الدائرة
ونمضي في تلخيص هذه الطائفة من القصص التمثيلية التي لم يضعها الفرنسيون، وإنما ترجمت لهم، أو نقلت إليهم، عن اللغات الأجنبية. فقد لخصنا منذ حين قصة ألمانية ثم قصة أخرى روسية، والقصة التي نتحدث عنها اليوم إنجليزية. وإنما نذهب هذا المذهب لننوع موضوع هذه الأحاديث بعض التنويع، ولنعرض على القراء صورا مختلفة من الأدب التمثيلي الغربي، يمثل أمزجة الأمم الأوروبية الكبرى على اختلافها وتباينها، وإذا كان الفرنسيون لا يقنعون بتمثيلهم الفرنسي الخصب، القيم، على تنوعه وتباين مذاهب الكتاب والممثلين فيه، وإنما يلجئون إلى تمثيل الأمم الأخرى؛ ينقلونه إلى لغتهم ويعرضونه في ملاعبهم، فلا أقل من أن نذهب نحن بعض مذهبهم في هذا. وأقول بعض مذهبهم، فليس لنا أدب تمثيلي عربي مصري، أو غير مصري نستطيع أن نعتمد عليه، ونطمئن إليه، ونكتفي به. وليس لنا أدباء يعنون بترجمة الأدب الأجنبي أو نقله إلى لغتنا، وإنما أقصى ما نصل إليه، أن نلخص ونحلل ونتكلف هذه الصور المقاربة التي قد تعطي القارئ فكرة عن بعض الأدب الأجنبي، ولكنها على كل حال تفسده إفسادا وتشوهه تشويها.
فلا أقل من أن نجتهد حين نلخص هذا الأدب الأجنبي في أن يكون تلخيصا مختلفا منوعا مصورا للآداب المختلفة ما وجدنا إلى ذلك سبيلا.
وكم كنت أحب أن تقوم الترجمة مقام التلخيص، بعد أن حرمنا الكتابة والإنشاء، وكم كنت أحب وقد حرمنا الترجمة أيضا، أن ينهض بتلخيص الآداب المختلفة قوم يحسنونها ويتقنون لغاتها إتقانا، ويلخصونها من أصولها تلخيصا مباشرا، لا من تراجمها تلخيصا بالواسطة إن صح هذا التعبير.
فأنا إنما ألخص هذه القصص عن تراجمها الفرنسية، وواضح جدا أن الترجمة نفسها تذهب بجمال الأصل إلى حد بعيد، وأن التلخيص يذهب بجمال الترجمة إلى حد أبعد، فلا يبقى للقارئ العربي المسكين من هذه الآثار الأدبية الرائعة إلا صور ضئيلة شاحبة لا تكاد تغني شيئا. ولكني أبذل جهد المقل، وأنفق ما أملك من قوة، وأحتمل ما أستطيع احتماله من مشقة، وأرى واجبا علي أن آتي ما آتي من ذلك، وأرى من التقصير أن أكسل إذا كسل غيري، أو أهمل إذا آثر غيري الإهمال.
ولست أدري لم دفعت إلى هذا الاستطراد، ولكني أعترف للقارئ بأني لم أقدم يوما على تلخيص هذه القصص إلا وفي نفسي شيء كثير من السخط والألم. وقد كنت أحب أن تذاع هذه القصص أو ما يشبهها في قراء العربية مترجمة، وأن تكون أحاديثي عنها نقدا لها لا تلخيصا.
وبعد، فإني أعتقد أن كثيرين من القراء يحبون هذه الأحاديث ويجدون فيها بعض اللذة، فأظنهم يغفرون لي بعض ما أدفع إليه من الاستطراد بين حين وحين.
وهذه القصة التي أريد أن أتحدث عنها اليوم طريفة حقا: طريفة في موضوعها، طريفة في حوارها، طريفة في هذه المعاني التي يجري بها الكاتب ألسنة أشخاصه، طريفة في هذا الجد المر المؤلم، الذي يسوقه الكاتب في هذا المزاح الحلو اللذيذ.
فالقصة من أولها إلى آخرها فكاهة، ولا تكاد تقرأ محاورة من هذه المحاورات التي تقوم عليها، دون أن تغرق في الضحك، أو تضطر إلى الابتسام. ولكنها في الوقت نفسه مأساة، ومأساة شديدة الأثر في النفوس، عظيمة الوقع في القلوب، تدعو، بل تضطر من يشهدها أو يقرؤها إلى التفكير المتصل العنيف. ولعل أهم ما يلفت في هذه القصة هو هذه الدعابة الإنجليزية التي يتحدث الأجانب عنها كثيرا، ولكنهم يعجزون عن تصويرها فضلا عن محاكاتها، والتي لم يستطع ناقل هذه القصة إلى الفرنسية أن يحتفظ بها في ترجمته كما هي في الأصل؛ لأنها لا تلائم اللغة الفرنسية، ولا تلائم مزاج الفرنسيين. فاضطر إلى أن يقويها، ويثقلها - إن صح هذا التعبير - لتحتملها اللغة الفرنسية وليذوقها الفرنسيون. وأنا مجتهد في أن أعرض عليك صورا من هذه الدعابة أثناء التلخيص، ولكني قد قدمت عذري بين يدي؛ فأنا لا أنقل عن الأصل وإنما عن ترجمة، وعن ترجمة خضعت لتصرف غير قليل.
والقصة تقع في قصر من قصور الأرستقراطية الإنجليزية، من قصور هذه الأرستقراطية العاملة التي تتصل بالحياة العامة وتساهم فيها، وتحمل أثقالها، وتجني ثمراتها. فصاحب القصر؛ وهو لورد كليف شوبيون شيني، كان عضوا في مجلس النواب البريطاني، فلما ترك السياسة وأخذ يحيا لنفسه ويفرغ للذته، خلفه ابنه أرنولد على مكانه في مجلس العموم كما خلفه على ثقة الناخبين من مواطنيه. والأشخاص الآخرون الذين سنراهم في هذه القصة، كلهم من هذه الطبقة التي لم تمسك نفسها في هذه العزلة التي يلزمها نفر غير قليل من أشراف الإنجليز.
ناپیژندل شوی مخ