل
قصرت مسافته على متزود ... منه لدهر صبابة وعويل
فهما وإن خالف كلاهما صاحبه فقد ذكرا لما ذهبا إليه وجوها يصح عليها الكلام".
٤- تنوير: فمما حمل على التناقض من أقاويل الشعراء قول عبد الرحمن بن عبد الله القس: (الطويل -ق- المتدارك)
أرى هجرها والقتل مثلبين فاقصروا ... ملامكم، والقتل أعفى وأيسر
ومما حمله بعض البلغاء على التناقض، وأوله بعضهم على وجه من الصحة قول زياد الأعجم: (الطويل -ق- المتدارك)
تراه إذا أبصر الضيف مقبلا ... يكلمه من حبه وهو أعجم
قال ألو الفرج قدامة: "تناقض من حيث أوجب الكلام للكلب، ثم أعدمه إياه بقوله وهو أعجم".
وقال الخفاجي: "ليس الأعجم هو الذي عدم الكلام جملة كالأخرس، وإنما هو الذي يتكلم بعجمة. وإذا قيل فلان يتكلم وهو أعجم لم يكن متناقضا". انتهى كلام الخفاجي.
والبيت محتمل وجها آخر من التأويل يصح عليه. وهو أنه قد يعنى بالكلام ما يفهم من إشارة من لا يستطيع النطق وحركاته وشمائله حيث يقصد بذلك إفهام ما في نفسه.
وما أبدع قول ابن دراج عندما ذكر وداع امرأته وما ظهر من الشجو في ألحاظ بنيه الصغير، لما أبصر من حالهما عند ذلك فتبين ذلك في عينيه: (الطويل -ق- المترادف)
عيي بمرجوع الخطاب ولحظه ... بموقع أهواء النفوس خبير
٥- إضاءة: وذهب أبو الفرج قدامة إلى تناقض قول أبي لنواس: (الطويل -ق- المترادف)
كأن بقايا ما عفا من حبابها ... تفاريق شيب في سواد عذار
تردت به ثم انفرى عن أديمها ... تفري ليل عن بياض نهار
1 / 45