أحمر
أصيل التمثيل
الدائرة
الطائر الحديث
مدرسة أبناء الخمسين
ملهاة السعادة
كارل وأنا
مدرسة المشعوذين
فوز الطب
هدوء السر
العرق الذهبي
كنت أنتظرك
لم نبق بعد أطفالا
سميراميس
سجين
برسيفونيه
أحمر
أصيل التمثيل
الدائرة
الطائر الحديث
مدرسة أبناء الخمسين
ملهاة السعادة
كارل وأنا
مدرسة المشعوذين
فوز الطب
هدوء السر
العرق الذهبي
كنت أنتظرك
لم نبق بعد أطفالا
سميراميس
سجين
برسيفونيه
من أدب التمثيل الغربي
من أدب التمثيل الغربي
تأليف
طه حسين
أحمر
لم تجد هذه القصة من النقاد حين مثلت إلا ثناء وإطراء؛ لأنها فيما يظهر لاءمت ميول الفرنسيين عامة، والباريسيين خاصة في هذه الأيام. ولعلها من بعض نواحيها تلائم ميول المثقفين والأدباء من غير الفرنسيين أيضا، فأظهر ما تمتاز به هذه القصة أنها رقيقة لينة لا عنف فيها، ولا جهد، وإنما تمس الأشياء مسا سهلا هينا؛ هو إلى الإشارة والتلميح أقرب منه إلى النص والتصريح. وأظن أن هذا النحو من الميل الأدبي قد أخذ يعم وينتشر في هذه الأيام، وأخذ الناس يكرهون التصريح الملح، ويعودون إلى الاكتفاء بالإيماء والرمز، وباللمحة الدالة كما يقولون، ولا سيما حين لا يكون الموضوع الذي يتناوله الأديب خليقا بالتصريح والجلاء.
وموضوع هذه القصة في ظاهره على أقل تقدير، هو الهجاء السياسي. وقد تعود الناس في الهجاء السياسي أن يكون صريحا كل الصراحة، واضحا كل الوضوح، يتجه اتجاها مباشرا إلى العاطفة التي يريد الكاتب أن يستثيرها. فإذا وفق الكاتب الأديب في هذه الأيام إلى أن يحسن الهجاء السياسي دون أن يورط نفسه فيما ألف الناس من تصريح لا يحتمل اللبس، ووضوح لا يتعرض للغموض؛ فقد وفق إلى الإجادة التي يألفها الذوق المترف الحديث.
وصاحب هذه القصة بارع في التعريض، موفق حين يقصد إلى السخرية، التي تلذع ولا ترى، وتؤذي وكأنها لا تحس. وهو قد أراد في هذه القصة أن يعبث بطائفة من رجال السياسة عرفتهم الحياة العامة في هذا العصر الحديث، يتخذون لأنفسهم آراء متطرفة مسرفة في التطرف، ولكنهم يتخذون لأنفسهم مع هذه الآراء سيرة تناقضها كل المناقضة، وتخالفها أشد الخلاف؛ فهم في مذهبهم السياسي اشتراكيون غلاة، أو شيوعيون مسرفون في الشيوعية. ولكنهم في سيرتهم الخاصة حراص كل الحرص على تقاليد بيئتهم التي نشئوا فيها؛ وهي بيئة الأغنياء، أوساط الناس، يعيشون إذا خلوا إلى أنفسهم عيشة فيها ترف، بل إسراف في الترف، وفيها يسر، بل إغراق في اليسر. وفيها تفنن في التماس اللذة وتذوقها. فإذا لقوا أتباعهم وأنصارهم، أظهروا زهدا في اليسر والترف، وهجوما عنيفا على أصحاب اليسر والترف. وهم كذلك يخدعون الناس ويمضون في هذا الخداع حتى ينتهوا أحيانا إلى خداع أنفسهم والاقتناع بأنهم اشتراكيون أو شيوعيون حقا. فإذا حللت حياتهم وسيرتهم؛ لم تجد بينهم وبين الاشتراكية والشيوعية سببا، إنما هم قوم قد اتخذوا السياسة صناعة يستعينون بها على إنفاق الوقت كما يستعينون بها على التماس ما يحتاجون إليه من السلطان والجاه؛ فهم يكذبون على الناس، وهم يكذبون على أنفسهم، وهم يظفرون بتصديق الناس، ويظفرون بتصديق أنفسهم أيضا. وما أكثر ما سمعنا عن هذا الزعيم أو ذاك من قادة الرأي الاشتراكي أو الشيوعي، يظهر للناس خصما شديد الخصومة لرأس المال وما يستتبع من نظام سياسي واقتصادي، صديقا قوي الصداقة للمساواة والثورة التي تؤدي إليها. ويتخذ لنفسه منزلين، منزلا يلائم مذهبه السياسي يلقى فيه أنصاره وأتباعه، من العمال والبائسين، ومنزلا آخر يلائم ذوقه المترف وشخصه الممتاز الحريص على الامتياز يلقى فيه أصدقاءه وأحباءه وشركاءه في الترف واللهو والتماس اللذة والنعيم.
وقد ذهب الكاتب في قصته هذه مذهبا طريفا في تصوير ما أراد تصويره؛ فاعتمد على التناقض في هذا التصوير، وذلك أنه صور لنا شخصين متناقضين فيما بينهما تناقضا شديدا: أحدهما خرج من الطبقات الشعبية الدنيا، كان عاملا بائسا سيئ الحال، فما زال يجد ويكد ويحتمل الجهد والعياء حتى أثرى وعظم حظه من الثراء، وأصبح من أصحاب الملايين، وإذا هو ينظر إليه على أنه من الأغنياء، الذين يجب أن تحاربهم طبقات العمال وتحطمهم الثورة حطما. وهو على ذلك يعيش بين ملايينه عيشة الرجل الساذج السهل الذي يكره الترف ويمقت اللذة، ويحرص على القصد والاعتدال أشد الحرص، ويعطف على العمال والبائسين أشد العطف.
والآخر رجل خرج من بيئة غنية؛ فتعلم في المدارس، وتخرج في مدرسة الهندسة، وانتهى من الترف العقلي والشعوري إلى حظ عظيم، ثم اتخذ الاشتراكية أو الشيوعية له مذهبا، واندفع في نصر العمال وتأييد ميلهم إلى الثورة، حتى أحبه العمال وآثروه واتخذوه وكيلا لهم في مجلس النواب، وهو على ذلك يعيش عيشتين متناقضتين: إحداهما عيشة الثائر الزاهد، والأخرى عيشة المترف الحريص.
والتناقض بين هذين الرجلين في القصة واضح أشد الوضوح: فالأول مهمل في زيه وشكله، ساذج في حديثه وتفكيره وسيرته كلها، والآخر ظريف لبق واضح العناية بشكله، بين الحرص على أن يأخذ بحظه من نعيم الحياة، لا حظ له من سذاجة إذا قال أو فعل. على أن الكاتب لم يقف عند هذا الغرض في قصته هذه، وإنما قصد إلى غرض آخر ليس أقل خطرا من الغرض الأول؛ فصور لنا انخداع الفتاة التي لا تستطيع أن تحب إلا إذا أكبرت من تحبه إكبارا، وأخرجته عن طوره وجعلته أرقى منها، وجعلت نفسها دونه بحيث يستطيع أن يأمر وتستطيع هي أن تأتمر. وصور لنا في الوقت نفسه اضطراب الفتى الذي أحب، واستأثر الحب به، ولكنه رأى عشيقته تكبره وتراه بطلا؛ فلم يستطع إلا أن يلعب دور البطل كما يقولون، ويتخذ صورة الرجل العظيم، ويسير سيرته ليحتفظ بما يملأ نفس صاحبته من الحب.
ثم تتكشف الحوداث عن كل هذا الخداع والانخداع، ويظهر للعاشقين أن الحب خليق أن يعتمد على نفسه، وأن يستغني بها دون أن يستعين بالعظمة أو البطولة؛ فتعود الأمور إلى حيث يجب أن تكون، ويظهر الحب آخر الأمر ظافرا منتصرا. ولا بد من إتقان اللغة الفرنسية وإتقان الأدب الفرنسي أيضا؛ لتذوق هذه القصة وفهم ما ترمي إليه من الأغراض، فإن الكاتب قد أخفى سخريته إخفاء، وسترها سترا. وإن كثيرا من الناس لخليقون أن يقرءوا هذه القصة فلا يجدوا لها خطرا ولا يتذوقوا فيها جمالا.
ثم لا بد من شيء من الصبر والأناة والثقة بالكاتب؛ لينتهي القارئ أو الناظر إلى ما ينبغي أن ينتهي إليه، من الحكم الصادق على هذه القصة؛ فالحركة فيها لا تكاد تشعر، والحوار فيها مشتت مختلط، شديد الاختلاط لا يكاد يضبط وليس إلى تلخيصه الدقيق من سبيل.
فالقارئ أو الناظر خليق أن يجد السأم حين يقرأ القصة أو يشهدها، ولكنه إذا فكر واستأنى وجد في هذا العيب الظاهر مزية قيمة حقا. فهذا الحوار المختلط المنتشر يصور الحياة الواقعة أحسن تصوير وأصدقه، ويخفي أثر الفن في هذا التصوير نفسه، ويخيل إليك أنك تحيا مع هؤلاء الناس الذين تعرضهم عليك القصة وتشاركهم فيما يكون بينهم من حوار، وما ينجم بينهم من خصومة أو خلاف.
ونحن حين يرفع الستار عن الفصل الأول في قصر فخم من قصور الأغنياء؛ نرى سيدة قد جاوزت الشباب، ومعها فتى لم يجاوز الشباب بعد، وهما يسألان عن صاحب القصر، والخادم يدخلهما غرفة الاستقبال وينبئهما بأنه سيذهب ليدعو سيده، ولكن بعد أن يهيئه للاستقبال.
ونحن نفهم من الحوار بين هذه السيدة وبين الخادم أمورا؛ منها أن السيدة تعرف صاحب القصر ومن يحيط به معرفة دقيقة، ومنها أن بينها وبين الخادم معرفة قد ارتفعت منها الكلفة. فهي تسأله عن أبنائه، وهو ينبئها بأن أحدهم يدرس الصيدلة، وبأن الآخر يدرس علم المكتبات، وبأن الثالث يتهيأ لفن القصص. فهم إذن أبناء رجل موسر لا أبناء خادم يعيش من خدمة غيره. وهذا يدلنا على أن هذا الخادم قديم في القصر، ميسر عليه من مولاه. ومنها أن صاحب القصر رجل ساذج مهمل؛ فهو لا يستطيع أن يعتمد على نفسه في اتخاذ ما ينبغي له من اللباس، ولا بد من أن يعينه خادمه من ذلك على الجليل والدقيق. فإذا خلت السيدة إلى صاحبها الفتى فهمنا أن بينهما قرابة، وأنها قد أقبلت بهذا الفتى لتقدمه إلى صاحب القصر الذي يريد أن يتخذه مربيا لابنه. وهذا الفتى غريب الأطوار، فهو دكتور في الأدب، ودكتور في العلم، ودكتور في الحقوق، يجد لذة في الامتحان فيحرص عليه، ويجتهد في الظفر بما يستطيع من الدرجات الجامعية. وهو شديد الحياء، شديد الكبرياء أيضا، معتدل في عيشته، كان يحب امرأة عاش معها أربع عشرة سنة، ثم انصرف عنها وانصرفت عنه، فدفع لها مقدارا من المال، واشترى حريته ورد إليها حريتها كذلك.
وهذا صاحب القصر يقبل فلا يكاد يلقى هذين الزائرين حتى نفهم أن قد كانت بينه وبين هذه السيدة صلات حب لم تنته إلى الزواج، ولكنها انتهت إلى صداقة دائمة. وهذا الرجل كما صورناه آنفا ساذج لا يحب التكلف ولا الترف، غني كريم ولكن في غير إسراف، وهو يلقى مربي ابنه لقاء حسنا، ويعده منحا كثيرة إن استطاع أن يقوم ابنه ويثقفه ويجعل منه رجلا صالحا لاحتمال تبعات الحياة. وهو يقدم إليه تلميذه؛ فإذا غلام في الخامسة عشرة من عمره قد أفسده الترف أو كاد، فهو محب للطعام، مسرف في هذا الحب، لا يشتغل إلا بالمطبخ والطباخ. وقد خلا المعلم إليه وأخذ يلقي عليه الدرس الأول، ولكن أخت الفتى قد أقبلت ومعها شابان من أصحابها الذين يلعبون معها ويلهون. ويكفي أن نسمع ما بين هذه الفتاة وصاحبيها من الحوار لنعرف أنها فتاة مترفة لاهية، لا ترى الحياة إلا لعبة ولذة، وقد جلست تستمع للدرس، فلم يكد الأستاذ يمضي فيه حتى غضبت أشد الغضب؛ لأن الأستاذ ذكر الأغنياء والفقراء، فعطف على هؤلاء وقسا على أولئك، واصطنع في ذلك لهجة الشيوعيين. والفتاة ثائرة على الأستاذ أشد الثورة، والأستاذ يلقى الغضب بالغضب، والنكير بالنكير، ويعلن أنه لن يبقى في هذا القصر، وتعلن الفتاة أنها أيضا لا تريد أن يبقى. وقد فسد كل شيء وخرج الأستاذ، فأمر بإعداد متاعه للرحيل، وذهبت الفتاة إلى أبيها، فأنبأته بالأمر على حين لا يحفل الفتى إلا بالمطبخ والطباخ. وهذا صاحب القصر قد أقبل فلم يكد يلقى الأستاذ ويتحدث إليه حتى عرف أن الأمر يسير هين، وأن الأستاذ بريء من السياسة، وهو يدعو ابنته إليه، فينبئها بأنه قد قطع كل صلة مع هذا الأستاذ، وأنه سينصرف الآن. ولكنه يذكر فقر الأستاذ وما سيدركه من خيبة الأمل، وإذا الفتاة قد رقت ولانت وأعلنت إلى أبيها أنها قد أساءت إلى هذا الشاب وظلمته، وأنها تريد أن تعتذر إليه، ثم اقترحت على أبيها أن يضاعف له الأجر. وهذا الأستاذ يقبل، فتلقاه الفتاة لقاء جميلا، ولا تكتفي بالاعتذار إليه، وإنما تطلب إليه أن يكون أستاذها ومرشدها؛ فقد استكشفت أنها آثمة سيئة الخلق مسرفة في البطر، فاحشة الحظ من الكبرياء. ولا يكاد الستار يلقى حتى نفهم في وضوح وجلاء أن الفتاة مفتونة بالأستاذ، وقد وضعته في غير موضعه، ورأت فيه رجلا عظيما.
فإذا كان الفصل الثاني؛ فقد مضت الأمور مسرعة، وتم الزواج بين العاشقين. ونحن نراهما حين يرفع الستار وقد خلا كل منهما إلى صاحبه في الجناح الذي خصص لهما من القصر، والذي لم تتم تهيئته بعد. والفتاة هائمة بزوجها العظيم، والزوج يتكلف العظمة ليحتفظ بهذا الحب؛ فهو يتكلف الاقتناع بمذهب الشيوعية، بل هو زعيم من زعماء الحزب، وهو يتهيأ لاستئناف عمله السياسي بعد أن انقطع عنه شهر العسل. فأما امرأته، فقد اعتنقت مذهب الشيوعية واندفعت فيه مسرفة، فهي تعطف على البائسين أشد العطف؛ أليست قد وقفت سيارتها في الطريق لأنها رأت بائسة أدركها الرعاف فدفعت إليها منديلها، ولم تلق من هذه البائسة رضى ولا شكرا، وإنما لقيت منها لوما وتأنيبا لأن منديلها منديل صغير من مناديل المترفين، وكانت خليقة أن تكبر حجمه وتخفف من تعطيره. أوليست قد ذهبت إلى أبعد من هذا، فمضت توزع المنشورات الداعية إلى الثورة في مدرستها القديمة. وهؤلاء رجال الشرطة قد أقبلوا يتحدثون في ذلك إلى أبيها، وزوجها يهدئ من هذه الحدة، ويخفف من هذا العنف. فهو فيما بينه وبين نفسه لا يحب الثورة ولا يحفل بالشيوعية، وإنما يتكلف ذلك تكلفا، حتى لا يفقد إعجاب امرأته به. وهو قد دعا زعيما من زعماء الشيوعيين يمثلهم في مجلس النواب، فلما خلا إليه أنبأه بحقيقة الأمر، وفهمنا من حوارهما أنه حين كان فقيرا كان شديد الدفاع عن أصحاب اليمين، فلما أصهر إلى هذا الرجل الغني تحول إلى الشيوعيين، ولكنه لم يتحول إلا تكلفا كما رأيت. وهو يستعين بالزعيم الشيوعي على أن ينضم إلى الحزب ويخطب في الاجتماعات، وزعيم الحزب يعده بذلك ويدعوه إلى اجتماع سيعقد في اليوم نفسه، وينبئ امرأته بذلك فتبتهج له وتدعو الزعيم إلى العشاء، فيستجيب لها على أن يصطحب سكرتيرة الحزب.
وقد انصرف الزعيم ومعه الفتى، وأقبل أبو الفتاة وصاحبته تلك فأخذا ينصحان للفتاة، ولكنها مقتنعة لا تقبل نصحا، ملحة في الشيوعية لأن فيها مستقبل زوجها العظيم. وهي تدعوهما إلى العشاء فيقبلان وهم يعلمون أن الاجتماع الشيوعي سيذاع في الراديو فيتهيئون لاستماعه. ولكنهم لا يكادون يسمعون حتى يتبينوا أن الفتى قد أخفق في خطبته، ولم يستطع أن يثبت للمقاطعين، فلا تستيئس الفتاة وإنما تزداد أملا وثقة، وتطلب إلى أبيها وأخيها وصاحبتها ألا يظهروا علمهم بما أصاب زوجها من الإخفاق. وهذا زوجها قد أقبل مع الزعيم وسكرتيرة الحزب، وزوجها ظاهر الحزن، والزعيم والسكرتيرة يهونان الأمر ويعللانه بأنه أول لقاء بين الخطيب والجمهور، ولكن ماذا؟ إن الزعيم رجل أنيق، حسن الزي، ظاهر الترف، والسكرتيرة فتاة جميلة بارعة الزي، كثيرة الحلي، شديدة التلطف للزوج، كأنها تداعبه، وتمنيه الأماني. وامرأته تلاحظ ذلك فتثور في نفسها الغيرة التي سترد الأشياء إلى نصابها.
ذلك أنها لم تكن تقدر أن يكون زعماء الشيوعيين وقادتهم من الترف والثراء بحيث ترى الفتاة وهذا الزعيم. وهي تحب زوجها لأنه عظيم، ولكنها لا ترى ولا ترضى أن يكون شركة بينها وبين غيرها من النساء. وهي تقبل تقسيم الثروة، وتقبل الشركة في الغنى والفقر، ولكنها لا تقبل الشركة في الحب، وهي تظهر غيرتها للزوج وتحذره من هذه المرأة اللعوب وتنذره بالمراقبة الشديدة.
فإذا ارتفع الستار عن الفصل الثالث؛ فقد اجتمع القوم إلى مائدة العشاء، ونحن لا نراهم، وإنما نسمع حوارهم حول المائدة، أو قل نسمع خصامهم. فهم يختصمون، ويختصمون اختصاما عنيفا كأقصى ما يكون العنف. ويختصمون في كل شيء، وربة البيت متعبة تحاول أن تصرفهم عن الخصومة، وأن تردهم إلى حديث يمكن أن يتفق فيه الرأي، ولكنها لا تفلح؛ فهم يختصمون في الدين؛ لأن الشيوعيين يلحدون، وهم يختصمون في الأدب والفن؛ لأن الشيوعيين يسرفون في التجديد، وهم يختصمون في كل شيء يمس الذوق؛ لأن الشيوعيين يسرفون في الحرية، وهم يختصمون في اللغة؛ لأن الشيوعيين يجرون على ألسنتهم ألفاظا مسرفة الابتذال. ومن خصوم الشيوعيين من يترك المائدة محتجا أو مشمئزا، والخدم يرون ذلك ويسمعونه وهم يتندرون بذلك ويسخرون منه. وربة البيت وزوجها يجتهدان في رد النافرين من المائدة إلى طعامهم، فلا يبلغون ذلك إلا بشق النفس. ثم ينتهي العشاء ويقبل القوم على غرفة الاستقبال؛ فنراهم وقد بلغ الخصام بينهم أقصاه، وجدت ربة البيت في التوفيق بينهم، فلم تفلح، وإذا هي تخاصم مع المخاصمين، وإذا ميلها إلى المحافظة ظاهر، ونفورها من الشيوعية بين. أليست هذه المرأة الجميلة التي تداعب زوجها وتحاول أن تغريه وتغويه بلمس اليد، وباللحظ وباللفظ، شيوعية؟! أليس هذا يكفي؟! بلى. وهذه الزوج تنضم آخر الأمر إلى صف المحافظين، وقد انقضت السهرة كما استطاعت أن تنقضي، وافترق القوم على غير فهم، ولا مودة. ولكن أزمة جديدة تبتدئ، فهذه الزوج الشابة قد لاحظت أنها أفسدت الأمر على زوجها حين أغضبت زعماء الشيوعيين، فهي إذن لا تحبه كما ينبغي؛ لأنها تبث أمامه العقبات، وهي نادمة وهي مشفقة وهي حائرة لا تعرف كيف ترضي زوجها، وهي تنبئ أباها بهذا كله، وأبوها يهون الأمر عليها ويزعم لها أن الحب سينتصر على كل شيء. وهذا زوجها قد عاد من تشييع المنصرفين وقد خلا إليها، وهي تعتذر إليه، وتلح في الاعتذار وإظهار الندم، ولكنه هو سعيد بكل ما كان، فلم يكن فيما بينه وبين نفسه شيوعيا، ولا زعيما، ولا رجلا عظيما، وإنما هو رجل مؤرخ لا يتمنى إلا أن يخلو إلى كتبه وحبه. وهو ينبئها بحقيقة أمره فلا تصدقه، وإنما تحمل ذلك منه على حب التضحية في سبيل من يهوى. وأي تضحية أجل خطرا وأبلغ أثرا من التضحية بالعظمة والزعامة والمستقبل في سبيل الحب؟
هي ساخطة إذن على نفسها، ولكنها راضية كل الرضى عن زوجها، فهو يأبى إلا أن يكون بطلا دائما. كان بطلا حين كان يريد الزعامة، وهو بطل حين يضحي بالزعامة.
أما زوجها فسعيد كل السعادة، راض كل الرضى؛ فقد تبين له أن امرأته تحبه لنفسه لا لزعامته ولا لعظمته، وإنما تحبه وتجعله بطلا لأنها تحبه. وهل كان يريد غير هذا، وهذه الزوج الشابة تسرع إلى التليفون فتطمئن أباها وتتمنى له نوما سعيدا، وتنبئه بأنها ما زالت مع زوجها في غرفة الاستقبال.
أصيل التمثيل
ليس حتما فيما أظن أن نتناول في كل هذه الأحاديث قصة تمثيلية أو غير تمثيلية على النحو الذي ألفه الناس في هذه القصص وفيما أكتب عنها من أحاديث، بل قد يكون لي أن أتجاوز هذا النحو المألوف من حين إلى حين، لأرفه على القراء مرة، ولأرفه على نفسي مرة أخرى بهذا التنويع الذي يشتد الحرص عليه من وقت إلى وقت، ولأفكر وأدعو القراء إلى التفكير في بعض المسائل التي يفكر الناس فيها من وراء البحر، والتي قد يكون من الخير أن نفكر فيها نحن أيضا.
وأظن أن القصة التي سنتحدث عنها اليوم تجمع هاتين الخصلتين معا؛ فهي مخالفة لما ألف الناس من ناحية، وهي داعية إلى الروية والتفكير من ناحية أخرى. مخالفة لما ألف الناس، فلا يكاد الحب يحدث فيها أثرا ظاهرا، بل لا تكاد شخصية الأبطال الذين يمثلون القصة ويلعبونها تحدث أثرا ظاهرا أيضا، بل ربما لم يكن لهؤلاء الأبطال - إن صحت تسميتهم بهذا الاسم - شخصية واضحة، فهم إلى أن يكونوا رموزا لطبقات وطوائف من الناس أدنى منهم إلى أن يكونوا رموزا لأشخاص متميزين. ويكفي أن تعلم أن كل فرد من الأفراد الذين يظهرون في هذه القصة إنما هو رمز لطائفة من الطوائف وجماعة من الناس. فالكاتب لم يرد إلى تحليل شخصية من الشخصيات، بل هو لم يرد تصوير جماعة من الجماعات، وإنما أراد إلى تصوير ظاهرة من الظواهر العامة، التي نشهدها في هذه الأيام ، أو التي كنا نشهدها في وقت من الأوقات.
والقصة مع ذلك تدعو إلى الروية والتفكير لنفس السبب الذي ذكرته آنفا، وهو أنها تصور ظاهرة من الظواهر العامة لا فردا من الأفراد، ولا جماعة من الجماعات. وهذه الظاهرة هي ما كان يشاهد منذ حين، وما لا يزال في أوروبا إلى الآن من ضعف التمثيل وتخاذله وانهزامه وإشرافه على الموت.
هذه الظاهرة شوهدت وما زالت تشاهد في أوروبا، وأظنها قد غمرتنا نحن فقضت على التمثيل عندنا قبل أن يستكمل نشأته. ويكفي أن نعلم أن مصر لم تشهد فصلا تمثيليا عربيا هذا العام، وأن مئات من الذين كانوا يحترفون التمثيل، وما يتصل به من المهن قد احتملوا الحياة في شيء من الصبر والجلد، خليق بالرثاء والإعجاب معا، وأن وزارة المعارف قد راعها الأمر فألفت للتمثيل لجنة درست شئونه ورفعت في أمره اقتراحات إلى الوزير، وأن هذه الاقتراحات الآن بين يدي الحكومة تدرسها، ويقال إنها تنظر إليها في شيء من العطف كثير.
كل هذا - فيما أظن - خليق أن يدعونا إلى التفكير في أمر التمثيل من تلقاء أنفسنا، فكيف إذا عرضت لنا قصة من أروع ما أخرج الكتاب الممثلون أثناء العام الماضي تمس هذا الموضوع، بل تدرسه درسا عميقا. ولعل من الطريف حقا أن يتحدث التمثيل عن نفسه، وأن يدرس التمثيل أمره ويبحث عن أعراض العلة التي أصابته ويتبين مصادر هذه الأعراض، ويلتمس لها الدواء ويدل نفسه عليه، ويأخذ نفسه أيضا بالجد في إصلاح ما فسد من شئونه على اختلافها.
فكاتب هذه القصة من أبرع الكتاب الممثلين في باريس، ومن أعلمهم بالتمثيل وبكل ما يعرض له من العلل الظاهرة والخفية، وما ينتابه من الأحداث الواضحة أو الغامضة. وهو من غير شك محزون حزنا عميقا لما أصاب التمثيل من ضعف، وهو قد وضع هذه القصة ليظهر فيها أسباب هذا الضعف، وليظهر فيها التمثيل معترفا بعيبه، مسجلا لعيب غيره، ملتمسا الدواء لهذا العيب أو ذاك. ويقال إن هذه القصة عرضت على ملعب من ملاعب باريس، فقبلها وهم بتمثيلها، ثم عرض لهذا الملعب ما حال بينه وبين العمل في الفصل الماضي؛ فاشترك جماعة من الممثلين، وأنفقوا ما يملكون من جهود مادية وفنية، ومثلوا هذه القصة لحسابهم كما يقولون. وقد نجحت نجاحا باهرا؛ فأحبها جمهور النظارة، وشغف بها وأكثر الاختلاف إليها، وأجمع النقاد الفرنسيون على إكبارها والإعجاب بها. لم يلاحظوا إلا شيئا واحدا: وهو أن القصة جاءت متأخرة في فرنسا، فقد أخذ التمثيل الفرنسي ينهض من كبوته ويسترد قوته وسلطانه، ويغالب الصعاب في شيء غير قليل من الفوز والانتصار.
وإذا كانت هذه القصة قد جاءت متأخرة في فرنسا، فأظن أن الحديث عنها لم يأت متأخرا في مصر، وإنما جاء ملائما كل الملاءمة للوقت الذي ينبغي أن يذاع فيه؛ وهو وقت العناية بإصلاح أمر التمثيل.
وسترى أن الكاتب يرد ضعف التمثيل إلى أسباب مختلفة: منها ما يتصل بالممثلين، ومنها ما يتصل بالملاعب، ومنها ما يتصل بالكتاب، ومنها ما يتصل بالذوق العام، ومنها آخر الأمر ما يتصل بالسينما. ونحن حين يرفع الستار في دار قديمة مهملة من دور التمثيل يشرف عليها منذ ثلاثين عاما رجل يحب الفن حقا ولكنه يحب المال أيضا، وهذا الرجل قد عرف الثروة والفوز حين كان الزمان زمانا، وحين كان التمثيل متسلطا على الباريسيين لا يقاومه غيره، من أسباب اللهو والتسلية، فلما تغيرت الأيام ولم تتغير نفس هذا الرجل، أخذ يغالب المصاعب ما استطاع، ولكنه يقاوم هذه المصاعب بأسلحة قديمة لا تلائم العصر الذي يعيش فيه، وهو يائس من الفوز يهم أن يبيع ملعبه لرجل من الأمريكيين، يريد أن يحوله إلى دار من دور السينما، ولكنه لا يجد الشجاعة على هذا البيع، فهو يغالي في الثمن، ويتردد في إتمام الصفقة، وهو قد أجر ملعبه لممثلة غنية ضخمة الثروة وضخمة الجسم أيضا وعظيمة الحظ من الغرور والأثرة مع ذلك. وهذه الممثلة تستغل الملعب وتستغل الذين يعملون فيه من الممثلين وغير الممثلين من العمال، تفرض نفسها عليهم فرضا، وتتحكم فيهم تحكما عنيفا؛ لأنها صاحبة المال، تنفق فتمكنهم من العيش . وهي لا تتحكم في الملعب وأهله فحسب، وإنما تتحكم في الكتاب وقصصهم أيضا، فهي تريد أن تكون صاحبة الأدوار الأولى في كل قصة، وأن يمحى غيرها من الممثلين والممثلات بحيث لا يظهرون إلا إذا كانوا لها تبعا. وهي من أجل ذلك تفرض على الكتاب تغيير قصصهم بما يلائم أغراضها هي من الحذف، والزيادة، ومن التغيير والتبديل. وأهل الملعب ضيقون بهذا أشد الضيق، منكرون له أشد الإنكار، ولكنهم مضطرون إلى الإذعان والتسليم؛ ليعيشوا. والكتاب كذلك مضطرون إلى الإذعان والتمثيل لتظهر قصصهم في الملعب. ونحن نرى الممثلين أو بعض الممثلين والممثلات ومعهم كاتب من الكتاب قد وضع قصة رائعة كلها شعر من أرقى ما عرف الأدب التمثيلي. والممثلون معجبون بالقصة محبون لها، حريصون على أن تفوز، ولكن الشخصية البارزة في هذه القصة تصور أنثى من طير الماء ألفت بحارا من الناس، فأحبته وتبعته إلى وطنه. ولا بد لها من أن تكون خفيفة رشيقة ظريفة الحركة والحديث، وقد اختارت رئيسة الممثلين لنفسها هذا الدور وأخذته قهرا، وأخذت تتحكم في القصة وممثليها وصاحبها حتى أفسدت القصة إفسادا، وحالت بينها وبين ما كان مقدرا لها من الفوز؛ فأخفقت إخفاقا منكرا، وأجمع النقاد على عيبها والتشهير بها.
وفي أثناء ذلك تأتي رسائل برقية للكاتب تنبئه بأن قصته قد أعجبت أصحاب الملاعب في ألمانيا وإنجلترا وغيرهما من البلاد؛ فهم يشترون حق الترجمة وحق التمثيل، ويرى الكاتب وممثلة يحبها وتحبه في هذا كله عزاء عن إخفاق القصة في باريس. فقد رأينا إذن من هذا الفصل الذي ألخصه تلخيصا سريعا موجزا، سببين من الأسباب التي اضطرت التمثيل إلى الضعف والفناء؛ أولهما: شره صاحب الملعب إلى المال، وإهماله في تجديد ملعبه حتى يلائم الحاجات الجديدة للفن، والثاني: استبداد مدير الفرقة، وفرضه نفسه وهواه على الممثلين، وإيثاره نفسه بخير ما في القصة من الأدوار، سواء أكان خليقا بتمثيلها أم لم يكن. ولاحظنا أيضا في هذا الفصل اجتهاد السينما في مزاحمة التمثيل حتى على ملعبه.
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في ألمانيا في ملعب من ملاعب برلين، وقد ترجمت القصة إلى الألمانية، ودفعت إلى المخرج وأعدها المخرج للتمثيل، والمترجم الألماني مفتون بالقصة حقا، والمخرج كذلك مفتون بهذه القصة، والكاتب مغتبط سعيد، ولكن انظر: أما المترجم فأديب يحب في القصة جمالها الأدبي ويترجمها ترجمة حرفية دقيقة، وأما المخرج فرجل عملي حديث متأثر بذوق العصر لا يحفل بالأدب ولا بالشعر، وإنما يرثي للذين يحفلون بالأدب والشعر، وهو قد أخذ القصة فغيرها تغييرا تاما؛ جعل مكان الطير قردة، وجعل مكان الكلام حركات، وإشارات، وأصواتا غامضة مبهمة تصور الشهوة الغليظة والحس الحاد، والشعور العنيف قطع كل صلة بين ما سيخرجه في الملعب وبين القصة الأولى. والكاتب يرى ذلك فينكره ويأباه، وينذر بالمحكمة وبالصحف وبما شاء من النذير، والمترجم يشاركه في هذا ولكن المخرج لا يحفل به، وإنما يعرض قصته على النظارة، فتظفر بالفوز الذي لا حد له. وإذا النظارة مبتهجون يلحون في رؤية الكاتب، فيعرض الكاتب عليهم رغم أنفه، وهم يلقونه بالتحية والهتاف والتصفيق، والكاتب ساخط ولكنه مضطر آخر الأمر إلى أن يظهر الرضى، وهو ينصرف من ألمانيا وقد فازت فيها قصته بعد أن مسخت مسخا تاما، وذهب كل ما فيها من الشعر وأصبحت كما يقول المخرج: حركات عنيفة تهيج حس النظارة وشعورهم.
ثم يرفع الستار بعد ذلك عن الملعب الذي شهدناه في باريس، وقد ازداد حظه من البلى والإهمال، وانصرفت عنه تلك المديرة المتحكمة، وجاء الرجل الأمريكي يفاوض مرة أخرى في شرائه، وصاحب الملعب متردد يريد أن يدافع عن التمثيل إلى آخر لحظة، وقد اعتزم أن يبذل الجهد الأخير، وأن يمثل قصة العاصفة من قصص شكسبير؛ فإن نجحت هذه القصة الخالدة فذاك، وإلا انصرف الرجل عن التمثيل انصرافا لا رجعة فيه.
ونحن نرى الكاتب يتحدث عما أصاب قصته من الفساد في ألمانيا وإنجلترا وإيطاليا؛ فنفهم أن الذوق العام في هذه البلاد قد تغير، فهو لا يحب الأدب من حيث هو أدب، والناس لا يذهبون إلى الملاعب ليروا فنا، أو ليسمعوا شعرا، وإنما هم يذهبون ليروا أنفسهم كما يحبون أن يروها، متأثرة بالذوق المادي الجديد، الذي يختلف باختلاف الأمم والشعوب، ولكنه على كل حال يتفق في شيء واحد، وهو الانحطاط والتجافي عن الأدب والفن. ولا بد من أن نرى الذوق الفرنسي الجديد نفسه، فهذه قصة شكسبير قد أخذ في تمثيلها، ولكن ماذا نرى؟ نرى أشخاصا يحصون لا يكادون يبلغون العشرة قد أقبلوا لشهود هذه القصة، وهم من طبقات مختلفة، ولكنها على كل حال طبقات متواضعة لم تأت إلى الملعب إلا لتنفق شيئا من الوقت. وقد شهد هؤلاء الناس الفصل الأول فناموا أو كادوا ينامون، ولم يبلغهم شيء من شعر شكسبير، وإنما أعجب الرجال ببعض الممثلات، وأعجب النساء ببعض الممثلين، ونحن نراهم بين فصلين يسخرون من التمثيل والممثلين، ومن الشعر والشعراء، ويتحدثون عن ملاكم فرنسي يخاصم ملاكما أمريكيا في الولايات المتحدة، وهم يتتبعون أخبار هذا الخصام في شغف لا آخر له. فتكون بينهم المحاورات والمراهنات ثم ينصرفون عن الملعب، ليذهبوا إلى حيث تبلغهم الأخبار الأخيرة لهذه الملاكمة.
وإذن فقد أخفقت قصة شكسبير أيضا وظهر سبب آخر من الأسباب التي انتهت بالتمثيل إلى الضعف: وهو فساد الذوق العام، وتأثره بهذه السخافات المادية الغليظة التي فرضها الذوق الأمريكي بعد الحرب على الناس.
وينتهي الأمر بصاحب الملعب إلى التسليم بالهزيمة والاستسلام للقضاء، وهو يبيع ملعبه لهذا الأمريكي، ونحن نرى موظفا من موظفي الملعب يجمع أدوات التمثيل البالية ليبيعها وليخلي منها الملعب إذا كان المساء، وقد اجتمع الممثلون والعمال وهم يتحدثون عما أصاب فنهم من الإخفاق. منهم المحزون الذي لا يتعزى، ومنهم المحزون الذي سيلتمس العزاء إذا عمل في السينما، ومنهم السعيد بموت التمثيل، وكلهم يلتمس أسباب هذا الموت؛ فيذكر ما قدمنا من الأسباب، ويذكر سببا آخر وهو ضعف الكتاب، وإهمالهم للفن، وما دفعوا إليه من التقصير أو القصور. وكم كنت أحب أن أترجم لك هذا الحوار المؤثر بين الممثل الذي يحب فنه ولا يستطيع أن يتعزى عنه، وبين الممثل الآخر الذي كان يعيش من التمثيل فهو لا يكره أن يعيش من السينما، ولكن الممثلين قد أخذوا يتفرقون كل لوجهه بعد أن أقبل صاحب الملعب فودعهم وداعا مؤلما، وهذا الملعب قد خلا إلا من آخر موظفيه الذي غلق الأبواب وخرج. ثم يرفع الستار عن آخر منظر من مناظر القصة؛ فماذا نرى؟ نرى الممثل الذي يحب فنه، ويكلف به، ويشفق عليه أن يزول، وهو يتحدث إلى النظارة فيذكر لهم علة الفن، وإشرافه على الموت، ويذكرهم بأنفسهم، وبأن التمثيل إن مات فليس لموته معنى إلا أن النفس الإنسانية قد ماتت. وهو واثق بأن النفس الإنسانية وعواطفها وأهواءها وحبها للجمال وكلفها بالفن وطموحها إلى المثل الأعلى أبقى وأرقى وأقوى من أن تطغى عليها الحياة الآلية التي يمتاز بها العصر الحديث، فتصبح آلات لا تجد اللذة إلا في السينما وما يشبهها من الآلات.
الدائرة
ونمضي في تلخيص هذه الطائفة من القصص التمثيلية التي لم يضعها الفرنسيون، وإنما ترجمت لهم، أو نقلت إليهم، عن اللغات الأجنبية. فقد لخصنا منذ حين قصة ألمانية ثم قصة أخرى روسية، والقصة التي نتحدث عنها اليوم إنجليزية. وإنما نذهب هذا المذهب لننوع موضوع هذه الأحاديث بعض التنويع، ولنعرض على القراء صورا مختلفة من الأدب التمثيلي الغربي، يمثل أمزجة الأمم الأوروبية الكبرى على اختلافها وتباينها، وإذا كان الفرنسيون لا يقنعون بتمثيلهم الفرنسي الخصب، القيم، على تنوعه وتباين مذاهب الكتاب والممثلين فيه، وإنما يلجئون إلى تمثيل الأمم الأخرى؛ ينقلونه إلى لغتهم ويعرضونه في ملاعبهم، فلا أقل من أن نذهب نحن بعض مذهبهم في هذا. وأقول بعض مذهبهم، فليس لنا أدب تمثيلي عربي مصري، أو غير مصري نستطيع أن نعتمد عليه، ونطمئن إليه، ونكتفي به. وليس لنا أدباء يعنون بترجمة الأدب الأجنبي أو نقله إلى لغتنا، وإنما أقصى ما نصل إليه، أن نلخص ونحلل ونتكلف هذه الصور المقاربة التي قد تعطي القارئ فكرة عن بعض الأدب الأجنبي، ولكنها على كل حال تفسده إفسادا وتشوهه تشويها.
فلا أقل من أن نجتهد حين نلخص هذا الأدب الأجنبي في أن يكون تلخيصا مختلفا منوعا مصورا للآداب المختلفة ما وجدنا إلى ذلك سبيلا.
وكم كنت أحب أن تقوم الترجمة مقام التلخيص، بعد أن حرمنا الكتابة والإنشاء، وكم كنت أحب وقد حرمنا الترجمة أيضا، أن ينهض بتلخيص الآداب المختلفة قوم يحسنونها ويتقنون لغاتها إتقانا، ويلخصونها من أصولها تلخيصا مباشرا، لا من تراجمها تلخيصا بالواسطة إن صح هذا التعبير.
فأنا إنما ألخص هذه القصص عن تراجمها الفرنسية، وواضح جدا أن الترجمة نفسها تذهب بجمال الأصل إلى حد بعيد، وأن التلخيص يذهب بجمال الترجمة إلى حد أبعد، فلا يبقى للقارئ العربي المسكين من هذه الآثار الأدبية الرائعة إلا صور ضئيلة شاحبة لا تكاد تغني شيئا. ولكني أبذل جهد المقل، وأنفق ما أملك من قوة، وأحتمل ما أستطيع احتماله من مشقة، وأرى واجبا علي أن آتي ما آتي من ذلك، وأرى من التقصير أن أكسل إذا كسل غيري، أو أهمل إذا آثر غيري الإهمال.
ولست أدري لم دفعت إلى هذا الاستطراد، ولكني أعترف للقارئ بأني لم أقدم يوما على تلخيص هذه القصص إلا وفي نفسي شيء كثير من السخط والألم. وقد كنت أحب أن تذاع هذه القصص أو ما يشبهها في قراء العربية مترجمة، وأن تكون أحاديثي عنها نقدا لها لا تلخيصا.
وبعد، فإني أعتقد أن كثيرين من القراء يحبون هذه الأحاديث ويجدون فيها بعض اللذة، فأظنهم يغفرون لي بعض ما أدفع إليه من الاستطراد بين حين وحين.
وهذه القصة التي أريد أن أتحدث عنها اليوم طريفة حقا: طريفة في موضوعها، طريفة في حوارها، طريفة في هذه المعاني التي يجري بها الكاتب ألسنة أشخاصه، طريفة في هذا الجد المر المؤلم، الذي يسوقه الكاتب في هذا المزاح الحلو اللذيذ.
فالقصة من أولها إلى آخرها فكاهة، ولا تكاد تقرأ محاورة من هذه المحاورات التي تقوم عليها، دون أن تغرق في الضحك، أو تضطر إلى الابتسام. ولكنها في الوقت نفسه مأساة، ومأساة شديدة الأثر في النفوس، عظيمة الوقع في القلوب، تدعو، بل تضطر من يشهدها أو يقرؤها إلى التفكير المتصل العنيف. ولعل أهم ما يلفت في هذه القصة هو هذه الدعابة الإنجليزية التي يتحدث الأجانب عنها كثيرا، ولكنهم يعجزون عن تصويرها فضلا عن محاكاتها، والتي لم يستطع ناقل هذه القصة إلى الفرنسية أن يحتفظ بها في ترجمته كما هي في الأصل؛ لأنها لا تلائم اللغة الفرنسية، ولا تلائم مزاج الفرنسيين. فاضطر إلى أن يقويها، ويثقلها - إن صح هذا التعبير - لتحتملها اللغة الفرنسية وليذوقها الفرنسيون. وأنا مجتهد في أن أعرض عليك صورا من هذه الدعابة أثناء التلخيص، ولكني قد قدمت عذري بين يدي؛ فأنا لا أنقل عن الأصل وإنما عن ترجمة، وعن ترجمة خضعت لتصرف غير قليل.
والقصة تقع في قصر من قصور الأرستقراطية الإنجليزية، من قصور هذه الأرستقراطية العاملة التي تتصل بالحياة العامة وتساهم فيها، وتحمل أثقالها، وتجني ثمراتها. فصاحب القصر؛ وهو لورد كليف شوبيون شيني، كان عضوا في مجلس النواب البريطاني، فلما ترك السياسة وأخذ يحيا لنفسه ويفرغ للذته، خلفه ابنه أرنولد على مكانه في مجلس العموم كما خلفه على ثقة الناخبين من مواطنيه. والأشخاص الآخرون الذين سنراهم في هذه القصة، كلهم من هذه الطبقة التي لم تمسك نفسها في هذه العزلة التي يلزمها نفر غير قليل من أشراف الإنجليز.
ونحن إذا رفع الستار عن الفصل الأول في غرفة من غرف الاستقبال في هذا القصر، نرى صاحبه الشاب أرنولد معنيا بشيء من الترتيب والتنظيم، ينقل الأشياء من مكان إلى مكان، ويدق الجرس، فإذا دخل عليه الخادم لفته إلى أنه يكره هذا الاضطراب ويريد أن يوضع كل شيء في موضعه، ونبهه إلى أنه يحرص أشد الحرص على ثلاثة أشياء: النظافة، والدقة، وحسن الأدب. وهذه الأشياء الثلاثة تتكرر على لسان هذا الشاب في غير موضع من القصة، فهو حريص عليها أشد الحرص، مشغوف بها أشد الشغف، لا يرى اضطرابا إلا أصلحه، ولا يسمع لفظا نابيا إلا أنكره، ولا يسمع حديثا إلا اجتهد في أن يرده إلى ما ينبغي له من الدقة والبعد كل البعد عن الغموض والإبهام.
وهو يكرر ذلك في قوله وعمله حتى يصبح تكراره إياه مضحكا حقا، كأنه لازمة من اللوازم أو مظهر من مظاهر الاضطراب العقلي اليسير. وهو يكلف الخادم أن يدعو سيدته إليزبث، وهو لا ينتظر أن يدعوها الخادم، بل هو يدعوها بنفسه، يدعوها من مكانه، ويدعوها من النافذة. يسأل عنها من يمر به، ويسأل عنها من يدخل عليه. هو شديد الحاجة إليها، متعجل لقاءها، كأن لديه أمرا ذا بال، يريد أن يلقيه إليها. وها هي هذه قد أقبلت، فلا يكاد يراها حتى يلقي إليها النبأ الخطير، وهو أن أباه قد أقبل من باريس وانتهى إلى بيته الصغير غير بعيد من القصر، وأعلن أنه سيتناول عندهما طعام الغداء. ويقع هذا النبأ من إليزبث موقعا منكرا، فتعلن ضيقها به في لفظ منكر مبتذل، ولكنها لا تكاد تنطق بهذا اللفظ حتى يشمئز أرنولد ويعلن سخطه العنيف، فهو يحب كما قدمنا ثلاثة أشياء: الدقة، والنظافة، وحسن الأدب. وهذا اللفظ الذي جرى به لسان امرأته لا يلائم حسن الأدب، وهو قد نسي النبأ الذي يزعجه، ويزعج امرأته، ودخل في خصومة طارئة مع إليزبث فيما يجب من تخير الألفاظ التي تجري بها ألسنة المترفين المثقفين. ولكن شابا يقبل، وهو من ضيوف القصر، جميل وسيم تظهر عليه نضرة الشباب، ونشاطه، ومرحه، فلا يكاد يدخل حتى يشترك في الحديث. وهذه فتاة أخرى من ضيوف القصر، تشترك معهم جميعا في الحديث، وهو حديث خطير حقا، فمقدم اللورد الشيخ من باريس فجأة قد صادف شيئا لم يكن ينبغي أن يصادفه؛ ذلك أن أم أرنولد كانت قد فارقت زوجها منذ ثلاثين عاما، وتركت له ابنهما الصبي ولما يتجاوز خمسة أعوام، وقد كانت هذه المرأة فاتنة رائعة الجمال، فتنت صديقا لزوجها، وزميلا له في البرلمان، هو اللورد برتوز؛ فاختطفها - إن صح هذا التعبير - ذات مساء، ومضى بها إلى إيطاليا، وأقام معها في مدينة فلورنسا ثلاثين عاما. ثم هما يعودان الآن إلى لندرة، وتعرف إليزبث مكانهما في فندق ريتز، وهي مشوقة إلى أن تعرف أم زوجها، مشوقة إلى ذلك لأسباب مختلفة نفهمها أثناء هذا الفصل. فهي قد فقدت أمها طفلة، وهي قوية الشعور، حادة الحس، متعلقة بالخيال، متأثرة بهذه المثل العليا في الحب. وهي شديدة الميل إلى أن ترى هذه المرأة التي ضحت بزوجيتها وأمومتها ومنزلتها الاجتماعية في سبيل الحب، وهي بعد هذا كله ليست سعيدة ولا ناعمة البال في حياتها الزوجية. هي على هذا النحو الذي أصوره لك وزوجها صاحب جد، يحب الدقة والنظام وحسن الأدب، ويعمل في السياسة لا يريح ولا يستريح، لا يفرغ لنفسه، ولا يفرغ لامرأته أيضا. وإذن فلم تكد إليزبث تعلم بمقدم الشيخين العاشقين إلى لندرة حتى ألحت على زوجها في أن يلقى أمه ويتعرف إليها، ويستأنف الصلات معها، ويدعوها إلى أن تزور القصر مع خليلها فتقضي فيه أياما. وواضح جدا أن أرنولد قد أبى على زوجه وألح في الإباء، فهو لا يعرف أمه إلا باسمها وبما تركت في نفسه من ألم ممض، وبهذه الذكريات التي لا يستطيع أن ينساها؛ ذكريات الفضيحة التي اضطرت أباه إلى أن يطلب الطلاق، وإلى أن يستقيل من البرلمان، وإلى أن يتجنب الحياة العامة، والتي تحدث الناس بها، ولجوا فيها، ووضع الشعب فيها الأغاني، وتغنى بها الأطفال في الشوارع، وتحدث بها أترابه، حين كان يطلب العلم في أكسفورد. ولكن المرأة إذا أرادت شيئا لم تنثن حتى تبلغ ما تريد، وقد ظفرت إليزبث من زوجها بما أحبت، فزينت له أنها أمه وأن السن قد تقدمت بها، وأن من الإثم والعقوق أن تعود إلى بلادها بعد ثلاثين عاما، فتعيش فيها عيشة الغريب. وقد تمت دعوة الشيخين العاشقين، وقبلا هذه الدعوة، وسيبلغان القصر بعد حين. وكان أرنولد يقدر أن أباه سيقيم في باريس أسبوعا، فإذا عاد إلى القصر أو إلى هذا البيت الصغير الذي يقيم فيه غير بعيد عن القصر كانت الزيارة قد انتهت، وكان العاشقان قد عادا إلى فندقهما في لندرة.
ولكن الشيخ أقبل فجأة من باريس، ولم يكد يستقر في بيته الصغير حتى تحدث إلى ابنه في التليفون ينبئه بمقدمه ويدعو نفسه إلى الغداء على مائدته.
وهو إذن سيلقى مطلقته، وسيلقى صديقه الخائن الذي أغوى امرأته واختطفها اختطافا. والزوجان حائران من غير شك، في هذه المصادفة المنكرة، وضيفاهما حائران أيضا، وإليزبث تهدئ زوجها وتعلن إليه أنها تحتمل وحدها تبعة هذا الشر، ولكن زوجها لا يفهم هذا الكلام المبهم الغامض، فهو يحب الدقة والنظام وحسن الأدب، وهو لا يرى أن احتمال امرأته للتبعة وحدها يغير من الواقع شيئا. والواقع أن ثلاثة من الناس سيلتقون بعد حين ولم يكن ينبغي أن يلتقوا. على أن حوار الزوجين لا يطول؛ فهذا أبوهما الشيخ قد أقبل وهو يحييهما من النافذة في رشاقة ودعابة، ثم يدور حتى يأتي الحجرة من بابها. وهم يتلقونه متكلفين للرضى، فإذا أعاد عليهم أنه سيشاركهم في الغداء ظهر على بعض الوجوه طول والتواء، ثم يتفرق القوم جميعا ولا يبقى أمامنا إلا الشيخ وإليزبث.
ونحن نسمع إليزبث تداعب الشيخ وتتلطف له، وهو يتوقع أنها ستنبئه بخبر سيئ. وهي في حقيقة الأمر تريد أن تنبئه بشيء، ولكنها لن تفعل إلا إذا جلست على حجره مبالغة في التلطف والدعابة. فإذا تلقاها لطيفا بها مداعبا لها ألقت إليه النبأ، فلا يظهر سخطا عنيفا، ولكنه لا يخفي ضيقه بما سمع، على أنه قد فهم الآن لم طالت الوجوه والتوت منذ حين. ثم لا يلبث الشيخ أن يستأنف مرحه ودعابته، ويعلن إلى امرأة ابنه أنه سيعود إلى بيته الصغير، وسيتغدى فيه وهو سعيد بذلك لأنه سيشارك الخدم في طعامهم. وسيأكل إذن ما لم يكن ينتظر أن يأكل. وقد انصرف الشيخ وأقبل الشاب الضيف واسمه تدي ليتون، فلا يكاد يتحدث إلى إليزبث حتى نعرف أن بينهما حبا يريد أن يظهر. وهذا زوجها يعود ومعه الفتاة التي رأيناها منذ حين وهما ينبئان بمقدم الزائرين المنتظرين، وما هي إلا لحظات حتى تدخل الليدي كيتي وخليلها ميجي.
وصورة هذه المرأة طريفة حقا، وهي من أجمل الصور التي يعرضها الأدب التمثيلي؛ فهي قبل كل شيء مخيبة لأمل إليزبث، امرأة قصيرة بادنة لا تصور حبا ولا جمالا ولا فتونا، قد ظهرت عليها السن، ولكنها مع ذلك شديدة النشاط، شديدة التكلف للنشاط بنوع خاص، تتحدث في غير انقطاع وفي غير عناية بما تقول، ولا تقدير له، تثب من موضوع إلى موضوع في خفة، وسرعة، وعلى غير انتظار كأنها الطائر يثب من غصن إلى غصن أو من شجرة إلى شجرة، لولا أن هذه المرأة ليس فيها من جمال الطائر شيء. وهي لا تعرف ابنها، ولكنها مع ذلك تسرع على الضيف الشاب فتقبله معلنة أنه ابنها أرنولد، وأنه صورة لها مطابقة كل المطابقة، وأنها لو رأته في ألف رجل لعرفته. فإذا نبهت إلى مكان ابنها، لم يظهر عليها اضطراب، ولا اختلاط، وإنما اندفعت إليه فقبلته وأعلنت أنه صورة دقيقة لأبيه، وأنها لو رأته في ألف رجل لعرفته. وهي تتكلم في كل شيء، لا تكاد تلم بالحديث حتى تدعه إلى غيره؛ فهي تتحدث في الدين، وتتحدث في الصين، وتتحدث في المرضع التي كانت تسرق النبيذ، وتتحدث في التصوير، وتتحدث في الثياب، ثم ترى البيانو فتسرع إليه وتأخذ في العزف. وخليلها مناقض لها أشد المناقضة، لا يشبهها إلا في الشيخوخة. فهو قليل الكلام، لا يكاد يتكلم إلا زمجرة، وهو ساخط على إنجلترا لسوء الإقليم فيها، ولأن طرقها غير صالحة للسيارات. وهم في هذا الاختلاط المضحك البديع حقا، وإذا الأب الشيخ قد أقبل. ولم لا يفعل؟ لقد ذهب إلى بيته الصغير فرأى أن الخدم قد انصرفوا يتناولون غداءهم حيث يريدون بعد أن علموا أن سيدهم سيتغدى في القصر. فرأى الشيخ أنه مخير بين اثنين: إما أن يجوع، وإما أن يتغدى مع هذين الزائرين. وقد آثر الثانية وهو يرجو ألا يضيق به أهل القصر، وأهل القصر لا يضيقون به، ولكنهم يلقونه لقاء حسنا ولا سيما مطلقته، فهي سعيدة بلقائه، وهي تطلب إليه أن يقبلها، وهو لا يرى بذلك بأسا بشرط أن يأذن له صديقه القديم.
فإذا كان الفصل الثاني فقد مضى يومان على ما رأيت في الفصل الأول، ونحن في حجرة الاستقبال نفسها بعد الغداء ، وقد جلس القوم جميعا إلى مائدة اللعب بعضهم يلعب وبعضهم يتحدث. ونفهم أن أرنولد قد انصرف عنهم لبعض شأنه السياسي، فالمعركة الانتخابية قائمة والشاب يتهيأ لإلقاء خطبة سياسية إذا كان الغد، وهو يحب الدقة، والنظام، وحسن الأدب. وإذن فهو يتفق منذ الآن مع الذين سيقاطعونه إذا خطب من الغد. يهيئ لهم موضع المقاطعة من خطبته، ويهيئ لهم الأسئلة التي يلقونها عليه، ويهيئ لنفسه الجواب على هذه الأسئلة. وعلى هذا النحو يتم الاجتماع السياسي دون أن يخالف ما ينبغي له من الدقة والنظام وحسن الأدب. والقوم في هذا الحديث، ولكن الشيخ العاشق يسخط ويعلن سخطه؛ لأنه لا يفهم كيف يكون الجمع بين اللعب وحديث السياسة. وقد انتقل الحديث من السياسة إلى هذا الضيف الشاب الذي يعمل في تونس، والقوم يتحدثون إليه عن تونس هذه، وهو يجيبهم، ولكن الشيخ العاشق يعود إلى إعلان سخطه لأنه لا يفهم كيف يكون الجمع بين اللعب والحديث عن تونس.
ثم يمضون في لعبهم وحديثهم واختلافهم في اللعب، وتلاحيهم فيما يصيبون وما يخطئون، حتى يضيق الشيخ العاشق بهم جميعا؛ فيكف عن اللعب ويتفرق القوم ولا يبقى منهم إلا العاشقان والزوج القديم. والعاشقان مختصمان اختصاما شديدا: فأما الشيخ فيلوم صاحبته؛ لأنها متكلفة ملحة في التكلف، ولأنها قد أفسدت عليه حياته وكلفته تضحيات ثقالا، ولولا حبها لأصبح الآن رئيسا للوزراء، فقد كان الناس يتوسمون فيه ذلك، وهي تنكر عليه هذا الغرور، وتزعم أنه لم يكن ينبئ بذكاء ولا استعداد لنباهة الشأن، وأن الناس لا يرقون إلى المناصب بذكائهم أو تفوقهم، وإنما يرقون بفضل نسائهم وما يمتزن به من لباقة ورشاقة وجمال. وقد كانت هي خليقة أن ترقى بزوجها إلى رياسة الوزارة، لولا هذا الحب الذي أفسد عليها كل شيء. ويرد عليها عاشقها ساخطا معنفا منكرا قيمة زوجها القديم؛ فهو لم يكن يصلح للمناصب الكبرى، وإنما كان رجلا متواضعا، ولو أني بلغت رياسة الوزراء لعينته وزيرا في هولندا أو في البرازيل. ولا تكاد صاحبته تسمع هذا حتى يشتد سخطها، وتعلن أنها لا ترضى منصبا حقيرا كهذا المنصب في بلد صغير كهذا البلد، ولا يرضيها إلا أن يكون زوجها سفيرا في باريس.
وتشتد الخصومة بين العاشقين، على هذا النحو الظريف، حتى تنتهي إلى أقصاها، وإذا العاشقة الشيخة قد انصرفت مغضبة باكية، وتبعها عاشقها الشيخ كأنه يريد أن يترضاها. وبعد قليل نرى إليزبث قد أقبلت وأقبل معها ضيفها الشاب، وهما يتحدثان في حبهما وقد صرح بينهما كل شيء، وتم الاتفاق بينهما على أن يعيشا معا، وعلى أن تفارق المرأة زوجها وتذهب معه إلى تونس. وهي لا تريد أن تهرب، وإنما تريد أن تعلن أمرها إلى زوجها وتطلب إليه الطلاق.
وهذا الزوج قد أقبل بعد حين، فلم يجد في الغرفة أحدا، ولكنه لا يكاد يستقر حتى تأتي أمه فيكون بينهما حديث ظريف حقا، لا يمس شيئا، ولكنه يمس كل شيء. ثم تخلو إليزبث إلى زوجها أرنولد، فتنبئه بأمرها وتطلب إليه الطلاق. وهو ساخط ولكن في دقة، ونظام، وحسن أدب غالبا. على أنه يخرج عن طوره آخر الأمر، فيأبى الطلاق، ويدعو إليه ضيفه الشاب فيطرده من القصر طردا لا حظ له من الدقة والنظام وحسن الأدب.
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في الحجرة نفسها بعد العشاء من مساء اليوم نفسه، ونحن نرى أرنولد يتم مع أبيه حديثا كان قد بدأه قبل أن يرفع الستار، ونفهم أن هذا الحديث إنما هو تشاور بين الابن وأبيه في هذه الكارثة الجديدة. وقد ألقى الأب إلى ابنه نصيحة، وهو يلح عليه في أن يتبعها، ثم يقبل سائر أهل القصر فيتحدثون حديثا مختلفا مختلطا، ولكننا نتبين على كل حال أن الشيخين العاشقين ما زالا على ما كانا فيه من المغاضبة والخصام، فليس أحد منهما يرضى أن يتحدث إلى صاحبه. وهم ينظرون في مجموعة من الصور ويتحدثون عما يرون، وعن صور النساء وأزيائهن خاصة أحاديث مختلفة جميلة ومؤثرة، ولكنهم ينتهون إلى صورة بعينها تعجبهم جميعا ولا يعرفون صاحبتها، فإذا أنبأهم الزوج القديم بأنها صورة مطلقته زاد إعجابهم بما كان لهذه المرأة من جمال، ولا سيما إليزبث؛ فإن إعجابها شديد حقا. أليست قد أنبئت بأن بينها وبين هذه المرأة حين كانت شابة بعض الشبه؟ أليست هي آخذة الآن في إعادة التاريخ وفي تمثيل القصة التي مثلتها هذه المرأة حين كانت تنعم بنضرة الشباب وحين تهيأ لها الحب فلم تستطع عليه امتناعا؟ على أن الشيخة نفسها إذا نظرت في هذه الصورة لم تستطع أن تكف دموعها عن الانحدار، فأين هذا الجمال الرائع من هذه المرأة المتهدمة التي تغاضب عاشقها المتهدم! وقد تفرق القوم جميعا عن العاشقين الشيخين، وإذا الشيخ يدنو من صاحبته متلطفا مسترضيا معتذرا مما قدم إليها من الإساءة قبل العشاء، وهي تقبل منه متلهفة؛ فلم تكن أقل منه شوقا إلى الصلح، وهو يعترف لها بأنه كان مغرورا حين زعم أنه كان خليقا أن يبلغ رئاسة الوزراء لولا الحب. وهي تؤكد له أنها كانت مسرفة، وأنه كان حقا جديرا أن يبلغ رئاسة الوزراء، فإذا سمع ذلك منها أرضاه وأعلن إليها أنه كان مسرفا حين أنبأها أنه لو تولى الحكم لعين زوجها في هولندا، والواقع أنه كان خليقا أن يعينه في باريس، وهي تستكثر باريس وترى أن في هولندا أو في البرازيل ما يكفي. ويمضي الحديث بينهما على هذا النحو المؤثر الظريف، وهذا الشيخ يتأمل في الصورة فيزعم لصاحبته أن السن لم تغيرها إلا قليلا وهي سعيدة بهذا الثناء، ترد عليه بثناء مثله، فتزعم له أنه قوي، وأنه وسيم، وأن منظره يخلب النساء، ويلفتهن إليه. ولكن هذا الزوج القديم قد أقبل وأخذ ينبئهما بقصة إليزبث واعتزامها فراق زوجها مع هذا الشاب، وهو يطلب إلى الأم أن تنصح لهذه الفتاة وأن تعظها، وأن تفكر في ابنها. والأم تتردد شيئا ثم ترضى، وقد أقبلت إليزبث وانصرف الرجلان، وأخذت العاشقة الشيخة تعظ العاشقة الشابة. فيا له من حديث مؤثر حقا، دقيق حقا، فيه تصوير رائع لجنون الحب ثم لعواقب هذا الجنون حين يفتر النشاط وتنكسر الحدة، وتتصل الحياة بين عاشقين قد فتر بينهما العشق. وفيه تصوير رائع لهذه الغيرة الملتهبة التي تحرق فؤاد المرأة حين تحس انصراف العاشق عنها، وفيه تصوير رائع لضعف المرأة وسوء حالها في الجماعة إذا خرجت عن الحياة المنظمة وخالفت ما ألف الناس.
ولكن شيئا من هذا لا يؤثر في الفتاة ولا يغير عزيمتها بحال من الأحوال، وهي مصرة على هذا الفراق محتملة تبعاته، واثقة بصاحبها، أشد الثقة.
ثم يقدم أرنولد بعد حين ويخلو إلى امرأته، وإذا هو قد تغير تغيرا تاما، فهو معتذر إلى امرأته من ذلك الحديث الغليظ الجاف الذي لقيها به حين طلبت إليه الطلاق، وهو يترضاها فلا ترضى، ويستعطفها فلا تعطف، فإذا يئس من ذلك عرض عليها أن يعينها بشيء من المال لأنها فقيرة ولأن صاحبها ليس غنيا، وهي تأبى، ولكنه يعلن مصمما أن المال سيوضع في أحد المصارف لحسابها، وقد كان يأبى الطلاق فهو يقبله الآن، ولكن شرط أن يكون هو المذنب وأن يكون الحكم عليه لا عليها. وهي تسمع هذا فتتأثر له تأثرا عميقا، ويتركها الفتى وهي في أشد ما تكون من التردد والاضطراب والاعتراف بالجميل. على أن صاحبها الشاب قد أقبل يتعجلها، فتأبى عليه إباء شديدا لما سمعت من زوجها، والفتى يلح وهي تأبى. وإنهما لفي هذا الحوار وإذا الشيخان العاشقان قد أقبلا واشتركا في حوارهما، وهما ينصحان أول الأمر للفتاة بألا تفارق زوجها ولا تتعرض لحرب النظام الاجتماعي، فهي غير قادرة على هذه الحرب، ولكن الفتى لبق حسن الحديث، عاشق، صادق العشق، مقنع قوي الإقناع، وها هو ذا قد أثر في نفس الفتاة وسيطر عليها. وانظر إلى هذين الشيخين وقد ذكرا شبابهما واستحضرا قصتهما، وهما يعينان على تمثيل القصة. فأما الشيخ فيعيرهما سيارته ليهربا بها في جنح الليل، وإذا الشيخة تعير الفتاة معطفها لتتقي به برد الليل، وإذا العاشقان الشابان ينصرفان وقد تركا في نفس هذين الشيخين وجدا وحنينا وعطفا كثيرا. وهذا الأب الشيخ قد أقبل راضيا، سعيدا، مبتهجا ينبئ بأنه قد نصح ابنه فاستمع لنصيحته فنجح إلى أقصى حدود النجاح. رد إلى امرأته حريتها فحمدت ذلك منه وزهدت في هذه الحرية وقررت أن تقيم. والشيخ فخور بهذا الفوز، وهو يضحك فخرا والشيخان العاشقان يضحكان منه فيحسب أنهما يضحكان له، ويرخى الستار عليهم جميعا، وهم مغرقون في ضحك مظهره واحد ولكن سببه مختلف أشد الاختلاف.
الطائر الحديث
للكاتب الفرنسي رستان برنار
ليس هذا العنوان ترجمة صادقة ولا دقيقة للعنوان الفرنسي، وإنما هي ترجمة مقاربة، أو قل هي إشارة إلى معنى العنوان الفرنسي؛ لأن نقل العنوان إلى لغتنا ليس باليسير.
ولسنا نقصد بهذا الحديث عادة إلى الدقة العلمية في الترجمة، وإنما نقصد إلى تقريب الصور الفنية التي يعرضها كتاب التمثيل إلى قراء العربية الذين لا يستطيعون أن يروا بأنفسهم هذه الصور في أصولها الأولى. والصورة التي أريد أن أقربها إلى القراء في هذا الحديث جميلة رائعة حقا، وهي لا تستمد جمالها ولا روعتها من ثورة العواطف وحدة الحس وعنف الشعور، وإنما تستمدها من هذه الفلسفة الهادئة المبتسمة الساخرة التي امتاز بها هذا الكاتب الفرنسي العظيم، فهو أستاذ السخرية في فرنسا بعد كورتلين، ولكنه أستاذ السخرية التي لا يكاد يشعر بها إلا الذين أوتوا حظا عظيما من دقة الذكاء، ونفاذ البصيرة، وحسن القراءة بين السطور. وهو على هدوء فلسفته وخفة سخريته، ورقة دعابته، لاذع ممض حقا لمن عرف كيف يقرأ، وكيف يفهم، وكيف يذوق، بل هو قد يتجاوز السخرية اللاذعة الممضة إلى السخرية القاسية، التي تريد أن تكون عنيفة، وتبلغ من العنف ما تريد دون أن يظهر عليها ذلك ظهورا واضحا.
وقد أراد رستان برنار في هذه القصة أن يصور، من ناحية، نزق الشباب وخفته، وطيشه، وضعفه عن فهم ما يحيط به من الأحداث، بل عن فهم نفسه، وأقرب الناس إليه، وانخداعه بأيسر الأشياء. ومن ناحية أخرى عبث الظروف بالناس وتحكمها فيهم بما يسوءهم في كثير من الأحيان، وبما يرضيهم ويمنعهم في بعض الأحيان. والنقاد مجمعون على إكبار هذه القصة، ومنهم من يبلغ بها منزلة الآية الأدبية الخالدة التي لن يعرض لها الفناء، وهم يعجبون بهذه البراعة التي أتاحت للكاتب العظيم أن يتخذ موضوعا يسيرا ضئيلا كهذا الموضوع الذي ستراه، فينشئ منه قصة تمثيلية ممتعة، ترضي، بل تمتع النظارة والقراء جميعا دون أن تشق عليهم، أو تخيل إلى أحدهم أنه أحس شيئا من الجهد قليلا أو كثيرا في مسايرة القصة منذ ابتدأت باسمة ساخرة إلى حيث انتهت باسمة ساخرة أيضا.
والموضوع - كما قلت - يسير ضئيل؛ فهناك صديقان؛ أحدهما شاب في السادسة والعشرين من عمره، وهو تيبو، والآخر كهل قد بلغ الأربعين، وهو تييري، وقد صدقت بينهما المودة، وتمت الثقة، وكلاهما صاحب لهو وعبث، ولكن الشاب الحدث، مطمئن إلى الكهل المجرب، فهو يلجأ إليه، ويعتمد عليه كلما تعقدت أموره في الحب بعض التعقيد. وهذا الكهل المجرب محبب إلى النساء، فاتن لهن، فلا يكاد يعرض مخلصا لحل ما يتعقد على صاحبه الشاب من الأمر حتى يضطر إلى خيانته اضطرارا. وصاحبه الشاب لا يحس ذلك ولا يلمحه، وإنما هو ماض في ثقته، دافع صاحبه إلى الخيانة دفعا، والظروف تعينه على ذلك، وتغريه به، كما تعين صاحبه على الخيانة، وتورطه فيها حتى يأذن الله لفتاة هي أليس بأن ترد الشاب إلى الرشد، وتحول بين هذا الكهل وبين المضي في الإثم على غير عمد أو على عمد، غير متعمد، إن صح هذا التعبير الغريب.
فموضوع القصة - كما ترى - هين لا خطر له في نفسه، ولكن الكاتب قد استطاع أن يرتفع به، إلى أرقى منزلة من منازل التفكير الخلقي الفلسفي الخصب. ومهما ألخص هذه القصة ومهما أتحر الدقة في هذا التلخيص، فلن أستطيع أن أعطيك من جمالها الفني صورة مقاربة، فجمالها الفني مستقر في هذا الحوار البديع الذي لا بد من ترجمته، ومن ترجمته كله لتذوق ما فيه من فن دقيق. وترجمته ليست شيئا يسيرا؛ لأن الكاتب - كما قدمت - من أدق الكتاب الفرنسيين في التصوير والتعبير معا.
ونحن حين يرفع الستار في فندق فخم من فنادق الصيف في مدينة مترفة من مدن الساحل، هي مدينة دوفيل، نرى هذا الكهل المجرب تييري يتحدث إلى خادم من خدم الفندق، وهو يهيئ له غرفة الاستقبال في الجناح الذي احتجزه لنفسه، ليقضي فيه بعض الصيف. والخادم ينبئه بأن فتاة قد أقبلت تطلب لقاءه، وهي تنتظر في بهو الفندق واسمها أليس إرسان. فإذا أذن لها بالصعود رأينا فتاة جميلة ولكنها شديدة الاحتشام، شديدة الذكاء، متئدة فيما تعمل وفيما تقول. وفهمنا من أول حديثها إلى هذا الرجل أنها قريبة صديقه تيبو، وأنها تعمل في قصره كرفيقة لأمه الغنية التي تقدمت بها السن، ولكنها تأبى أن تشيخ. فهي تلهو وتعبث وتختلف إلى الكازينو كل مساء تقامر مع المقامرين، وهي تربح حينا فتزعم أنها خاسرة، وتخسر حينا فتزعم أنها رابحة: تعلن الخسارة في أوقات الربح لترد عن نفسها أصحاب الحاجات، وتعلن الربح في أوقات الخسارة لترد عن نفسها العذال والشامتين. وهي في حقيقة الأمر لا تحفل بخسارة ولا بربح؛ لأنها واسعة الغنى عظيمة الثراء، وحسبك أن بعض مواردها يغل لها أربعة عشر مليونا من الفرنكات.
وهذه الفتاة تعمل في القصر رفيقة لقريبتها هذه، ولكنها لا تراها ولا تتصل بها، وإنما تلزمها من بعيد، تشتري لها الكتب، وتقرؤها نيابة عنها، وتلخصها لها تلخيصا موجزا لتكون على علم بها إذا تحدثت إلى الناس، وقد ترافقها إلى الكازينو ولكنها لا ترافقها إلى غرفة اللعب، وإنما تنتظرها في مكان آخر. وهي قد أقبلت اليوم تبلغ هذا الرجل أن قريبها تيبو سيزوره بعد حين، ليتحدث إليه في أمر ذي بال، وما دامت قد ذكرت تيبو، فهي تصوره لنا كما صورت أمه؛ فهو فتى رائع الشباب، ولكنه لا يقدر شبابه قدره، وإنما يبذر فيه تبذيرا وينفقه بغير حساب، قد أفسده الغنى فاتبع هواه، وتنقل به هواه من حب إلى حب، ومن لذة سريعة إلى لذة سريعة، حتى فقد قلبه وعقله، وكل هدوء، وكل استقرار.
والفتاة ترى ذلك محزونة له، ساخرة منه، ملاحظة دقائقه مع ذلك مستخرجة منها العبر والعظات التي لا يحسن استخراجها إلا المجربون الذين مارسوا الحب واللذة وعرفوا آثامهما وآثارهما، وهي تزعم أنها تجد من نقاء ضميرها، وصفاء سريرتها، وحسن سيرتها ما يمكنها من أن تفهم الحياة وتستخلص عظتها وعبرتها أحسن مما يفعل المجربون الممارسون. وهذا الفتى تيبو قد أقبل، فذكرته الفتاة بأنه مضطر إلى أن يتناول العشاء مع أهله هذه الليلة؛ لأنها ليلة عيد من أعياد أمه، قد اجتمعت لها الأسرة كلها على كره من الأم التي كانت تؤثر على مائدة العشاء مائدة القمار. وقد انصرفت الفتاة وخلا الصديقان، فلم يكادا يتحدثان حتى فهمنا قصة هذا الفتى. فهو يحب منذ عهد بعيد امرأة جميلة غنية، هي هنرييت هربلان، ولكنه لقي في بعض زياراته امرأة أخرى جميلة، هي لورنس هربر، فأحبها وأحبته، وأبعدا في الحب حتى كادا يبلغان الزواج. وكانت خليلته الأولى تصطاف مع زوجها في أقصى الغرب الجنوبي على الأطلنطيك، بينما يصطاف هو مع صاحبته في هذه المدينة الجميلة على ساحل المانش. ولكن الظروف الخادعة الماكرة زينت لهذا الزوج الأحمق أن يفارق امرأته أياما لتزور إسبانيا، فأسرعت هذه المرأة إلى دوفيل ونزلت ضيفا على أسرة صديقة تقيم من الفندق غير بعيد.
والفتى حائر بين هاتين الخليلتين، فهو يحب لورنس ويريد أن يتخذها له زوجا، وهو يريد أن يتخلص من هنرييت، ولكن في شيء من الرفق، ومن غير أن يؤذيها في حبها إيذاء عنيفا. وقد خطر له أن السبيل إلى التوفيق بين هذين الأمرين، إنما هو أن يقلل من لقاء لورنس ويحتاط في هذا اللقاء، حتى تسافر هنرييت من دوفيل. ولكنه لا يجرؤ على أن يبين حقيقة الأمر للورنس، فهو يعتمد على صديقه تييري في ذلك، ولا شك في أنه سيؤدي إليه هذه الخدمة راضيا سعيدا. وهو قد نظم له لقاء لورنس فستزوره بعد لحظات، وهو من أجل هذا ينصرف مسرعا وينبئ صاحبه بأنه سيلقاه في الغد ليعرف منه ما سيكون بينه وبين لورنس من حديث.
وما هي إلا لحظات حتى تستأذن لورنس على صاحبنا الكهل، فيأذن لها ويلقاها، ولا يكاد يأخذ معها في الحديث حتى يرى أنها تعلم من أمر صاحبه كل شيء. فليس من المعقول أن يتقرب رجل من امرأة بالحب دون أن يسعى الساعون إليها بأنباء هذا الرجل، ما ظهر منها وما بطن.
وهي ليست غافلة ولا جاهلة فتظن أن صاحبها قد ظل ينتظرها طول حياته نقيا بريئا من الحب، فهي إذن تعذره ولكنها تلومه لأنه لم يتحدث إليها بنفسه في هذا الموضوع. على أنها لا تكره آخر الأمر أن تعفو له عن هذا النزق الذي دفعه إليه الشباب، وهي تهم أن تنصرف ولكن تييري يستبقيها ليتحدث إليها طرفا من حديث، ولينبئها بأنه سعيد حقا بها، فما كان يقدر أنه سيلقى امرأة يرتفع بها الذكاء والفطنة وحسن التقدير للأشياء إلى حيث تتجاوز المألوف، وتعرض عن الصغائر، وهو سعيد بأن يثني عليها غير طامع فيها لأنها خليلة صديقه، وهي سعيدة أيضا بالاستماع لهذا الحديث الذي ليس وراءه طمع ولا رغبة، والذي لا يفسده تملق ولا تقرب؛ فقد سئمت ثناء المحبين، كما سئم هذا الرجل أيضا حديث المحبات. وهما سعيدان حقا بهذا الود الذي أخذ ينبت بينهما؛ لأنه ود بريء يرتفع عن الحب ويكتفي بالصداقة. لقد ظفرت هي يإعجاب الرجال حتى أذلتهم، وظفر هو بإعجاب النساء حتى أذلهن. فما يمنعهما أن يلتقيا كما يكتفي الفاتحان الظافران فيتحدثا في غير الفتح والظفر، ويسمرا في غير الحب والغرام.
وليس من شك في أن هذه المرأة لا تستطيع أن تحب هذا الرجل؛ لأنه متقدم في السن، ولأنها تحب صديقه الشاب. وليس من شك أيضا في أن هذا الرجل لا يستطيع أن يحب هذه المرأة؛ لأنها شابة بالقياس إليه، ولأنها خليلة صديقه، فلن يكون بينهما إلا ود الأصدقاء، وإذن فسيجتمعان إلى العشاء وستعتذر هذه المرأة إلى قوم دعوها للعشاء معهم، ولن يتعشيا في الفندق، ولا في الكازينو، ولكنهما سيذهبان إلى مطعم بعيد، ولن يشربا على طعامهما الشامبانيا، ولا هذه الأنبذة التي تدير الرأس وتحجب العقل، ولكنهما سيشربان نبيذا من هذه الأنبذة التي تطلق اللسان وتبعث الحرارة في القلب وتحبب حديث الصداقة إلى الأصدقاء.
وقد نهضت لتتهيأ للخروج، فهم أن يقبل يدها، فردته عن ذلك ردا، فما ينبغي للصديق أن يقبل يد الصديق وإنما يتصافح الأصدقاء في قوة كما يتصافح الرجال.
ويرفع الستار عن الفصل الثاني من الغد، فإذا نحن في الغرفة نفسها نرى هذين الصديقين، وقد أحدث الليل بينهما ما لا يحدث بين الأصدقاء، وهما يعتنقان اعتناق العاشقين وقد فتن كل منهما بصاحبه وسقط بينهما ذلك الفتى الغر، فمرا على جثته إلى حبهما العنيف ثم تم الاتفاق بينهما على أن يرحلا بحبهما عن هذه المدينة لينعما به في مأمن من الرقباء. وستسافر هي أول النهار، ويدركها هو إذا كان المساء أو إذا كان الغد؛ لأنه ينتظر اليوم مقدم أخيه.
وقد انصرفت عنه على كره منها وعلى كره منه، ولكنه لم يكد يخلو إلى نفسه حتى أفاق من نشوة الحب، ونظر إلى نفسه فازدراها وإلى صديقه فرثى له وعطف عليه.
وهذا الخادم قد أقبل يصلح من شأن الغرفة، فإذا هذا الرجل لا يستطيع أن يمنع نفسه من التحدث إليه؛ لأنه شقي بالندم الذي يملأ قلبه. وهو يسأل الخادم عن سنه، ثم عن حبه، ثم عن خليلته، فينبئه الخادم بأنه يحب امرأة صديق له، فقد وجد هذا الرجل إذن زميلا له في الخيانة، فهو يسأله كيف أقدم على هذه الخيانة وكيف وجد أثرها في نفسه، والخادم ينبئه بأنه كره ذلك أول الأمر ولكنه ألفه وتعوده بعد قليل.
ولكن التليفون ينبئ بأن الفتاة التي رأيناها في الفصل الأول تستأذن في لقاء هذا الرجل، فإذا أذن لها رأيناها قد أقبلت اليوم كما أقبلت بالأمس تحمل رسالة من تيبو إلى صديقه، فهو قد أنفق الليل كله أو أكثره خارج القصر وعاد مع الصبح، فسيزور صاحبه متأخرا بعض الشيء.
والفتاة ساخرة من قريبها، ساخرة من صديقه، تزعم له أن قريبها يثق به الثقة كلها، فلا يكاد الرجل يسمع لفظ الثقة حتى يضطرب له، وتثور نفسه، وإذا هو ساخط أشد السخط على هؤلاء الأصدقاء الذين يثقون بأصدقائهم، وعلى هؤلاء الضعفاء الذين يثقون بالأقوياء ، وعلى هؤلاء الناس الذين يعجزون عن تدبير أمورهم، فيعتمدون على غيرهم في تدبير هذه الأمور. والفتاة لا تفهم هذه الثورة المفاجئة، ولكننا نحن نفهمها حق الفهم؛ فالرجل نادم على ما فرط في ذات صديقه، ولكنه يحمل صديقه تبعة هذا التفريط؛ فهو الذي وثق به وكلفه تدبير أمره عند لورنس، ولو لم يفعل لما لقيها، ولما فرط في ذات الصديق.
وهذا تيبو قد أقبل، فانصرفت الفتاة وخلا الصديقان، ولم يكد تييري ينبئ صاحبه كارها متكلفا بأنه قد دبر الأمر عند لورنس، وأن لورنس قد قبلت عذره ورأت أن تسافر أياما تجنبا لكل مضايقة، لم يكد ينبئه بهذا حتى سمع منه عجبا. سمع منه أنه لا يحفل بلورنس ولا يريد أن يراها؛ لأنه لقي هنرييت فتجدد حبه لها وشق عليه فراقها، وأنفق الليل كله في إقناعها بأنه لم يخنها وبأنه لم يحب لورنس ولم يزد على أن أكثر معها الحديث، وقد اقتنعت هنرييت ثم شكت، ثم اقتنعت، ولكنها ستعود قطعا إلى الشك. ومن أجل ذلك يعتمد الفتى على صديقه في أن يمحو من نفسها كل ريب، ويرد إليها الثقة والاطمئنان.
والصديق سعيد بما يسمع؛ فهو يبرئه من الخيانة. وأي بأس عليه من أن يحب لورنس، وقد انصرفت عنها نفس صاحبه، وأي بأس عليه من أن يقنع هنرييت بأن الفتى لم يخنها؛ فذلك يرد هذين العاشقين إلى عشقهما، ويخلي له وجه صاحبته. فهو إذن يقبل هذه المهمة الثانية، وينصرف عنه الفتى بعد أن ينبئه بأن هنرييت قادمة للقائه وبأنه هو سيلقاه بعد الغداء.
وما هي إلا لحظات ينعم فيها الرجل براحة الضمير وهدوء البال، حتى تدخل عليه هنرييت، فإذا امرأة في الثالثة والعشرين من عمرها جميلة ضعيفة محزونة كثيرة البكاء، لا يكاد الرجل يراها حتى يرفق بها، ويخلص في النصح لها، وفي تشجيعها وتبرئة صديقها من الخيانة، ولكن حديثه لا يخلو من نبرات فيها حنان وعطف وشيء قد لا نستطيع أن نسميه الإغراء، ولكنه ليس بعيدا من الإغراء.
وقد أخذت المرأة تتأثر بهذا العطف وترق لهذا الحنان، وتسحر بهذا الصوت، وإذا هي تدنو منه، وتستدنيه، وهو يحس بهذا الخطر فيبعد عنها ويتكلف الجد، ولكن بعد أن فات وقت الجد. فقد دنت منه المرأة وأخذت في استعطافه، وهو قريب العطف، وما هي إلا أن تلح عليه في قبلة وداع، فإذا منحها القبلة الأولى أخذه الشرك وألقي الستار من دونهما وهي تقول: لن أفارقك؛ لأني لا أحب إلا إياك.
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن في قصر تيبو بعد الظهر من اليوم نفسه نرى تييري يتحدث إلى الفتاة «أليس» يسألها عن صديقه أين هو، فتنبئه بأنه خرج يلتمسه، وكان شديد الاضطراب كأن أمرا ذا بال يعنيه، فينبئها هو بأنه سيغيب لحظة ليسعى إلى أخيه الذي سيقبل من سفر بعيد ثم يعود بعد ذلك، ولا يكاد يخرج حتى يقبل تيبو ثائر النفس بادي الاضطراب يسأل عن صديقه، فتنبئه الفتاة بأنه سيعود بعد قليل، ولكنه لا يملك نفسه من أن يتحدث إلى الفتاة ببعض اضطرابه، وإذا الفتاة تقص عليه من أمره كل شيء قد علمت ذلك من نفسها، وفهمته من أحاديث الناس، وهي تزدري الفتى وتزدري حبه، وتحزن على هذا الشباب الضائع الذي يسرف فيه صاحبه بغير حساب، وعلى هذه العواطف المبتذلة التي تنحط لها نفوس كان ينبغي أن ترتفع، وتنبئ الفتى أن صاحبته هنرييت لم تكن تحبه حين أظهرت ما أظهرت من الغيرة، وإنما كانت تريد أن تنتقم لما أحست من الخيانة، فإذا سألها الفتى: وما أنت وهذا وما علمك بهذه الأشياء وهل أحببت قط؟ أنبأته بأنها قد أحبت، ولكنها لم تجد صاحبها أهلا لحبها، فأعرضت عن هذا الحب وأخذت نفسها بحياة العزوبة، وأنبأته بأنها تعاف هذه الحياة التي تحياها وبأنها مسافرة مع المساء لتعيش مع أختها وتعنى بابنيها الصبيين، فإذا سألها عمن أحبت أنبأته بأنها أحبته هو، ثم عافته لما رأت من سيرته، ولولا ذلك لما أنبأته بهذا الحب.
ولا يكاد الفتى يسمع بهذا النبأ حتى يفتنه ويسحره، وإذا هو يتلطف للفتاة ويعلن إليها حبه، فتعرض عنه وتفر منه، ويهم أن يتبعها، لولا أن صديقه قد أقبل ومعه أخوه، فلا يلقاهما إلا ريثما يستأذن منهما لحظة ويمضي في أثر الفتاة. ويخلو الأخوان فيتحدثان عن اضطراب الفتى وعما كان من سوء حظه مع صاحبتيه، وعن ندم الصديق الخائن، وعما ينبغي أو لا ينبغي أن ينبئ به صديقه من الأمر، ولكن الفتى قد عاد، وخلا إلى صديقه، ولم يكد صديقه يحدثه عن هنرييت حتى يرده عن الحديث ردا ويعلن إليه أنه يحب أليس، وأن أليس أحبته. ومن يدري لعلها ما زالت تحبه ولكنها لا تريد أن تعترف بهذا الحب. وهو يعتمد على صديقه في إقناعها ... ولكن الصديق يثور هذه المرة ويأبى أن ينهض بهذه المهمة، وهو يلح في الإباء وصديقه الفتى يلح عليه في الرجاء، ثم ينبئه فجأة بأنه قد أنبأ أليس بتوسطه عندها، ثم ينهض فيدعو أليس وينصرف.
والرجل ضيق النفس مضطرب الضمير، كاره لهذه المهمة مشفق من خيانة ثالثة، ولكن الفتاة قد أقبلت فلم يكد يتحدث إليها حتى أحس أنه يتحدث إلى امرأة ليست من جنس النساء اللاتي عرفهن من قبل. يتحدث إلى امرأة لا تحب عن عاطفة، ولا عن شهوة، ولا عن هوى، وإنما تحب بقلبها كله، وبعقلها كله، تحب عن علم بالحياة والأحياء، وعن بصيرة بما تأتي وما تدع، لا ترى في الحب لذة سريعة عارضة، وإنما ترى في الحب ثقة وأمنا وسعادة ومتاعا متصلا.
وإذا هو يحاول أن يغري الفتاة بنفسه، وقد كان يخاف أن تتهالك عليه الفتاة، وإذا هو يرى الفتاة ترده عن نفسها ردا، رفيقا ولكنه حازم، وإذا هو ينهض معتذرا معترفا بضعفه، وفساد سيرته وسوء مستقبله في كل ما يمس السعادة الراقية النقية مستعطفا على صديقه محسنا الدفاع عنه، منتهيا آخر الأمر إلى حمل الفتاة على شيء إن لم يكن هو الرضى فهو قريب من الرضى. وإذا هو يفتح هذا الباب المغلق ويدعو صديقه، فإذا أقبل تلقاه بهذه الجملة: لقد كانت تريد أن تفرغ لابني أختها الصبيين، ولكنها قبلت أن تفرغ لك. فيدنو الفتى منها هائما، ولكنها ترده عن نفسها في رفق وتجلس مفكرة قد أخفت وجهها بين يديها، والفتى يهمس في أذن صديقه: ستعنى أنت بأمر هنرييت. فيجيبه الصديق: ليس من ذلك بد.
مدرسة أبناء الخمسين
أما قصة اليوم فسيرة ضئيلة لا تحتمل نقدا ولا تحليلا، ولا تحتاج من القارئ إلى روية أو تفكير، إنما هي حديث سهل عذب فيه فكاهة حلوة، وفيه حزن شاحب مر، ولكن مرارته لا تبلغ الألم الممض، وإنما تحمل بعض الناس على أن يلتفتوا إلى ما مضى من أيامهم، ثم ينظروا إلى ما يستقبلون من هذه الأيام، وقد أحسوا أسفا خفيفا ولكنه مقيم، فيه إذعان لما لا بد من الإذعان له من هذا السلطان الصارم الحازم؛ سلطان القضاء.
ولم ينظم الشاعر قصته هذه الصغيرة ليعظ ولا يهدي، ولا ليكون صاحب فلسفة وأخلاق، ولا ليقصد إلى شيء من هذه المقاصد التي يتوخاها أصحاب التمثيل حين يريدون الوعظ والإرشاد أو التصوير وتسجيل الحقائق. وإنما قصد إلى دعابة مريحة يتخفف بها من أثقال الحياة ويتيح لغيره من النظارة أن يتخففوا بها من أثقال الحياة ساعة من ليل أو ساعة من نهار. ومن أجمل ما يدخر الأدب للناس أنه يستطيع أن يكون مريحا مسليا، لا يشق عليهم ولا يكلفهم جهدا، ولكنه يمنحهم لذة هادئة لا تكاد تشغلهم عن أنفسهم، ولكنها مع ذلك تصرفهم عن همومهم وتنسيهم أحزانهم بعض الشيء.
وهذه القصة فصل من فصول هذا الأدب الهادئ المريح. والفرنسيون يحسنون هذا الفن من فنون الأدب ويتصرفون فيه تصرفا خصبا كثير التنوع في التمثيل وغير التمثيل من القصص القصيرة، ومن هذه المقطوعات الشعرية التي تمتعك وتسليك دون أن تكلفك مشقة أو جهدا. وقد حدثتك منذ حين عن كاتب فرنسي عظيم خالد برع في هذا النحو من التمثيل المريح، هو كورتلين، والكاتب الذي أحدثك عنه اليوم والذي حدثتك عنه في الأسبوع الماضي هو نظير كورتلين وشريكه في هذا النحو من الأدب. ولست أكره أن ألم بهؤلاء الكتاب بين حين وحين ، فقد يحسن التنويع في هذه الأحاديث، وقد يحسن بنوع خاص أن نفتح لشبابنا أبوابا متفرقة من الأدب لعلهم أن يدخلوا من بعضها في يوم من الأيام.
ونحن حين يرفع الستار عن هذا الفصل الفذ في بهو فندق من الفنادق الكبرى مشرف على البحر، أو على المحيط في مدينة من مدن البحر أو مدن المحيط. ونحن نرى القادمين يصلون إلى الفندق ويطلبون إلى الخادم ما يحتاجون إليه؛ هذا يطلب الثقاب، وهذا يطلب لفافات التبغ، وهذا يطلب الدواة والقرطاس، والخادم مسرع يجيبهم إلى ما يريدون في رشاقة وخفة ونشاط. ولكننا نرى أخوين قد تقدمت بهما السن، أحدهما رجل هو جاك وقد نيف على الخمسين، والأخرى امرأة هي كرستين، وقد تجاوزت طور الشباب. وفي الرجل بقية من نشاط ومرح، وعلى أخته مسحة من جد وتحرج. وقد أرادت الأخت أن تخلو إلى أخيها، فلما بلغت من ذلك ما تريد قالت له لائمة: لقد رآك من رآك في الغابة أمس. فيقول مداعبا: نعم، إني أفر إليها من هواء الساحل أحيانا. فتقول الأخت: ولكنك كنت سعيدا ولم تكن وحيدا، وإنما كانت معك هذه الفتاة التي كنت تأخذ بيدها. فيجيبها ماضيا في الدعابة: لعلي لقيتها في بعض الطريق. فتقول: منذ ثلاثة أعوام؟ فيجيب: بل منذ عامين.
وهنا تمضي أخته في لومه لأن هذا العبث لا يليق بسنه ولا بمكانه في المدينة. أما هو فلا يرى بذلك بأسا لأنه لم يبلغ الشيخوخة بعد، ولكنه في طريقه إليها ومن حقه أن يلهو ما دام قادرا على اللهو. فإذا زعمت له أخته أنه لا يليق أن يلقى هذه الفتاة ولا مصادفة، قال لها مداعبا: إذن فينبغي أن تنصرفي لأنها ستأتي بعد حين.
وقد انصرفت أخته مغضبة وخلا هو إلى نفسه، فهو يتحدث إليها في صوت عال لأنه يريد أن تسمعه، وهو يتحدث عن أخته التي يحبها ولكنه يضيق بها؛ يحبها لأنها أخته ولأنها طيبة القلب، ولأنها تحسن تدبير البيت وتهيئة المائدة، وتكفل له حياة مريحة يملؤها النعيم، ويضيق بها لأنها تراقبه وتثقل عليه وتدخل فيما لا يعنيها من أمره. ثم هو يحدثنا عن نفسه، فهو في السادسة والخمسين من عمره لم يشخ قلبه بعد، ولم يفتر جسمه عن المرح واللهو، ولكن آيات ظاهرة تدل الناس على سنه وتحملهم على أن يراقبوا ويسخروا منه ويلوموه إن تجاوز الوقار. وقد ماتت امرأته وتزوجت ابنته، وهو غني لا عمل له، وإذن فماذا يصنع بالحياة، وبم يستعين على الحياة؟ بشيء من اللهو. وهو يلهو، ولكن الناس ينغصون عليه لهوه بهذا اللوم الذي يلقونه به حينا، ويسرونه من دونه حينا آخر. وهو يحدثنا عن صاحبته، فهي فتاة في العشرين من عمرها جميلة رائعة الجمال ذكية حادة الذكاء، قد اختلفت إلى المدرسة، ثم إلى معهد التمثيل، وهي متقنة للتاريخ، وهي من هذه الطبقات الذكية القوية الفقيرة، التي تنبت في أحياء الفقراء من باريس. وهو يحدثنا بهذا كله في شعر سهل حلو، لا يتكلف له لفظا مختارا، وإنما يرسل لسانه على سجيته فيأتي باللفظ المنتقى وباللفظ المبتذل الشائع، وفي صوته حنان حزين كأنه يتغنى غناء هادئا مريحا. ثم هو ينهض إلى النافذة فينظر إلى البحر ويطيل النظر. ثم هو يلاحظ أن صاحبته قد أبطأت عليه، وأن سنها تبيح لها التأخر عما تضرب من المواعيد، وأن سنه تفرض عليه الانتظار والانتظار دائما. ولكن صاحبته كلارا قد أقبلت، فهو يلقاها باسما، وهو يدعوها إليه في لفظ ظريف رقيق تملؤه الدعابة ذات المعنى، فهو يذكر لها أن قلبها وفي دقيق في الوفاء، ولكن ساعتها لا تأمن الاضطراب والاختلاط.
فإذا سألته الفتاة عما يصنع؛ أنبأها في شعر جميل بأنه ينظر إلى نفسه في مرآة البحر، ثم مضى يصف البحر وصفا ظريفا حقا، ويشبهه ألوانا من التشبيه؛ منها الرائع، ومنها الذي يضحك أو يثير الابتسام. وانظر إليه يشبه انتظام المد والجزر بانتظام الموظفين حين يذهبون إلى الوزارات وينصرفون عنها.
وهو يمضي في هذا الشعر، ولكن الفتاة معرضة عنه لا تسمع له، فإذا سألها عن رأيها فيما يقول طلبت إليه في سخرية أن ينبئها إذا فرغ من حديثه؛ فإن لديها شيئا ذا بال تريد أن تعرضه عليه، وهو يستمهلها لحظة لأنه مفتون بهذا الموقف الشعري، يرى جمال البحر الرائع أمامه، ويرى جمال صاحبته إلى جانبه، ويرى نفسه تواقة إلى أن تمتلئ بهذين الفنين من فنون الجمال، ثم يفرغ للفتاة بعد حين، وإذا هي تنبئه بأن ابنته قد أقبلت إلى المدينة، وبأنها هي تخشى الفضيحة وحديث الناس، وتريد أن تسافر مع الظهر. وهي تقدر شعور الأسرة وما يفرضه هذا الشعور على صاحبها من التزام الحشمة والاحتفاظ بالوقار، وهي لا تحب لصاحبها أن يعق أسرته، أو يزدري الواجب أو يخرج على التقاليد. ولكنه هو ثائر لا يقبل أن تكلفه الأسرة وتقاليدها ما لا يحب، وهو مصر على أن يحتفظ بحب الفتاة ولقائها جهرة في هذه المدينة إن أقامت، وفي غير هذه المدينة إن سافرت.
وهو سيدعو ابنته وسيعلن إليها ما صمم عليه لا يقبل في ذلك حوارا ولا جدالا، وهو يضرع إلى الفتاة في ألا تهجره، ولا تنصرف عنه، ولا تتركه نهبا للوحدة القاسية. وقد انصرف عنها لحظة فإذا الفتاة آسفة لأنها لم تبلغ ما كانت تريد. كانت تريد أن تقطع ما بينها وبين هذا الرجل من سبب، ولكنه أثار في نفسها الرحمة؛ فرقت له، وبقيت معه، وعجزت عن إيذائه. وهذا فتى شاب قد أقبل عليها، فلما رأته طلبت إليه أن يعود أدراجه، فليس له في حبها أمل، وهذا الفتى يحبها ويعجبها، وهي تميل إليه، بل تفتن به. ولكن ماذا تصنع؟ وقلبها رحيم رقيق لا يريد أن يؤذي هذا الشيخ، والفتى يلمح لها بالزواج فلا تحفل بتلميح ولا بتصريح؛ لأن لها قلبا قد يحب الشباب، ولكنه يرحم الشيوخ. وهذا الشيخ يقبل فينصرف الفتى، ولكن الشيخ قد رابه مكان هذا الشاب، فهو يسأل عنه الفتاة في خوف، والفتاة ترده إلى الأمن في حزم؛ لأنها تريد أن يصدر وفاؤها عن اختيار، لا عن مراقبة، ولا عن قهر. ويطمئن الشيخ إلى هذا الحزم، ويمضي الحديث بينه وبين صاحبته في الحب، والأسرة، يتكلف الشيخ الشجاعة والجرأة والقوة، وتضحك منه الفتاة في شيء من العطف وتنصح له بألا يتخذ لغة الأبطال حين يتحدث عما سيكون بينه وبين ابنته من حوار. وهذا الخادم قد أقبل ينبئ الشيخ بمقدم ابنته، فتنصرف عنه الفتاة، وقد أوصته بالشجاعة والجلد، وهذه ابنته قد أقبلت عليه، فقبلته وقبلها، ثم أخذ يتحدث إليها عن أمره في لهجة الحازم المصمم الذي لا يقبل مراجعة ولا جدالا. وكلما همت ابنته أن تتحدث اضطرها إلى الصمت، ومضى في حديثه، حتى إذا استطاعت ابنته أن تقول شيئا أعلنت إليه أنها تشجعه وتؤيده وتعجب به كل الإعجاب. هنا يدهش الشيخ لأنه لم يكن ينتظر من ابنته كل هذا، بل هو كان ينتظر منها نقيض هذا.
ولكن ابنته تنبئه بأن حياتها وآراءها قد تغيرت منذ ثلاثة أشهر، فهي ضيقة بأسرة زوجها، وهي ضيقة بزوجها نفسه، وهي ضيقة بهذه الحياة المنظمة المتشابهة المطردة التي لا خروج فيها عن التقاليد ولا تجاوز فيها للمألوف. وهي تواقة إلى الحرية مشوقة إلى الهواء الطلق، وقد أتيح لها منذ حين ما كانت ترغب فيه وتشتاق إليه، فقد عاد من أفريقيا الوسطى صديق لزوجها شاب كان زميلا له في المدرسة، ثم فرقت بينهما الأيام.
عاد من أفريقيا الوسطى عودة الظافر المنتصر الذي جاهد حتى فاز، والذي كون لنفسه في الأخلاق والحياة والتقاليد آراء لا يألفها الناس. وهو حلو الحديث، طريف الأنباء، خصب العقل، واسع القلب، وهو يرى الحرية قوام الحياة ويبيح طلب اللذة والانتهاء إليها حين تشتهيها النفس. وهي لم تقع في شركه بعد، ولكنها تحب حديثه وتمضي معه على أجنحة الخيال إلى آماد لا تحد، وهي تستمد منه الدفاع عن أبيها حين تهاجمه أسرة زوجها، فهو يعلمها أن من القلوب ما لا يبلغه الشيب، وأن اللهو مباح للإنسان ما وسعه اللهو، والشيخ يسمع من ابنته هذا الحديث في هدوء ظاهر، واضطراب خفي، ولكنه عنيف، فإذا فرغت ابنته من حديثها، كان الحق قد استبان للشيخ، وكان قد كون لنفسه رأيا لن ينصرف عنه، فهو لن يمضي في حبه لتلك الفتاة؛ لأن ما يبيح لنفسه من الحرية التي قد لا ينكرها القانون يغري ابنته بحرية آثمة يأباها النظام. هو في لهوه لا يخون أحدا، ولكنه يغري ابنته بخيانة زوجها. هو إذن ليس حرا؛ لأنه لم يخلق وحيدا في الحياة، ولأنه ليس ملكا خالصا لنفسه من دون ابنته، ومن دون أسرته، ومن دون الناس. هو إذن مضطر إلى أن يثوب إلى الرشد الاجتماعي، وإلى أن يضحي بحبه في سبيل ابنته، وفي سبيل النظام الاجتماعي الذي لا يقوى الفرد على إنكاره والخروج عليه. أكانت ابنته صادقة فيما ألقت إليه من حديث؟ أكانت ماكرة به، تريد أن تصور له الغي، وآثاره البشعة وأن ترده إلى الرشد وصراطه المستقيم؟ من يدري؟ ولكن الشيخ أعلن إلى ابنته تضحيته لهذا الحب، وهي تطلب الروية والأناة، فيأبى عليها، ويصرفها عن نفسه، ثم يدعو الفتاة التي كانت تنتظر فينبئها محزونا صادق الحزن بانهزام الحب وانتصار العرف، وتهم الفتاة أن تقاوم مخلصة، ولكنه يأبى عليها الحديث، ويصرفها في حنان، وقد وعدها أن يكتب إليها، وسألها أن تكتب إليه. وهذه أخته التي رأيناها في أول الفصل قد أقبلت تهنئه برجوعه إلى الرشد، وهو يلقاها في غير نشاط ويصرفها في غير عنف، فإذا خلا إلى نفسه تحدث إليها بهذا الشعر الجميل:
إني لأعرف على الساحل نهيرا حكيما، صافي الماء إلى أقصى غايات الصفاء، فإذا نظرت فيه رأيت شابا قد ذوى شبابه وأدركه الذبول، ليس فرحا ولا مبتهجا، ولكنه على ذلك راض مطمئن.
ملهاة السعادة
وأظنك لا تكره أن تلهو بعض الشيء عن حياتنا هذه اليومية التي يستقبلنا صبحها بما يحزن، ويلقانا مساؤها بما يسوء. ولا بأس من أن تقرأ الجهاد هذه المرة، فتجد فيه ما يسليك عن قصة وزير التقاليد مع مدرسة أسيوط، ومتاعها اليسير الذي اشتراه وزعم أنه هدية، والذي أخذه وزعم أنه حمل إليه. فمن الخير أن تألم لهذه المأساة الصغيرة الحقيرة، ولكن من الخير أن تسلو عن هذه المأساة الصغيرة الحقيرة أيضا. وأنا متطوع يا سيدي بأن أسليك وأسلي وزير التقاليد نفسه عما في هذه القصة مما يخجل، ويحزن، ويسوء. وأؤكد لوزير التقاليد أني دفعت إلى قراءة هذه القصة لألتمس فيها التسلية عن قصته، وأني دفعت إلى الحديث عن هذه القصة لأسلي القراء عن قصته، وأن شيئا من العطف عليه والرفق به، فهو خليق بالعطف والرفق، يدعوني إلى أن أسليه هو عما قد تثير هذه القصة في نفسه من ألم وحسرة واستحياء.
وقصتي هذه خليقة أن تسلي وأن تلهي؛ فصاحبها لم يضعها إلا لهذا. أستغفر الله، بل هو وضعها لهذا، ووضعها لما يناقض هذا كل المناقضة. وضعها للتسلية والتلهية، ووضعها كذلك للتأمل والتفكير. ففي القصة عبث مضحك، وفي القصة فلسفة عميقة خالدة، وحسبك أنها تعرض عليك غرور الحياة. والناس جميعا يعرفون غرور الحياة، ويؤمنون به، ولكنهم ينسونه أحيانا حين يملأ هذا الغرور قلوبهم ونفوسهم، فليس عليهم بأس من أن يذكروه، وقد يستكشفونه أحيانا فتضيق به صدورهم وتتأذى له نفوسهم، ولا بأس عليهم من أن يعزوا عن هذا الأذى وذلك الضيق، ومن أن ينبهوا إلى أننا قد خلقنا لنغر وإلى أننا محتاجون إلى هذا الغرور لنتعزى به عن أثقال الحياة ولنستعين به على احتمال هذه الأثقال، ولنستمد منه النشاط الخصب لكل عمل منتج مفيد.
وكاتبنا قد لاحظ هذا كله، وفكر فيه تفكيرا قويا حين وضع قصته هذه الجميلة الرائعة، بل هو قد ذهب - كما سنرى - إلى أبعد من هذا، فود لو عنيت الدولة بتلهية الناس وتسليتهم وشغلهم بالغرور عن أن يطيلوا التفكير في آلام الحياة وأثقالها، فإن ذلك بعض ما يجب على الدولة لدافع الضرائب. وما دامت الدولة تكفل الأمن والعلم والسلم للمواطنين، فقد يكون من الحق عليها أن تكفل لهم اللهو أيضا، وأن تحميهم من اليأس من هذا العدو المنكر الذي يأتيهم من أنفسهم، كما تحميهم من غارة العدو الخارجي الذي يتربص بهم الدوائر ليغير على الوطن، وليقتحم الحدود. وأنا أعلم أن هذا المذهب في السياسة قد لا يرضي وزير التقاليد؛ لأن فيه شيئا من الدعابة، ووزير التقاليد صاحب جد، ولأن فيه شيئا من العبث، ووزير التقاليد لا يحب العبث. أليس قد أغلق معهد التمثيل لأن فيه شيئا من الإسراف في أموال الدولة؟ فأموال الدولة لا تجبى لتنفق في اللهو، ولكنها تجبى لتنفق في تأثيث بيوت الوزراء بما تحتاج إليه وما لا تحتاج إليه من أكواب الشاي وموائد اللعب. ولكن وزير التقاليد يستطيع أن يقبل هذا المذهب السياسي ما دام بعيدا عن الحكم، فأما حين يرقى إلى المنصب ويستقر فيه، فهو يستطيع أن يرفضه رفضا وأن يعرض عنه إعراضا.
ولست أدري ما الذي يغريني بوزير التقاليد اليوم، وما الصلة بين هذا الحديث وبين وزير التقاليد، ولكنها قصة تذكر بقصة، وعبث يدعو إلى التفكير في عبث، فلندع وزير التقاليد - وإن كنا لا نحب أن ندع وزير التقاليد - ولنتحدث عن قصة هذا الكاتب الروسي العظيم.
ولا بد من أن تهيئ نفسك لقصة كثيرة الدوران والتعقيد، محتاجة إلى شيء غير قليل من الصبر والأناة، فأنا سأبذل كل ما أملك من الجهد لتيسيرها، ولكنها رغم ذلك لن تكون يسيرة كهذه القصص التي تعودت أن تسمع حديثي عنها. وحسبك أنها قصة روسية، وأن كاتبها متأثر بالكاتب الإيطالي العظيم بيراندلو أو مؤثر فيه، فالنقاد يختلفون في ذلك اختلافا كثيرا.
نحن على كل حال في غرفة غريبة مظلمة مضيئة في وقت واحد. في غرفة من غرف الأسرار هذه التي تملؤها الألغاز وتجري فيها أمور غير مألوفة. ولا غرابة في ذلك، فنحن في غرفة امرأة عرافة تنبئ بالغيب، تقص ما كان، وتصف ما هو كائن، وتنبئنا بما سيكون.
وبين يدي هذه المرأة العرافة سيدة جميلة غنية ظاهرة الغنى، كثيرة الكلام، منطلقة اللسان، لا تكاد تكف عن السؤال، ولكنها في الوقت نفسه لا تكاد تكف عن الشرح والتفسير، والتعليق على ما تقوله. وهي قد جاءت تسأل العرافة عن أمرها وتستعين بها على أن تهتدي إلى زوجها الذي خانها خيانة غريبة. فهو قد اتخذها له زوجا حين كانت فتاة فقيرة بائسة تعيش عند خالة أو عمة لها وتلقى كثيرا من الألم والحرمان في حياتها. فلما اتخذها له زوجا أتاح لها من النعيم ومنحها من الحب ما حبب إليها الحياة وسلاها عن كل ما وجدت من شقاء.
وقد ضمن لها السعادة عشر سنين، ثم ماتت خالتها أو عمتها وأصبحت هي غنية واسعة الغنى، وإذا زوجها يتركها فجاءة دون أن يعدها لذلك أو ينبهها إليه؛ وهي تبحث عنه، وتلح في البحث، ولكنها لا تهتدي إليه، وإنما تهتدي إلى أنه قد تزوج امرأة أخرى خرساء صماء، فمنحها حظا من سعادة. ثم استخفى، وبحثت عنه الخرساء الصماء، فلم تهتد إليه، ولكنها اهتدت إلى أنه قد تزوج امرأة ثالثة، كانت مومسا، ملحة في الغي، فاستنقذها من الإثم، ومنحها حظا من سعادة وحب، ثم استخفى منها، فلم تقف له على أثر. وصاحبتنا هذه لم تيأس، ولم تكل، فهي ملحة في البحث عنه، قد وكلت به من يلتمسه في كل مكان وفي كل بيئة، وجاءت تسأل عنه العرافة لأنها تحبه أشد الحب، ولا تستطيع أن تسلوه ولا أن تتعزى عن هذه السعادة التي وجدتها في عشرته. وهي لا تكتفي بسؤال العرافة عن أمر نفسها، ولكنها تسأل العرافة أيضا عن أمر كلبها هذا الذي تصطحبه، والعرافة تعبث بها، وترثي لها، وتنبئها من أمر الكلب بما ترضى وما تكره. فإذا خرجت هذه المرأة أقبل على العرافة رجل شيخ ضعيف مريض محزون يستعينها على ابنه الشاب الذي يطلب العلم في الجامعة، والذي أفسدت أزمات الشباب عليه أمره، فهم أن يقتل نفسه، فلما حيل بينه وبين ذلك مرة هم به مرة أخرى. والعرافة تعده بالنظر في ذلك والجد في شفاء ابنه من هذا الداء العضال. ويخرج هذا الرجل وتدخل امرأة جميلة تصطنع الرقص في بعض ملاعب التمثيل، جاءت تستعين بهذه المرأة على زوجها الشاب الذي لا يحبها ولا يحرص على عشرتها، وإنما هو يهملها إهمالا، ويلهو عنها بكل من تعرض له من صاحبات العبث والمجون، والعرافة تعدها وتمنيها وتشجعها وتؤكد لها أنها تعرف زوجها حق المعرفة ولا تشك في أنه ثائب إليها إذا عرفت كيف تثير الغيرة في نفسه، ثم تتنبأ لها بأن حياتها ستتغير إذا كان المساء. فسيعرض عليها في الملعب شيء ذو بال. فإذا خرجت هذه المرأة أقبلت امرأة أخرى متقدمة في السن، ومعها ابنتها وشاب آخر لا نكاد نسمع حديثه حتى نعرف أنه طالب في الجامعة مفتون بعلم العلماء، ساخر من هذه العرافة ومن سخفها، وحتى نعرفه فهو ابن ذلك الشيخ الذي تحدثنا عنه آنفا، وهو الشاب الذي هم أن يقتل نفسه مرات.
أما الفتاة التي تصاحب هذه الشيخة، ففتاة بائسة قبيحة الشكل دميمة الصورة مريضة قد أصابها السل، وهي تأبى أن تستشير الطبيب؛ لأنها يائسة من الحياة أشد اليأس. وهي اليوم تشكو ألما في أسنانها، وقد زعمت لها أمها أن هذه العرافة تشفي من كل داء، فأقبلت تلتمس عندها شفاء مما تجد. وهذه العرافة تنهض وتصطحب الفتاة لحظة ثم تعود، فتطلب إلى الفتى أن ينصرف، وتتحدث إلى الشيخة حديثا نفهم منه أنها قد سلطت على الفتاة النوم المغناطيسي لتعرف سرها ولتتبين مصدر هذا اليأس الذي يملأ قلبها، ويزهدها في الحياة. ثم تدعو الفتاة، فإذا أقبلت سألتها عما تجد، فتعلن الفتاة أنها محزونة يائسة؛ لأنها قبيحة الشكل دميمة الصورة، تتمنى الحب، ولا تجد إليه سبيلا. ومن ذا الذي يحب فتاة مثلها لها هذا الشكل البغيض. ثم توقظ العرافة هذه الفتاة، وإذا هي قد برئت مما كانت تجد من ألم. فإذا انصرفت المرأة وابنها أقبل رجل آخر لا يريد أن يسأل العرافة عن شيء، وإنما يريد أن يلقى طبيبا يقيم في هذا البيت، واسمه الدكتور فريجولي، فلا يكاد يسأل العرافة عن هذا الطبيب حتى تلقي عن نفسها ثوبا وعن رأسها شعرا، وإذا هي من دون ذلك رجل كان مستخفيا قد اتخذ زي المرأة، وهو الدكتور فريجولي نفسه. وصاحبه الذي جاء سائلا عنه ودهش أشد الدهش، لم يكن يقدر أن الطبيب يتخذ زي المرأة ويحترف صناعة العرافة ويعبث بعقول الناس ويأخذ أموالهم، ولكننا نفهم من هذا الحديث أن الطبيب ليس صاحب لهو ولا عبث، وإنما هو رجل قد وقف جهوده على معونة الفقراء والبائسين، وهو يأخذ المال من الأغنياء ولكنه يعين به الفقراء، وهو إنما ضرب لصاحبه هذا الموعد ليتحدث معه في بعض هذا الشأن، وليتم معه اتفاقا غريبا له خطره وقيمته.
فهذا الرجل مدير ملعب من ملاعب التمثيل، وقد أقبل يتم مع الطبيب عقدا يبيح للطبيب أن يأخذ من فرقته بعض الممثلين؛ ليستعين بهم على تمثيل قصة خاصة في ملعب خاص، على نحو غير مألوف. وقد تم الاتفاق بين الرجلين وأمضى العقد ودفع الأجر في حديث ممتع لذيذ.
وقد خرج الرجلان ليذهبا إلى الملعب حيث الممثلون يتهيئون للتمثيل، وحيث يستطيع الطبيب أن يختار من بينهم من يريد.
ويتغير المنظر، فإذا نحن في الملعب نشهد الممثلين وهم يجربون أنفسهم للتمثيل، وهم يعدون قصة معروفة تصور الحياة الرومانية في عصر نيرون. وكم كنت أحب أن ألخص لك هذا الموضع من القصة، فهو طريف حقا؛ لما فيه من تصوير حياة الممثلين إذا خلوا إلى أنفسهم وأخذوا يتهيئون من وراء الستار للتمثيل أمام النظارة. ولكني مضطر إلى أن أهمل هذا القسم البديع من القصة اجتنابا للإطالة، ولما تستتبعه من الشرح والتفسير. ولكننا نتبين بين هؤلاء الممثلين ثلاثة أشخاص ممتازين، فأما أحدهم فشاب جميل وسيم له حظ عظيم من الرشاقة وخفة الروح، وهو يمثل في القصة رجلا رومانيا جميلا خلابا، وهو زوج الراقصة التي أشرنا إليها في أول الحديث. والشخص الثاني هو الراقصة نفسها، وهي فتاة جميلة خلابة تحب الفن وتخلص له. والشخص الثالث رجل خفيف الروح غليظ الجسم محبب إلى النفوس، كان يمثل في القصة الرومانية مضحك نيرون. وقد اختار الطبيب هؤلاء الأشخاص الثلاثة واتفق معهم على قصته الخاصة، وعرض على كل واحد منهم دوره في هذه القصة وأرضاه فيما طلب من أجر. وهذه القصة الخاصة التي يريد الطبيب من هؤلاء الأشخاص أن يمثلوها يسيرة جدا. فهي ستمثل في غير ملعب ، وهي ستمثل بغير قصة مكتوبة. هي قطعة من الحياة اليومية سيمثلها هؤلاء الناس ليعينوا بها قوما بائسين على احتمال البؤس، وينقذوا بها قوما أشقياء مما يجدون من شقاء.
فأنت قد رأيت في أول الفصل هذه الفتاة البائسة اليائسة التي تؤثر الموت؛ لأنها دميمة لا تجد سبيلا إلى الحب، ورأيت هذا الفتى الذي هم أن يقتل نفسه مرتين، ورأيت هذا الشيخ البائس المريض المشفق على ابنه من الموت، فلا بد من أن يتعزى هؤلاء الأشخاص الثلاثة، وعزاؤهم هو قصة هؤلاء الممثلين. فأما الممثل الجميل فيجب أن يتكلف حب الفتاة الدميمة حتى يرد إلى قلبها الأمل وإلى جسمها الصحة. وأما الراقصة الجميلة، فيجب أن تتراءى لهذا الفتى اليائس وتتلطف له وتظهر له حبا وكلفا، حتى ترد إلى نفسه الرجاء والإيمان بالحياة. وأما مضحك نيرون فيجب أن يتكلف صداقة الشيخ المريض حتى يعينه على احتمال مرضه وفقره، ويجب أن ينهض مع ذلك بتلهية القوم جميعا. ومن أجل هذا كله ستصبح الراقصة خادما عند تلك الشيخة، وسيصبح الفتى موظفا في بعض الشركات يستأجر غرفة من الغرفات عند هذه الشيخة أيضا، وسيصبح المضحك طبيبا من أطباء الجيش قد أحيل إلى المعاش. أما الدكتور فريجولي نفسه فسيتغير اسمه مرة أخرى، فيصبح تاجرا لأسطوانات الفنوغراف يسمى شميدت.
ثم يرفع الستار بعد شهر من هذا التدبير، وإذا نحن في الفصل الثاني من فصول هذه القصة نشهد الممثلين وهم يعملون. فأما الفتاة الراقصة فهي خادم تغسل الأرض، وقد وقف الفتى الذي كان بائسا منها غير بعيد ينظر إليها، وينظر في كتاب من كتب الفقه الروماني يتحدث إليها ويتكلف القراءة في الكتاب، والفتاة رفيقة به مغرية له شفيقة عليه، وهو من غير شك مشغوف بها، يحبها أشد الحب، ويريد أن يعرب لها عن ذلك، ولكنه لا يجد الجرأة على هذا الإعراب. وأما الفتاة التي كانت مريضة يائسة منذ شهر، فقد عاد إليها شيء من الصحة، وكثير من النشاط، وأخذت تحب الحياة وتتزين لها، فأصلحت من زيها ومن شكلها؛ لأنها أخذت تحس أن الممثل الجميل يظهر ميلا إليها، وعناية بها. ولم لا؟ إنه يتعلم عليها الكتابة على الآلة الكاتبة. وانظر إليه وقد أقبل يتلقى درسه فإذا هو يداعب الفتاة ويلاطفها، ثم ينتهي به الأمر إلى أن يعلن إليها حبه، وإذا الفتاة قد ردت إليها الحياة، وانفتحت لها أبواب الأمل على مصاريعها، وهي مجنونة أو كالمجنونة مرحا وفرحا، تضحك وتبكي في وقت واحد.
وأما الشيخ الذي كان مريضا منذ شهر مشفقا على ابنه متألما لفقره، فقد عاد إليه شيء من صحة ونشاط أيضا، أليس المضحك قد أصبح له رفيقا يذهب معه إلى الكنيسة ويلعب معه الشطرنج، ويسليه ويسلي غيره من أهل البيت عن آلام الحياة؟ كلهم راض وكلهم مبتهج، إلا امرأة تقيم في البيت وتعمل في بعض المدارس قد أحبت العلم، وآمنت به، واستسلمت له، فجفف عقلها تجفيفا، وملأ قلبها قسوة وجدا، فهي تنكر ما ترى، وتأنف من هذا العبث الذي تراه بين هؤلاء الناس، ومن هذا الحب الآثم الذي تحس نشأته بين هؤلاء الشبان. وإن كانت هي في حقيقة الأمر تكذب نفسها بعض الشيء؛ فهي تحب هذا المضحك وتخفي هذا الحب، حتى على نفسها. وهي تتكلف المرض لتستشير هذا المضحك الذي ينتحل الطب، والمضحك لا يكره هذا الحب لأنه ينتظر من ورائه مالا.
وقد جاء وقت الغداء واجتمع القوم إلى طعامهم وهم يعبثون ويمضون في تمثيلهم هذا على أحسن وجه، لا يحس أحد أن في الأمر مكرا مدبرا، إلا أن الممثلين أنفسهم يعرفون ما يأتون، ويجدون في إتقان التمثيل. وهذه المعلمة تنكر تكلف ذلك العبث، كما تنكر تكلف الأدب، وكما تنكر التكلف كله. وهنا يصطدم الجد والهزل ويصطدم الصدق والكذب، وتصطدم الصراحة والمصانعة، وتتبين الحقيقة واضحة جلية مؤلمة؛ لأننا لا نريد أن نعترف بها. فهذه المعلمة تريد أن يعود الناس إلى طبيعتهم، وأن يطرحوا التكلف والرياء، وهؤلاء الناس يبينون لها أن التكلف والرياء أصل من أصول الحياة المنظمة وأساس من أسس الحضارة التي لا تستقيم بدونها، فإذا أنكرت عليهم ذلك أظهروا الرجوع إلى الطبيعة، فملئوا قلبها خوفا ورعبا واضطروها إلى الفرار. أما هذا فيأكل بملء يديه، وأما هذا فيتجشأ في غير احتياط، وأما هذا فيتجرد من ثيابه، والمعلمة ترى فتنكر ثم تفزع ثم تولي منهم فرارا. وإذن فلا حياة بين الجماعات إلا إذا قامت على التكلف، ولا حضارة إلا إذا قامت على الرياء. والخير أن يتخذ الرياء الذي لا بد منه وسيلة إلى السعادة وسببا إلى الأمل والرجاء. •••
ثم يرفع الستار بعد ستة أشهر، وقد أشرفت هذه القصة الغريبة القريبة على آخرها، فلا بد لكل قصة من آخر. وهذا اليوم الذي نحن فيه هو الذي سيشهد انتهاء التمثيل. ولا بد من أن ينتهي التمثيل انتهاء حسنا، والقوم مبتهجون مضطربون يتهيئون لعيد من أعياد الكرنفال سيكون فيه عبث كثير وسيكون فيه تنكر وتغيير للأزياء. وهم يعدون ثياب الكرنفال، كل قد اختار الزي الذي يرضيه والشكل الذي يلائمه، وإنما يعنينا من هذه الأزياء والأشكال زيان اثنان؛ أحدهما هذا الزي الذي اختاروه للمرأة المعلمة، وهو زي يمثل الموت، وهم يقدرون أنها سترفض اتخاذ هذا الزي، بل سترفض اتخاذ أي زي آخر. والثاني زي الدكتور فريجولي، فهو قد اتفق معهم على أنه سيتخذ زي شخص من أشخاص اللهو، ولكنه اتفق سرا مع الممثل الجميل على أنه سيرى في بعض الوقت مقدم راهب من الرهبان؛ ذلك أن هذا الممثل الجميل يشتغل بحرفة أخرى يكتمها، فهو جاسوس، وهو يبحث لأولئك النسوة الثلاث اللاتي أشرت إليهن في أول القصة عن هذا الرجل الذي خدعهن وتزوج بهن جميعا. وقد وعدته العرافة بأن تدله على هذا الرجل، وقد أنبأته بأن هذا الرجل سيشهد العيد معهم اليوم في زي راهب. فما عليه إلا أن يدعو هؤلاء النسوة ليستكشفنه وليظفرن به وليدفعنه إلى موقف القضاء.
ونحن نفهم مما نسمع من أحاديث القوم أن أعضاء الفرقة التمثيلية سيحضرون جميعا متنكرين ليشهدوا هذا العيد، وأهل البيت يعلمون حق العلم أن القصة تنتهي اليوم. فأما الممثل الجميل فقد أنبأ الفتاة التي كانت بائسة بأنه يحبها حقا، ولكنه متزوج وامرأته مريضة فلا بد له من أن يسعى إليها. وأما الراقصة فقد أنبأت الفتى الذي كان بائسا بأنها مضطرة إلى أن تعود إلى أهلها في الريف، وإن كانت تجد في هذه العودة ألما شديدا لأنها تحبه حقا، وقد رضيت الفتاة عن سفر صاحبها، فهي تحبه ولكنها لا تريد أن تدفعه إلى القسوة والإثم. والحب الصادق لا يدفع إلى قسوة ولا إثم، وحسبها أنها ظفرت منه بهذه السعادة التي ردت إليها الأمل والحياة، والفتى راض عن صاحبته، وإن كان يحزنه هذا السفر؛ فهو يحبها ولكنه لا يستطيع أن يفرق بينها وبين أهلها. فالحب الصادق لا يحتمل القسوة ولا الجحود، وحسبه منها أنها أسعدته وردت إليه الأمل والحياة. وهذه المعلمة قد أقبلت وهم يتحدثون إليها عن زيها، فتعلن كما كان مقدرا أنها لن تشترك في هذا العبث، وليس في الأرض قوة تستطيع أن تكرهها على ما لا تريد. ولكن صاحبها المضحك قد تبعها إلى غرفتها وخرج يعلن إلى أصحابه أنها قد رضيت أن تشترك معهم في لهوهم، وقبلت أن تتخذ زي الموت. والحب من غير شك هو الذي استطاع أن يردها إلى قبول ما كانت ترفضه منذ حين.
ولكن انظر هذا الدكتور فريجولي قد خلا لحظة إلى المضحك، وإذا هو يعلم منه أنه قد خدع المعلمة وخيل إليها أنه يهواها فانخدعت له وصدقته، وأنه قد انتهى إلى ما كان يريد، فستمنحه مقدارا ضخما من المال يستعين به على إنشاء ملعب خاص له. ولا يكاد الدكتور يسمع منه هذا حتى ينكره أشد الإنكار، ويشفق على هذه المرأة من هذا الكذب والتضليل، ومن هذا الخداع الذي اتخذ وسيلة إلى الشر. وهو يحاور صاحبه ويريد أن يصرفه عن ذلك فصاحبه يأبى عليه. والخصام بينهما شديد قد انتهى إلى الفرقة، وهذا المضحك يعلن إلى الطبيب أنه سيفضح الأمر كله، وسيعلن أن القصة من أولها إلى آخرها كيد متكلف لا أصل له، فليس هناك حب ولا شيء يشبه الحب، وكل هذه الأسماء، وكل هذه الأعمال قد اخترعت اختراعا ودبرت تدبيرا. ويلح الطبيب على صاحبه ألا يفعل فلا يسمع له، فيدعه وما يريد بعد أن يعلن إليه أن أحدا لن يصدقه ولن يطمئن إلى ما يقول. وهما في هذا الحوار، وإذا باب المعلمة قد فتح ووقفت المعلمة من دونه تسمع لهما دون أن يشعرا بها، ثم يغلق الباب وقد فهمنا نحن ولم يفهما أن المعلمة قد عرفت كل شيء، وعرفت بنوع خاص أن صاحبها قد كان كاذبا فيما زعم لها من حب. وقد افترق الرجلان؛ فأما المضحك فذهب ينبه أهل البيت جميعا إلى أن القصة كلها كيد وخداع، ولكن أحدا لا يسمع له، ولا يحفل به، وإنما هم جميعا يسخرون منه، ومنهم من يتجاوز السخرية إلى البغض وإلى النذير. ويعود الرجل مستيئسا، ولكنه ينظر فيرى شبح الموت، فيتحدث إليه يظن أنه المعلمة، ولكنه ينظر فلا يرى شيئا، فيرتاع لذلك ويستغيث، فإذا أسرع إليه أهل البيت دخلوا معه غرفة المعلمة فوجدوها ميتة. وبينما هم جميعا مرتاعون لما يرون مشغولون به، يقبل النساء الثلاث يلتمسن الراهب فيجدنه، فإذا كشف لهن عن وجهه عرفنه، وهذه زوجته الغنية تعنفه وتريد أن تقوده إلى القضاء، ولكن هذه زوجته التي كانت مومسا فاستنقذها من الإثم تحبه وتدافع عنه، وتقوم دونه وتراه قديسا، وتتحدث إليه بنفس اللهجة التي كانت تتحدث بها الخاطئات إلى المسيح. وزوجه الخرساء الصماء مضطربة بين المرأتين، ثم منتهية إلى الرضى والصفح، والغنية تحس الخذلان من صاحبتيها فتنصرف معهما راضية أو كالراضية. بل راضية، أليست مستعدة لأن تدفع إلى الجاسوس أجره، وإن لم يصنع شيئا؟ وهذا الجاسوس قد أقبل وأراد أن يأخذ الراهب ليقدمه إلى القضاء، ولكن الراهب قد ألقى عن نفسه ثياب الرهبان، فإذا هو يظهر في زيه الذي تم عليه الاتفاق، وإذا هو يعرف نفسه إلى صاحبه، فهو الطبيب، وهو العرافة، وهو الزوج الخائن، وهو الراهب. هو كل هؤلاء الأشخاص، وهو يدفع إلى الجاسوس ما كان ينتظر من أجر. وهذا شخص آخر يقبل راضيا، فالمعلمة لم تمت وإنما همت أن تذوق الموت حين عرفت خيانة صاحبها فردت إلى الحياة. وهؤلاء قوم كثيرون يقبلون متنكرين في أزياء مختلفة، وهم أعضاء الفرقة التمثيلية الذين اختار الطبيب من بينهم أشخاصه الثلاثة الممثلين. فقد تمت القصة ولا بد من أن تعرف لها خاتمة. وهم يتساءلون فيما بينهم عن هذه الخاتمة كيف تكون أو كيف يقدر النظارة أنها ستكون. وهم يقترحون حلولا لهذه العقد، فمن يدري لو استمرت القصة، لعل الراقصة كانت تحب صاحبها البائس حبا صحيحا وترغب في فراق زوجها، ولعل زوجها كان يحب صاحبته حبا صحيحا ويرغب في فراق امرأته. ولكن الطبيب يريد أن يريح جمهور النظارة من هذا التفكير الطويل، وأن يظهر لهم حقيقة الأمر. وحقيقة الأمر سهلة جدا، فكل هؤلاء الذين تراهم على المسرح ممثلون من أولهم إلى آخرهم. الطبيب ممثل، والشيخة ممثلة، والفتاة البائسة والفتى البائس والشيخ المريض والمعلمة؛ كلهم ممثلون، ولكنهم أرادوا أن يمثلوا الحياة وأن يمثلوا التمثيل نفسه، فوفقوا من ذلك إلى ما رأيت. وهم جميعا يعلنون الحق ويعترفون به، وينبئونك أنت وينبؤنني أنا بأنهم لم يكن فيهم خادع ولا مخدوع، وإنما كانوا جميعا خادعين، يخدعونك أنت ويخدعونني أنا، ويخدعون غيرك وغيري من هؤلاء النظارة الذين يملئون دار التمثيل. وهم يريدون أن يعزوك ويعزوني ويعزوا النظارة جميعا عن هذا الخداع، فيفرحون ويمرحون ويرسلون نيران الفرح والمرح. وتنتهي القصة التمثيلية في هذا الابتهاج العام: ممثلون قد أتقنوا التمثيل حتى خدعوك وغروك وهم مبتهجون بهذا الإتقان، ونظارة قد أحسنوا الاستماع، وأحسنوا الانخداع، وأحسنوا التأثر بالتمثيل، وهم مبتهجون لهذه الحقيقة التي تتجلى لهم، بعد أن خفيت عليهم وغرتهم عن أنفسهم غرورا.
أرأيت إلى هذا الفن الطريف في التمثيل؟ فاعلم إذن أن بيراندلو قد أتقنه وبرع فيه ووضع فيه قصصا ثلاثا، هي حديث النظارة والنقاد في هذه الأعوام الأخيرة، وأنا أرجو أن أتحدث إليك عنها أو عن بعضها في يوم من الأيام.
كارل وأنا
للكاتب الألماني ليونارد فرانك
يجب أن تكون قلوب الناس قد صيغت من الصخر أو من الحديد، أو يجب أن تكون ذاكرة الناس أضعف وأوهى من أن تذكر شيئا أو تستبقي شيئا، أو يجب أن تكون شهوات الناس ومنافعهم العاجلة أقوى وأعظم سلطانا على النفوس من أن تحفل بالأهوال أو تتعظ بالخطوب، أو يجب أن يكون الإنسان إنسانا ليقدم اليوم على ما لقي منه أمس الشر كل الشر، وليستأنف غدا ما يجني منه اليوم أخبث الثمر وأمره وأشده إفسادا للحياة.
فهؤلاء الأوروبيون يتحدثون عن الحرب حديث المنتظر لها المتوقع لمقدمها، ومنهم من يهيئ لها تهيئة ويدبرها تدبيرا. ولو قد أقبلت الحرب لرأيتهم ينفرون إليها خفافا ويقدمون عليها سراعا، كأنها لم تعذبهم أثقل العذاب، ولم تبلهم بأعظم المحن التي عرفها الإنسان منذ بضع عشرة سنة. ومع ذلك فهم كانوا وما يزالون يذكرون سيئات الحرب الكبرى ويصورون في آدابهم وفنونهم وعلى ملاعبهم ومسارحهم روعها وهولها وطائفة من آثارها التي تسجل قسوة الناس على الناس، وتسجل عجز الحضارة الحديثة عن أن ترقى بالإنسان إلى مثله الأعلى الذي هو السلم والأمن.
وهذه القصة التي ألخصها لك اليوم في إيجاز صورة من هذه الصور المنكرة التي استحدثتها الحرب الأخيرة، والتي عرضت على الأوروبيين فزعموا أنها أثرت في نفوسهم أعظم تأثير وأبلغه.
1
والنقاد يحدثوننا بأن هذه القصة عرضت في سبعين ملعبا من الملاعب الألمانية في وقت واحد، وبأنها قد عرضت قبل ذلك في السينما، وهي بعد هذا كله قد ترجمت إلى لغات مختلفة ومثلت في ملاعب أجنبية مختلفة، منها ملاعب باريس، وظفرت بإعجاب النظارة في هذه البلاد كلها، واستأثرت بثناء النقاد في هذه البلاد كلها أيضا، وهي مع ذلك لم تعظ أحدا، ولم تصرف عن الحرب أحدا من القادرين على أن يشبوا أو يخمدوا نار الحرب. فلنسلم راضين أو كارهين بأن طبيعة الإنسان أقوى من الحضارة، وبأن منافع الإنسان أقوى من مثله الأعلى، وبأن غرائز الإنسان أقوى من فنه وأدبه. ولننتظر راضين أو كارهين أن تشرق على الإنسان غدا أو بعد غد في هذا القرن أو في القرن الذي يليه، شمس ذلك اليوم الذي يسمع الناس فيه القول فيتبعون أحسنه، ويرى الناس فيه الشر فيجتنبونه، ويرون فيه الخير فيسعون إليه.
أما الآن فلنكتف من إكبار الفن بحبنا له وإعجابنا به والتوسل إلى الله في أن يهيئ له الفوز والاستئثار بالنفوس.
وهذه القصة التي أريد أن ألخصها اليوم تصور طائفة من آثار الحرب لا غلو فيها ولا مبالغة، وإنما هي أمور شهدها الناس في بلاد المحاربين، وسمعوا الحديث عنها وقرءوا ما كان يكتب فيها. ولعلهم رأوا بأنفسهم بعض ما أثارت من هذه الخصومات المنكرة التي لم تمح آثارها بعد. والكاتب متأثر في هذه القصة بكاتبين أجنبيين قد بعد أثرهما في كتاب هذا العصر الذي نعيش فيه؛ أحدهما الكاتب الإيطالي العظيم بيراندلو، والآخر الفيلسوف النمسوي فرود.
ولست أريد أن أطيل عليك في تفصيل الأثر الذي تركه هذان الكاتبان في هذه القصة، وإنما الخير أن يدلك التلخيص نفسه على هذا الأثر دون أن أضيع وقتك ووقتي في الشرح والتعليل. •••
نحن أمام سجن من هذه السجون التي كانت تتخذ في البلاد المحاربة لاعتقال الأسرى، وهذا السجن في روسيا بين أوروبا وآسيا كما يقول الكاتب في بعض أجزاء القصة.
ونحن نشهد في حجرة من حجر هذا السجن أسيرين ألمانيين؛ أحدهما ريشار؛ وهو أكبرهما سنا، والآخر كارل؛ وهو أدناهما إلى الشباب. ونحن نرى ريشار مريضا يألم أشد الألم؛ لأن ساقه تؤذيه، وهي متورمة، وتورمها يزداد من حين إلى حين. وهو يشفق على حياته من هذا المرض، وهو يتمنى أن يعنى به الجراحون قبل أن ينتهي به الداء إلى طور لا ينفع فيه الجراحة. ولكنه لا يدري كيف يسعى إلى ذلك أو يبلغه، فحياة الأسرى لا تسمح بالمرض ولا بذكره ولا بالشكوى منه ولا بالتماس العلاج له، وليس من سبيل إلى إبلاغ أمر هذا المرض إلى الطبيب ولا إلى من هو دون الطبيب. فرقيب هذا السجن رجل منكر خبيث شرير، والشكوى في هذا السجن ذنب يعاقب عليه بالموت. ألم ينفذ حكم الموت في نيف وستين من الأسرى مرة واحدة لأنهم تأخروا قليلا عن الاستجابة لدعاء الليل؟ وهؤلاء الأسرى مع هذا كله لا يتعظون ولا يعتبرون. وهم يشكون من سوء حالهم يكتبون شكواهم في ورقة ويقترعون بينهم على أيهم يعلق هذه الورقة بحيث يراها مدير السجن. وهم يعلمون أن من ستقع عليه القرعة ميت لا محالة إن أخذ وهو يعلق ورقته أو استكشف بعد ذلك. ولكنهم مع ذلك يتمون أمرهم ويجمعون على أن لا بأس بأن يذهب واحد في سبيل الجماعة، وإن كانوا يخافون أن الروسيين ربما أماتوا الجماعة في سبيل واحد.
حياة هؤلاء الأسرى شر كلها، وشر لا يكاد يحتمله الإنسان؛ غذاؤهم رديء، وعيشتهم كلها ألم وأذى، وهم يحتملون راضين أو كارهين، وهم يتعزون عن هذه الآلام التي لا توصف كما يستطيعون. أما هذان الأسيران اللذان نراهما، فليس لهما عزاء إلا المودة والحديث. وأي حديث هو حديث امرأة غائبة، ولكنها على ذلك شاهدة تملأ نفسيهما وتملك قلبيهما وتستأثر بعقليهما استئثارا، وهي «آنا» زوج ريشار. وماذا تريد أن يصنع هذا الأسيران اللذان قضي عليهما بالإسار منذ ثلاثة أعوام، منذ أول الحرب، وأنفقا أكثر هذا الوقت وحيدين يعملان معا في احتفار الخنادق في بعض الفضاء الروسي؟ هما مضطران إلى الحديث، وإلى أن يعيدا الحديث ويبدآه. وفيم يتحدثان؟ أحدهما وحيد في الأرض، كان وحيدا قبل الحرب وهو وحيد بعد الإسار، ليس له إلا صديقه هذا، والآخر وهو ريشار له امرأته التي أحبها أشد الحب، ثم اختطفته الحرب من بين ذراعيها، ولما يطل عهده بها. فهو يتحدث بحبه، وهو يتحدث بشوقه، وهو يتحدث بحرمانه، وهو يقص على صاحبه تفصيل حياته قبل أن يتزوج وبعد أن يتزوج، وهو يقص عليه تفصيل حياة امرأته قبل الزواج وبعد الزواج. وهو يحدثه بدقائق هذا كله وهو يصف له بيته المتواضع في برلين، ويصف له مكان الأشياء في غرفته المتواضعة التي تجمع بين نومه واستقباله وطعامه وكل ما يحتاج إليه الزوجان. وهو ينبئه بمكان هذا الكرسي وبلون هذا الفراش وبوضع هذه المائدة وبهذا الصفير الذي يحدثه الغاز إذا أشعلت النار فيه. وهو يحدثه بكل شيء يمكن أو لا يمكن أن يكون موضوعا للحديث.
وهذا الحديث لا يتصل يوما ولا أياما ولا شهرا ولا أشهرا، وإنما يتصل ثلاثة أعوام كاملة. فأي غرابة في أن يعرف الفتى من أمر صاحبه كل شيء؟ بل أي غرابة في أن تمتزج حياة الفتى بحياة صاحبه، وأن يحس مثل ما يحس، ويجد مثل ما يجد، ويفكر في «آنا» كما يفكر فيها صاحبه، وينتهي إلى حب «آنا» كما يحبها صاحبه؟ ويشتد به هذا الحب حتى ينتهي إلى أقصاه، بل حتى ينتهي إلى ما ينتهي إليه الحب عادة من هذه الغيرة العنيفة من الزوج نفسه، بل ينتهي إلى هذه الجرأة التي لا تتصور إلا في حياة الأسرى الذين استيأسوا من الحرية أو كادوا يستيئسون، والذين طالت بهم العزلة حتى أشرفت بهم على الجنون أو ما يشبه الجنون. كلاهما يتمنى محضر هذه المرأة، وكلاهما يتعلق بهذه الأمنية، وكلاهما يجسم هذه الأمنية تجسيما ثم يمضي بعد ذلك إلى أبعد ما يدفعه إليه الخيال. وهذا الفتى يسأل صديقه الزوج لو أن امرأته حضرت، أفيأذن له في ... ثم يتردد، ثم يلمح، وهذا الزوج لا يضيق أول الأمر بهذا السؤال، ولا يبخل بالإذن على ألا يتكرر، فإن تكرر فمن ورائه الموت.
قلت لك إن العزلة قد انتهت بهما إلى الجنون، ولكنها قد انتهت بالفتى على كل حال إلى طور من هذه الأطوار التي يصورها بيراندلو أقوى تصوير وأروعه. فهو لا يحب «أنا»، ولكنه يراها، وهو يحقق مكانها وما تأتي من الحركات. وهو يتحدث بأنه يراها الآن في شارع من شوارع برلين قائمة تنتظر تحت الأشجار. وهو يرى ثوبها ويفصله ويحقق لونه وصورته. وهو يتحدث إلى صديقه من أمره ومن أمر زوجه بما جهله أو نسيه هذا الصديق. وهو يقص على صديقه حلما رأى فيه «آنا»، وهو يصف له ما رأى في البيت حين زاره، ويصف له وضع الأشياء في هذا البيت كما يعرفها؛ قد انتهى به الحب وانتهى به طول ما سمع وطول ما فكر وطول ما استحضر من الصور، إلى شيء يشبه الكشف الذي يتحدث عنه أصحاب التصوف.
وهما في هذا كله وإذا الرقيب أو المفتش يقبل ساخطا صاخبا يسبق الشر مقدمه، فإذا دخل دخل معه مكر سيئ وحقد لا حد له. وهو يهين هذين الرجلين أبشع الإهانة وينذرهما أقبح النذير؛ فأما الفتى فصابر مالك نفسه، وأما الآخر فمغتاظ محفظ يريد أن يخرج عن طوره ولكنه يكظم غيظه في مشقة. ولا يكاد المفتش ينحني على أحد الأسرة ليتبين نظافته حتى يثب ريشار إلى أداة حادة يريد أن يهوي بها على المفتش ليقتله، ولكن صديقه ينزع الأداة من يده انتزاعا ويرده عما أراد ردا سريعا فيه عنف، فيسقط مغشيا عليه لأن ساقه المريضة قد مست في عنف. ويلتفت المفتش فيرى الفتى قائما وفي يده الأداة الحادة، فيدعو بالحرس ليأخذوه وقد وثق أنه كان يريد قتله، وهو ينذره بالموت وبالعذاب قبل الموت. ولكن الفتى قد استطاع أن يفلت من الحرس وأن يمضي أمامه كالسهم، ونحن نسمع طلق الرصاص ولكن الستار يلقى دون أن نعرف شيئا.
فإذا كان الفصل الثاني، فنحن في برلين بعد سنة كاملة من هذه القصة التي سمعت خلاصتها. ونحن في بيت ريشار نرى زوجه «آنا» تتحدث إلى صديقتها ماري حديثا عاديا أول الأمر؛ حديث البؤس والضنك وما انتهى إليه أمر الألمان من الإعدام بتأثير الحرب، حتى أصبحوا لا يجدون الخبز كلما طلبوا وإنما يوزع عليهم توزيعا؛ توزعه عليهم الحكومة على أن يدفعوا ثمنه. وهذه الفتاة تتحدث عن هذا في غير تكلف ولا شكوى، فهو شيء مألوف. ولكن الحديث لا يلبث أن يأخذ شكلا آخر حادا خطيرا ملؤه الشر والنكر، فأخت هذه الفتاة قد خانت زوجها مضطرة إلى الخيانة: زوجها في ميدان القتال قد طالت غيبته، وعجزت هي عن أن تجد ما تنفق، ثم أتيح لها رجل أعانها وأعان بقية أسرتها على الحياة. وقد عاشت مقاومة نقية حينا، ولكن الضرورة والحاجة الملحة والجوار المتصل في غرفة واحدة إذا كان الليل وإذا كان النهار؛ كل ذلك قد انتهى إلى غايته المحتومة. وهذه المرأة قد أصبحت أما، ولكن زوجها قد أرسل ينبئ بأنه قادم في إجازة عسكرية. وهو قادم اليوم والفتاة خائفة على أختها وعلى نفسها أيضا، ولها في ذلك فلسفة تصور حياة هذه الطبقات الفقيرة البائسة في ذلك الوقت تصويرا دقيقا، فلا بد من أن يعقل الرجال ومن أن يلتمسوا المعاذير لنسائهم البائسات، أو من أن يقبلوا هذه المعاذير على أقل تقدير. ومنهم من يلتمسها، ومنهم من يقبلها، ولكن منهم مع ذلك من لا يستطيع أن يرضى هذه الكوارث أو يطمئن إليها، وإنما تأخذه غيرة تنتهي به إلى أن يقتل نفسه أو إلى أن يقتل غيره. والفتاة تشفق من هذا كله وصديقتها آنا تهدئها جاهدة، وإن كانت فيما بينها وبين نفسها تعذر الرجال؛ فهم يلقون في الميدان ما يلقون من الشر ويحتملون ما يحتملون من الجهد، ومن حقهم إذا عادوا إلى دورهم أن يستمتعوا بحياة نقية هادئة فيها خفض ولين. ولكن النساء البائسات ماذا يصنعن وكيف يعشن وما ذنبهن إذا اضطرتهن الحياة إلى ما لا يحببن ولا يردن؟ على أن هذه الصديقة العاقلة الرشيدة تتمنى أن تنقضي هذه القصة في أقل ما يمكن من الشر. وهي تريد أن تعين تلك المرأة البائسة ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، فهي تطلب إلى ماري أن ترسلها إليها لتقيم معها ساعات، حتى إذا أقبل زوجها لم يلقها وحدها. فلعل محضرها أن يخفف الصدمة بين هذين الزوجين.
وقد خرجت ماري وخلت آنا إلى طعامها تهيئه، ولكنها لم تكد تخلو حتى يطرق الباب. ولا تكاد تأذن حتى يدخل عليها فتى لا تعرفه، ولكنه يدعوها باسمها ويتحدث إليها حديث الزوج المحب. وقد عرفناه نحن، فهو كارل، وقد نجا إذن في هربه وقضى عامه متنقلا من مكان إلى مكان، حتى انتهى إلى برلين وانتهى إلى آنا. وهو يتحدث إليها حديث الزوج الذي يعرف من أمرها كل شيء جملة وتفصيلا، هي تنكر ذلك أشد الإنكار وترتاع له أشد الارتياع وتكاد تفقد له صوابها؛ فهي لا تعرف هذا الرجل ولم تره قط، وهي لا تدري كيف عرف من أمرها ما عرف حين تزوجت وبعد أن تزوجت، وعرف أمرها حين كانت صبية تلعب في فناء الدار، وحين كانت صبية تختلف إلى المدرسة. وهو لا يكتفي بهذا الحديث، ولكنه يزعم لها أنها تحبه الآن، وأنها أحبته دائما، وأنها انتظرته وما زالت تنتظره وقد أقبل لميعاده. وأنت بالطبع تقدر وقع هذه الأحاديث الغريبة المروعة في نفس هذه المرأة الهادئة المطمئنة؛ لما هي فيه من بؤس وحرمان، ولا سيما منذ أنبأتها الحكومة بأن زوجها قد سقط في ميدان الشرف منذ أول الحرب. فهي أرملة منذ أربعة أعوام، تعيش مع الذكرى واليأس من لقاء الزوج. وهذا الرجل قد أقبل عليها فجأة يحدثها كل هذه الأحاديث، ويزعم لها أنها تحبه وأنه يحبها، وأنها كانت تنتظره وأنه لم يخلق إلا لها. وهو لا يزعم في صراحة أنه زوجها ريشار، ولكنه لا ينكر ذلك ولا يأباه، وإنما يلمح به ويشير إليه. ونحن حين نشهد هذا أو نقرؤه نتبين تأثير بيراندلو في الكاتب وفي قصته. ولكن امض معي قليلا فسنتبين تأثير الكاتب الآخر «فرود»؛ ذلك أننا نحس في وضوح واضح أن هذه المرأة قد أخذت تستكشف أنها أحبت هذا الرجل الغريب، وهي تقاوم هذا الحس وتجاهده وتريد أن تخفيه، وهي تعنف هذا الرجل وتزجره، ولكننا نحس مع ذلك في صوتها ونرى في بعض ما يبدو على وجهها أنها تحبه، وأن شيئا خفيا كان مختبئا في أعماق نفسها غير الشاعرة، قد أخذ يظهر شيئا فشيئا؛ وهو هذه الصلة الجنسية أو هذا الميل أو هذه الجاذبية الجنسية التي لا نشعر بها والتي تسيطر على ما نعمل وعلى ما نقول، والتي يتخذها «فرود» موضوعا لبحثه وفلسفته.
هذه المرأة تحب هذا الرجل، وتحاول أن تنكر هذا الحب وأن تخفيه، ولكن الحياة الممتعة ستكرهها على التسليم والإذعان لهذا الحب الخفي الذي لا سبيل إلى إنكاره ولا إلى الإفلات من سلطانه العظيم. وهذه امرأة تقبل ومعها طفل ترضعه، هي التي تحدثنا عنها آنفا، ولا تكاد تدخل ويستقر بها المقام حتى يقبل زوجها فرحا مسرورا؛ لأنه سيقضي أسبوعا مع امرأته. على أنه لا يكاد يراها ويرى معها هذا الطفل وتنبئه باسم أبيه، حتى يعود أدراجه صامتا لا يقول شيئا، متوجها نحو المحطة ليأخذ القطار وليعود إلى الميدان. لقد يئس من إجازته ومن حبه ومن حياته، فعاد إلى حيث الموت يسعى إلى الناس ويسعى الناس إليه.
وهذا المشهد المريع خليق أن ينبه «آنا» إلى الخطر الذي تتعرض له إن أطاعت هذا الحب الخفي أو استسلمت لهذا الرجل. وهي تقاوم لأنها شعرت بهذا الخطر، ولأنها امرأة شريفة نقية لم تفقد صوابها بعد. ولكن انظر هذه صديقتها ماري قد أقبلت، ولا تكاد ترى هذا الرجل حتى يتحدث إليها حديث من يعرفها ويعرف حياتها معرفة دقيقة، فتنكر ذلك وتسأل هذا الرجل من هو فلا يجيبها، فتسأل صديقتها عن هذا الرجل، من هو؟ فتنبئها بأنه ريشار، فإذا أنكرت الفتاة ذلك لأنها تعرف ريشار ولأنها تعرف أنه قد قتل في أول الحرب، زعمت لها صاحبتها أنه ريشار وأنه لم يقتل وأنه قد عاد. والفتاة تلح في الإنكار وترمي الرجل بأنه كاذب خادع، ولكن آنا تدافع عنه وتزعم أن لا كذب مع الاقتناع. وقد فهمت الفتاة أن صديقتها تحب هذا الرجل، فقبلت ذلك وانصرفت محزونة يائسة راثية لهذا الزوج البائس، ولكنها عاذرة صديقتها في الوقت نفسه. ولا تكاد (آنا) تخلو إلى كارل حتى تستأنف مقاومتها له وامتناعها عليه، ولكن ماذا تجدي المقاومة وماذا يفيد الامتناع بعد هذا الإذعان الذي ظهر آنفا، وبعد هذا الاعتراف الذي أعلنته منذ حين إلى صديقتها الفتاة. إنها مذعنة آخر الأمر، مذعنة في شيء من الحزن والرثاء لزوجها، قد ضعفت واستسلمت وأخذت دموعها تنهمل، ولكن كارل قد نهض إليها فالتزمها، ولذا هي تستسلم له وتمنحه من حبها ما يريد.
فإذا كان الفصل الثالث، فقد مضت أشهر خمسة على هذه القصة التي يصورها الفصل الثاني، وقد انقضت الحرب منذ وقت قصير ، وقد أخذ الجنود يعودون إلى أوطانهم، وقد انقضت الحرب في ميدان القتال، ولكنها استؤنفت في الدور بين الرجال والنساء؛ بين هؤلاء الذين كانوا يؤدون واجبهم الوطني وهؤلاء النساء اللاتي عجزن عن مقاومة الشر والامتناع على الإثم؛ إما لأنهن عجزن عن النهوض بأثقال الحياة، وإما لأنهن عجزن عن مقاومة الطبائع الإنسانية التي لا تذعن للخلق والدين والقانون إلا كارهة وبشرط أن تعينها الظروف على هذا الإذعان.
هذا الزوج يعود فإذا امرأته قد خانته، فهو يقتلها أو يقتل خليلها أو يقتل نفسه، أو لا ينتهي إلى القتل ولكنه يعذب نفسه أو يعذب امرأته أو يعذب نفسه وامرأته جميعا. وهذا الزوج قد يذعن لما لا بد من الإذعان له؛ فيعيش على مضض. وهذا الزوج قد يكون أيسر طبيعة وأهدأ مزاجا، فيقبل ما لا يقبل ويطمئن إلى ما لا يطمئن الناس إليه. وصاحبتنا آنا سعيدة من غير شك، قد استكشفت أنها تحب صاحبها كارل حبا خاصا لم تحسه لزوجها، بل لم تحس لزوجها حبا يشبهه أو يقاربه. وهي حامل، وهي مبتهجة بهذا الحمل الذي لم يتح لها مع زوجها؛ لأنها لم تكن تجد من حب زوجها مثل ما كانت تجد من حب هذا الفتى. وليست الحياة في برلين ناعمة، وإن كانت الحرب قد انقضت؛ فالبؤس شديد، والفقر ملح، وحاجات الناس على اختلافها عسيرة ليس إلى إرضائها من سبيل.
انظر إلى هؤلاء النساء دهشات أشد الدهش؛ لأن إحداهن رأت برتقالة تعرض في بعض الحوانيت. هذا عجيب، هذا خيال، هذا حلم من غير شك. برتقالة تعرض في الأسواق؟ لعلها مصنوعة. كلا، هي برتقالة حقا ولكنها معروضة لترى لا لتباع.
آنا إذن سعيدة، ولكنا نرى صاحبها كارل شقيا بائسا قلقا أشد القلق مشفقا أشد الإشفاق؛ فقد عاد إلى بيته وامرأته غائبة في بعض شأنها، فوجد كتابا فضه وقرأه، فليته لم يقرأ، فالكتاب من ريشار وهو ينبئ بنجاته وبمقدمه.
والفتى قلق خائف من غير شك. هو لا يخاف من ريشار، ولكنه يخاف من آنا. فستعلن الحرب بينه وبين الزوج، وستكون آنا موضوع هذه الحرب، فمن تختار وإلى من تميل؟ وهذه آنا قد أقبلت فرحة مبتهجة مستبشرة بالحياة، وهو يلقاها محبا لها، عطوفا عليها، مشفقا أن يؤذيها الجهد. ولكنه يتحدث إليها بأمر الكتاب فلا تظهر الاحتفال به أول الأمر، فإذا ألح عليها أدركها ضميرها ففرغت وسمعت منه. وكان في نفسها هذا الصراع العنيف بين الوفاء الذي يفرضه عليها حبها القديم وصدق زوجها في هذا الحب، ويفرضه عليها الدين والقانون، وبين الحب؛ هذا الحب الذي كان خفيا فظهر، وهذا الصراع عنيف ولكنه قصير. فهي لا تستطيع أن تعيش إلا مع صاحبها كارل. وكيف تستطيع الحياة مع غيره وهو أبو هذا الجنين الذي يضطرب في أحشائها؟ ثم هي تحبه مهما تكن الظروف ومهما ترد أوضاع الحياة. هي تحبه وهي عاجزة كل العجز عن أن تخلص من هذا الحب. وهي راضية بما فرض القضاء، فستلقى زوجها وستنبئه بكل شيء. فإن شاء أرسلها فعاشت سعيدة، وإن شاء قتلها فأدت ثمن السعادة التي استمتعت بها في هذه الأشهر الخمسة الماضية. وهي قد اطمأنت إلى هذا واستأنفت حركتها في البيت، وهي تهيئ المائدة، وتهيئها اليوم على خير حال؛ تضع عليها غطاء أبيض ناصعا وتضع عليها بعض الزهر. تريد أن يكون عشاؤها مع صاحبها فرحا مبتهجا. فمن يدري؟ وقد انصرف الفتى لبعض شأنه وصعدت هي عند صديقتها لحظة، ولكن ماذا؟ هذا الباب يطرق ثم يفتح ثم يدخل ريشار، رثا، سيئ الحال، قذرا، عظيم اللحية، كأنه متوحش قد أقبل من بعض الغابات. ولكنه مبتهج سعيد شديد الرضى، كثير الاستبشار. ولم لا؟ أليس في بيته الذي طالما ذكره وذكره وحن إليه؟ فقد بلغه الآن، وهو يراه ويستمتع بالحياة فيه، وسيرى امرأته بعد حين.
وهو يراها في الفصل الرابع، فلا تسل عن ابتهاجه ولا تسل عن وجومها، فهو يتحدث ويتحدث ويتحدث في غير انقطاع. يريد أن يقبلها فتنفر منه، فيعلل ذلك بلحيته العظيمة وبما عليه من آثار السفر الطويل. وهو يتحدث معربا عما يملأ قلبه من بهجة وغبطة، ولكن امرأته قد أفلتت منه إفلاتا وانصرفت مدبرة. فلا يشق عليه ذلك، وإنما يفسره بالدهش وطول أمد الفراق ويجلس مطمئنا. ثم يخرج من متاعه شيئا ضئيلا يضعه على المائدة. وهو في ذلك وإذا كارل يقبل، فلا يكاد يراه حتى يبتهج لمقدمه، ولكنه لا يرى شرا ولا ريبة، وإنما يرحب بصديقه ويذكر أيام الأسر، ويذكر ذلك اليوم الذي افترقا فيه، ويتحدث عن نفسه وعن زوجه حديثا لا ينقطع. وكلما هم كارل أن يقول كلمة لم يجد إلى ذلك سبيلا؛ لأن الرجل سعيد سعيد مغتبط لا حد لسعادته ولا لاغتباطه.
وهذه ماري قد أقبلت، فلا تكاد ترى ريشار حتى تعرفه وتسرع إليه، وهو يتحدث إليها في غير انقطاع كما كان يتحدث إلى صاحبه في غير انقطاع أيضا. وكلما سألته أو سأله صاحبه عن آنا، قال إنها ذهبت لبعض الشئون وستعود من غير شك بعد قليل. وأكبر الظن أنها عرفت مقدم كارل فذهبت تشتري ما تتم به العشاء.
وما هي إلا لحظة حتى تعود آنا، وكأنها ذهبت تلتمس صاحبها، فإذا دخلت واجمة ذاهلة مضى صاحبنا في الحديث. ولكن صديقه يطلب إليها أن يخلي بين آنا وبين حريتها، فلا يظهر الاستماع، فإذا كرر عليه الطلب واستمع له وفهم عن صاحبه، ثار واضطرب وهم أن يقتل صاحبه، ولكن آنا تحول بينهما ثم تطلب إليه إذا لم يكن بد من القتل أن يقتلها هي أيضا؛ لأنها لا تستطيع أن تعيش بدونه.
وقد كان الرجل مذعنا لا يريد إلا أن يقتل هذا الفتى، وكان فيما يظهر مستعدا للعفو عن امرأته والعناية بأمر هذا الجنين. فإذا رأى حب هذه المرأة لصاحبه ودفاعها عنه واستعدادها للموت دونه، أخذه اليأس فصعق وسقط على كرسيه أبله حائرا لا يدري ماذا يصنع ولا يعرف كيف يقول! وهذا الحب الخفي الذي كان قد ظهر، ثم أخذ يستحيي لمقدم الزوج؛ هذا الحب الخفي قد عاد إلى الظهور واسترد قوته كلها وصراحته كلها. وهذه المرأة تهيئ أمرها للسفر وتأخذ من ثيابها ما لا بد من أخذه ، يعينها صاحبها على ذلك، والرجل ينظر مخذولا وصديقتها ماري تنظر إليهما حائرة مبهوتة، فهي تحب صديقتها ولكنها تحب ريشار أيضا، وقد طالما تكلفت إخفاء هذا الحب وفاء لصديقتها وحياء منها ومن نفسها.
وقد مضت آنا ومضى معها كارل، وبقي الرجل صعقا مخذولا وبقيت ماري. وينظر الرجل إلى المائدة فيرى هذا الشيء الضئيل الذي كان قد استخرجه من متاعه منذ حين، وكان يعده هدية قيمة لامرأته، فيأخذه بيده ويدفعه إلى الفتاة وهو يقول بصوت محزون متهدم يائس: «إنها قطعة من الشوكولاتة.»
مدرسة المشعوذين
مثلت منذ أعوام في باريس فأثارت لغطا كثيرا، كما مثلت قصة أخرى من قبلها في موضوع مقارب لموضوعها فأثارت لغطا ودهشا وإعجابا لم ينقض بعد.
ذلك أن موضوع القصتين يتصل بالطب والأطباء، وبالمرضى والمرض، وبالصلات بين الأطباء والذين يحتاجون إليهم من المرضى والأصحاء جميعا. وتعرض التمثيل للطب والأطباء وللمرض والمرضى قديم، قد سن فيه موليير سنة ما زالت آثارها باقية ومناهجها واضحة، وما زال الكتاب الممثلون يتبعونها ويذهبون مذهبه فيها.
فقصة الطبيب على كره منه، وقصة المريض الواهم ما تزالان من الآثار الأدبية الخالدة التي يقرؤها الناس أو يشهدونها فيعجبون بها أعظم الإعجاب، على اختلاف العصور وتباين الظروف وتفاوت البيئات. بل يقرؤها الناس المرة بعد المرة ويشهدونها كذلك المرة بعد المرة، فيتجدد إعجابهم بها وإكبارهم لها وضحكهم لما تعرض من المشاهد واعتبارهم بما تثير من الملاحظات، لا يبلغون من ذلك أقصى ما يريدون؛ لأن اللذة الفنية الخالدة من طبيعتها أن تجدد هذه اللذات، وأن تحدث لنا إعجابا وإمتاعا كلما أحدثنا لها قراءة أو استماعا. وقد أراد الكاتب الفرنسي العظيم جول رومان أن يذهب مذهب موليير في العناية بالطب والأطباء، وفي تسليط سخرية الفن ودعابته وهجائه اللاذع أيضا على هذه الطائفة الموقرة التي نتملقها جميعا؛ لأننا جميعا نحتاج إليها ونشفق منها، ونذعن لما تأمر، ونؤمن لما تقول. فوضع قصته المعروفة كنوك أو انتصار الطب، ثم قدمها إلى ملاعب التمثيل، فلم تضحك باريس وحدها وإنما أضحكت فرنسا كلها، ثم أضحكت وما زالت تضحك العالم المثقف كله. وأكبر الظن أنها أضحكت الأطباء أنفسهم قبل أن تضحك غيرهم من الناس؛ فقد أظهر الكاتب فيها الفروق القوية بين الطبيب الشيخ، المحافظ، المعتدل، المتواضع أيضا، الذي يعيش في قرية من القرى ويتكسب بمهنته صادقا ناصحا لا مسرفا على المرضى ولا مسرفا على الأصحاء، فهو يكسب حياته وشيئا من الثروة معتدلا، ولكنه لا يستغل فنه كما يستغل التجار المسرفون تجارتهم، أو كما يستغل المرابون المسرفون ما بين أيديهم من المال؛ وبين الطبيب الشاب الذي لم يفرغ لدرسه ولم يقصد إليه عن عناية واستعداد، وإنما دفعته إلى ذلك المصادفة، فواتته الظروف وأسعدته الحيلة، وانتهى إلى الظفر بالإجازة الطبية، فهو يريد أن يستغل هذه الإجازة كأشد ما يكون الاستغلال، وأن يكرهها على أن تجلب له من المال أكثر ما يمكن أن تجلب له. وهو يخلف الطبيب الأول في قريته، وقد اتخذ لنفسه قاعدة هي أن الأصل في الناس أن يكونوا مرضى وأن الصحة شذوذ. وهو يجد في أن يقنع الناس بهذه القاعدة، يستعين على ذلك بالوهم والخوف، وهو يبلغ من ذلك ما يريد، وهو يملأ القرية وما حولها من القرى إيمانا بالطب ويقينا بالمرض. فهو يشتغل في الليل ويشتغل في النهار، وهو يمكن الصيدلي من أن يشتغل في الليل والنهار أيضا، وهو يمكن الفندق من أن يمتلئ دائما حتى يضيق بالقاصدين إليه من الأصحاء الذين بلغتهم شهرة الطبيب في قراهم البعيدة فتأثروا بها واستيقنوا أنهم مرضى وأقبلوا يلتمسون الصحة والشفاء عند هذا الطبيب البارع.
وليس جمال هذه القصة فيما بين الطبيبين من التناقض، ولا في تطبيق هذه القاعدة الغريبة وتحويل الأصحاء إلى مرضى فحسب، وإنما يأتيها الجمال من هذا ومن نواح أخرى قد أعرض لها حين أحلل هذه القصة في غير هذا الفصل. وكأن هذه القصة قد ألهمت الكاتبين اللذين أتحدث عنهما اليوم، وأثارتهما للرد على جول رومان نحوا ما، فكتبا قصتهما هذه ووضعا أمر الطب والأطباء والمرض والمرضى وضعا آخر مخالفا كل المخالفة للوضع الذي لخصته لك آنفا، معاكسا له كل المعاكسة. فقد كان الطب متسلطا على الناس سواء منهم المرضى والأصحاء. في القصة الأولى كان الطب يضطهد طلاب الشفاء ويستبد بهم، أما في هذه القصة فالمرضى هم الذين يضطهدون الطبيب، وهم الذين يريدون أن يخرجوه من طوره وأن يضطروه إلى أن يتخذ طبه تجارة وإلى أن يستغل هذه التجارة استغلالا عنيفا مسرفا لا قصد فيه. والقصة صراع بين الطبيب الذي يريد أن يكون شريفا وأن يظل شريفا مخلصا لنفسه ولشرفه ولحاجة المرضى الذين يعتمدون عليه، وبين الناس الذين يريدون أن يكونوا مرضى وإن أتم الله عليهم نعمة الصحة، ويريدون أن يكرهوا الأطباء على أن يعترفوا لهم بهذا المرض ويداووهم منه، ويمنحوهم من الوقت والجهد والعناية ما ينبغي أن يمنحوه للمحتاجين إليه حقا. وقد نستطيع أن نقول في عبارة موجزة: إن الكاتبين اللذين وضعا هذه القصة أرادا أن يثأرا للأطباء، وأن يضحكا النظارة والقراء من الناس بعد أن عبث جول رومان بالأطباء فأضحك منهم النظارة والقراء.
وكلتا القصتين مع ذلك صادقة كل الصدق موفقة كل التوفيق، لا تضحكنا إلا لأنها تصور ما يضحك حقا، ولا تحزننا إلا لأنها تصور ما يحزننا حقا؛ فمن الذي يستطيع أن ينكر أن بين الأطباء في كل زمان وفي كل بيئة مشعوذين يتخذون الطب تجارة وتجارة خاطئة آثمة، يخيلون إلى الصحيح أنه مريض ويخيلون إلى المريض أنه مشرف على الموت، لا يبتغون بهذا التضليل إلا الربح وبعد الشهرة والصوت.
فجول رومان إذن لم يخلق طبيبه المشعوذ من لا شيء، وإنما نظر فرآه بين يديه، فوصفه أصدق وصف وصوره أجمل تصوير. وكلنا يستطيع أن ينظر فيرى الطبيب المشعوذ بين يديه، ولكننا جميعا لا نستطيع أن نصفه ولا أن نصوره، وإن كنا جميعا نستطيع أن نشكو منه حين ينشب فينا أظفاره فيبتز منا المال ويوشك أن يبتز منا الحياة، بل هو يبتزها من كثير من الناس. ومن ذا الذي يستطيع أن يشك في أن الترف والفراغ والوهم وقراءة الصحف والكتب في غير فهم ولا تمييز؛ كل ذلك يحمل كثيرا من الناس على أن يعنوا بأنفسهم أكثر مما ينبغي، ويراقبوا صحتهم أكثر مما ينبغي، ويقفوا تفكيرهم على ملاحظة أجسامهم وما يعرض لها أو ما يظنون أنه يعرض لها من العلة أو مما يتوهمون أنه العلة. هذا يلاحظ قلبه فهو يتسمع خفقانه وهو يتلمس النبض ويعده، وهذا يلاحظ معدته، وهذا يلاحظ كبده، وهذا ينظر إلى لسانه بين حين وحين. وكلهم يظن بصحته الظنون، وكلهم يحدث نفسه عن صحته إذا خلا إلى نفسه، ويحدث الناس عن صحته إذا لقي الناس. وكلهم يود لو أنفق حياته مع الطبيب لا يبخل عليه بالمال، وقليل منهم تتيح له الظروف أن يرضي حاجته وأن يلقى الطبيب متى أراد، وأن يؤثره بخير ما يملك من المال. والأطباء أمام هؤلاء الناس بين رجلين: رجل شريف نزيه ينظر إلى فنه نظرة الجد، ويضن على وقته بالضياع، ويكره أن ينفق جهده في العناية بمن لا يحتاجون إلى العناية، ويكره كذلك أن يأخذ المال في غير استحقاق له؛ فهو يعرض عن هؤلاء الناس ولا يحفل بهم، وإنما يصرفهم عن نفسه صرفا. ورجل آخر يرى العناية بهؤلاء الناس والفراغ لهم مذهبا يسيرا في كسب المال والشهرة لا يكلف صاحبه جهدا ولا جدا، وإنما يغل عليه المال الكثير ويقيم له الثروة الضخمة دون أن يأرق لذلك ليله أو يكدح لذلك نهاره أو يكلف عقله مشقة البحث والتحصيل؛ فيندفع في هذه الطريق السهلة، ويبلغ من رضى هؤلاء الناس عنه ومن بذلهم له ما يريد وفوق ما يريد.
فكما أن جول رومان لم يخلق طبيبه المشعوذ من لا شيء، فهذان الكاتبان لم يخلقا طبيبهما النزيه من لا شيء، وإنما نظرا فوجداه قائما مجاهدا في الحياة يحمي المرضى من عدوان المرض ويحوط العلم والخلق من فساد المشعوذين، فصوراه تصويرا صادقا جميلا. وأكثر قراء العربية يجهلون في أكبر الظن أن أحد هذين الكاتبين، وهو ترستان برنار، من أبرع الكتاب الفرنسيين في الدعابة الحلوة والفكاهة اللاذعة التي تثير الابتسام على الثغور، ولكنها مع ذلك تثير العبرة في النفوس؛ لأنها صادقة مستمدة من الحقيقة الواقعة لا من الخيال المتكلف ولا من التصنع السقيم. وحظ قصتنا من فكاهة هذا الكاتب العظيم لا بأس به؛ فقد انتثرت فيها الملاحظات الصادقة والفكاهات الحلوة انتثارا، فجعلت قراءتها لذيذة حلوة في كل وقت. وأنت تقرأ القصة أو تشهدها، فلا تجد في ذلك مشقة، ولا تحس أن الكاتبين قد وجدا في إنشائها مشقة ما. وأنت مع ذلك تسأل نفسك كيف يمكن تصوير هذا الحق وتوفير هذه اللذة الفنية في غير تعب ولا جهد؟ وجواب ذلك يسير، فهذا ممكن؛ لأن الكاتبين اللذين حاولاه من الفنيين الذين يعرفون كيف يجهدون ويخفون الجهد، وكيف يشقون ويخفون الشقاء.
ونحن في أول القصة في بيت متواضع يقوم في قرية جديدة غير بعيد من باريس، نرى خادما تهيئ مائدة الطعام وهي تتغنى ببعض هذه الأغاني الشعبية المضحكة التي يكلف بها الفرنسيون، وإنها لفي ذلك وإذا سيدتها هيلانة تدخل عليها وتطلب إليها أن تلاحظ طعامها الذي يوشك أن يحترق لكثرة ما أهملته وأعرضت عن ملاحظته إعراضا. ولكن الخادم مطمئنة على طعامها محتاجة إلى أن تتحدث إلى سيدتها حديثا يظهر فيه العبث والمزاح، ولكنه مع ذلك جد كله. فالخادم ساخطة غير راضية، ترى أن مقام سادتها في هذه القرية الناشئة لا يغني عنهم شيئا؛ لأن سيدها طبيب وسكان القرية قليلون، وهم بخلاء لا يثقون بالطب ولا يحسنون البذل للأطباء. وهي تؤكد في ظرف أنها خادم تعلم حق العلم أن ليس لها أن تدخل فيما لا يعنيها وأن تتحدث في مثل هذه الأشياء، وأنها قد رسمت لنفسها خطة ألا تدخل في أمور سادتها وأن تلزم حدها، ولكنها مع ذلك تتجاوز هذا الحد وتلاحظ في غير تحرج أن حياتها وحياة سادتها ليست سهلة في هذه القرية، وهي لا تحب أن تنصح ولا أن تلوم فليس ذلك من حقها، ولكنها مع ذلك تأسف أشد الأسف وتلوم سيدتها أشد اللوم لأنها خالفت رأي والديها وتزوجت من هذا الشاب الطبيب الذي قد يكون بارعا في الطب متقنا للعلم، ولكنه غير محسن لكسب المال ولا موفق إلى تيسير الحياة. وسيدتها تزجرها عن هذا الحديث وتلح عليها في أن تلاحظ طعامها، ولكنها لا تزدجر، ولا تحفل بإلحاح سيدتها ولا تنصرف إلا حين تسمع صوتا تحس منه مقدم سيدها فتسرع إلى المطبخ. وقد فهمنا من حديثها حال هذه الأسرة الصغيرة التي تبتدئ الحياة الزوجية في شيء من الجهد والضيق. ويدخل الزوج جورج فإذا شاب ذكي شديد النشاط، محب لزوجته مفتون بصناعته، ولكنه شقي في بدء حياته لأنه بعيد من المستشفيات التي يستطيع أن يلاحظ فيها المرضى ويتابع فيها البحث العلمي. وهو على ذلك لا يكسب من المال ما يمكن أن يعزيه عن هذا الحرمان؛ فهو في قرية ناشئة لا تطيب نفوس أهلها عن المال، وهو قد ذهب لعيادة طفل مريض فأبعد في المشي ثم رأى الطفل فلم يجد به بأسا، فلما أنبأ أمه بذلك قالت له: فهل ترى بأسا في أن تأخذ نصف الأجر ما دام الطفل لا بأس عليه؟ وغاظه هذا الجواب وهذا البخل فانصرف ولم يأخذ من المرأة شيئا.
والزوجان ينتظران زيارة بعد حين، وهي زيارة ينكرانها ويدهشان لها؛ فهذا عم هيلانة كان ممانعا في اقترانها بهذا الفتى أشد الممانعة، مقاطعا للزوجين منذ اقترنا، وهو الآن ينبئ بزيارته فجأة وبأنه سيشارك هذين الزوجين في الغداء. وهما يتساءلان عن هذه الزيارة ما سببها، وما غايتها. فأما الفتى فيظن أن هذا الرجل إنما أقبل ليرى سوء حال الزوجين وليشمت بهما، ثم ليعود بعد ذلك إلى أسرة الفتاة فيصور لها ما رأى ويلومها على أنها لم تسمع له، ولم تمانع في هذا الزواج. وأما الفتاة فلا تظن ذلك، ولكنها لا تخفي دهشتها من هذه الزيارة، وهي تنتظر وتؤثر الانتظار. على أن الانتظار لا يطول، فهذا صوت العم مقبلا، وما أسرع ما يستخفي الفتى معتلا بالعمل؛ لأنه يكره أن يرى هذا الرجل ويريد أن لا يلقاه إلا على المائدة. ولا يكاد العم يقبل ويتحدث إلى الفتاة حتى يتغير كل شيء، فهو لم يكن يعرف هذا الفتى، ولم يكن يقدر قيمته، حتى لقي أستاذا عظيما من أساتذة الطب منذ أيام فسمع منه ثناء جميلا على هذا الفتى، فأعجب به وأقبل يزوره ويحمل إليه نبأ سارا، وهو يأبى أن يعلن هذا النبأ إلى الفتاة. والفتاة محتاجة إلى أن تعرف النبأ، فهي لا ترى بأسا بأن تدعو زوجها وبأن تصرفه عن العمل الذي كان يريد أن ينقطع له.
ويقبل الفتى، فيكون اللقاء الفاتر أول الأمر، ولكن العم يتقرب إليه ويتلطف له ثم ينبئهما النبأ؛ وإذا هما سعيدان، وإذا المودة بينهما وبين هذا الرجل قوية حقا، وإذا هم جميعا يستعدون لغداء فيه كثير من الفرح والابتهاج وفيه الشمبانيا التي أحضرها العم معه من باريس. ذلك أنه أقبل يعرض على الفتى عملا يعجبه حقا، عملا في مدينة من مدن الاستشفاء قريبة من سويسرا، يقصد إليها المرضى المترفون من أهل أمريكا الجنوبية خاصة وهم يحملون إليها أجساما معتلة تعبث بها أمراض مختلفة غريبة، فسيجد الفتى إذن فرصة للتجربة وفرصة للاستكشاف، وسيجد الزوجان فرجا بعد حرج وسعة بعد ضيق.
ثم يرفع الستار عن الفصل الثاني، فإذا نحن في مدينة الاستشفاء هذه، وإذا الكاتبان يقدمان إلينا نموذجا من هؤلاء المرضى الذين صورتهم في أول هذا الفصل. وهم رجال ونساء مترفون مسرفون في الترف لم تشغلهم هموم الحياة ولم تثقلهم أعباؤها، فشغلوا بأنفسهم عن هذه الهموم والأعباء. وهم مستيقنون بأنهم مرضى وبأن أمراضهم خطيرة حقا. هذه تزعم أن الطبيب السابق قد أنبأها بأن مرضها قد هزم علم الطب، وهذه تزعم أن الطبيب السابق قد أكبر علتها وعني بها عناية علمية خاصة، فكتب عنها فصلا في مجلة طبية كبرى، ولفتها إلى هذا الفصل فاشترت خمسين نسخة من هذه المجلة. وهذه تزعم أن الطبيب السابق قد زعم لها أن علتها قد اضطرت الطب الحديث إلى الإفلاس. فأما هذا الرجل الذي أقبل منذ حين، فصرف هؤلاء النساء عما كن فيه من الحديث؛ فرجل غريب الأطوار حقا؛ هو لا يثق بموازين الحرارة لأنها تفسد في سرعة، وقد يتعمد أصحاب الفنادق إفسادها حتى لا يضطروا إلى الإسراف في التدفئة. وهو من أجل ذلك قد استكشف طريقة خاصة يقيس بها حرارة الجو، فهو ينفخ أمامه نفخا يسيرا إذا دخل غرفة من الغرفات، فإذا رأى نفسه فليس من شك في أن الجو بارد إلى حد ما لا ترتفع الحرارة فيه إلى ثماني عشرة درجة، وإذا لم ير نفسه فالجو معتدل أو حار. وهم جميعا ينفخون ليروا أتظهر لهم أنفاسهم. وكلهم يتحدث في المرض والصحة وفي المرضى والأصحاء، وكلهم يشكو من هؤلاء الأصحاء الأثرين الذين يخدعون المرضى ويخيلون إليهم أن ليس عليهم بأس، لا يصدقون في ذلك وإنما يريدون أن يتخففوا من واجب العناية بهم والتفرغ لهم. وكلهم قد شغله مرضه عن كل شيء، عن الأزواج والزوجات وعن البنين والبنات، بل عن قراءة الكتب التي تصل إليهم من أهلهم. ولا ينتهي هذا الفصل حتى يكون الكاتب قد شفى نفسه من هجاء هؤلاء الأثرين الذين تضعف عقولهم وإرادتهم، فيرون أنفسهم مرضى وليسوا من المرض في شيء.
فإذا كان الفصل الثالث، فقد استقر الطبيب الجديد في عيادته، وقد أخذ يعرف من شئون هذه المدينة شيئا غير قليل، وهو مزدر للطبيب الذي سبقه وإن كان الناس يحبونه، وهو مزدر لأكثر الذين استشاروه من المرضى، قد أغضب منهم جماعة لا بأس بها، زعم لهم أنهم أصحاء وصرفهم وأبى أن يعنى بهم؛ فمنهم من سافر مغضبا، ومنهم يتهيأ للسفر. وأصحاب الفندق وأصحاب الكازينو مغضبون ثائرون، يشفقون من كساد التجارة ومما يتعرض له الكازينو من الخسران. وهم يتقدمون إلى الطبيب في أن يتلطف للمرضى ولا يزهدهم في المدينة ولا يصرفهم عن الفندق والكازينو، ولكن الطبيب لا يحفل بهذا لأنه لم يأت تاجرا ولا مقامرا، وإنما جاء طبيبا. ومع ذلك فزوجه سعيدة في هذه الحياة، قد ضمنت السعة واليسر والترف أيضا. ها هي هذه تشتري فروا غالي الثمن ما كانت لتحلم بشرائه لولا هذا العمل الجديد. وها هي هذه قد أخذت تخالط الأغنياء وتجد في مخالطتهم لذة ونعيما، والطبيب يرى هذا ويقدره ويألم له، ولكنه مع ذلك طبيب لم يهيأ للشعوذة ولا للتأثر لمدرسة الشعوذة هذه، فلن يكون تلميذا نجيبا من تلاميذ هذه المدرسة. وقد انتهى الطبيب بالنزاهة إلى أقصاها، فقد رد أكثر المرضى وهم يسافرون أفرادا وجماعات، وصاحب الفندق جزع ومدير الكازينو ليس أقل منه جزعا.
ويرفع الستار عن الفصل الرابع، وقد اجتمع مجلس إدارة الفندق والمستشفى للتشاور في الأمر وهم يئسون، فليس لهم أمل في التغيير من خطة الطبيب، وهم مضطرون إلى أن يلغوا ما بينهم وبينه من عقد، ولكنهم مشفقون من أن يقاضيهم، لا لأن مقاضاتهم ستكلفهم مقدارا ضخما من المال؛ فأمر المال هين ومهما يتكلفوا منه فلن يكون ما ينفقونه شيئا بالقياس إلى ما يخسرونه في كل يوم بفضل النزاهة التي يتشدد فيها الطبيب.
ورئيس المجلس وهو شيخ قانوني يتوسل إلى الطبيب في حوار ممتع حقا، ولكن الطبيب متشدد. ورئيس المجلس يحاول أن يستعين بحب هيلانة للترف لعلها تقنع زوجها وتغير من خطته، ولكن هيلانة تحب زوجها وتكبره وتكره أن تتقدم إليه فيما لا يريد، وهي تحب الترف وتألم إن حيل بينها وبينه، ولكنها مع ذلك مستعدة للشقاء والحرمان، تضحي بالترف والنعيم في سبيل الاحتفاظ بحب زوجها ورضاه.
ويزيد الأمر تحرجا أن جماعة من الأمريكيين الأغنياء قد أقبلوا يستشفون، وهم الآن يسعون إلى الطبيب. أفتراه يقرهم على أنهم مرضى، أم تراه يزعم لهم أنهم أصحاء؟ وقلوب القوم واجبة ووجوههم واجمة، ونفوسهم في قلق لا يطاق، وهم ينتظرون أنباء الفحص الطبي. وهذه امرأة الرئيس عجوز فانية قد ذهبت إلى الكنيسة تتوسل إلى الله في أن يحفظ الفندق والكازينو ويحميها من الخسران. وهذه الممرضة مقبلة فتتعلق بها أيضا أبصار القوم وقلوبهم ونفوسهم؛ لأنها تحمل إليهم رأي الطبيب في هؤلاء المرضى الأمريكيين.
يا له من رأي! هذه الوجوه تشرق، وهذه الثغور تبتسم، وهذه الألسنة تنطلق، وهذه العجوز تحمد الله؛ فقد استجاب دعاءها وحمى الفندق والكازينو من الخسران ... فقد قرر الطبيب أن هؤلاء الأمريكيين مرضى حقا، وأنهم يحتاجون إلى علاج دقيق طويل.
فوز الطب
للكاتب الفرنسي جول رومان
أظن أن المثقفين المصريين لم ينسوا بعد هذا الكاتب الفرنسي العظيم الذي زارنا في مثل هذه الأيام من الشتاء الماضي، وألقى في الإسكندرية والقاهرة محاضرات قيمة أثارت كثيرا من التفكير وشيئا من الحديث، والذي سبقته إلينا كتبه الكثيرة المتنوعة التي يمس بعضها القصص ويمس بعضها التمثيل ويمس بعضها البحث عن حل بعض المشكلات الاجتماعية والسياسية منذ شبت الحرب، سواء من هذه المشكلات ما يتصل بأوروبا وأمريكا، وما يتصل بأوروبا وحدها، أو ما يتصل بالحياة الفرنسية وما ثار فيها من الأزمات بعد الحرب الكبرى. وكل هذه الكتب التي سبقت إلينا مسيو جول رومان، أو وصلت إلينا بعد ارتحاله عنا، قيمة ممتعة إلى أقصى حدود الإمتاع. ليست من هذه الكتب التي تقرأ لإنفاق الوقت أو الترفيه على النفس، وإنما هي من هذه الكتب النادرة التي تجمع لقارئها بين الراحة واللذة والمتاع والانتفاع في وقت واحد.
وتمثيل جول رومان خصب ممتاز حقا، فهو مريح وهو مضحك، وهو في الوقت نفسه درس لمسألة من أهم المسائل التي تشغل الناس في وقت من الأوقات، أو نقد للون من ألوان الحياة قلما يحفل به الناس على حين أنه جدير بالعناية خليق بالبحث والتفكير. وقد يقصد جول رومان في قصته إلى أن يلقي إليك رأيا من آرائه أو يدعوك إلى مذهب من مذاهبه أو يحملك على نحو من أنحاء التفكير. وقد يقصد إلى أن يثير في نفسك الخواطر ويوجه عنايتك إلى المسألة التي تشغله دون أن يلقي برأي معين أو مذهب خاص، وإنما يكفيه أن يخلق في نفسك العناية ويثير فيها الاهتمام، وهو موفق من ذلك إلى كل ما يريد أحسن توفيق. وإذا اتصل الحديث بينك وبيني في القصص التمثيلي، فإني أرجو أن أتحدث إليك عن غير قصة من قصص جول رومان التمثيلية، فهي كلها خليقة بالحديث والتحليل.
أما اليوم فإني أريد أن أحدثك عن هذه القصة التي داعب فيها الأطباء منذ أعوام فأضحك بها الفرنسيين بل الأوروبيين وما زال يضحكهم إلى الآن، واضطر بها الفرنسيين إلى أن يذكروا موليير وإن لم ينسوه، وهل من سبيل إلى نسيان موليير؟! ولكن كاتبنا العظيم على كل حال قد اضطر الفرنسيين وغير الفرنسيين إلى أن يذكروا موليير كلما قرءوا هذه القصة وأمثالها من قصصه. فالصلة قريبة جدا بينه وبين أرستوفان الفرنسيين.
وأظنك لم تنس بعد تلك القصة التي حدثتك عنها في الأسبوع الماضي «مدرسة المشعوذين»، فظهورها كان نتيجة لظهور هذه القصة التي أتحدث عنها اليوم كما قلت، وهي إلى أن تكون ردا على جول رومان أقرب منها إلى أي شيء آخر. وأنت تذكر من غير شك أن تلك القصة كانت تصور تعلق الأصحاء بالمرض، وإلحاحهم في أن يكونوا مرضى، ومحاولتهم إكراه الأطباء على أن يعترفوا لهم بالمرض ويعالجوهم ليستنقذوهم منه وإن لم يكونوا منه في قليل ولا كثير، ومقاومة الأطباء لهذا الوهم المطبوع أو المصنوع إيثارا للطب ورفعا له عن أن ينحط إلى الشعوذة والخداع.
فهذه القصة التي أتحدث عنها اليوم تصور عكس هذا الرأي؛ تصور الطبيب الذي يريد أن يكره الناس على أن يكونوا مرضى، وأن يقنعهم بأن صحتهم وهم من الأوهام، وغرور يخدعون به أنفسهم، وجهل يدفعون إليه دفعا ويتورطون فيه لأنهم غافلون عن أصول الطب، فهم يجهلون مكان هذه العلل الفتاكة التي تكمن لهم في الطعام الذي يأكلونه وفي الماء الذي يشربونه وفي الهواء الذي يتنفسونه، وفي كل شيء يمسهم من قريب أو من بعيد. والناس يقاومون هذا الطبيب كما كان ذلك الطبيب يقاوم أولئك الناس في قصة الأسبوع الماضي، ولكن طبيب جول رومان يقهر الناس قهرا ويخضعهم لسلطان الطب إخضاعا.
وهو يمضي في هذا الجهاد لإعلاء كلمة الطب متكلفا منصفا مشعوذا أول الأمر، ولكنه لا يلبث أن يقنع نفسه، أو يخيل إلينا أنه قد أقنع نفسه، بأنه مجاهد صادق مخلص في جهاده، لا يبتغي إلا حماية الطب ورفع شأنه وبسط سلطانه على الناس. والغريب من أمره، أو من أمر جول رومان، أنه يحملك على أن تساير الطبيب، وعلى أن تتأثر بحاله النفسية الخاصة، فالطبيب في أول القصة غير مقتنع، بل هو متكلف متصنع يظهر من أمره أنه يعبث بالطب ويعبث بالناس، وأنت كذلك تشعر بهذا الشعور شعورا واضحا، وتمقت هذا الطبيب وتضحك منه وتعرف فيه الشعوذة وتنكره لذلك وتسخر منه. ولكن امض معه في القصة فسيتغير رأيك فيه شيئا فشيئا؛ لأن رأيه في نفسه أو موقفه من نفسه سيتغير شيئا فشيئا. وليس في هذا شيء من الغرابة، فأنت ممثل في القصة نفسها، يمثلك هذا الطبيب النزيه في الطب الذي لا يفرض المرض على الناس فرضا ولا يكلفهم من العلاج والعناية بأنفسهم ما لا يحبون، والذي يكره الشعوذة أشد الكره ويسخر منها أشد السخر، ولكنه مع ذلك ينتهي إلى أن يقف منها موقفا مريبا، وإلى أن يتأثر بها إلى حد ما، ثم إلى أن يخضع لها خضوعا ويذعن لها إذعانا.
إذا رفع الستار عن الفصل الأول من القصة، فنحن عند الباب الخارجي لإحدى المحطات الفرنسية في إقليم من أقاليم الألب، وأمامنا طبيب قرية من القرى هو الدكتور برباليه ومعه زوجه، ثم رجل آخر طبيب أيضا هو الدكتور كنوك. وواضح جدا أن الدكتور كنوك قد أقبل من باريس، وأن الدكتور برباليه قد جاء يستقبله. ولا نكاد نسمعهما يتحدثان حتى نفهم أن الطبيب الباريسي قد أقبل يمارس الطب في القرية، وهو قد اشترى من صاحبه مكانه وجاء ليتسلم منه هذا المكان وليتسلم منه المرضى أيضا. والدكتور برباليه وامرأته يلقيان صاحبهما في كثير من الابتهاج والتلطف أو من تكلف الابتهاج والتلطف. يريدان أن يصورا له الصفقة التي اشتراها على أنها صفقة رابحة. وهما لا يكتفيان بذلك، يريدان أن يتما معه صفقة أخرى، يريدان أن يبيعاه سيارتهما. وأنت تنظر إلى هذه السيارة فإذا هي من الطراز العتيق الذي طال عليه الأمد، ولكن الزوجين يمدحانها ويثنيان عليها ويسرفان في ذلك. والطبيب الباريسي يسمع لهما في غير معرفة وفي غير إنكار. وإنما يخلي بينهما وبين الكلام . وهما يدعوانه إلى ركوب السيارة وإلى أن يضع فيها أمتعته، فهي واسعة رحبة لا تضيق بهم ولا تضيق بالمتاع، وهي سريعة وهي خفيفة وهي متينة في الوقت نفسه. وانظر إليهم وقد أخذوا أماكنهم من السيارة والسائق يبذل جهدا عنيفا ليدفع السيارة إلى الحركة، وهي تعصيه وتأبى عليه، والزوجان يلهيان الطبيب عن ذلك بالحديث الكثير وبالإسراف في الثناء، ولكن السيارة قد أخذت تنطلق في كثير من التعثر وفي كثير من الضوضاء. وهم ماضون في أحاديثهم عن السيارة حينا وعن مناظر الطبيعة حينا آخر، وعن الجو مرة ثالثة. ولكن ماذا؟ هذه السيارة قد وقفت وأبت أن تتقدم، ولا بد من أن ينزل السائق ومن أن يعالج أدواتها ألوانا من العلاج، ولا يرى صاحب السيارة وزوجه بأسا بهذا، فمنظر الطبيعة جميل وليس ما يمنعهم من الاستمتاع به لحظة من اللحظات.
وما يزالون في هذه الأحاديث حتى يضطر الطبيب الباريسي إلى أن يظهر فطنته لهذه المداورة وإعراضه عن هذه السيارة وشكه في أنه قد أتم مع زميله صفقة رابحة حقا. فهو يلقي أسئلة متصلة، منها ما يمس القرية، ومنها ما يمس القرى المجاورة، ومنها ما يمس السكان ودينهم ومذهبهم السياسي وحياتهم الاجتماعية وما فيها من العيوب والآفات، ومنها ما يمس الثروة. والطبيب وامرأته دهشان لهذه الأسئلة. أما نحن فنفهم حق الفهم أن صاحبنا يريد أن يتعرف استعداد القرية للحياة الطبية كما يتصورها، وكما يريدها، وقد ظهر له أن القرية بعيدة كل البعد عن هذا الاستعداد، فأهلها أصحاء وقليل بينهم المريض. والمرضى من أهلها لا يحفلون بالمرض ولا يهتمون له ولا يعنون بالعلاج؛ لأنهم بخلاء حراص على المال، وإذن فصفقة صاحبنا خاسرة.
وأكثر من هذا أن أهل هذه القرية إذا جادت أنفسهم بالمال وسمحت لهم باستشارة الطبيب ومعالجة ما يصيبهم من العلل، فهم لا يؤدون إلى الطبيب أجره إلا في آخر سبتمبر من كل عام، ونحن في أول أكتوبر، ومعنى ذلك أن صاحبنا سيعمل عاما كاملا دون أن يصيب أجرا قليلا أو كثيرا. وهو يصارح صاحبه بأنه قد خدعه، ويصارحه أيضا بأنه يريد أن يخدعه ويعبث به حين يزين له شراء هذه السيارة العتيقة. على أنه لا يضيق بهذا الخداع ولا يرفض هذه المعركة، وإنما يقبلها ويقبل سكان القرية كما هم على بخلهم الشديد وامتناعهم على الطب، ويعلن أنه سيغير هذا كله تغييرا. ثم يتحدث في لهجة ظريفة مضحكة حقا عن درسه للطب واتخاذه له صناعة، فينبئنا بأنه لم يدرس الطب إلا مصادفة. نال الشهادة الثانوية في الآداب وعجز عن إتمام الدرس، فعمل بائعا في بعض الثغور. وإنه ليتنزه ذات يوم قريبا من الساحل وإذا هو يقرأ إعلانا من إحدى السفن الراسية في الثغور أنها في حاجة إلى طبيب، وأنها لا تشترط فيه أن يكون قد ظفر بدرجة الدكتوراه. فيتقدم إلى هذه السفينة لا يخدع أصحابها ولا يكذب عليهم، وإنما ينبئهم بأنه ليس طبيبا متخرجا في الطب ولكن له بالطب علما. وهم يقبلونه على ذلك، وهو لم يكذب عليهم؛ فقد تعود منذ طفولته أن يقرأ الإعلانات الطبية فحفظ صيغا واصطلاحات، وألم ببعض الأوليات وعرف كيف يعالج الصداع أو الإمساك.
وها هو ذا طبيب في السفينة يسمى الدكتور وليس بدكتور، ولكنه اشترط ذلك على أصحاب السفينة فقبلوه. وهذه السفينة قد أبحرت في طريقها إلى الهند، وهو يعالج أصحابها وركابها وينفذ فيهم رأيه، وهو أن كل إنسان مريض بطبعه، وأن الصحة وهم من الأوهام. وقد أصبحوا جميعا مرضى كما أصبحوا جميعا أصحاء، فهم يتناوبون العمل وهم يتناوبون العلاج. وينفق صاحبنا في هذه الصناعة أعواما حتى إذا قضى منها وطرا وجمع منها مالا لا بأس به، ترك السفينة وعمل في التجارة، وأي تجارة، تجارة الفول السوداني. ولكنه لا ينسى الطب ولا يستطيع أن يسلوه، وهو يعلم أنه لا يستطيع أن يكون طبيبا في وطنه إلا إذا ظفر بالدكتوراه. فهو يفرغ لها وهو يظفر بها منذ أشهر قصار، وهو يبحث عن مكان هادئ يبدأ فيه عمله الطبي الجديد حريصا قبل كل شيء على أن يجرب نظريته، وهي أن الأصل في الناس أن يكونوا مرضى، وأن الصحة ليست شيئا موهوبا أو لم تبق شيئا موهوبا، وإنما هي شيء يلتمس التماسا ويلتمس عند الأطباء. وهو يتحدث بهذا كله إلى صاحبيه حديثا تظهر فيه السخرية ويظهر فيه شيء يشبه الازدراء للناس ولما اتفقوا عليه من القواعد والأصول. وصاحباه دهشان أشد الدهش لما يسمعان منكران له أشد الإنكار، ولكن سائق السيارة قد استيأس من سيارته وهو يرى أن لا سبيل إلى انطلاقها إلا إذا دفعت دفعا، فيتم الاتفاق على أن يقوم صاحب السيارة مقام السائق، وعلى أن يتكلف السائق دفع السيارة من وراء، وينتهي الفصل على هذا المنظر المضحك: صاحب السيارة يجلس في مجلس السائق، وامرأته والدكتور كنوك قد أخذا مكانهما منها، والسائق يدفعها إلى أمام دفعا.
فإذا كان الفصل الثاني، فنحن في القرية وقد سافر الطبيب القديم، وهم الطبيب الجديد أن يبدأ عمله، وهو يبدأ عمله أحسن بدء ممكن، فهو يدعو إليه منادي القرية ويتفق معه في حوار بديع على أن ينادي في الناس أن الدكتور كنوك يستقبل المرضى بغير أجر صباح الاثنين من كل أسبوع. وهو لا يكاد يفرغ من حوار المنادي حتى يقنعه بأنه مريض وبأنه في حاجة إلى علاج طويل دقيق. وقد هم المنادي أن يسرع إلى بيته لينام، ولكن الطبيب يطمئنه فلا يطمئن، فيقنعه بأن من شكا مثل علته لا ينبغي له أن يبدأ النوم بين مشرق الشمس ومغربها، وإنما ينبغي أن يظل قائما نهاره حتى إذا أقبل الليل أوى إلى مضجعه فلم يقم إلا بإذن الطبيب. ثم تتتابع المناظر سراعا في هذا الفصل، وكل واحد منها رائع ممتع حقا. فلا يخرج المنادي حتى يأتي المعلم وكان الطبيب قد دعاه، وإذا الحديث بينهما غريب حقا، ظاهره النصح الذي لا شك فيه، وباطنه المكر الذي لا مزيد عليه، ونتيجته الإقناع الذي ليس بعده إقناع.
فالطبيب مقتنع بوجوب التعاون بينه وبين المعلم، وهو يظهر الثقة بأن هذا التعاون قد كان قائما خصبا بين المعلم والطبيب السابق. فإذا عرف من المعلم أن هذا التعاون لم يكن موجودا وأنه لم يخطر له على بال، أنكر ذلك ودهش له، ثم جد في إقناع المعلم بوجوب هذا التعاون، وأخذ يبينه وينظمه له تنظيما. فالناس يجهلون المرض ويطمئنون إلى الصحة ويغفلون عن هذه العلل المخبوءة لهم في أجسامهم ومن حولهم، ولا بد من تنبيههم إليها ودلالتهم عليها بمحاضرات تلقى فيهم من حين إلى حين تبين لهم المكروب وأنواعه وآثاره ومكره وأخطاره. تبين لهم التيفود كيف تستخفي الدهر الطويل، وهي في أثناء ذلك تبيض وتفرخ وتملأ الجسم وتنتشر من حوله فتمس الأجسام الأخرى. وتبين لهم أن الصحة كلمة لا تدل على شيء، ويجب أن تلغى من المعاجم إلغاء، وأن من لم يكن عليلا فهو حامل لجراثيم العلة. وما يزال بالمعلم حتى يقنعه ويروعه معا، فيخرج المعلم مؤمنا بنظرية الطبيب وجلا أشد الوجل لأنه حامل لجراثيم علة من العلل ما في ذلك شك.
ولا يكاد يخرج المعلم حتى يدخل الصيدلي على موعد من الطبيب أيضا. ولن يكون حديثه مع الصيدلي أقل روعة ولا أضعف إقناعا من حديثه مع المعلم. فهو واثق بأن الصيدلي يربح خمسة وعشرين ألفا من الفرنكات في العام. فإذا أنبأه الصيدلي بأنه لا يبلغ عشرة آلاف دهش أشد الدهش، وأنكر أشد الإنكار، وبين أن هذا ناشئ من التقصير في حماية الناس من المرض وصيانتهم من الأدواء. وما يزال بالصيدلي حتى يقنعه بأن العام لن يمضي حتى يكون ربحه موفورا ملائما لما ينبغي له ولما يجب عليه من العمل، ولما ينبغي للناس من اتقاء المرض، ولما يجب على الطبيب والصيدلي من مقاومة العدو المشترك وهو الداء. ولا يخرج الصيدلي حتى يكون نداء المنادي قد أحدث آثاره، فبدأ الناس يقبلون على هذه العيادة المجانية، وكان أسرعهم إليها أكثرهم ثروة.
فهذه امرأة من أهل الريف قد أقبلت، ولا يكاد الطبيب يتحدث إليها حتى يعرف ثروتها، وإذا هي ثروة لا بأس بها. ولولا أن العيادة مجانية لما أقبلت المرأة تستشير الطبيب فيما تجد من فتور. وهو لا يشير عليها إلا بعد أن يقنعها أشد الإقناع، معتمدا في ذلك على الرسم والمشاهدة بأنها مريضة حقا، وبأنها قد سقطت أثناء طفولتها عن أعلى سلم فانحرف بعض أعضائها عن مكانه. وهذا مرض خطير يحتاج إلى علاج طويل دقيق، وهو يتكلف مالا كثيرا، وهو بعد ذلك يخيرها بين الصحة الغالية وبين الموت الذي لا يكلف إلا الإهمال وادخار المال. وقد كانت المرأة تتردد أول الأمر، ولكن الطبيب قد صور لها الموت تصويرا، والموت بشع، فلا بد من اتقائه مهما يكلفها ذلك من المال. وقد جاءت ماشية من دارها، ولكنها ستعود في عربة؛ لأن المشي يؤذيها أشد الإيذاء، ولا بد لها إذا وصلت إلى دارها من أن تنام وتعرض عن الطعام وتنتظر عيادة الطبيب في كل يوم.
ولا تكاد تخرج هذه حتى تأتي امرأة أخرى من أرستقراطية الريف، لم تجئ مستشيرة وإنما جاءت مهنئة للطبيب بحبه للفقراء وعطفه عليهم، وجاءت لتضرب المثل للفقراء ولتسهل عليهم زيارة الطبيب، ولا سيما حين لا تكلفهم هذه الزيارة مالا. ومع ذلك فلا تكاد تهم بالخروج حتى تسأل الطبيب عن شيء يحميها من الأرق، فلا يكاد الطبيب يتحدث إليها حتى يتبين لها أنها مصابة بمرض خطير في المخ، وأن هذا المرض يحتاج إلى علاج طويل دقيق متصل غال. فأما المال فهي لا تحفل به، ولكن أين الطبيب الذي يواظب على عيادتها في كل يوم؟ وصاحبنا يتمنع ويتأبى ثم يتعطف ويرضى، وتخرج السيدة على أن تذهب إلى قصرها لتنام وتعرض عن الطعام وتنتظر عيادة الطبيب.
وهؤلاء الفقراء من الفلاحين قد أقبلوا وأقبل بينهم شابان عابثان يهزآن بالطب والأطباء، وقد دخلا على الطبيب ليضحكا منه ومن علمه، ولكنهما لا يخرجان إلا وقد ملئت قلوبهما فرقا ورعبا. فأما أحدهما فيائس من الحياة، وأما الآخر فخائف أن يمتحنه الطبيب فيضطره إلى اليأس.
فإذا كان الفصل الثالث فقد انقضت أشهر ثلاثة على استقرار الطبيب في هذه القرية، ولكن كل شيء في القرية قد تغير، بل كل شيء فيما يجاور القرية من قريب أو بعيد قد تغير. فأما فندق القرية فقد استحال إلى مستشفى وأصبح خدمه ممرضين، وأصبح أهل القرية جميعا وأهل القرى المجاورة جميعا مرضى. منهم من يعالج في بيته، ومنهم من يعالج في الفندق المستشفى. والطبيب لا يريح ولا يستريح، والصيدلي لا يهدأ في نهار ولا يستقر في ليل، والمعلم نشيط في نشر الدعوة للطب. وقد أصبح الطبيب محببا إلى الناس جميعا، لا يختلف في حبه اثنان ولا يشك في كلامه أحد. وهذا الطبيب القديم قد أقبل يتقاضى صاحبه بعض الثمن الذي باع به مكانه في القرية، فما أشد دهشه حين يرى الفندق وصاحبة الفندق وخدم الفندق، وحين يرى الصيدلي؛ كلهم ينكره وكلهم يتبرم به. وهو يحاور الطبيب الجديد ويطول بينهما الحوار، وإذا هو متأثر بهذه النظرية الجديدة التي كان ينكرها، وإذا هو يعرض على صاحبه أن يرد عليه مكانه وأن يذهب هو إلى ليون، والطبيب الجديد لا يقبل منه، ولكنه يظهر القبول أمام الصيدلي وأمام صاحبة الفندق، فتظهر معارضة يا لها من معارضة! ويسمع الطبيب القديم ما يكره، وترفض صاحبة الفندق أن تئويه لولا أن الطبيب الجديد يتوسط له ويعلن إلى صاحبة الفندق أنه مريض، وأن الطب لا يأذن له بالسفر إلا بعد أن يستريح. فإذا خلا الطبيبان مضيا في الحوار، فأما الطبيب القديم فيذكر الشرف، يذكر الحق ويذكر الإخلاص، ويذكر ضمير الطبيب وما ينبغي له من الأمانة والنقاء. وأما الطبيب الجديد فيذكر الطب، وأن سلطانه يجب أن يبسط على الناس جميعا، وأن واجب الطبيب إنما هو أن يخلص لمهنته وأن يخضع الناس لها، وأن كل صحيح متمرد على الطب يجب أن يقاوم حتى يلقي بيده ويذعن للطب إذعانا تاما. وهو يعرض على صاحبه الخرائط التي رسمها فصور فيها القرية وما حولها، وصور فيها انبساط سلطان الطب على هذه القرى قليلا حتى عمها جميعا، وأخضعها لهذه المهنة المقدسة.
وقد بهر الطبيب القديم بما رأى وبما سمع، ولكن شيئا قد استقر في نفسه. ألم يسمع صاحبه يعلن إلى صاحبة الفندق أنه مريض وأنه لا يستطيع أن يعود إلى مدينة ليون دون أن يستريح؟ وهو في حقيقة الأمر يحس شيئا من الألم، وهو يريد أن يعرف فيه رأي صاحبه، وهو يسأله في استحياء وتردد. ولكن الطبيب الجديد يدعوه هادئا باسما إلى أن يتناول معه طعام الغداء، فإذا فرغا من طعامهما فقد يستطيع أن يمتحنه على مهل في عيادته كما يمتحن غيره من الناس. وإذن فقد انتصر الطب على المرضى، وانتصر على الأصحاء، وانتصر على الطب والأطباء أيضا. وأي انتصار أعظم من إقناع هذا الطبيب نفسه بأنه مريض؟!
ولم ألخص لك القصة إلا تلخيصا مشوها حقا، فقد أهملت ما فيها من حوار رائع وملاحظات دقيقة يجدر بالأدباء ويجدر بالأطباء خاصة أن يقرءوها، فإنهم سيجدون فيها متاعا لا يشبهه متاع.
هدوء السر
قد يغضب المجمع اللغوي لهذا العنوان الذي يصور لغة العامة أكثر مما يصور لغة الفصحاء، ولكني مع ذلك أوثره لأني أجد فيه الترجمة الصادقة للعنوان الفرنسي:
La paix chez soi là ، كما أجد فيه تصويرا صحيحا دقيقا للقصة نفسها كما سيراها القارئ. ولست في هذه المرة ملخصا ولا ذاهبا ذلك المذهب الذي ألفه القراء فيما تعودت أن أكتب لهم من هذا الحديث كل أسبوع، وإنما أنا مترجم أضع لفظا عربيا مكان لفظ فرنسي، وقد أختصر بعض الجمل إيثارا للإيجاز وأترك للقارئ أن ينقد ويفسر ويقضي. فلا بأس بأن أريح القارئ من هذا التوسط بينه وبين كتاب الغرب من حين إلى حين، ولا بأس بأن أقف القارئ من وقت إلى وقت أمام هؤلاء الكتاب وجها لوجه.
والمسرح يصور غرفة لأحد الكتاب وقد قام الكاتب أمام مائدة مرتفعة يكتب عليها لأنه من الذين يؤثرون الكتابة وهم قيام. والكاتب حين يرفع الستار يحصي الأسطر التي كتبها ليعرف ما بقي عليه أن يكتبه من الجزء الذي يرسله إلى صحيفته في كل يوم، فهو يكتب في هذه الصحيفة قصة مسلسلة.
المنظر الأول
ترييل وحده قائما أمام مكتبه ومحصيا بطرف قلمه الأسطر التي كتبها بعد جهد شديد 274، 276، 278، 280، 285، لا بد من ثلاثين سطرا منها تقع في عشرين فقرة، ويضاف إليها مقدار ضخم من نقط التعليق، ثم جملة مقطوعة قطعا حسنا يؤثر في القارئ ويختم به الفصل، فإذا لم يرض القارئ مع كل هذا فله أن يذهب لينام. يا لها من مهنة! ثم يغمس قلمه في الدواة ويتهيأ للكتابة ويتنفس ويتمطى ويتثاءب تثاؤبا طويلا، ثم يتحدث إلى نفسه. وهذا يضايقك. تعلم، أيها الشيخ تشجع، خذ حظك من زيت كبد الحوت! ثم يستقر رأيه على الكتابة ويأخذ فيها ممليا على نفسه بصوت مسموع: «ومع أن ساعة سان سفيران القديمة كانت منذ وقت طويل قد أسمعت الدقات الثلاث للساعة الثالثة في صمت الليل» ... ثم يتحدث إلى نفسه: الدقات الثلاث للساعة الثالثة. يا لها من مهنة! ثم يسخر ويرفع كتفيه ويمضي في الكتابة والإملاء: «... كان الشيخ ماضيا على بطء في الذهاب والمجيء، وقد التف من رأسه إلى قدمه في معطف قاتم اللون، وكانت تنحدر من عينيه دموع تتدحرج على لحيته البيضاء كأنها البرد.» ثم يقطع الإملاء. ما أشد شبه هذا بكلام الحمير! ثم يمضي في الإملاء: «وكان يغمغم بهذه الكلمات: يا للخزي! لقد أحسسته منذ عشرين سنة وما زال مع ذلك مضطرما لاذعا!» ثم يقطع الإملاء ويقول متحدثا إلى نفسه ومثيرا للاضطراب لشدة سخفه. ثم يمضي في الإملاء: «ماذا؟ أأحمل إلى الأبد ثقل هذا الخزي؟ ماذا؟ أأشعر إلى باب القبر بأن الدم يسيل من جرحي قطرة قطرة؟» ثم يقطع الإملاء متحدثا إلى نفسه: هذا الكتاب سخيف لا يشبهه في السخف إلا القارئ الذي قد يجد فيه متاعا. ثم يستأنف الإملاء: «وقد أخذ البرد يسقط.» وهنا يطرق الباب طرقا عنيفا. حسن. امرأتي الآن. يضع قلمه، ولكن طرق الباب يستمر كأنه المطر. نعم دقيقة، يا للشيطان! يذهب إلى الباب فيفتحه.
المنظر الثاني
ترييل وفالنتين
فالنتين :
ما هذا التستر؟ أتراك تزيف النقد؟
ترييل :
لا شيء. لقد أغلقت الباب لأني محتاج إلى أن أكتب على عجل ومشفق أن أصرف عن الكتابة. ادخلي.
فالنتين (وهي داخلة) :
أغلق الباب مسرعا حتى لا يفلت الإلهام.
ترييل :
إن لديك دائما تحية حسنة تهدينها إلي.
فالنتين :
وماذا تريد؟ وفيم إغلاق الباب من دونك وإكبارك نفسك إلى هذا الحد كأنك جوهرة من جواهر الترف! إنك لتنظر إلى نفسك نظرة الجد وترى نفسك شيئا.
ترييل :
إنك لسخيفة.
فالنتين :
على كل حال لم أصل من السخف إلى حيث أقيس نفسي إلى لورد بيرون (ثم تغمز بعينها) .
ترييل :
لا تتخذي الإساءة مذهبا يا فالنتين ... أين استكشفت أني أقيس نفسي إلى اللورد بيرون؟ إنما أنبئك بأن عملي ... (فلا تكاد تسمع كلمة العمل حتى تغرق في ضحك عال) ، لست موفقة حين تلقين هذا الضحك في وجهي. إنك لتخطئين إن ظننت أني أجد في هذا العمل لذة.
فالنتين :
وأنت أشد خطأ إن ظننت أن غيرك يجد في عملك لذة ما.
ترييل :
أي لذة تجدين في أن لا تقولي لي إلا ما يسوء أو ما تريدين أن يسوء؟ ... ومع ذلك فسنرى أينا يضحك أخيرا (فالنتين دهشة تنظر إليه)
صبرا يا حبيبتي صبرا.
فالنتين :
ماذا؟
ترييل :
أقول لك اصبري فالساعة قريبة.
فالنتين :
أتعرف بماذا تذكرني؟!
ترييل :
بالغزال.
فالنتين :
هذا غريب. ما أصدق حدسك!
ترييل :
أليس كذلك؟ وهكذا نحن حين نكتب في الصحف التي تأجر الكتاب ثلاثة فلوس على السطر. ولعلنا نحسن إذا لم نمض في المغازلة إلى أبعد من هذا الحد. وإذا انتقلنا إلى الجد. أتريدين أن تقولي لي شيئا؟
فالنتين :
في أكبر الظن، إلا أن أكون قد جئت لأستمتع بلقائك ولأتلقى حديثك كأنه جني النحل.
ترييل :
لا أجرؤ على أن أرجو ذلك. وإذن فأنت تريدين!
فالنتين :
أريد النقد.
ترييل :
أنفد ما عندك؟
فالنتين :
ما أجمل هذا السؤال! نعم قد نفد. فنحن في أول أكتوبر.
ترييل :
هذا صحيح.
فالنتين :
قد نفد ... قد نفد ... وكم أحب أن أعرف من أين يكون لي شيء من النقد الآن. أتظن أني أستيقظ في الليل لأسرقك؟
ترييل :
من حدثك عن السرقة؟ وما هذه الخصومة التي تتكلفينها؟ لا أظن شيئا. فأنا أعطيك في أول الشهر ما يحتاج البيت إليه من النقد. وبينما يمضي الشهر يمضي معه النقد، فإذا انتهى فرغ الكيس؛ هذا يسير كما ترين.
فالنتين :
وإذن فأد إلي النقد واحتفظ بجملك هذه الرائعة لتضعها في قصصك، فهي أحوج إليها مني (ثم تغمز بعينها) .
ترييل :
صبرا.
فالنتين :
ماذا تقول؟
ترييل :
إن الساعة قريبة، بل هي أقرب مما كنت أظن.
فالنتين :
أتعرف ماذا تصنع بي؟
ترييل :
أثقل عليك حتى أجهدك.
فالنتين :
هذا غريب حقا. يحسن بك أن تصطنع قراءة النفوس.
ترييل :
سأفكر في ذلك حين أدنو من الشيخوخة. أما الآن فسنتم حسابنا (ثم يذهب نحو مائدته ويخرج من بعض أدراجها أوراقا مالية)
وإذن.
فالنتين :
ثمانمائة فرنك كما تعلم.
ترييل :
ثمانمائة (ثم يقلب في الأوراق) ، واحد، اثنان، ثلاثة ...
فالنتين :
وأجرة البيت؟
ترييل :
سأؤديها على حدة. أربعة. خمسة. ستة، وسأدفع إليك الباقي نقدا.
فالنتين :
إن شئت.
ترييل :
هذا أيسر لك (ثم يخرج من جيبه ذهبا وفضة فيرصهما على المائدة) ، وخمسين، فالمجموع ستمائة وخمسون. هذا حقك.
فالنتين (دهشة) :
ما هذا؟!
ترييل :
نقدك.
فالنتين :
أي نقد؟
ترييل :
ما يحتاج إليه البيت في هذا الشهر.
فالنتين :
ليس الحساب دقيقا.
ترييل :
كيف ذلك؟
فالنتين :
كلا.
ترييل :
بلى.
فالنتين :
كلا، أصرت مغفلا؟ اطرح خمسين وستمائة من ثمانمائة.
ترييل :
يبقى خمسون ومائة فرنك.
فالنتين :
وإذن؟
ترييل :
وإذن ماذا؟
فالنتين :
فأدها إلي.
ترييل :
كلا.
فالنتين :
لماذا؟
ترييل :
لأنك مدينة بها لي.
فالنتين :
أنا؟!
ترييل :
نعم أنت.
فالنتين :
ما هذا الهذيان؟ لم تقرضني نقدا، على أني لم أتعود أن أقترض منك، فلعلي أحسن تدبير أمري في شيء من الاقتصاد والنظام، ولعلك تنبهت إلى ذلك منذ زواجنا الذي مضى عليه خمسة أعوام.
ترييل :
إنك تبعدين عن الموضوع، فليس الأمر يمس فضائلك النادرة، ولكنه يمس عيوبك التي لا تحصى مع الأسف. أتسخرين مني؟ والغرامة؟
فالنتين :
يظهر أني أتحدث إلى مجنون. أي غرامة؟
ترييل :
الخمسون ومائة فرنك التي فرضتها عليك غرامة - مع الأسف - لأنك تجاوزت ما ينبغي في حديثك إلي ساخرة مرة، عاصية مرة أخرى. (فالنتين تلقاه بالصمت والدهش.)
ترييل :
ألا تفهمين؟
فالنتين :
لا أفهم حرفا.
ترييل :
سأقرأ عليك التفصيل وحينئذ تفهمين (ثم يخرج من جيبه دفترا صغيرا فيفتحه ويقرأ فيه) : أول سبتمبر: لأنها قطعت بالرأي في مسألة دون أن تعلم منها شيئا، فلما اقتنعت بخطئها تعلقت به مع ذلك سيئة النية؛ لتفرض رأيها فرضا ولتغيظ السيد ترييل، وهو رجل معتدل صابر حلو الشمائل. تفرض عليها غرامة قدرها ثلاثة فرنكات وخمسة وتسعون سنتيما.
فالنتين :
أي شيء هذا؟ ماذا؟ ما تقول!
ترييل :
اليوم الثاني من سبتمبر: لأنها هيأت الغداء متأخرا عن موعده ربع ساعة على حين كان السيد ترييل قد طلب إليها أن يتقدم الغداء ربع ساعة. فلما شكا من ذلك قالت له: إذا لم يعجبك هذا فالتمس عشاءك حيث شئت. تفرض عليها غرامة قدرها ستة فرنكات وسبعون سنتيما.
فالنتين :
هذا ...
ترييل :
اليوم الثالث من سبتمبر: لأنها سبت السيد ترييل ووصفته بأنه دنس وقذر، وذلك حين أبى عليها أن تشتري مصباحا زجاجيا ملونا قصد به إلى تقليد الحديد المصنوع. تفرض عليها غرامة قدرها فرنكان وخمسون سنتيما.
في اليوم الرابع من سبتمبر: لأنها قالت للسيد ترييل حين شكا خلو الحساء من أطراف الدجاجة: إنك تعيد دائما ما تبتدئ، وهذا مع الأسف صحيح. تفرض عليها غرامة قدرها فرنك وخمسة وأربعون سنتيما!
في اليوم الخامس: لأنها قالت له: أتذكر يوم عفوت عنك بعد أن عدت إلى البيت في الساعة السابعة صباحا؟ تفرض عليها غرامة قدرها واحد وسبعون فرنكا.
فالنتين (دهشة) :
كم؟
ترييل :
واحد وسبعون.
فالنتين :
ليس الثمن غاليا.
ترييل :
من عفا عن إنسان فلا ينبغي له أن يذكر عفوه كل يوم. ومع ذلك فعم عفوت؟ فقد بينت لك أني لم أدرك القطار.
فالنتين :
لا أصدقك.
ترييل :
صدقي ما شئت، ولكن إن آثرت أن تتعبيني برحمتك وتعذبيني بعظمة نفسك وتضطهديني حتى يدركني الموت بذكرى إحسانك؛ فاحتفظي لنفسك بهذا الإحسان؛ فإني أوثر عليه الموجدة والضغينة. فإذا لم يكن بد من أن أكون فريستك فإني أوثر ألا يكون لك علي فضل. (ثم يغمز بعينه)
ولا يتم.
في السادس: لأنها فوجئت وهي تحطم مصباح الدهليز لتكره السيد ترييل على أن يشتري لها المصباح الزجاجي الملون الذي يقلد الحديد المصنوع. تفرض عليها غرامة قدرها أربعة فرنكات وتسعون سنتيما.
في اليوم السابع ...
فالنتين :
أيستمر هذا وقتا طويلا؟
ترييل :
ماذا؟ نظام الغرامات؟ سيستمر هذا النظام إلى أن تعودي إلى ما ينبغي لي من الاحترام الذي لن أتسامح به منذ اليوم.
فالنتين :
احترام!
ترييل :
نعم.
فالنتين :
هذا مضحك.
ترييل :
طبعا. منذ خمسة أعوام قد اجتهدت في أن أغفر ذنوبك وأخلق لنفسي واجبات لأشغل بتأديتها. أما اليوم فإني أغلو في الغرور حتى أفرض أنك ولو مصادفة قد لاحظت ذلك وتأثرت به. فأنا إذن مخطئ. وإذن يا ابنتي فسأبقى على هذا الخطأ، فقد ضقت بك وقد أخذت تخرجينني عن طوري.
فالنتين :
لسنا في إصطبل، ولم أتعود أن أخاطب على هذا النحو.
ترييل :
لن تحتاجي إلى أن تعلمي ذلك.
فالنتين :
سنرى.
ترييل :
لقد رأيت.
فالنتين :
أيها العزيز ...
ترييل :
تريدين أن ندخل في الشروح؟ فلندخل، ففي هذا رياضة. لقد مضت أعوام خمسة وعفوي يشمل ذنوبك، وأنا أتبع قلبك كما يتبع الصائد طريدته، قلبك الذي هو هنا وأنا أعفو كل يوم متعلقا بأمل لا يكاد يدركه الغد حتى يخيب. فأما في أول عهدنا بالزواج وقد كنت أحاول الإقناع وأمدح لك فضائل الوفاق ومزاياه ولذة الاتحاد الذي لا يفسده شيء، وأحدثك أحاديث تمليها حلاوة الشمائل والعطف. فكان هذا كله جهدا ضائعا.
وذات يوم أضعت ساعة في هذا الإقناع من غير جدوى، ففقدت الصبر. فنهضت وأخذتك من أذيال ثيابك، فلما أقررتك إقرارا محكما تحت ذراعي اليسرى أدرت ذراعي اليمنى كما تصنع الغاسلة بثيابها ومنحتك ...
فالنتين :
يا له من عمل عظيم! ما أجدرك أن تفتخر أيها الأحمق! أيها الجبان! أيها الوضيع!
ترييل :
سأنتفع بإذنك وسأفاخر بحقي. فإذن هذا العمل القوي الذي لم يذهب ضياعا قد ألهمك خواطر نافعة، وقد عرفت دهرا كيف أستبقي نفعه حين كنت أهدي إليك من حين إلى حين بعض هذه الضربات في الظروف المناسبة وفي غير جور ولا ظلم. فلست في حقيقة الأمر جبانا ولا وضيعا كما تحبين أن تقولي، وإنما أنا رجل أديب بائس.
فالنتين :
لا حظ له من كفاية ...
ترييل :
نعم لا حظ له من كفاية، ولكنه يطمع في أن يجد في بيته من الهدوء ما يمكنه من الظفر بها أو بشيء منها. ولكنكن - مع الأسف - أيتها النساء تتعودن بسرعة أحسن الأشياء. فقد رأيت مع الحزن وقتا أخذت لا تحفلين فيه بالضرب، وكاد يقبل وقت آخر تجدين فيه للضرب لذة، فتحولت إلى نوع آخر من التمرين. هنالك خطر لي أن أنتقم من أثاث البيت.
فالنتين (ساخرة) :
لقد كنت ذكيا.
ترييل :
كنت ذكيا جدا، فلم أكد أحطم بضربة واحدة تلك المرآة حتى رأيتك واجمة، فابتهجت لذلك وفرحت به حتى لم تمض ستة أسابيع إلا وقد ضحيت في سبيل حاجتي الشديدة إلى الهدوء كرسيين، وإبريقا، ومكتبة الموسيقى، والمصباح، والساعة، وآنية الحساء، وتمثال عمك أرسين الذي كان زينة صالوننا المتواضع، وأشياء أخرى تمس إليها الضرورة. ولكن المحزن يا فالنتين أن الأثاث ليس كذلك الطائر الذي يبعث بعد أن يصير رمادا. فلما رأيت أني مضطر إلى أن أعوض ما أحطم، فسدت علي اللذة التي كنت أجدها في تحطيم الأثاث، واضطررت إلى أن ألتمس شيئا آخر، ولكن ماذا؟ الرحيل! ولكن إلى أين؟ فهذه هي المسألة بالقياس إلى رجل من الطبقة الوسطى يكره الحياة التي لا تبيحها القوانين كما يكره الحياة المضطربة في الفنادق. وقد أخذت أجد اليأس لولا أن الله ألهمني أن أفرض عليك أن تدفعي ثمن أغلاطك من جيبك الخاص. حل سعيد فيما أظن. حل حاسم على كل حال لن أتحول عنه، فمنذ الآن إذن تستطيعين بكل هدوء، قوية بهذه اليمين التي أقسمها لك، على أني لن أغضب مهما يكن ما يدعو إلى الغضب. تستطيعين أن ترسلي أخلاقك الجهنمية على سجيتها. مهما تقولي ومهما تفعلي، فلن تنالك مني أية لطمة ولا أقل دعوة إلى النظام، إنما أقيد ذلك في الدفتر ليس غير، وتؤدين آخر الشهر. صيحي، اجأري، ازأري، اصخبي. أعلني ما استطعت من الفضائح، أزعجي الجيران كما تريدين، فلن يشغلك شيء، ستؤدين آخر الشهر. لا خصومة فقد زهدت فيها، لا نضال فقد تعبت منه. لقد أزمعت في حزم أن أظفر بالهدوء في بيتي، وإذ لم أستطع أن أبلغه لا بالحسنى ولا بالعنف فقد آثرت أن أشتريه بمالك الخاص. وقد كان لك مندوحة عن هذا لو منحتني هذا الهدوء بغير ثمن. لقد قلت فلن أؤخرك بعد الآن. بونجور. تستطيعين أن تنصرفي إلى ما يشغلك. إني لمحزون لفراقك في هذه السرعة، ولكن الواجب يدعوني والساعة تحثني وصحيفتي لا تنتظر.
فالنتين :
إذا بلغت حاجتك من الكلام فأنبئني.
ترييل :
لقد بلغت حاجتي منه.
فالنتين :
هذا خير، والخمسون ومائة فرنك؟
ترييل :
لا شيء.
فالنتين :
لا تريد أن تؤديها إلي؟
ترييل :
لا.
فالنتين :
هذه فكرة ملحة.
ترييل :
نعم.
فالنتين :
إن البيت ثقيل.
ترييل :
أعلم ذلك.
فالنتين :
وأعباؤنا كثيرة.
ترييل :
لا أنكر ذلك.
فالنتين :
فأنا أنبئك أن من المستحيل أن أستقبل هذه الأعباء بخمسين وستمائة فرنك.
ترييل :
فاستدبريها إذن.
فالنتين :
كما تريد، فسنعيش إذن على الخبز والماء النقي.
ترييل :
كلا لا تظني هذا، ستنظمين أمرك كما تستطيعين. ولكن إذا لم أجد في أوقات الطعام الغذاء الصحي الغزير الذي تحتاج إليه شهيتي، وهي آية ضمير المستريح؛ فسألتمس غذائي في المطعم على حسابك بالطبع. فقد يكون من المضحك أن يفرض علي الخبز الجاف كلما ساء خلقك أو فوجئت وأنت تحطمين المصباح.
فالنتين :
أهذه كلمتك الأخيرة؟
ترييل :
الأخيرة.
فالنتين :
حسن (ثم تمد ذراعيها نحو النافذة)
ستدفع إلي هذا المقدار أو سألقي نفسي من النافذة.
ترييل :
من النافذة؟
فالنتين :
من النافذة!
ترييل (يذهب متئدا إلى النافذة فيفتحها) :
شبي! ... لحظة ... هلمي شبي!
فالنتين (تبقى ساكنة وقد علقت بزوجها عينين يملؤهما البغض، ثم تقول) :
تبتهج لهذا أيها القاتل؟ (ترييل يغلق النافذة ويعود إلى المكتب.)
فالنتين (وهي تتبعه) :
قاتل، قاتل، قاتل.
ترييل (إلى مائدته وقد انحنى على الدفتر) :
أول أكتوبر: لأنها أنذرت السيد ترييل بأن تقتل نفسها بين يديه مستغلة بذلك حنان زوجها المخلص، تفرض عليها غرامة قدرها ... أربعة فرنكات وخمسة وتسعون سنتيما.
فالنتين :
جبان، جبان، جبان!
ترييل (ممليا على نفسه) :
ولأنها لم تنفذ نذيرها تفرض عليها غرامة قدرها خمسون سنتيما.
فالنتين :
إني لأعلم ما تريد أن لا أعلمه. إنما تتمنى مهلكي.
ترييل :
مهلك ... (ثم يكتب)
خمسة وسبعون سنتيما؛ لأنها استعملت في الحديث كلمة أخذتها من المعجم.
فالنتين :
ما أكثر ما تألمت دون أن أشكو، لأعودن إلى أهلي (ثم تخرج مسرعة) .
المنظر الثالث
ترييل وحده
ولا بأس بالإعراض عن هذا المنظر، فقد عاد الكاتب إلى ما كان فيه أول القصة من الكتابة والإملاء على نفسه.
المنظر الرابع
ولا بد من تلخيص هذا المشهد اجتنابا للإطالة، وتستطيع أنت أن تقرأه إن شئت. فهذه فالنتين تمر في طريقها إلى الباب فتلقي إلى زوجها كلمة الوداع، ويرد عليها معرضا عنها، ولكنها تتلكأ تسأله أليس يريد أن يقول لها شيئا؟ فإذا أجابها سلبا، ألقت إليه كلمة الوداع مرة أخرى ورد عليها معرضا عنها كذلك. وما تزال تتلكأ وما يزال هو يعرض عنها حتى يضطرها إلى الخروج. ولكنها لا تكاد تتجاوز الباب حتى تعود إليه فتتعلق به وتسأله أن يؤدي إليها هذا المقدار الذي اقتطعه منها، فإذا أبى ألحت، وينتهي الإلحاح بها إلى التوسل ثم إلى التضرع والاستعطاف، ثم إلى أن تقبل منه اقتطاع هذا المقدار، ولكن في الشهر المقبل لأنها محتاجة إليه اليوم.
ويفهم هو، بل يرى، من حديثها ومن شكلها أنها محتاجة إلى هذا المقدار حقا، فإذا سألها عن ذلك واستوثقت من أنه لن يشق عليها في الغضب والعقاب، اعترفت له بأنها قد اشترت المصباح الذي كان يأباه عليها، واشترته نسيئة وكتبت صكا بالدين وزورت إمضاء زوجها ليقبل البائع منها هذا الصك. ولا يقف أمرها عند هذا الحد، فلم تكد تعود بالمصباح إلى بيتها حتى وجدته محطما. فإذا قصت على زوجها هذا كله مستخذية خجلة باكية رق لها وعطف عليها، ولكنه مع ذلك يتكلف الجد والغضب، ثم ينتهي برد المقدار الذي كان اقتطعه منها، فترضى وتطلب مثله، فإذا سألها دهشا: لماذا؟ أجابته بأنها قد أخذت حقها وبقي عليه أداء الدين. هنالك يفقد ما يتكلف من الجد ويلقي السلاح ويعدها بأن يؤدي هذا الدين بنفسه.
وأمام هذا الوعد تدهش فالنتين وتنظر إلى زوجها نظرة يملؤها العجب كأنها تستكشفه لأول مرة، ثم تعرب عن هذا الاستكشاف بهذه الجملة: «حقا إنك زوج كريم.» وإذا هي بين ذراعي زوجها نادمة معتذرة ملاطفة، قد وضعت رأسها على كتفه وهو يقول جملة يونانية معناها: رأس جميل، ولكن فيه عقلا صغيرا. فإذا سمعت هذه اللغة الغريبة سألته عما يقول، فينبئها بأنه يقول كلاما يونانيا، فتظهر ما أخفت من الإعجاب به، ثم تنصرف عنه ويخلو الفتى إلى نفسه لحظة، ثم يعود إلى ما كان فيه من الكتابة فيحصي أسطره، حتى إذا انتهى من الإحصاء رأى أنه قد بلغ ما يكفي لحاجة الصحيفة، فيكتب هذه الكلمة التي يمليها على نفسه بصوت مسموع: «يتبع».
العرق الذهبي
للكاتب الإيطالي بيراندلو
ولا بد من أن أقدم بين يدي هذا التلخيص أمرين:
أحدهما:
أن القصة التي ألخصها قديمة مثلت لأول مرة قبل الحرب الكبرى، وقد أعجب بها الإيطاليون إعجابا شديدا، فعرضت عليهم مئات من المرات، وهي من أجل هذا قد تظهر غريبة بعض الشيء أو غريبة كل الغرابة لهذا الجيل الذي ظهر بعد الحرب الكبرى، وبعد أن تغيرت عقول الناس ومذاهبهم في الحكم على الأشياء، بل في إحساس الأشياء والشعور بها.
على أن الترجمة الفرنسية لهذه القصة لم تمثل إلا منذ أعوام كما ترى في العنوان. وقد أحس الفرنسيون غرابة القصة عما ألفوا في التمثيل المعاصر، ولكنهم لم ينكروها ولم تنب عنها أذواقهم؛ لأن الموضوع الذي طرقته موضوع خالد ثابت في نفسه مهما تتغير الأطوار والظروف، ولأن المشكلة التي عرضت لها القصة مشكلة خليقة أن تظهر، بل هي تظهر بالفعل في كل زمان وفي كل بيئة، فإذا تغيرت طرق الناس في الشعور بها، ومذاهبهم في حلها؛ فإن المشكلة في نفسها لا تتغير ولا تمتنع من الظهور.
الثاني:
أن هذه القصة شديدة التأثر بمذهب معين في الأدب الإيطالي، وهو مذهب الشاعر الإيطالي العظيم ديونزيو الذي كان شديد العناية بتصوير بيئة خاصة لتمثيله تتألف قبل كل شيء من المظاهر والمعاني والأوضاع والأشكال التي تثير شعور الفنان، وتدفع الشاعر إلى الحنين ثم إلى قول الشعر. فهو يخلق بيئة شعرية فنية إن صح هذا التعبير، وهو يعرض عليك من المناظر هذه الصور والأشكال التي تعجب الشعراء وتدفعهم إلى قول الشعر؛ فهو في إحدى القصص مثلا يعرض قصرا جميلا، ولكنه مهمل قد تهدم، وأخذت آثاره يدركها العفاء، وهو في قصة أخرى يعرض قصرا جميلا فخما، ولكنه قد أثث تأثيثا سيطر عليه الذوق الراقي في جملته وتفصيله. ثم هو - كما سترى بعد حين - يعتمد في قصته نفسها على مثل ما يعتمد عليه في المناظر من هذه المعاني الفنية الشعرية الخالصة، ومعنى هذا أنه يلتمس المؤثرات في أشخاص القصة وفي القصة وفي النظارة أنفسهم من الخارج، من أشياء لا تتصل بنفوس الممثلين والنظارة ولا تصدر عنها، وإنما تسعى إلى نفوس الممثلين والنظارة وتؤثر فيها.
والذين يحسنون العلم بالأدب الإيطالي الحديث، يعرفون أن بيراندلو قد غير هذا المذهب تغييرا، وأخذ يلتمس عناصر قصته، ومظاهرها، من داخل النفس الإنسانية لا من خارجها؛ فهو يواجه المشكلات النفسية مباشرة، وهو يلتمس لها الحلول من الطرق النفسية الخالصة كأنه أستاذ يدرس ناحية من نواحي النفس، على أساليب العلماء البسكولوجيين.
فليس غريبا إذن أن يكون الحديث عن هذه القصة شيئا من الحديث عن تاريخ الأدب التمثيلي. فإذا لاحظنا أن حياة الناس مفعمة في هذه الأيام بالحوادث العظام التي تنسيهم أو تكاد تنسيهم الماضي، مهما يكن قريبا؛ عرفنا أننا لا نتحدث عن قصة معاصرة وإن كانت قد أنشئت، وعرضت على النظارة، في هذا القرن الذي نعيش فيه.
والآن وقد فرغنا من هذه المقدمة التي لم يكن منها بد، نعمد إلى القصة نفسها، فنعرض خلاصتها عليك في إيجاز، ونترك لك الحكم على قيمتها الفنية الخالصة، وإن كان النقاد الفرنسيون والإيطاليون قد أجمعوا على الثناء عليها إجماعا لم يكد يشذ عنه شاذ.
والمشكلة التي عرض لها الكاتب الإيطالي مألوفة - كما قلت - في كل زمان وفي كل بيئة، وهي مشكلة المرأة التي لا تتاح لها الحياة الزوجية إلا ريثما تصرف عنها صرفا، ولكنها تصرف عنها وقد تركت لها ابنا أو بنتا فهي تشغل بتربية الابن أو البنت وتنشيئهما عن نفسها وقتا ما، حتى إذا استكمل الفتى أو الفتاة حظه من التربية أتيح لهذه الأم من الفرص ما يذكرها بنفسها، ويوقظ عواطفها وميولها وأهواءها وغرائزها التي كانت نائمة أو كالنائمة. وإذا هي موضوع صراع عنيف بين غريزة الأمومة من جهة، وغريزة المرأة من جهة أخرى، وإن كانت غريزة الأمومة قد أرضت حاجتها، وأدت واجبها وأصبحت تستطيع أن تهدأ وتستقر. فانظر كيف صور الكاتب هذه المشكلة، وانظر إلى الحل الذي عرضه لها.
فأما حين يرفع الستار عن الفصل الأول، فنحن في قصر من قصور الأغنياء الإيطاليين في مدينة بولونيا، والخادم يدخل زائرا من الزائرين إلى حجرة الاستقبال، ويرجو منه أن ينتظر ريثما ينبئ سيده بمكانه. وهذا الزائر - كما سيظهر لنا أثناء القصة - شاعر قوي الشاعرية، قد بدأ يعرف في البيئات الأدبية، واسمه جي منفريدي. وهو ينتظر كما طلب إليه أن ينتظر، ولكنه أثناء ذلك معجب بما حوله من التحف التي نسقت تنسيقا حسنا، يدل على ذوق حسن؛ فهو ينظر كأنه يمتحن. وإنه لكذلك وإذا رجل شيخ قد دخل عليه وهو شديد النشاط، كثير المرح، لا يحب الصمت ولا يطيقه؛ فهو يتحدث إلى نفسه ويبذل جهدا غير قليل لحمل هذا الشاعر على الحديث. وسنعرف بعد قليل أن هذا الشيخ أستاذ من أساتذة الطب العقلي، واسمه ألباني، وهو صديق للأسرة ملازم لها منذ عهد بعيد، له عندها حقوق وعليه لها واجبات. ثم يأتي سيد القصر بعد قليل، وهو شاب قد بلغ العشرين من عمره، عظيم الثروة، جميل الشكل، قوي، شديد النشاط، شديد الميل إلى الجد، قليل الحظ من اللهو والعبث، واسمه كونراد. وهو صديق الشاعر قد عرفه في روما، وقويت الصلة بينهما، وهو سعيد بمقدم صديقه ، يريد أن يقضي معه وقتا غير قصير في هذه المدينة، وهو يذهب ليدعو أمه، وتأتي أمه بعد قليل، ولكننا نعرفها قبل أن تقبل، فهي امرأة شابة قد زوجت ولما تكد تبلغ السابعة عشرة من عمرها، ولم تقض مع زوجها إلا خمسة أشهر، ثم هجرها هذا الزوج وفارق إيطاليا كلها مع خليلة له روسية، ثم انقطعت عنها أخباره فلم تعرف من أمره شيئا، ولكنه تركها حاملا. ولم تكن قد أحبته حين زفت إليه، فلم يكن حزنها لهجرانه إياها شديدا، ولا لاذعا، وإنما تعزت بانتظار الجنين، ثم شغلت بابنها نفسه بعد مولده، فانصرفت عن الحب والحزن إلى هذا الطفل الذي وقفت عليه حياتها كلها. وها هي هذه تقبل فلا يكاد الشاعر يراها حتى يملكه إعجاب بها، ودهش لجمالها وشبابها، لا يكاد يخفيه. وليس من شك في أنها هي أيضا لم تكد ترى الشاعر وتسمع بعض حديثه حتى وقع من نفسها موقعا خاصا، ولكن التليفون يدعو. فإذا استجاب لدعائه عرف أن قريبة له هي إميلي تنبئه بمقدمها مع جماعة من أصحابها، وتريد أن تقضي في القصر ساعات فيها لهو، وشراب، وطعام.
ونعلم نحن بعد حين من أمر هذه السيدة أنها صاحبة دعابة ومجون، وأنها تتبع فتى القصر بدعابتها ومجونها؛ لأنها تهواه كما تهوى كل فتى له حظ من جمال وشباب. وقد أقبلت وأقبل معها أصحابها، وهيئ لهم مجلس اللهو في الحديقة، فخرجوا يلهون. ولكنها انتهزت فرصة فتحدثت إلى الفتى بحبها ودعته إلى زيارتها، وسمع لها الفتى في غير رفض وفي غير إباء. وقد أحست أمه هذا وهي مشفقة عليه من هذه المرأة بعض الشيء، تخاف أن تصرفه عنها. على أننا لا نلبث أن نرى ماريا، وهي سيدة القصر قد أقبلت إلى الغرفة كأنها تريد العزلة، فهي في غير حاجة إلى الطعام، ولا إلى الشراب، ولا إلى اللهو. ولكنها لا تلبث أن ترى الشاعر قد أقبل؛ لأنه أيضا ليس في حاجة إلى شراب ولا إلى لهو. وهما يتحدثان، ويتحدثان عن كنيسة قريبة قد زارها الشاعر منذ أعوام حين استكشف قسيسها في فنائها قبرا قديما عليه نقش قديم، وقد عرف الشاعر والقسيس من هذا النقش أن صاحبة القبر فتاة يونانية، وأن القبر كان قد أعد لها ولزوجها، فدفنت فيه وحدها لأن زوجها قد دفع إلى ما كان يدفع إليه حكام الأقاليم في ذلك الوقت من حروب قلما يعود المدفوعون إليها، فهي في قبرها وحدها تنتظر زوجها منذ عهد بعيد، وانتظارها هذا يلهم الشاعر ويثير في نفسه موضوعا سينظم فيه ديوانا خاصا. وواضح جدا أن قصة هذه الفتاة اليونانية التي تنتظر زوجها في القبر منذ قرون تشبه إلى حد ما قصة صاحبة القصر التي ذهب عنها زوجها منذ أعوام طوال، فهي تنتظره أو تنتظر غيره. هي تنتظر على كل حال، وقد فهمنا نحن من الحديث بين الشاعر وهذه المرأة أن صلة قوية قد نشأت بين نفسيهما وإن كانا لم يشعرا بها شعورا واضحا.
ومهما يكن من شيء فإن الستار لا يكاد يرفع عن الفصل الثاني حتى يتبين أن هذه الصلة لم تكن عبثا ولا ظنا، وإنما كانت حقا، وكانت أدنى إلى الجد من كل تقدير. فنحن حين يرفع الستار عن الفصل الثاني في نفس المكان الذي كنا فيه أثناء الفصل الأول، ونحن نرى كونراد كئيبا كاسف البال، مشرد النفس، لا يكاد يحفل بأحد ولا يكاد يفرغ لشيء، وقد أقبلت عليه صاحبته فهي تحدثه وتداعبه وتنبئه بأنها انتظرته للموعد الذي كان بينهما، فلما أبطأ عليها سعت إليه، ولكنه عنها مشغول، لا يكاد يلتفت إليها، ولا يحفل بحديثها، وهذا الأستاذ الطبيب قد أقبل، فلم يظفر من عناية الفتاة بشيء. ونحن نفهم من حديثهم جميعا أن قد مضت أشهر على ما رأينا في الفصل الأول، وأن صاحبة القصر قد خرجت مع الشاعر كعهدها منذ زمن طويل، تزور الآثار والمناظر الطبيعية الرائعة. لم يمنعها من ذلك هذا البرد الشديد ولا هذا الثلج الذي يسقط متصلا ملحا. ثم لا تكاد تمضي لحظات حتى تعود صاحبة القصر، ومعها شاعرها، وهما مفتونان بجمال ما شهدا من المناظر، وما زارا من المتاحف والآثار، وهي خاصة سعيدة كل السعادة بما رأت وبما شهدت، تتحدث عن ذلك كله حديث المشغوف به، إلى أقصى حدود الشغف، وهي تحس من ابنها فتورا وازورارا، فتسأله عن ذلك، فلا يجيبها بشيء. على أنها لا تلح في السؤال، كأنها مشغولة عن ابنها بما يملأ نفسها من جمال ما رأت وما سمعت وما أحست. ونشعر نحن بأن الفتى يألم لذلك أشد الألم، ويضيق به أشد الضيق، على أن أمه لا تكتفي بخروجها مع هذا الشاعر وانصرافها إليه وافتتانها به. ولكنها تدبر في غير تكلف لاتصال العلاقات بينهما، فهي تنظم خروجها معه إذا كان الغد، وسفرها معه بعد أيام لزيارة بعض الآثار، وهي تدعوه للعشاء معها هذا المساء، وللإفطار معها من الغد، والفتى يسمع ويرى وينكر في غير قول. حتى إذا تفرق الناس ولم يبق إلا الفتى وأمه، وهذا الشاعر، لم تلبث الخصومة أن تظهر بين الفتى والشاعر يسيرة أول الأمر، ثم قوية شديدة العنف. فالفتى مغيظ محنق، وهو يسخر بهذه الآثار التي تزورها أمه مع هذا الشاعر، ويسخر خاصة بمذهب الشاعر في فهم الأشياء، والحكم عليها. فهذا الشاعر يفسد الأشياء الجميلة بتصوره لها على هذا النحو الغريب. هذه الفتاة اليونانية التي استكشف قبرها في الكنيسة والتي زعم الشاعر أنها كانت عاشقة فحيل بينها وبين زوجها وظلت تنتظره قرونا، هذه الفتاة كان الناس يرونها قديسة، وكانوا يلتمسون عندها ما يلتمس عند القديسين من المعونة والعزاء، فأصبحت الآن عاشقة مفتونة يلهو بحديثها الشعراء وأصحاب المجون ولا يلتمس الشعب عندها معونة ولا عزاء. وما يزال الحديث بين هذين الرجلين يسوء ويسرف في السوء حتى يبلغ الفتى الغيظ، وإذا هو ينصرف من الحجرة ثائرا مهتاجا، ويدع الشاعر وأمه حائرين بل مختلطين، فهما قد عرفا ما يحزن الفتى وما يسوءه، فقد استكشف الفتى ما بينهما من حب، وقد ثارت الغيرة في نفسه فأفسدت عليه أمره ومزاجه، وأخرجته عن طوره. وهما يستيقنان الآن بأن بينهما حبا، دفعا إليه دفعا، وليس فيه من شك. وهذه الأم نادمة على حبها، محزونة على ابنها، مدفوعة إلى التضحية بهذه الحياة الحلوة التي كانت تبسم لها، لتقصر حبها على ابنها الشاب.
وهذان العاشقان يفترقان إلى غير لقاء، وهذه المرأة محطمة تبكي أملها، الذي لم يشرق إلا ليستحيل إلى ظلمة قاتمة، ويأس مهلك. ويعود الفتى بعد حين، فتنبئه أمه بأن الشاعر قد مضى إلى غير رجعة، وإذا هو يجثو أمامها، ويضع رأسه في حجرها ويبكي بكاء مرا.
ثم يرفع الستار عن الفصل الثالث بعد عام، وإذا نحن في الغرفة نفسها نرى الأم ضعيفة منهوكة قد بلغ منها الجهد، وابنها يمرضها، ويطب لها، مخلصا شفيقا. ويفهم من الحديث أنهما أنفقا عامهما في السياحة التماسا لشفاء هذه المرأة من علتها المجهولة فلم يظفرا بشيء. وقد أقبلت صاحبة الفتى زائرة مسلمة، وأقبل الطبيب كذلك زائرا مسلما، وهو يلح على هذه المرأة في أن تخرج معه، ليمتحنها أولا، ثم ليزور معها ملجأ لليتامى كثيرا ما كانت تزوره قبل سفرها. وهي تخرج ويتبعها الطبيب، ثم يعود بعد حين فيخلو إلى الفتى وينبئه بأن أمه لا تشكو علة معروفة وإنما تشكو شيئا غامضا، وهو يحاول أن يوضح هذا الشيء الغامض فيجد في ذلك مشقة، ولكنه ينتهي إلى الصراحة فيلفت الفتى إلى أن أمه ما زالت في ريعان الشباب، وأنها قد كظمت عواطفها وغرائزها، ومن الجائز أن تكون هذه العواطف والغرائز المكظومة قد صادفت ما أثارها، فلا بد من الاعتراف بالحق ومن مواجهته بشجاعة وصراحة، فعواطف الناس وغرائزهم موجودة، ولها قوتها وسلطانها، وقد تستطيع الإرادة أن تقهرها ولكنها هي تستطيع أن تحطم الجسم تحطيما، تفنيه إفناء. والفتى يدافع الطبيب عن هذا القول، ولكن الطبيب قد ألقى كلامه، وطلب إلى الفتى أن يكون شجاعا وأن يواجه الحقائق الواقعة في غير جبن ولا نفاق.
وقد انصرف الطبيب وظل الفتى وحده لحظة، وقد انجلى له الأمر، ووضحت أمامه الحقيقة، فهو جزع يبكي ما وسعه البكاء. وهذه صاحبته قد عادت إليه، وهي تتحدث بأحاديثها أثناء غيبته، وهي تدعوه إليها يائسة منه، ولكنه يستبقي ردها، وحبها أيضا. وهي تنبئه بأن الشاعر في المدينة يتردد على الكنيسة منذ شهرين، فلا يكاد يسمع ذلك حتى يعود إليه تفكيره فيما كان يفكر فيه، وإذا هو يتناول القلم ويخط أسطرا ويدعو الخادم ويدفعها إليه، ولا يكاد يخلو إلى نفسه لحظات، حتى يعود الخادم فينبئه بأن الشاعر مقبل في أثره. وهذا الشاعر قد أقبل والفتى يلقاه باكيا مغرقا في البكاء. والفتى يريد أن يتحدث إليه بما في نفسه فلا يستطيع؛ لأن موضوع الحديث دقيق عسير، والشاعر يسأل الفتى ما خطبه، وما يحزنه، ولكن لا يحير جوابا، وما يزال الشاعر يسأل والفتى يتعثر في الجواب حتى يفهم عنه الشاعر بعض ما كان يريد، وإذا الشاعر يهون على الفتى ويعزيه، ويقول له: لقد رأيت قوما يحفرون في الأرض وينغمسون في التراب والطين حتى يعلوهم الكدر، بل يشملهم، ولكنهم آخر الأمر ينتهون إلى العرق الذهبي الذي كانوا يبحثون عنه، فهم سعداء بما انتهوا إليه، لا يحفلون بما علق بهم من التراب والطين ما داموا قد انتهوا إلى الذهب. وأنت كهؤلاء الناس قد أخذت تبحث في أعماق نفسك، بل في أعماق النفس الإنسانية، وتنغمس في كدر الغرائز وسيئاتها وآثامها، حتى انتهيت إلى العرق الذهبي وعرفت أن للطبيعة حقها وأن الأمومة لا تقضي بأن تفنى الأم في ابنها، وأن البنوة لا تقضي بأن يملك الابن أمه. وقد فهم كل من الرجلين عن صاحبه. وهذا الفتى يدعو الشاعر إلى أن يستأنف تردده على القصر، ثم تقبل الأم متعبة مكدودة فيلقاها ابنها متجلدا، وهو ينبئها بأنه قد رأى الشاعر، وبأن الشاعر سيستأنف زيارته كل يوم منذ هذا المساء، والأم تسمع هذا الحديث فيكاد يصعقها، وقد فهمت عن ابنها، وعرفت أنه قد فهم، وهي مستخذية وهي سعيدة، وهي صامتة ودموعها تنحدر متصلة في غير كلام، ولا حركة، وقد نهض الفتى إلى أمه فضمها إليه، وألصق وجهها إلى وجهه، وامتزجت دموعهما.
كنت أنتظرك
قد لا تكون هذه القصة ملائمة لما ألف القراء أن أتحدث إليهم فيه؛ لأن موضوعها يتجاوز إلى حد بعيد ما نحب نحن ألا نتجاوزه في أحاديثنا من الأوضاع والتقاليد، ولكنها مع ذلك خليقة بأن نقف عندها اليوم؛ لأنها قيمة ممتعة من جهة، ولأنها تمثل لونا من ألوان الأدب التمثيلي الفرنسي عاش أعواما، ثم انقضى عهده واستحال إلى طور جديد، وهو أدب الشباب الذين أخذوا يكتبون في أعقاب الحرب الكبرى متأثرين بما أحدثت هذه الحرب في حياة الناس وأخلاقهم، وأحكامهم على الأشياء، وتقديرهم لها من فساد واضطراب. كان أخص ما يمتاز به هذا الأدب لا في التمثيل وحده بل في غيره من الفنون الأدبية: ازدراؤه للعرف، وخروجه على التقاليد، واستهزاؤه بما ألف الناس، وانصرافه عما أحبوا، واسقباله للحياة على أنها لغو لا غاية لها، ولا قوام من المثل الأعلى، وإنما هي أيام تقضى فرضت على الناس فرضا، دخل الناس فيها كارهين، وسيخرجون منها كارهين، لا يملكون لها إصلاحا، ولا تدبيرا، وإنما تملكهم هي وتقهرهم ظروفها الطارئة فتعبث بهم، وتجشمهم ما يكرهون. فلا بد للناس إذن من أن يأخذوا هذه الحياة كما هي، ومن أن يسخروا من الظروف كما تسخر منهم الظروف، ومن أن يزدروا التقاليد التي أقيمت عليها حياة الجيل السابق فانتهت إلى كارثة الحرب، وأقامت الأدلة الناصعة على أن حضارة الناس، وقواعدهم كلها، عبث لا خير فيه.
ومن أجل هذا كله أصبح الشباب الذين ظهروا في الأدب بعد الحرب أصحاب لذة وتهالك على المنفعة واستخفاف بالخلق، يقبلون على ذلك في سيرتهم العملية ويصورون ذلك في آثارهم الأدبية. وكان الجيل الذي سبقهم يكره ذلك منهم ويضيق به، ويقاومهم رفيقا بهم حينا وعنيفا عليهم حينا آخر. وما زال هذا النزاع متصلا بين شيوخ الجيل القديم وشباب الجيل الحديث، حتى فعلت الأيام فعلها وأحدثت الحياة آثارها وثاب إلى الشباب بعد أن تقدمت بهم السن قليلا شيء من رشد، وفضل من صواب. فأما الذين كانوا يتخذون الخروج على التقاليد وازدراء المألوف مذهبا وطريقا إلى الظهور، دون أن تكون لهم من وراء ذلك قيمة صحيحة؛ فقد خمدت نارهم، وذهبت ريحهم، وغمرتهم الحياة. وأما الذين كانوا يذهبون في ذلك مذهب المجاراة ولهم من ورائه قوة فنية تقدر على المقاومة وتثبت للتطور؛ فقد ردوا شيئا فشيئا إلى القصد والاعتدال، وانجلت عنهم الغمرة، وقد استقرت قلوبهم في صدورهم، وهدأت عواطفهم الثائرة، واتخذت نفوسهم الجامحة سبيلا قصدا إلى الإنتاج الأدبي القيم. وكان كاتبنا من هؤلاء، فقد قدم قصته الأولى إلى الملعب ولما يتجاوز العشرين، وكان أشخاص قصته الأولى كلهم غلمانا مثله، وكان يشهد تمثيل هذه القصة ويرى إعجاب الناس بها، ورضاهم عنها، وهو هادئ مطمئن لا يزدهيه الفوز ولا يبطره النجاح، ولا يخرجه عن طوره إسراع أمه إليه تقبله فيما بين الفصول، بأعين النظارة الذين كانوا يرون ذلك فيشتد إعجابهم به وتصفيقهم له.
ومضى هذا الشاب أو هذا الغلام الحدث في إنتاجه الأدبي الجريء، يخرج القصة والقصتين في كل عام، ويظفر بالفوز المتصل، وعقله في أثناء ذلك ينمو، وقلبه في أثناء ذلك يعتدل، حتى انتهى سنة 1928 إلى هذه القصة التي أتخذها اليوم موضوعا لهذا الحديث، ولم يكن حين قدمها للملعب قد جاوز الثامنة والعشرين، وإذا النقاد يلاحظون تطوره واستقرار قلبه وهدوء نفسه، وتغلب عقله على عواطفه، وتسلط عقله على فنه أيضا، فيسمونه الشاب الحكيم. وأحب أن تلاحظ أن هذه القصة قد استبقت بعض ما ألف هؤلاء الشباب من التقاليد الفنية، ولكنها مع ذلك قد خطت نحو الروية والاعتدال خطوات بعيدة، فهي صراع على الحب بين الشباب المحدثين والكهول الذين تقدمت بهم السن، وهي من هذه الناحية حرة طلقة لا تكاد تتقيد بعادة أو تقليد. وحسبك أنها تنشأ في حانة من الحانات بين الرقص والعزف والتهالك على الشراب. وحسبك أن أشخاصها جميعا عشاق أصحاب لذة ولهو غير مباح، فكلهم خليل أو خليلة. ولا تكاد ترى فيهم زوجا، بل نحن نسمع أثناء القصة حديث امرأة متزوجة، تهم باللهو والخيانة، ولكنها في آخر الأمر تحجم عنهما إحجاما، تخاف العاقبة، فتأبى أن تتجاوز حدود القانون.
ولكن القصة من ناحية أخرى تنتهي إلى شيء من تحكيم العقل والإذعان لما ليس منه بد، والتسليم بأن الفتيات للفتيان، والشيخات للشيوخ، وبأن من الخطأ أن يعدو الشيوخ على الشباب فيستأثروا بحبهم دون الذين يلائمونهم في السن ويقاربونهم في النشاط وتصور الأشياء، والحكم عليها. وأخرى لا بد من أن نلاحظها، وهي مهارة الكاتب في هذه القصة، هذه المهارة التي مكنته من أن ينشئ القصة متحدة متسقة متناسبة الأجزاء، ولكن كل فصل من فصولها يستطيع مع ذلك أن يستقل ويكون قصة قائمة بنفسها يمكن الوقوف عندها، والاكتفاء بها.
ولست أطيل في ذكر ما تمتاز به هذه القصة أيضا من جمال الحوار ورشاقته، وتكونه من جمل، قصار سراع يلي بعضها بعضا، في خفة كأنها الطير تستبق في جو جميل.
ونحن نشهد في أول القصة حانة من الحانات، ذات شقين، يفصل بينهما ستار يحجب الأشياء والأشخاص، ولكنه لا يحجب الأصوات. فأما أحد هذين الشقين فمستقر الخدم، والخزانة، ومستودع الشراب، وفيه مجالس قليلة للذين يحبون العزلة ويؤثرون الهدوء. وأما الشق الثاني من وراء الستار، ففيه المرقص، وفيه مجالس اللاهين واللاهيات، ونحن نسمع أصوات الموسيقى، فنفهم اتصال الرقص حتى إذا ما انقطعت هذه الأصوات عرفنا أن الرقص نفسه قد انقطع. ونحن نرى الخدم يذهبون ويجيئون ويحملون إلى الناس من وراء الستار ما يطلبون من شراب. ونحن نرى أشخاصا قد آثروا العزلة، فجلسوا في الناحية الهادئة المطمئنة، ولكن بعضهم يختلف إلى المرقص بين حين وحين ليتمكن بعضهم الآخر من أن يفرغ للحديث ويدبر من أمره ما يريد.
وهؤلاء الأشخاص، الذين سنراهم يضطربون في القصة كلها ليسوا كثيرين، وإنما هم فتى مصور في الخامسة والعشرين، هو جان فافييه، وخليلته مادلين امرأة قد تقدمت بها السن، ولعلها قد نيفت على الثلاثين، وصديق لهما اسمه جاستون ساذج ضعيف الرأي، يكاد يكون مضحك القصة، ثم رجل آخر قد تقدمت به السن، ولعله جاوز الأربعين، وهو بيير فروملان. وهو يحب فتاة في الرابعة والعشرين من عمرها، واسمها كوليت. ونحن في أول القصة نرى رجلا غريبا يتردد في الحانة في شيء من الحذر ومدير الحانة ينكره، أو هو يعرفه ولكنه ينكر وجوده في هذه الحانة ويدعوه إلى أن ينصرف أو إلى أن يستخفي، ونفهم نحن أن هذا الرجل شخص من هؤلاء الأشخاص الذين يصطنعون تتبع الناس والبحث عن أسرارهم ودخائلهم واستكشاف ما يقدمون عليه من أمر حين يذهبون أو يجيئون.
وهذا جاستون الذي قدمت ذكره قد أقبل ساذجا مغرورا، فاحتجز مائدة هادئة في ناحية معتزلة، وأنبأ أن صديقيه قادمان بعد حين، وهو يداعب مدير الحانة ويمازحه، وهذان الصديقان قد أقبلا فإذا امرأة جميلة هادئة النفس، حلوة الحديث عذبة الروح قوية الحب، وإذا معها فتى قلق مضطرب، شديد الحيرة لا يكاد يستقر ولا يرضى عن شيء، ولا يطمئن إلى شيء، ولا يعرف ما يريد، وهو يحب صاحبته ولكنه معتدل في حبه، صادق فيه أيضا. وهي تود لو كان حبه أقل اعتدالا، وأشد حرارة، ولكنها تعلم أن ليس إلى ذلك من سبيل. فصاحبها مصور يحب فنه، ويخضع لما يخضع له أصحاب الفن من هذه الخصال الشاذة التي تدفعهم إلى غير المألوف، والتي تحببهم إلى النساء أيضا. فصاحبته مذعنة على كره منها لهذا الحب المعتدل، صابرة على ما تقاسي من شقاء، ومن حرمان. وقد خلا الفتى لحظة إلى صديقه، ففهمنا من حديثهما أن هذا الفتى المصور كثير التنقل بهواه وحبه. وهو يحب صاحبته هذه، ولكنه يفلت منها بين وقت ووقت، ليستمتع بلذات الحياة بين ذراعي هذه المرأة أو تلك، على أنه لا يستقر بين هذه الأذرع التي تتلقاه إلا ريثما يفلت منها ليعود إلى صاحبته مادلين. هو يطلب شيئا لا يبلغه، وهو لا يبلغه لأنه لا يحققه في نفسه. وهذه ضحية من ضحاياه، قد كانت في المرقص، فلما رأت مادلين مشغولة مع بعض الناس أقبلت إلى الفتى تعاتبه وتستعطفه، ثم استيأست منه فعادت إلى حيث كانت تلتمس في اللهو عزاء عن هذا الهجران.
ولكن الفتى شديد الاضطراب هذه الليلة، في نفسه أمر عظيم، فقد رأى في طريقه عربة يركبها اثنان : رجل لم يحفل به، وامرأة لم يكد يراها حتى راعته. وكأنه قد راعها أيضا، فقد اشتبكت أعينهما، ولم تكد تفترق إلا بعد جهد. وهو مستيقن بأن هذه المرأة هي مثله الأعلى الذي يسمو إليه ويلح في طلبه، ولا بد له من أن يصل إلى هذه المرأة. هو لا يعرفها ولا يعرف من أمرها شيئا، ولكنه مع ذلك واثق بأنه سيهتدي إليها؛ فقد أخذ رقم العربة التي كانت تركبها، وسيسأل في دائرة الشرطة عن صاحب هذه العربة، فإذا عرف اسمه فقد يسر له كل شيء. وصديقه جاستون يسخر منه، ويهدئ من اضطرابه، ولكن الظروف لم تكن تسخر منه، وإنما كانت تريد أن تؤاتيه وتعينه على ما يحب. فهذان شخصان يقبلان ولا يكاد الفتى يراهما حتى يعرف صاحبته التي رآها في العربة، وهي أيضا قد عرفته، وقد اشتبكت أعينهما مرة أخرى، ولا بد من أن يلتقيا ومن أن يتحدثا. وليس في ذلك مشقة، فقد أراد الكاتب أن يحمل الظروف ما لم تتعود أن تحتمل، ويكلفها أن تكون مؤاتية دائما.
فهذه مادلين قد أقبلت من المرقص، فإذا هي تعرف هذا الرجل الذي يصحب هذه المرأة. تعرفه معرفة قوية متينة، وتعرفه منذ زمن بعيد. وهي إذن ستحييه وستقدم إليه صاحبها الفتى، وهو إذن سيقدم إليهما وإلى صديقهما صاحبته الفتاة، وها هم أولاء جميعا قد عرف بعضهم بعضا وجلس بعضهم إلى بعض، واشتركوا في الشراب والحديث، إلا هذا الفتى، فإنه قد اختفى لحظة ليتحدث في التليفون. على أن لحظة التليفون هذه قد طالت وأسرفت في الطول، وفي أثناء ذلك شرب القوم وتحدثوا ونهض بيير ومادلين، إلى المرقص، وخلت كوليت، فهي تطلب إلى الخادم أن يدعو هذا الفتى المستخفي في غرفة التليفون. ويقبل الفتى فيتعارفان ويتحادثان، ويجهر كل واحد منهما لصاحبه بحب قوي عنيف فيه صراحة وفيه جرأة وفيه أمل وفيه إشفاق، وفيه على كل حال محاولة للتجربة. فكلا العاشقين لم يرض عن نفسه، ولا عن حبه، قبل الليلة، وكلاهما يرجو أن يظفر بهذا الرضى، غدا حين يلتقيان مع المساء، ولا بأس في أثناء ذلك من أن يصرف الفتى مدير الحانة لحظة ليخلو إلى صاحبته خلوة تمكنه من الحديث الحر والقبلة المختلسة. على أن الأمر لا يلبث أن يعود إلى نظامه المألوف؛ فقد رجع الراقصون من رقصهم، واستأنف القوم جميعا ما كانوا فيه من شراب وحديث.
وإذن فقد عرض الكاتب علينا في هذا الفصل صورة هذين الشابين اللذين يملكهما حب عنيف لا موضوع له، واللذين يعيش كل واحد منهما مع شخص آخر أكبر منه سنا، يرضيه ولكنه لا يواتيه، ولا يحقق مثله الأعلى. وقد التقى هذان الشابان، فكان كل واحد منهما بادئ الرأي مرآة لصاحبه، فهما يريدان أن يتصل بينهما اللقاء لعلهما يبلغان هذا المثل الأعلى الذي يسعيان إليه.
فإذا كان الفصل الثاني، فالتجربة فيما يظهر ناجحة نجاحا حسنا - كما يقولون - والعاشقان يمضيان فيها يريدان أن ينتهيا بها إلى غايتها. كانا يلتقيان في المساء من كل يوم فيخيل إليهما كلما التقيا أنهما يلتقيان لأول مرة، وكانا يضيقان بهذه الخيانة التي يمعنان فيها لصاحبيهما البريئين فيزمعان أن يكون لقاؤهما لآخر مرة، فإذا هما أن يفترقا ضربا موعد اللقاء للغد، وقد استيقنا بنجاح التجربة. ولكنهما يريدان أن يخطوا بها خطوة أخرى، فلا بد لهما من أن يقضيا معا ليلة كاملة، ومن أن يفرق بينهما النوم، ثم تجمعهما اليقظة. فإن ظهر بعد ذلك أنهما عاشقان، وأن أحدا منهما لم يشق بصاحبه، ولم يكره من عشرته في اليقظة والنوم شيئا، أقدم على الحب الصحيح والعشرة المتصلة الصريحة. وهما من أجل ذلك قد تواعدا على أن يلتقيا في مدينة غير باريس هي مدينة أورليان. فأما الفتى فقد زعم لصاحبته مادلين أن عملا يدعوه إلى هذه المدينة، وأنه سيغيب عن باريس أربعا وعشرين ساعة. وأما الفتاة، فقد زعمت لصاحبها بيير أنها تريد أن تزور جدتها في مدينة ليست بعيدة عن أورليان، وأنها ستغيب عن باريس أربعا وعشرين ساعة أيضا. وسافر الفتى في سيارته وسافرت الفتاة في القطار، واتفقا على أن يلتقيا في فندق عيناه في مدينة أورليان. على أن الفتى قد قدم بين يديه صديقه جاستون ليعينه على انتظار صاحبته، وليغنيه عن التكاليف المادية ليفرغ هو لعشقه وهواه. ولم يرد جاستون أن يكون وحيدا في هذه الرحلة، فاتفق مع امرأة يعرفها على أن تلحق به في الفندق، وقدر أنه لن يكون وحيدا بينما ينعم صاحباه بحبهما هذا الغريب.
ونحن في أول الفصل الثاني نرى جاستون قد سبق إلى الفندق، فاحتجز غرفتين؛ إحداهما لصاحبه والأخرى له ولصاحبته. وهو يتحدث بكل هذا الذي قدمته إلى خادمة الفندق في غير تحفظ ولا احتياط؛ لأنه لا يستطيع أن يخفي شيئا. وهذا صاحبه قد أقبل وهما جميعا ينتظران، كل ينتظر صاحبته، ولكن القطار يقبل فتأتي كوليت وقد استخفى جاستون؛ ذهب يلتمس صاحبته. وخلا العاشقان، فحدث ما شئت عما يجدان من سعادة وغبطة. هذه الخادم تحمل إليهما طعامهما، فلا يكادان يصيبان منه شيئا، إنما يشربان ويمضيان في حديث الحب ... ولكن الباب يطرق ويدخل جاستون محزونا ينبئ بأنه انتظر قطارا وقطارا، فلم تأت صاحبته. وقد رأت كوليت هذا الرجل فضاقت به، وأفاقت من نشوة الحب والخمر، وعرفت أن حبها ليس سرا، وأن صديقها قد أشرك ثالثا في هذا السر، فأحفظها ذلك، وهمت أن تنصرف لولا أن الليل قد تقدم. ولكنها على كل حال، قد يئست من حبها، وأعرضت عن صاحبها، وذرفت على آمالها بعض الدموع. والفتى خزيان يحاول الاعتذار، فلا يبلغ شيئا، وقد فتر حبهما وضاق كل منهما بصاحبه، وأخذا يلتمسان أسباب التسلية، فهو يعرض عليها الخروج للنزهة، ولكن الليل قد تقدم، وهما قد شربا وأسرفا، فخير ما يستطيعان أن يصنعا هو النوم.
وقد ذهب كل منهما ليصلح من شأنه قبل النوم، ولكن رجلا يدخل الغرفة متنكرا في زي خادم من الخدم ويأخذ في البحث. وإنه لكذلك وإذا جاستون يعود فيفاجئه ويفضح أمره؛ فهو هذا الرجل الذي رأيناه في الفصل الأول يتتبع أسرار الناس ويراقبهم، وقد فهمنا أن صاحبة الفتى وصاحب الفتاة قد شكا في الأمر، وفزعا إلى هذا الرجل، كل على انفراد وطلبا إليه أن يتتبع هذين العاشقين ويبلو أخبارهما. وقد عاد العاشقان، ورأيا هذا الرجل وأنذراه بالشرطة، ثم اتفقا معه على أن ينظم أمرهما وأمره إذا كان الغد. وأقبلا على سريرهما فاستقبلا فيه النوم.
ثم يرفع الستار بعد لحظة قصيرة، ولكنها تصور الليل كله، وشطرا من النهار، وإذا الخادم تطرق الباب تريد أن تحمل إليهما طعام الإفطار، فيستيقظان دهشين أشد الدهش، فهما سعيدان، قد أسرا سعادتهما إلى الليل، واستقبلا النهار المشرق بآثار هذه السعادة، وهما مبتهجان قد استيقنا نجاح التجربة ولم يبق لهما بد من الإذعان لحكم هذا الحب، فسيعيشان معا عيشة لا تحفظ فيها ولا تستر. وهذا رقيبهما قد أقبل، فلم يكد يراهما حتى استيقن أنه يرى عاشقين، وإذا هو يساومهما في إخفاء السر، ويملي شروطه، فيدفعان إليه ما طلب من مال. على أنه لا يكاد ينصرف حتى يلقي نظرة على هذين العاشقين السعيدين يمتلئ لها قلبه حنانا، فيرد إليهما نصف ما أخذ وينصرف مسرعا.
فإذا رفع الستار عن الفصل الثالث، فنحن في باريس عند مادلين في مساء اليوم نفسه، ونحن نراها ظاهرة القلق بينة الاضطراب، تنظر إلى الساعة وتسأل في التليفون، تتعجل مقدم الفتى وتنتظر مقدم الرقيب. ثم تحمل إليها رسالة برقية تنبئها بمقدم الفتى للعشاء. وإنها لفي هذا الاضطراب، وإذا شريكها في الحزن والخوف، بيير، قد أقبل فتلقاه باسمة ويحاول كل منهما أن يخفي على صاحبه قلقه، ولكن هذا القلق أقوى من أن يخفى، فيفضي كل منهما بخوفه إلى صاحبه ويظهر كل منهما الرسالة البرقية التي تلقاها. وهذا الرقيب قد أقبل فأنبأهما بأنه راقب الفتى وأن أحد أعوانه راقب الفتاة وبأنهما لم يلتقيا، وإنما ذهب كل منهما إلى الوجهة التي أنبأ بأنه ذاهب إليها، وينبئهما بالرسالتين البرقيتين وقد حفظا نصهما، ثم يأخذ أجره وينصرف وهما سعيدان قد عادت إليهما الثقة ورجع إليهما الاطمئنان. وهما يلومان أنفسهما على الشك ويعيبان أنفسهما بهذه الريبة العجلة. ولكن طارقا يطرق ثم يدخل، وهو جاستون، ولا يكاد يتحدث إليهما حتى يزعم لهما أن الجو كان صحوا صباح اليوم، فيدهشان لأن المطر لم يقلع عن باريس طول النهار، فإذا ألحا عليه في السؤال اضطرب ثم افتضح سره فأنبأ بكل شيء، وانصرف خزيان، وقد أفسد صدقه ما كان قد أصلحه كذب الرقيب. وهنا أروع أجزاء القصة؛ حوار من أرقى ما كتب الفرنسيون في هذه الأعوام الأخيرة. هذه المرأة ثائرة يائسة محنقة على هذه الفتاة التي اختلست منها أملها وحياتها اختلاسا، وهذا الرجل محزون يكاد يقتله الكمد، ولكنه مع ذلك يتجلد ويحكم عقله، ويهدئ صاحبته ويثبت لها أن من الإثم أن تطغى الكهولة على الشباب، وأن من حق هذين الفتيين أن يتحابا؛ فقد خلقا كل منهما لصاحبه، وانتظر كل منهما صاحبه، ثم التقيا كأنما كانا على ميعاد. ثم هو يتعمق نفسه ويبحث عن أسرار قلبه وينظر إلى الماضي البعيد، فيحيي ذكريات كانت بينه وبين مادلين، كان فيها شيء من حنان أوشك أن يكون حبا. وإذن فما يمنعهما أن يستعينا بهذه الذكريات الحلوة على هذه الأحداث المرة، وأن يستقبلا الخطب متعاونين، وأن يبتسما للحياة الشاحبة ابتساما شاحبا، يلائم سنهما ويلائم محنتهما! وهذا التليفون يدعو فلا تشك مادلين في أن الفتى ينبئها بمقدمه، وهي ثائرة، ولكن صاحبها يهدئها وينصح لها تكلف الجهل لكل شيء، وهي تجيب صاحبها في التليفون وتتكلف الجهل في مشقة وجهد، ولا تكاد تفرغ حتى يدعو التليفون مرة أخرى، وإذا كوليت تسأل عن صاحبها، وإذا الرجل يريد أن يتكلف الجهل والصبر، فلا يوفق إلى ذلك إلا في مشقة وعنف. كان قادرا على إسداء النصح لغيره، فلما عرضت له المحنة كان حبه أكبر من عقله وأقوى. وهذه مادلين تبكي، وهو مع ذلك يمضي في تعزيتها وتسليتها، ويحاول أن يفتح لها ولنفسه أبوابا من الأمل في حياة يشتركان فيها اشتراكا. وهذا طارق يطرق فلا يشكان في أنه الفتى، فيأخذ بيير صديقته بأن تلقاه كما تعودت أن تلقاه دائما باسمة مبتهجة كأنها لم تعلم شيئا. وهي تتكلف ذلك فتحسن تكلفه وتنهض للقاء صاحبها مغتبطة راضية، فتحييه تحية العاشقة التي يملأ قلبها الحنان، بينما يسدل الستار على ما في هذه القلوب كلها من أهواء مختلفة وعواطف متباينة وغرائز وميول يشتد بينها الجهاد والصراع.
لم نبق بعد أطفالا
أما اليوم فسندع الطب والأطباء، والصحة والأصحاء، والمرض والمرضى، وسننصرف إلى حديث آخر لا يمس طائفة بعينها من الناس، وإنما يمس الناس جميعا، وهو من هذه الناحية يرتفع بموضوعه إلى درجة الأحاديث الفنية العليا التي يجد فيها كل إنسان صورة لنفسه، وينظر إليها كل إنسان كما ينظر إلى المرآة الصافية الصادقة، فيرى فيها بعض ما يحس ويشعر مهما تختلف عليه الظروف والبيئات والعصور. ثم هو في الوقت نفسه حديث عن ناحية من هذه النواحي التي لا يستطيع الإنسان مهما يكن أن يلهو عنها أو يعرض عن التفكير فيها؛ لأنها تمس نواحي الحياة بما يبتسم له من أمل وما يظلم أمامه من يأس وما يحبب إليه الحياة ويزهده فيها، وما يجعل دهره سرورا وبهجة كله أو حزنا وشقاء كله.
هي ناحية الشباب والشيخوخة، أو قل هي ناحية الأمل الذي نود لو أنه يبقى مبتسما دائما والبأس الذي نود أن تلقى بيننا وبينه الحجب والأستار. أو قل هي ناحية السعادة التي نود لو تدوم والشقاء الذي نود لو لم توصل بيننا وبينه الأسباب، أو قل في شيء من الإجمال المحزن الموئس هي ناحية الحياة كما نحبها وكما نكرهها. فالكاتب لم يرد أن يصور إلا كلفنا بالشباب وحرصنا عليه ورغبتنا الملحة في استبقائه ما وجدنا إلى ذلك سبيلا، وتهالكنا الشديد على استرجاعه ما أتاح لنا الغرور والوهم والأمل في ذلك، أو تصور القدرة عليه. وقد استطاع الكاتب أن يصور هذه الناحية من نواحي حياتنا تصويرا رائعا مؤثرا ضمن له إجماع النقاد والنظارة معا على إكباره والثناء عليه. وذهب بعض هؤلاء النقاد، وهو أستاذ من أساتذة الأدب في السوربون، إلى أن يتنبأ لهذه القصة بالبقاء الطويل، ويؤكد أنه لن ينقضي غير خمسة عشر عاما حتى تصبح من التراث الخالد لبيت موليير.
ومصدر هذا الجمال الذي انعقد إجماع النقاد وجمهور النظارة والقراء عليه، هو أن الكاتب لم يغل ولم يسرف ولم يتوخ إغرابا ولم يقصد إلى شذوذ ولم يحاول ابتكارا، فوفق إلى أحسن الابتكار وأقومه وأغناه. وفق إلى هذا الابتكار الذي لا يفاجئك ولا يصدمك ولا يأخذ عليك الطريق من أول لحظة، وإنما يخدعك عن نفسه وعن نفسك، فإذا أنت تشهد القصة أو تقرؤها فلا تحس دهشا ولا غرابة، وإنما تحس أنك تشهد أو ترى شيئا مألوفا، لا تكلف فيه ولا تصنع ولا محاولة لاتخاذ هذه الهيئة الخاصة التي يتخذها الكاتب حين يريد أن يكتب شيئا جديدا، فهو يستعد لكتابته ويعدك لقراءته وكأنه يقول لك: تأهب وخذ حذرك؛ فستقرأ شيئا لا عهد لك به. كلا، أنت تشهد القصة أو تقرؤها دون أن تحس شيئا من هذا، إنما تحس أنك تشهد أو تقرأ شيئا شائعا كأنك تشهده وتقرؤه كل يوم. ولكنك مع ذلك لا تكاد تشهده أو تقرؤه، حتى تحس أنك متصل به وأنه متصل بك، وأنك لا تريد أن تفرغ منه أو أن تنصرف عنه. ومن يدري، لعلك إنما تتصل به لأنك ترى فيه نفسك وما يختلف عليك من حس وشعور وما يثور فيها من عاطفة وميل. ترى نفسك وترى غيرك أيضا من هذه الناحية التي تجعل بينك وبين الناس شبها، والتي تعطفك على الناس وتعطف الناس عليك.
ثم لا تكاد تمضي في شهود القصة أو قراءتها حتى يأخذك سحر غريب فيه شيء من الخفاء، ولكنه على ذلك شديد الأثر في نفسك والاستهواء لقلبك، وهو يأتي من جمال العبارة وحسن الأسلوب ورشاقة الحوار. فأنت تمضي في النظر إلى القصة أو النظر فيها، وقد فتنك موضوعها المألوف الجديد، وسحرك تعبيرها اليسير الطريف. وما تزال بين تلك الفتنة وهذا السحر منتقلا من منظر إلى منظر ومن فصل إلى فصل حتى تنتهي إلى آخرها، وإذا أنت تنتهي إلى هذا اليأس المريح الذي تضطرك الحياة إلى أن تطمئن إليه اطمئنانا؛ لأنك لا تستطيع غير هذا مهما تبذل من جهد ومهما تتكلف من حيلة، وإذا أنت تنتهي إلى هذا اليأس محزونا شديد الألم إن كنت من أصحاب الشعور العنيف والمزاج الحاد، راضيا مذعنا إن كنت من عامة الناس الذين لا يطيلون التفكير في أمس، ولا يمعنون النظر في غد. وقد تنتهي إلى هذا اليأس دون أن تحسه أو تشعر به إلا أن تنبه إليه تنبيها؛ لأنك قد ألفت الحياة واطمأننت إلى ما تعودت منها، وعرفت أنك مهما تفعل فلن تستطيع لها تغييرا ولا تبديلا.
والكاتب يعرض عليك أطوار هذا الموضوع يسيرة كل اليسر، سهلة كل السهولة، وينقلك من بعضها إلى بعض، دون أن تحس عنفا في هذا الانتقال. ومع ذلك فهو يميز لك هذه الأطوار بعضها من بعض أوضح التمييز وأقواه، يباعد بينها في الزمان أو في المكان، حتى لا تخدعك وحتى لا تختلط عليك. فأنت في أول الأمر أمام شابين يضيقان بالشباب ويتعجلان تقدم السن، لا لشيء في أكبر الظن إلا لأنهما شابان، ولأن طبيعة الشباب لا تحب الراحة والسكون، وإنما هي تطمع أبدا في الحركة وتكلف أبدا بالانتقال من حال إلى حال، وتغلي غليانا متصلا قويا لتبلغ الأرب وتحقق الأمل وتشعر بأنها مسيطرة حقا على الحياة. ثم أنت بعد ذلك أمام رجل قد أتاحت له الظروف ما كان يريد، وحققت له من آماله ما كان يطمح إلى تحقيقه. وإذا هو مطمئن إلى ذلك أو كالمطمئن، ولكن في نفسه حسرات قوية لا يكاد يشعر بها؛ لأنه مشغول عنها بخطوب الحياة وأثقالها وما تفرضه على الأحياء من جهد وتفكير. غير أن الحياة نفسها ترفع الأستار عن هذه الحسرات الخفية، فإذا الرجل الذي كان راضيا مطمئنا قد أصبح ساخطا ثائرا ممعنا في السخط والثورة، مندفعا فيهما إلى أبعد أمد ممكن، مخالفا لقوانين العادة والعرف والنظام. ثم أنت بعد هذا كله أمام هذا الرجل نفسه، وقد تكشفت له الحياة عن حقيقتها، ونظر فإذا هو يرى في غير شك ولا ريب أن محاولة المحال عبث، وأن تكلف ما لا سبيل إليه نوع من الجنون، وأن الشباب موقوت لا بد من أن ينقضي، وأن ما تذهب به الأيام لا سبيل إلى أن يعود، وأنه لا بد مما ليس منه بد، وأن الحياة إذعان ورضى قبل أن تكون طمعا وطموحا وثورة وسخطا واضطرابا. وإذا هو يرضى كما رضي غيره من قبل، وكما سيرضى غيره من بعد، وإذا هو يعود راضيا أو كارها إلى ما لا بد منه من طاعة القوانين والنظم التي فرضتها الطبيعة أو فرضتها الحياة على الأحياء فرضا، وإذا هو لا يستبقي من أمله ويأسه ومن رضاه وسخطه ومن استقراره وثورته، إلا ذكريات قد تكون حزينة لاذعة وقد تكون جميلة حلوة، ولكنها على كل حال ذكريات لا أكثر، ذكريات لا قوام لها، ذكريات هو مضطر إلى أن يقنع بها ويتعزى حتى يأتيه اليوم الذي لا بد من أن يظل الناس جميعا.
أما إذا رفع الستار فأنت في قهوة من هذه القهوات الباريسية القريبة من الأوبرا، والتي يختلف إليها أواسط الناس ويكثرون فيها آخر النهار، وحين ينتهي التمثيل منتصف الليل. وهي من هذه القهوات التي تؤثر الجد ولا تتكلف المجون، ولكنها في الوقت نفسه لا تستطيع أن تبرأ منه؛ لأن في ذلك شيئا من العسر. وأنت ترى في القهوة إذا رفع الستار رجلين: أحدهما تظهر عليه الثروة والجد والاحتشام وامتياز الشكل وحسن التربية، والآخر يظهر عليه الغنى، ولكن يظهر عليه أيضا أنه من أهل الأقاليم الذين إذا زاروا باريس لم يحبوا أن ينفقوا زيارتهم كلها في الجد، وإنما هم يريدون شيئا من المجون يلتمسونه في موضعه وفي غير موضعه، ويطلبونه في وقته وفي غير وقته.
فأما صاحب الجد فهو ينظر في جريدة الطان، وأما الرجل الآخر فهو لا ينظر في شيء ولكنه ضيق بما هو فيه من الفراغ. وهو يتحدث إلى الخادم ألوانا من الحديث يضحك منها الخادم ويضيق بها، وإنه لفي ذلك وإذا فتاة حديثة السن جميلة رائعة، ولكنها ظاهرة الجد والاحتشام، تقبل فتدخل القهوة في عزم وتصميم وفي اطمئنان إلى النفس وثقة بها. ولا تكاد تدخل حتى يخيل إلى هذا الرجل من أهل الأقاليم أن الظروف قد ساقت إليه ما كان يبتغي من أسباب العبث واللهو، وإذا هو يغرى بالفتاة ويتقرب منها، والفتاة تدفعه عن نفسها في حزم رفيق أول الأمر، فلا يزيده ذلك إلا تعلقا بها وتعرضا لها. فتزجره الفتاة زجرا، فلا يغني الزجر شيئا. ويضطر صاحب الجد إلى أن يرده عن الفتاة في شيء من الحزم والنذير، وإذا هو مضطر إلى أن يترك القهوة ساخطا أشد السخط. ولكن المكان قد خلا لصاحب الجد هذا، فهو يدنو من الفتاة ويجلس معها، يزعم لها أن في ذلك صرفا للناس عن التعرض لها، فما ينبغي لمثلها أن تجلس منفردة في القهوات حين يتقدم الليل. والفتاة تقبل منه معونته ونصحه وتشكرهما له.
وهما يمضيان بعض الشيء في الحديث، وإذا هذا الرجل الذي كان يحمي الفتاة ويرد عنها الطامعين فيها قد أغري بها إغراء، ولكن إغراء الرجل الذي يعرف ما يحسن وما لا يحسن، والذي لا يقول إلا بمقدار. وهو يسأل الفتاة عن نفسها وعن حالها، فنعرف أنها قد أقبلت تنتظر صاحبها الذي يشهد التمثيل في الأوبرا مع بعض أقاربه الذين أقبلوا من الأقاليم. فهي إذن صاحبة عبث وإن ظهر عليها الجد، وهي في الثامنة عشرة من عمرها، فهي غرة ضعيفة الرأي، لا تدري كيف تستقبل ما يعرض لها من الأمر، وهي مطمئنة إلى صاحبها هذا الذي تنتظره لأنها تحبه وتعلم أنه يحبها، وإن كانا يختلفان فيما بينهما أشد الاختلاف؛ فهو من الطبقة الوسطى التي لها حظ من يسار، والتي تحرص على مكانتها الاجتماعية. وهي من الطبقة الدنيا، كانت بائعة في بعض دور التجارة، فلقيت هذا الفتى فأحبها وأحبته، وهما سعيدان بهذا الحب، وإن كانا كثيرا ما يختصمان. وهي مطمئنة إلى هذا الحب، ولكن هذا الرجل يخوفها ويحذرها ويغريها في رشاقة وخفة تفهمهما أحسن الفهم وتأباهما أشد الإباء، ولكن صاحبها لا يحفل بإبائها، وإنما يلفتها إلى شبابها وإلى أنها بحكم هذا الشباب تجهل أمس لأنها لا ماضي لها، وتجهل الغد لأنها مشغولة عنه باليوم، والخير لها في أن تحتاط، وأيسر أنواع الاحتياط أن تأخذ هذه البطاقة فتحفظها عندها، ففيها عنوان قد تحتاج إليه في يوم من الأيام.
وإنه لفي ذلك وإذا فتى يقبل فينصرف الرجل وقد ترك عنوانه للفتاة. وتهم هي باستقبال الشاب ويتحدثان، فنفهم أنه ليس صاحبها الذي كانت تنتظره، ولكنه رفيق ملازم لصاحبها في الدرس وملازم له في اللعب أيضا، وهما يعيشان معا، أو قل هم يعيشون معا، فهم ثلاثة؛ أحدهم هذا الفتى روجيه، والآخر ذلك الفتى جان الذي لم يأت بعد من الأوبرا، والثالث هذه الفتاة روبرت عشيقة جان. والفتاة تسأل روجيه عما يعلم من حب صديقه لها، وهو يعبث منها مؤكدا هذا الحب الذي لا يحتاج إلى تأكيد، وهو ضيق بهذا الحديث الذي لا ينقضي عن حب هذين العاشقين اللذين ما ينفكان في سخط ورضى وفي خصام وصلح، وهو يتحرق شوقا إلى أن يتحدث عن نفسه وعن آماله في الحياة، فهو أديب قد خلق للأدب ولم يخلق لغيره، وخلق لفن معين من الأدب، هو الأدب التمثيلي، وهو قد بدأ قصة لم يكد يعرض بعضها على أمه حتى رقت لما سمعت وبكت وأغرقت في البكاء. فهو كاتب بارع من غير شك، ولن يمضي العام حتى تكون قصته الأولى حديث باريس، ولن تمضي أعوام حتى يكون رئيسا لجماعة الأدباء، ثم أعوام أخرى وإذا هو في المجمع اللغوي، ثم تتصل الحياة الأدبية بما تفرضه على الأدباء من تكاليف المجد وأثقاله.
وصاحبنا يتحدث بهذا حديث المؤمن به المطمئن إليه؛ فقد تقدمت به السن ولم يبق طفلا بعد. أليس قد بلغ الثالثة والعشرين؟ والفتاة ضيقة بحديثه عن نفسه وأدبه، كما كان ضيقا بحديثها عن نفسها وحبها. وهما يختصمان في ذلك، ولكن صديقهما جان يقبل فيعفيهما من هذا الخصام. وهم يأخذون في أحاديثهم يرضون قليلا ويسخطون كثيرا. وقد انصرفت الفتاة عن الصديقين لحظة، فلا يكادان يخلوان حتى نفهم من حديثهما أن جان قد استكشف شيئا خطيرا حقا؛ استكشف أنه لم يبق طفلا بعد، فقد رأى في رأسه شعرة بيضاء، وإن كان في الخامسة والعشرين، فلا بد من أن يستقبل حياة الرجال بما ينبغي لها من الجد، وأول ذلك أن يتهيأ للزواج، وأن يأخذ في العمل. وتقبل الفتاة فتقطع عليهما الحديث، ولكن شيئا يحدث له خطر أي خطر؛ فقد أقبل على القهوة رجل شيخ ومعه فتاة حديثة السن، فاستخذى لمقدمها جان، واضطر إلى لقائهما والتحدث إليهما والجلوس معهما لحظة، وأخذت روبرت وصاحبها يسمعان الحديث، فإذا الفتاة التي أقبلت خطب
1
لهذا الفتى، وإذا هو قد قضى معها المساء في الأوبرا، وإذا هو قد كذب على صاحبته حين زعم لها أنه كان مع بعض أقاربه من أهل الأقاليم.
وإذا نبوءة ذلك الرجل تتحقق في سرعة غريبة، وما يكاد الشيخ ينصرف مع ابنته، وما يكاد جان يقبل على صاحبيه حتى يرى الشر في وجه روبرت. فأما روجيه فيسرع إلى الانصراف فرارا من الخصام، وأما الصديقان فيختصمان. وكم كنت أحب أن أترجم لك هذا الخصام، فهو يمثل سذاجة الشباب واندفاعه السريع إلى اليأس الذي لا حد له، ورجوعه السريع إلى الأمل واندفاعه إلى الغضب ورجوعه إلى الرضى، واضطرابه بين النقائض على كل حال. ولكن الفتاة أثبت رأيا وأمضى عزما من صاحبها، فهي تستيئس وتستمسك باليأس وتقطع ما بينها وبينه من صلة، وتأبى أن تنتظر بذلك مطلع النهار. وتنصرف عن صاحبها الذي يغرق في حزن صادق، ولكنه سريع الزوال.
ثم تمضي على هذا الفصل أعوام طوال تقع في أثنائها الحرب الكبرى، وتضطرب فيها الحياة أشد الاضطراب، ثم تعود إلى الاستقرار. ويرفع الستار لنا عن بيت من بيوت الطبقات الغنية التي تكسب ثروتها الضخمة من الصناعة، وهو بيت جان، وقد تزوج وسلك طريقه في الحياة بعد أن أدى واجبه في الحرب. وقد استقل بإدراة مصانع ضخمة، وقد فقد أباه منذ عام، وقد رزق صبيا يختلف إلى المدرسة، وزوجه سيسيل منصرفة إلى بيتها تدبر شئونه في عناية وجد وترف، وهو منصرف إلى مصانعه يدبر شئونها في حزم ودقة، وينميها إنماء مطردا. ونحن نفهم من اتصال المناظر وما يكون فيها من حديث أن صاحبي البيت ينتظران قوما سيتناولون معهم العشاء، وهما معنيان بهؤلاء الناس أشد العناية؛ فقد يظهر أن جان ينتظر نفعا عظيما لمصانعه من هؤلاء الزائرين. وهو يريد أن يتهيأ للعشاء، ولكن الخادم ينبئه بأن امرأة تريد أن تلقاه، فيأبى، وتلح المرأة، فيلقاها كارها؛ ولا تكاد تتحدث إليه حتى يعلم ونعلم نحن أنها كانت خليلة لأبيه، وهو يستكشف من أمر أبيه شيئا عجبا؛ فهو كان يعرف أباه صاحب جد وحياة خشنة ونفس ضيقة وانصراف شديد عن الضحك فضلا عن اللهو، ولكن هذه المرأة تبين له أن أباه كان يحيا نوعين من الحياة؛ فهو كان صاحب جد وخشونة في أهله، ولكنه كان صاحب فرح ومرح إذا خلا إلى نفسه وإلى صاحبته. وهي تقدم له من كتب أبيه ما يثبت ذلك في غير شك، ثم تقدم له وثيقة يوصي الرجل فيها بشيء من المال يضمن لهذه المرأة حياة مطمئنة، فيعد جان بإنقاذ امرأة أبيه، ولكن ما استكشفه قد أثار في نفسه خواطر متفرقة، واضطره إلى كثير من التفكير. وهذا حموه قد أقبل، فلا يكاد يتحدث إليه ببعض ما علم حتى يسمع منه عجبا أي عجب؛ فهو أيضا صاحب جد وخشونة في بيته، ولكنه صاحب لهو ومرح إذا خلا إلى نفسه وإلى صاحبته حين كانت له صاحبة وقبل أن تتقدم به السن إلى هذا الحد.
والحوار بين الرجلين طريف ممتع حقا، فهو يصور حزن الشيخ على شبابه وخوفه من أن تعلم ابنته، وخوفه أيضا من أن يقتدي صهره به وبأبيه فيخون ابنته، ويحيا حياتين. وصهره متأثر بهذا لا يبديه، ولكننا نحس ذلك منه، فهو ضيق بحياته من المصنع إلى البيت ومن البيت إلى المصنع. ولكن ماذا؟ هذان زائران قد أقبلا ولا يكادان يدخلان حتى يبهت جان ويكاد يفقد رشده؛ لأنه يرى صاحبته روبرت التي فارقها في الفصل الأول. كان قد نسيها نسيانا تاما، وقدر أن أمواج الحياة قد ذهبت بها غير مذهب، ورمتها إلى هذه المواطن التي تذهب فيها أمثالها من فتيات المجون، ولكنه ينظر فإذا هي أمامه قد اقترنت بهذا الرجل الغني، وأصبحت سيدة لها مكانتها الاجتماعية العليا، وهي محتفظة بجمالها وحزمها ورشاقتها، وهو مضطرب النفس مستعد أشد الاستعداد ليتأثر بما يطرأ عليه من الطوارئ. وهو لا يملك نفسه إلا بعد جهد، وقد أخذ الرجال يتحدثون في الصناعة والمال، وخلا الشيخ إلى الزائر ليتم حديثهما في هدوء. واحتال جان واحتالت معه الظروف، حتى صرف امرأته إلى بعض العمل وخلا إلى صاحبته، فتذاكرا ثم تحدثا، ثم طال الحديث، ثم انتهى بعد الحوار والمقاومة إلى استئناف الحب وإلى الاتفاق على اللقاء إذا كان الغد.
ثم لا يمضي أسبوع واحد حتى يكون الحب قد خطا خطوات بعيدة، فذهب بعقل العاشقين جميعا ودفعهما إلى شيء يشبه الجنون أو هو الجنون، فقد أزمعا أن يفرا بحبهما وأن يتركا زوجيهما وأن يقضيا أياما في مدينة ديب حيث ابتدأ حبهما، حبهما القديم، ثم يكون الرحيل بعد ذلك إلى إيطاليا.
ويرفع الستار لنا عنهما في غرفة من غرف الفندق في ديب قد قضيا فيها الليل وهما يستقبلان النهار. ولست أعرف فصلا أبدع ولا أقوم من هذا الفصل في سذاجته ودقته وصدق ملاحظته وتأثيره المؤلم في النفوس. فهذه سكرات الحب تنجلي عنهما قليلا قليلا وتنجلي في أيسر الأشياء وأبعدها عن التكلف. لقد قضيا أعواما طوالا لا يلتقيان، فتغير كل واحد منهما واكتسبا عادات وأخلاقا لا يعرفها صاحبه، وتغير كل واحد منهما في شكله وفي تكوين جسمه، فالأعوام لا تمضي عبثا واللقاء يخدعنا أحيانا، ولكن الحياة القريبة والاختلاط المداخل يكشفان لنا ما يخفيه التكلف من آثار الحياة في الأخلاق والأجسام جميعا.
وهما يستكشفان ما بينهما من الفروق قليلا قليلا، وقد استكشفا بعضها أثناء الليل، وقد أخذ النهار يكشف لهما عما بقي منها. هذه العادات التي اكتسبها جان من عمله في المصنع، والتي تحمله على أن يحسب ويدقق في الحساب ويقيد كل ما يتفق، وهذه العادات التي اكتسبها من حياة البيت فإذا هو يحب النظام ويكلف به ويريد أن يكون لكل شيء موضعه ووقته، وهذه المعلومات التي اكتسبتها روبرت وكانت تجهلها، وهذه البلاد التي رأتها روبرت وكانت تتوق إلى رؤيتها. وانظر إليه يريد أن يحمل صاحبته بين ذراعيه، فيبلغ من ذلك ما يريد، ولكن التعب يظهر عليه وإن حاول إخفاءه، وهي تلفته إلى أن وزنها قد زاد مع تقدم السن. ثم انظر إليه وهو يطلب إليها مثل ما كان يطلب إلى زوجه من إصلاح أزراره. ثم انظر إليه وقد جلس وأخذ ينظر في صحيفة ثم يتجه إلى صاحبته فيناديها باسم زوجه لينبئها بأن الوزارة قد استقالت.
وقد كذب كل منهما على صاحبه، فزعم أنه ترك لزوجه النبأ بأنه مسافر إلى غير رجعة، وهما يخدعان أنفسهما يريد كل منهما أن يثبت لنفسه ولصاحبه أنه قد استأنف الحب واسترد الشباب وانصرف في سبيل ذلك عن كل ما ألف وعن كل من ألف. وهذه روبرت تنصرف عن صاحبها لحظة، وإذا الباب يطرق، وإذا داخل يدخل، فيا لها من مصادفة! إنه روجيه صديق جان الذي رأيناه في الفصل الأول يتحدث عن مستقبله في التمثيل وفي المجمع اللغوي، وهو الآن يتحدث إلى صاحبه عن حياته التي يحياها، فهو مقيم في هذه المدينة يعمل في التجارة ويفيد منها ربحا عظيما، وقد انصرف عن الأدب ولم ينتج فيه شيئا، وقد تبين أنه لم يكن قد خلق للأدب وإنما خلق للتجارة وللتجارة وحدها. وتقبل روبرت فإذا رآها روجيه ضاق بلقائها؛ لأنه يعلم أن صاحبه قد خرج عن المألوف وأقدم على إثم خطير. وقد كان دعا صاحبه إلى أن يتناول الغداء معه ومع امرأته، فلما عرف من أمره ما عرف ندم على ما قدم من الدعوة. ولا يكاد يخلو إلى صاحبه حتى يعتذر لأنه لا يستطيع أن يقدم إلى امرأته خليلة لصاحبه.
وهنا يظهر الخلاف العنيف بين هذين الرجلين: أحدهما قد أذعن للحياة وخضع لقوانينها راضيا قانعا لا ثائرا ولا ساخطا، والآخر قد أذعن ثم ثار ورضي ثم سخط. وهما يختصمان في ذلك والهوة لا تزداد بينهما إلا اتساعا، ثم يفترقان على أن يلتقيا إن أذنت بذلك الظروف. وتقبل روبرت تتكلف الرضى والحب، ويتكلف لها صاحبها مثل ذلك، ولكنهما لا يستطيعان البقاء في هذه المدينة؛ فهما ينكران جوها المظلم وما ينهمر فيها من المطر، وهما يريدان أن يبحثا عن القطار الذي يرحلان به عن هذه المدينة، ولكن إلام ينتهيان من هذا البحث؟ إلى القطار الذي يعود بهما إلى باريس. فأما الرحلة الطويلة إلى إيطاليا وإلى غير إيطاليا، فقد كانت حلما لذيذا ولكنه ذهب مع الليل. وهما يعترفان بهذه الحقيقة محزونين أشد الحزن، ولكنهما مذعنان أشد الإذعان. وهما يعترفان بأنهما لم يتركا الأنباء بفرارهما، وإنما كتب كل منهما كتابا، ثم لم يستطع أن يتركه فحفظه معه، ثم هي تعترف بأنها خرجت منذ حين فأبرقت إلى زوجها بأنها عائدة في أول قطار بعد أن زارت صديقة لها في ديب. أما هو فقد يستطيع أن يتأخر يوما وأن يزعم لامرأته أنه أقبل لبعض أعمال الصناعة والتجارة، ثم هما يتعانقان، ثم هما يفترقان وقد ودع كل منهما في صاحبه شبابه الذي لا سبيل إلى أن يعود.
سميراميس
للكاتب الفرنسي بول فاليري
ولعل الوصف الصحيح لهذا الأثر هو ما ذهب إليه بول فاليري نفسه حين وصفه بأنه تمثيل غنائي. فليس هذا الأثر قصة تمثيلية بالمعنى الدقيق المعروف لهذه الكلمة، بل ليس هو تمثيلا غنائيا إذا أطلقت هاتين الكلمتين على معناهما المألوف، وإنما هو فن جديد تصوره بول فاليري منذ حين وحاول تحقيقه مرتين؛ إحداهما منذ أعوام حين قدم إلى الأوبرا في باريس قصته المعروفة ب «آنفيون»
Amphyon ، والأخرى في هذا العام حين قدم إلى الأوبرا هذه الصورة الجميلة التي تخيلها لأسطورة سميراميس.
وهذا الفن الجديد هو نوع من التعاون الدقيق المنظم بين الأدب والموسيقى والغناء والرقص، وفن الإخراج وفن التصوير، وفنون أخرى مختلفة يعتمد عليها الممثلون واللاعبون، حين يريدون إلى تلهية النظارة وإحداث الآثار المختلفة في نفوسهم. وأنا أذكر الأدب عامة ولا أذكر الشعر، ف «بول فاليري» لا يقصر عنايته في الفن على أحد هذين النوعين من الكلام، وإنما هو يعبر عما يريد شعرا تارة، ونثرا تارة أخرى، ولكنه يحتفظ دائما بالانسجام والتنسيق الدقيق ليلائم بين كلامه وبين الموسيقى والرقص والغناء.
وقد تحدث بول فاليري عن هذا النحو من الفن إلى الموسيقي الفرنسي العظيم كلود ديبوسي
Claude Debussy ، ولكنه لم يستطع أن يحقق الصورة التي تخيلها إلا في هذه الأعوام الأخيرة حين وجد اثنين أعاناه على تحقيقها، وهما آيدا روبنشتاين
Ida Rubinstein
الراقصة البارعة وهوندجيير
Honegyer
الموسيقي المشهور. فأما أولاهما فقد اتخذت لنفسها في هاتين القصتين مكان البطل الذي تدور القصة حوله، فمثلت في القصة الأولى آنفيون، ومثلت في القصة الثانية سميراميس. وأما الآخر فقد وضع الموسيقى للقصتين جميعا. ثم يشترك معهما أو معهم جماعة من أصحاب الفن البارزين؛ هذا يعنى بالإخراج وهذا يعنى بالصور، وهذا يعنى بتنظيم الرقص ... إلى آخر ما يحتاج إليه هذا الفن المعقد من ألوان المعونة على اختلافها وتفاوتها.
والظاهر أن هذه المحاولة قد نجحت، وأعجبت الباريسيين، وأرضت بول فاليري نفسه، إلى حد ما، فهو قد أعلن اغتباطه بعد تمثيل القصة الأولى، وإن كان يحتاط في إعلان هذا الاغتباط بعد تمثيل القصة الثانية، كأنه يطمح إلى نوع من الكمال أرفع مما انتهى إليه. ومهما يكن من شيء فالنقاد الرسميون - إن صح هذا التعبير - مجمعون على الثناء والحمد. والنقاد المحدثون، والنقاد الشبان يختلفون في ذلك اختلافا كثيرا. ومهما يكن من شيء أيضا، فقد انتقلت عدوى هذا الفن من بول فاليري إلى الكاتب الفرنسي المشهور أندريه جيد، فأخرج للناس في هذا العام قصة بريسفون أعانته على تمثيلها آيدا روبنشتاين نفسها، ووضع لها الموسيقى سترانفسكي، واختلف الناس في قيمتها وفي قيمة الفن الذي عرضت به في الأوبرا، كما اختلفوا في قصة بول فاليري. وأخص ما يمتاز به هذا الفن أن الشاعر أو الكاتب لا يقول كثيرا، ولكنه يتخيل ويرسل خياله حرا ويتصور القصة كأنه يريد أن يكتبها شعرا أو نثرا ثم لا يكتب، وإنما يعين الحركات التي يجب أن يأتيها الممثلون والراقصون والمغنون، ويخلق الجو الذي يجب أن تضطرب فيه هذه الحركات، ويصور هذا كله تصويرا دقيقا كأنه يلقي درسا على الطلاب، ثم لا يتكلم أو لا ينشئ الشعر والنثر إلا حين لا يكون له من ذلك بد.
فهو يخلق حركة وحوادث وجوا، ثم يجري بين هذا كله كلمات تطول حينا ولكنها لا تسرف في الطول، وتقصر حينا وقد تسرف في القصر، وهو بهذا النوع الجديد يستطيع أن يؤثر في جميع الملكات التي تتأثر بفنون التمثيل دون أن يميز منها واحدة أو يقدمها على الملكات الأخرى. فهو لا يعتمد على الكلام فيؤثر هذه الملكة التي تعجب بجمال الشعر أو بجمال النثر، وهو لا يعتمد على الغناء أو على الموسيقى أو على الرقص أو على جمال المناظر، وإنما يقسم عنايته بالقسط بين هذه الأنحاء الفنية كلها، فيخلق حول النظارة جوا كله جمال يأخذهم من جميع نواحيهم. وربما كان هذا النوع من الفن هو الشعر بأدق معانيه في نفس بول فاليري، فالشعر عنده قبل كل شيء صور تؤثر في النفس من ناحية، وفكرة تعطي لهذه الصور حياة من ناحية أخرى. ولكنه مع ذلك لا يسمي هذا الفن تمثيلا، بل لا يريد أن يسميه فنا، وإنما يسميه محاولة فنية. وهو يقول لبعض من حدثه في هاتين القصتين إنه لا يستطيع أن يسمي هذا أدبا ولا فنا؛ لأنه لم يصل بعد إلى أن يوجد الصورة المتحدة ذات الأجزاء المؤتلفة التي يصب فيها كل هذه الخواطر والآراء والصور والخيالات التي ينثرها في الملعب نثرا. ولعله إن مضى في هذه المحاولة أن يصل في يوم من الأيام إلى تحقيق هذه الصورة التي يطمح إليها. ولا بد على كل حال من أن نسجل أنه لا يرى هذا النوع إنشاء فنيا أو أدبيا، بل هو أقرب إلى أن يراه لعبا حلوا ملهيا.
ومع ذلك فالذين يقرءون ما ألقاه بول فاليري من الخواطر والآراء ليكون به هذه القصة الغنائية، يجدون فيها الشعر كأجمل ما يكون الشعر، ويجدون فيها الفلسفة كأصدق ما تكون الفلسفة، ولعلك لم تنس أن بول فاليري لا يستطيع أن يتصور الشعر خلوا من الفلسفة.
ثم هم يجدون فيها التمثيل كأرقى ما يكون التمثيل. يجدون هذا كله في صفحات قليلة جدا تقرأ في نصف ساعة أو فيما دون ذلك؛ لأن الوضوح والدقة وانتظام التفكير هي الخصال التي يمتاز بها هذا الأديب العظيم.
وقد يكون من الغريب أن يذكر بول فاليري ويذكر معه الوضوح، ولكن الوضوح مع ذلك من أخص صفاته بشرط أن يقرأه القادرون على فهمه، والذين يستطيعون أن يرقوا إلى حيث يعيش من عالم الشعر والفلسفة. وأنت تستطيع أن تفهم قصة سميراميس كما تصورها بول فاليري وكما صورها، ولكنك تجد مشقة غير قليلة في فهم ما تنطق به سميراميس من الكلام أحيانا. ولو أن هذه الملكة الخرافية وجدت اليوم وسمعت ما يجريه على لسانها بول فاليري، لما ترددت في أن تعود إلى صورتها الأولى فتأخذ شكل الحمامة المطوقة، وتطير فتبعد في الطيران، فهو لا ينطقها بأقل من هذه الفلسفة العليا التي كان يجريها أفلاطون على لسان أصحابه وهم يحاورون سقراط.
نحن في قصر الملكة بمدينة بابل، وفي فناء هذا القصر في يوم من الأيام المشهودة، قد عادت فيه الملكة منتصرة ظافرة قد أذلت الممالك وأسرت الملوك، والقصر يتهيأ لاستقبالها، وما هي إلا أن يسمع ضجيج وعجيج وأصوات فيها الأمر والنهي، ثم يقبل الجند وهم يدفعون الأسرى أمامهم دفعا، ثم تقبل الملكة على عربة يجرها ثمانية من الملوك الأسرى قد شدوا إليها بسلاسل من ذهب. فإذا بلغت فناء القصر، أقبل الجند فحلوا هؤلاء الملوك، وألقوهم على درج العرش، ثم ألقوا غيرهم من الأسرى على الأرض بين العربة والعرش، بحيث لا تمشي الملكة إلا على أجسام الأسارى. حتى إذا ارتقت إلى العرش أقبل وصائفها فخلعن عنها لمة الحرب وقدمن إليها لباس السلم وزينة الملك، ثم تتجلى لشعبها في جمالها الرائع المهيب، ويدخل الجند وهم يحملون تماثيل الملوك الأسارى فيقدمونها إلى الكاهن الذي يأمر بتحطيمها، حتى إذا عملت فيها الفئوس رفع بعض هؤلاء الملوك رأسه، ونظر إلى ذلك محنقا مغيظا، فتهم الملكة أن تقرعه بالصولجان، ولكنها تلمح في وجهه جمالا فتهبط إليه وتأخذ بشعره وتجذبه جذبا عنيفا حتى تقيمه، فتنظر في وجهه فتطيل النظر ثم تمتحن قامته وجسمه امتحانا دقيقا. ويرى النظارة أنه قد أعجبها، وإذا هي تستبقيه وترسل غيره من الملوك إلى الموت.
ويلقى الستار، ولكنه لا يلقى ليستريح النظارة، وإنما يلقى ليظل النظارة في حال بين النشاط والهدوء كأنهم يرون شيئا وكأنهم لا يرون؛ فهناك أشياء تقع من خلف هذا الستار الرقيق يحسها النظارة، ولكنهم لا يتبينونها. فإذا رفع الستار عن الفصل الثاني فنحن في غرفة من غرفات الملكة قد أقيم فيها سرير رحب نثرت عليه الوسائد نثرا وقد استلقى عليه العاشقان كأنما أجهدا إجهادا، ولكن الملكة مفتونة لا ترضى، فهي لا تريح ولا تستريح، تداعب صاحبها وتلاعبه، فإذا أظهر الفتور ألقت عليه من الأعطار وقدمت إليه من الطعام والشراب ما يرد إليه نشاطه. وإذا هو قد أحس الكبرياء وشعر كأنه يملكها وكأن سلطانه عليها لا حد له. وإذا هو ينظر إليها شزرا، ويرمقها في شيء من الازدراء، ويأخذها بما تؤخذ به الأمة، فلا تكاد الملكة تحس منه ذلك حتى تثوب إلى نفسه، وإلى ملكها، وإلى قوتها، فتنحرف عنه بعض الشيء، ويطمعه ذلك فيها، ولكنها تنفره وتستجمع قوتها، وتنهض كأنها الحية، ثم تلقي عليه نظرة مخيفة، ثم تضرب على أداة قريبة منها فترفع الأستار ويقبل الجند من كل مكان، ويؤخذ الملك الأسير، ويرد إلى ذلته الأولى، وترسل الملكة إليه سهما لا يخطئه. ثم يلقى الستار، ولا يلقى ليستريح النظارة أيضا، ولكن ليروا هذه الملكة وقد خرجت من أنوثتها وعادت إلى بطولتها. استمتعت بالحب حتى رضيت أو حتى رأت أن ليس إلى الرضى من الحب سبيل. ثم دفعت فريستها إلى الموت، ثم هي تصعد إلى أعلى القصر هناك حيث المنجمون ينظرون في السماء ويذكرون الآلهة ويسبحون بحمد الملكة، فإذا أحسوا مقدمها أغرقوا في الثناء عليها، وأسرفوا في حمدها حتى تضيق بهم، فتزجرهم ثم تطردهم؛ لأنهم تركوها تشعر بأنها قد آجرتهم على هذا الثناء. وهي لا تكاد تبلغ أعلى القصر وتقصي عنها المنجمين حتى تحس أنها لم تخرج من أنوثتها وحدها، بل خرجت من ملكها أيضا! ارتقت إلى أعلى ما يستطيع الإنسان أن يبلغ من الارتفاع، فبعدت عن الدنيا وبعدت الدنيا عنها، وصغرت الحياة في نفسها، وطمعت في شيء أكبر من الحياة. وهي تستقبل الفجر متحدثة بما يملأ نفسها من ضيق بما كانت فيه، وأمل فيما لم تبلغ بعد. ثم تشرق الشمس فتغمر الكون بنورها الوضاء، وإذا الملكة قد تبينت ما كانت تريد، فهي لا تريد إلا أن تتصل بالشمس وأن تتصل الشمس بها، إلا أن تمتزج بالآلهة فتصبح منهم وتعيش معهم لأنها أكبر من الناس، ومن حياة الناس. وهي تريد أن تخلص من جسمها، وأن تصبح نفسا خالصة، وهي تتحدث بذلك إلى الشمس وهي تصعد إلى المذبح وتنام كما تنام الضحايا، وإذا جسمها يتبخر قليلا حتى يذوب وينحل عن حمامة مطوقة تطير إلى حيث لا يعرف لها مكان ولا غاية.
وأنت تخطئ إن ظننت أن الشاعر قد حكى لك هذا كله حكاية أو صوره لك في حوار، إنما هي خواطر منثورة وصور يتبع بعضها بعضا. وأنت تخطئ إن ظننت أني لخصت لك القصة، فأنا لم ألخصها، وإنما مسختها مسخا، ولم أعرض عليك منها إلا ما يمكن عرضه، فأكبر ما في القصة يحس ولكنه لا ينقل. هو رقص وموسيقى وغناء وحركات موقعة.
وأنت تعلم أن سميراميس قد ألهمت الكتاب منذ العصور القديمة فصولا رائعة، وألهمت الكتاب المحدثين منذ القرن السابع عشر قصصا تمثيلية كثيرة وقصصا موسيقية أيضا. ولعل أجمل هذه القصص كلها وأروعها قصة فولتير التي مثلت نحو منتصف القرن الثامن عشر في أواخر سنة 1748 بالضبط. فأعجب بها الناس ولا نزال نقرؤها فنعجب بها، ولكن الموازنة بين قصة فولتير وقصة بول فاليري تنتهي إلى تقديم الشاعر الحديث المعاصر من غير شك. ففولتير لم يخرج في قصته عن تقليد اليونان على شدة جحوده لفضل اليونان فيما كتب لهذه القصة من مقدمة، فهو يصور لنا سميراميس وقد قتلت زوجها وهمت بقتل ابنها واستسلمت لرجل طاغية، ثم أدركها الندم فاستعانت ببطل من أبطال الجند تريد أن تخلص به من شريكها في الإثم، وهي تريد أن تتخذ هذا البطل زوجا لها، وهي تجمع أشراف الدولة لتشهد على هذا الزواج، ولكن ظل زوجها القتيل يخرج من قبره فيحول بينها وبين هذا الإثم، فليس البطل الذي تريد أن تتزوجه إلا ابنها قد رد إليها.
وتنتهي قصة فولتير بأن يقتل الابن أمه ويسترد ملك أبيه ويقتل الطاغية، وهذا التلخيص الموجز يكفي ليبين لك أن فولتير ما كان ليكتب قصته هذه لو لم يقرأ تمثيل اليونان. فنحن نرى فيها أثر سوفوكل. أليس أوديب قد تزوج أمه؟ ونحن نرى فيها أثر إيسكولوس، أليس أورست قد قتل أمه؟ ثم نحن نرى فيها أثر أيسكولوس أيضا حين يظهر ظل الملك القتيل فيتحدث إلى الأحياء. أليس ظل دارا الملك قد ظهر فتحدث إلى الأحياء في قصة الفرس؟ ففولتير مقلد ليس غير، قد وضع الأسماء الكلدانية مكان الأسماء اليونانية. أما بول فاليري فمبتكر في كل شيء، لم يسبق إلى فكرته هذه، ولا إلى هذه الصورة التي صور فيها سميراميس. هو مبتكر في القصة، وهو مبتكر فيما خلق حولها من الجو، ثم هو مبتكر بعد هذا وذاك فيما أجرى على لسانها من هذه الفلسفة الأفلاطونية العليا.
ما أجدر أدباءنا أن يعنوا بمثل هذه الآثار العليا، وأن يسلكوا في إنتاجهم الأدبي مثل هذه الطرق التي يسلكها الكتاب المجيدون!
سجين
ليس هذا العنوان مطابقا ولا مقاربا للعنوان الفرنسي الذي وضع لهذه القصة، فلو أني أردت الترجمة الحرفية لجعلت عنوانها: «كان هناك سجين»، ولكني آثرت هذا العنوان اليسير؛ لأن العنوان الفرنسي يدل على معنى خاص يأتي من وضع الفعل بغير فاعله، وليس إلى ترجمة هذا المعنى الخاص من سبيل.
وأكبر الظن أن الكاتب لم يرد إلا الدعابة، فالعنوان الذي وضعته كاف كل الكفاية لتصوير القصة؛ لأن الكاتب لم يرد إلا إلى شيء واحد، هو تصوير سجين طال مقامه في السجن، ثم لقي أسرته بعد أن أفرج عنه، فأنكرها وأنكر الحياة الاجتماعية المألوفة كلها.
ولا بد من أن نقدم بين يدي هذا التلخيص ملاحظة تدعو إلى إكبار الكاتب، وتدعو في الوقت نفسه إلى إغضاء عن بعض ما يظهر في القصة من تقصير، وهي أن الكاتب شاب لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره، وقد مثل قبل هذه القصة قصتين نجحت إحداهما نجاحا ظاهرا، وأخفقت ثانيتهما إخفاقا ظاهرا، ووقفت هذه القصة الثالثة وسطا بين النجاح والإخفاق.
ولا شك في أن شباب الكاتب، وقرب عهده بإنشاء الأدب التمثيلي، واضطراب هذا الجيل من الكتاب بين مذهب الأدب التمثيلي البطيء الذي يريد أن يحتفظ بالسنة الموروثة للملاعب ومذهب الأدب التمثيلي السريع الذي يريد أن يسلك بالملعب طريق السينما، لا شك في أن هذا كله قد ورط الكاتب فيما تورط فيه من الضعف والقصور. وهو من غير شك متلاف هذا الضعف وبارئ من هذا القصور، إذا اتصلت تجربته وأتيح له المران، واستطاع أن يرسم لنفسه طريقا واضحة بينة. ولعلك تسألني لماذا اخترت هذه القصة التي لا تخلو من ضعف وعيب؟ ولي على هذا السؤال جوابان:
أولهما:
أن من الخير أن لا نلخص دائما جياد القصص وآيات التمثيل، بل قد يكون في اختيار القصص المتوسطة ما يمكننا من النقد ويمكننا بذلك من تثقيف الشباب في هذا الفن الذي لم تستقر به الدار عندنا بعد.
والثاني:
أن في اختيار هذه القصة التي أنشأها شاب بدأ يعرض آثاره التمثيلية في الملاعب قبل أن يتم الثانية والعشرين من عمره تنبيها للشباب إلى نشاط أمثالهم في الغرب، وقدرتهم على الإنتاج والظهور، ومثابرتهم على الجد مهما تعترضهم المصاعب والعقاب.
على أن القصة ليست من الضعف بحيث يجب الإعراض عنها، فيكفي أنها مثلت في ملعب باريسي معروف، ونشرت في الإلستراسيون، وأثنى عليها جماعة من خير النقاد الفرنسيين وأرفعهم شأنا. وسترى حين ألخصها لك في إيجاز أنها إن لم تعجب المتشددين من أعلام النقد الفرنسي، فقد يكفينا أن يضع لنا كتاب الشباب وكتاب الشيوخ أيضا قصصا تشبهها أو تدانيها.
والقصة بعد هذا كله نقد عنيف للحياة الاجتماعية، وهجاء قاس للجماعة المعاصرة، وربما جاء عنفها وقسوتها من شباب الكاتب أيضا؛ فهو ما زال متأثرا بعاطفته وغريزته، مندفعا إلى الخير، لم تعلمه الأيام بعد أن الجماعة الإنسانية ستظل بعيدة عن المثل الأعلى مهما تجتهد في السعي إليه. والفكرة الطريفة في القصة هي أن سجينا قضت عليه المحاكم بالإجرام، وأخذته الدولة بالعقوبة الطويلة الشاقة، وحمل الناس حملا على إنكاره والبراءة منه والاستخذاء من عشرته أو الاتصال به، لا يكاد يخرج من السجن حتى يتبين أن هذه الجماعة التي تنكره وتزدريه آثمة مغرقة في الإثم، خليقة بالازدراء، خليقة بنوع خاص ألا يعيش فيها هذا المجرم السجين، فهي إذن منافقة حين تقاضي المجرمين أو من تسميهم المجرمين، وحين تأخذهم بالعقاب، وحين تظهر الحرص على السيرة النقية والخلق الكريم، وحين تضع القوانين وتنشئ المحاكم وتقيم السجون لحماية السيرة النقية والخلق الكريم.
ونحن حين يرفع الستار عن الفصل الأول في سفينة خاصة لبعض الأغنياء المترفين، قد رست غير بعيد من الساحل وفيها أسرة هذا الرجل الغني جيوم باريكو. وهي تتألف من رجال ونساء، لكل منهم شخصيته الممتازة التي تستحق العناية والتفكير.
ولنبدأ من هذه الشخصيات بهذه الفتاة الجميلة آن ماري، وهي ابنة أخت صاحب السفينة، قد خطبها فتى من أبناء الطبقة الوسطى، أسرته غنية رفيعة المقام، وهو مفتش في وزارة المالية، ونحن نراه يتحدث إلى خطبه ويظهر لها الحب والهيام، والفتاة تستمع له في أناة واعتدال، وقد نفهم من حديثهم أن الفتى يتكلف الحب، وأن الفتاة لا تتكلف شيئا، وإنما تريد الزواج. وليس هذا الزواج سهلا ولا هينا، فهذه الفتاة نشأت في حجر رجل تزوج من أمها حين كان غنيا، بارز المكانة في باريس، ضخم الثروة، متسلطا على كثير من الشئون العامة، ثم اضطرب أمره المالي، ثم كانت الكارثة، ثم قبض عليه وحوكم وقضت عليه المحكمة بالسجن خمسة عشر عاما.
فهذه الفتاة موصومة بجريمة هذا الرجل، وإن لم يكن أباها، وليس من اليسير أن تجد زوجا يقبلها. فمن المعقول أن تحرص على هذا الزوج الذي أتيح لها وإن لم تجد في نفسها حبا له أو ميلا إليه. وهي شديدة السخط على هذه الجماعة التي تأخذ البريء بذنب المسيء، وتعاقب الأبناء على إثم الآباء، وهي مع ذلك شديدة العطف على هذا السجين لا تنكره، ولا تزدريه، ولعلها تحبه وتكبره أيضا.
والفتيان يتحدثان بمقدم هذا السجين الذي أفرج عنه، والذي ينتظر وصوله إلى السفينة، بين حين وحين. وهذه شخصية أخرى قد أجاد الكاتب تصويرها، وهي شخصية أدلين أم الفتاة وزوج السجين. امرأة قاربت الخمسين من عمرها، ولكنها ما زالت عظيمة النشاط سريعة الحركة خفيفة العقل، مضطربة بين أهوائها وعواطفها، متهالكة على زينتها ولذتها، يحسبها من رآها وسمعها فتاة لم تتجاوز العشرين.
وهذا صاحب السفينة ورئيس الأسرة، رجل غني قوي ماكر ماهر، مزدر لكل شيء إلا ثروته، حريص كل الحرص على أن يزوج هذه الفتاة من هذا الفتى؛ لتكون المصاهرة بين أسرته وهذه الأسرة القوية البارزة، ولتصلح هذه المصاهرة من أمره المالي ما قد يحتاج إلى الإصلاح. ثم هذا الشيخ أبو السجين رجل قد قارب السبعين أو جاوزها، وأثرت فيه السن؛ فهو إلى السخف والبله أقرب منه إلى أي شيء آخر، ولكنه مع ذلك شديد الحرص على المال، قاسي القلب، لا يكاد يعطف على ابنه ولا يكاد ينسى نفسه. وكل هؤلاء ينتظرون مقدم السجين، وينظرون إلى الساحل لعلهم أن يتبينوا السيارة التي تحمله إليهم. وأنا أعفيك مما يكون بينهم أثناء ذلك من حديث فيه فكاهة حلوة، ولكنه طويل مسرف في الطول، مفصل مسرف في التفصيل. وهذا السجين لودفيك قد أقبل ومعه شخص غليظ ضخم، ظاهر البله، سيئ الحال، لا يلتفت أحد إليه الآن، فلندعه نحن لحظة حتى يلتفت إليه أعضاء هذه الأسرة، ولنقف عند هذا السجين وقد أقبل متعبا مكدودا واجما يكاد يفقد الصواب، ويكاد لا يميز أحدا من هؤلاء الناس، الذين يراهم بعد أن غاب عنهم خمسة عشر عاما. فهم يلقونه مظهرين الابتهاج، وهو يلقاهم متكلفا للسرور، ولكنهم لا يكادون يتحدثون إليه حتى ينكر كل شيء؛ ينكر أصواتهم لأنها مرتفعة تؤذي سمعه الذي قضى دهرا طويلا لا يكاد يسمع صوت إنسان. وينكر ألفاظهم لأنها لا تدل على المعاني التي كان ينتظر أن تدل عليها، بعد أن طال عهده بالعزلة. وينكر معايبهم إذا فهمها، فهي تؤذي شعوره الخلقي، بل هو ينكر أشخاصهم أيضا. لقد كان يظن أنه سيلقاهم كما كانوا، يوم تركهم، ولم يكن يحسب حسابا لهذه الأعوام الطوال التي مرت فدفعت بعضهم إلى الشباب وقد كان صبيا، ودفعت بعضهم إلى الكهولة وقد كان شابا، ثم دفعت بعضهم إلى الشيخوخة وقد كان كهلا. وهو لا يعرف امرأته، فقد فارقها شابة لم تكد تجاوز الثلاثين، فإذا هي الآن امرأة قد تقدمت بها السن وقاربت الخمسين. تزوج كما يقول زهرة فوجد امرأة، بل هو لا يعرف ابنه الذي ولد بعد أن ألقي في السجن. وابنه هذا غلام قد أتم الرابعة عشرة، يقرأ الصحف ويجادل في العلم ويتعرف شئون الطيران ويجهل من أمر أبيه كل شيء، إلا أنه قد ذهب إلى أستراليا يلتمس الثروة، ثم عاد منها اليوم. ولا بد من أن يتعلم السجين أشياء كثيرة ليستطيع أن يلقى ابنه ويتحدث إليه ويفهم عنه، بل هو ينكر الجو الواسع والهواء الطلق والضوء القوي؛ فقد أقام هذه الأعوام الطوال في حجرة ضيقة ضئيلة لا يلقى أحدا ولا يلقاه أحد، وقد تعود أن يخلق لنفسه أشخاصا يتحدث إليهم في وحدته هذه، ولكنه يتحدث إليهم في ضميره أو يتحدث إليهم همسا، وقد تعود ضوء هذه الغرفة الضيقة ولون جدرانها الحائل، وجوها الحانق، فشق على رئتيه وعينيه وأذنيه كل ما يحس وكل ما يرى. وهو بنوع خاص دهش لهذه السفينة التي حمل إليها، فهو كان ينتظر الحرية ليسعى في الأرض ويهيم في الريف ويشعر بالانطلاق ويستمتع بالشجر والحيوان والنبات، لا ليخرج من سجنه المستقر على الأرض إلى سجن آخر تتقاذفه الأمواج.
وانظر إليه وقد رأى لأول مرة منذ خمسة عشر عاما طائرا من طير البحر، فهو دهش مبتهج شاعر حين يصف هذا الطائر ويتحدث عنه.
وقد أقبل الخادم يدعو القوم إلى طعامهم، فتنبهوا لهذا الشخص الضخم الغليظ الذي أشرت إليه آنفا، فسألوا عنه فإذا هو صديق لهذا السجين، كان يسكن في السجن حجرة تجاور حجرته، ولم يكونا يلتقيان ولا يتحادثان، وإنما كانا يتبادلان الطرق على الحائط الذي كان يفصل بينهما. وقد أنشآ لنفسيهما لغة خاصة تنطق بها الأيدي ولا تجري بها الألسنة. وهذا الرجل أخرس، وقد خرج من السجن قبل صاحبه بوقت قصير، ثم التقيا وتعارفا وظهر أن هذا الرجل بائس، فاصطحبه لودفيك رفقا به وعطفا عليه، والأسرة ضيقة بهذا الرجل الوضيع المجرم، تريد أن تنفيه ولكنها لا تستطيع؛ لأن صاحبها قد أنذر بأن يمضي معه إذا نفي، فالأسرة تستبقيه كارهة وترسلة إلى المطبخ ليصيب شيئا من طعام. وهذا السجين قد خلا لحظة إلى امرأته، وهي ترفق به وتتلطف له وتدنو منه، وهو يعرض عنها إعراضا؛ لأنه لا يحبها ولا يستطيع قربها، وقد نسي أو كاد ينسى ما كان بينهما من ذكريات. وهي تتركه لأخيها (جيوم) الذي أقبل يتحدث إليه في شئون خطيرة، ولكنه لا يكاد يسمع منه حتى ينكر ما يسمع أشد الإنكار، ف «جيوم» يعرض عليه عملا في بعض مكاتبه على أن يبقى أكثر وقته في المكتب، وهو يعرض عليه أن يخفي اسمه أمدا طويلا، وهو يبين له أن هذا كله شيء لا بد منه لتحتفظ الأسرة بشرفها، ولتستطيع الفتاة أن تتزوج من هذا الفتى. فإذا أظهر السجين أنه يكره هذا العمل الشاق ويريد أن يستمتع بحريته منطلقا في الأرض، أبى عليه صاحبه وأنذره بالبؤس، بل بما هو شر من البؤس. وقد اشتد الخلاف بينهما حتى هم السجين أن يمضي لوجهه، ولكن ماذا؟ لقد بعدت السفينة عن الساحل وعرف السجين أنه لم يحمل إلى هذه السفينة إلا لتفرض عليه الأسرة ما تريد، فهو يسب أخا امرأته ويهجم عليه، ولكن ما أسرع ما يقهره هذا الرجل القوي، وهو يريد أن يلقي بنفسه إلى الماء، ولكنه يمنع من ذلك أيضا. ويسدل الستار وهو يقاوم صاحبه ويخاصمه.
فإذا رفع الستار عن الفصل الثاني، رأينا الفتيين اللذين رأيناهما في أول القصة يختصمان أو يتحاوران حوارا فيه شيء من الخصومة؛ فقد تفاقم أمر السجين، وأخذ الفتى يخاف أو يخيف من أن ترفض أسرته الزواج إذا مضى هذا الرجل على حاله هذه. والفتاة كريمة النفس، لا ترى في السجين رأي الأسرة، وقد أخذت تعد نفسها لرفض الزواج كارهة ذلك، ولكنها تحتمله في كبرياء.
ونفهم من حديثهما أن السجين قد لزم مع رفيقه غرفة التدخين وأغلقاها من دونهما، وأزمعا ألا يخرجا منها، واتخذا خطة عداء لكل من يدنو من الغرفة، فهما يقذفانه بما تناله أيديهما من الزجاج والأطباق وما إلى ذلك، حتى استيقنت الأسرة جنون السجين وأبرقت إلى طبيب كان صديقا له قبل السجن. ودنت بالسفينة من الساحل، وهي تنتظر مقدم هذا الطبيب لعله يرد السجين إلى شيء من الأناة واللين والموافقة.
ويقدم الطبيب بعد حين، فتصور الأسرة له أمر السجين على أنه مجنون أو كالمجنون، وترغب إليه في أن يجتهد في إخراجه من هذه العزلة، وحمله على أن يقبل ما يعرض عليه. وهذا الطبيب يدنو من الغرفة حذرا، ويدعو صاحبه وينبئه بمكانه فيخرج إليه، ولا سيما وقد كان أظهر الرغبة في لقائه.
فإذا تحدث الصديقان عرفنا أن السجين لا يريد إلا شيئا واحدا، وهو أن يستوثق من أن رفيقه في السجن لن يموت جوعا. فهو يوصي به صديقه الطبيب، فإذا عرف أن صديقه قد قبل حماية هذا البائس أعلن إليه أنه سيقتل نفسه، فلم يبق له أرب في الحياة.
وهنا يظهر رأي هذا السجين في أسرته وأخلاقها، ويظهر أنه عاجز كل العجز عن أن يستأنف الحياة المرة كما تعرض عليه، فهو لا يفهم أحدا، وليس من الأسرة أحد يستطيع أن يفهمه. على أن صديقه يأخذه باللين مرة وبالعنف مرة أخرى، يريد أن يرده عن رأيه هذا. وما يزال به حتى يجهده، فيظهر له أنه قد اقتنع، وأن نفسه قد انصرفت عن الموت، وأنه سيحيا وسيجتهد في موافقة الأسرة على ما تريد.
وينصرف عنه الطبيب بعد ذلك مسرورا لينبئ الأسرة بما سمع، ولكن السجين لا يكاد يخلو إلى نفسه حتى يتهيأ للموت، ويهم بالوثوب إلى الماء، لولا أن يدا قوية ترده عن ذلك ردا عنيفا، فإذا التفت رأى رفيقه في السجن قد أدركه قبل أن يتم ما أراد.
فإذا كان الفصل الثالث فقد قضى السجين ليلة طويلة شاقة، عاد إليه صديقه فما زال به حتى هدأ من حدته وأقنعه - أو ظن أنه أقنعه - باستئناف الحياة في شيء من الرضى.
ونحن في أول الفصل نرى الأسرة مبتهجة بهذا النبأ الذي ألقي إليها، فهي قد قبلت أن تحمي هذا الرجل البائس، وهذه زوج السجين تهيئ الطعام له ولرفيقه، وهذه الأسرة كلها تجتمع لتسمع من السجين نفسه استعداده لاستئناف الحياة ورضاه بما يعرض عليه. وهذا السجين قد أقبل عليهم متلطفا مترفقا، فأخذ يسمع منهم ويقول لهم ويحاورهم في كثير من التفصيلات، ولكن الحوار لا يكاد يتصل بينه وبين زعيم الأسرة حتى يفسد الأمر مرة أخرى، فليس إلى فهم هذا السجين لحياة الجماعة من سبيل. وكيف يفهم حياة هذه الجماعة أو يطمئن إليها وهو قد استكشف أن زعيم الأسرة آثم مجرم يعبث بأموال الناس، عبثا خليقا أن يدفعه إلى السجن كما دفع هو إلى السجن منذ خمسة عشر عاما؟ بل هو قد دفع إلى السجن في شيء لم يكن يراه إثما ولا إجراما، وإنما كان شيئا من الخطأ وسوء الحظ. وهو قد استكشف أيضا أن أباه شريك في إثم هذا الرجل وإجرامه، بل هو قد استكشف من ناحية أن هذه الفتاة لا تحب صاحبها، وإنما تدفع إلى الاقتران به دفعا لتستطيع أن تحيا حياة هادئة، واستكشف من ناحية أخرى أن الفتى لا يحبها وإنما يتزوجها لمال الأسرة ومكانها، وهو يعلن إليهم هذا كله في غضب عنيف فيستيئسون من نزوله عند ما يريدون. وها هم أولاء قد تفرقوا عنه يائسين، ولم يبق معه إلا زعيم الأسرة قد خلا إليه ليعلن إليه قراره الأخير، فهو يخيره بين الإذعان لما يراد منه أو مستشفى المجانين. وأي شيء أيسر من أن يستشار طبيب فيكتب الإذن بحبسه في هذا المستشفى؟! وهذا صديقه الطبيب الذي رأيناه في الفصل الماضي لا يرى في ذلك بأسا على أن لا يكتب هو هذا الإذن، فلا بد إذن للسجين من أن يختار، وهو لا يستطيع أن يختار ما يعرض عليه ولا يريد أن يذهب إلى المستشفى. وقد تلطف زعيم الأسرة آخر الأمر فأشار عليه بأن يذهب إلى دار من هذه الدور التي يستريح فيها المرضى فينفق فيها أشهرا، وهو لا يشك في أنه بعد هذه الراحة سينظر إلى الحياة والأحياء نظرة أخرى. وقد قبل السجين هذا الرأي الأخير، واطمأن زعيم الأسرة إلى هذا القبول، وانصرف عنه، وإذا هو يدعو رفيقه في السجن وينبئه بأن القوم لا يريدون بهما إلا شرا، وبأنهما إن دخلا هذه الدار فلن يخرجا منها آخر الدهر، فلا بد لهما إذن من الإفلات إن أرادا الحرية والحياة. وكيف السبيل إلى الإفلات من سفينة ليست بعيدة من الساحل، ولكنها ليست قريبة منه أيضا؟ لقد كان مخيرا بين الذل ومستشفى المجانين، فليحمل نفسه وليحمل صاحبه على التماس الحياة من طريق قد يلقيان فيها الموت. وانظر إليهما؛ إنهما ليتهيآن للوثوب إلى الماء؛ فإما أدركا الساحل فظفرا بالحياة الحرة، وإما أدركهما الغرق فماتا كريمين.
برسيفونيه
للكاتب الفرنسي أندريه جيد
كان الجو معتدلا، وكانت السماء صافية، وكان البحر هادئا، تكاد أمواجه تستقر فلا تصدر عنها حركة ما، وكان الساحل أرضا منبسطة لولا تلال صغار قد نتأت فيها نتوءا، وكان العشب الأخضر قد كساها من جماله الوديع الحلو ثوبا يروق العيون، وكانت شجرات ضخام قد قامت على رءوس التلال، وارتفعت في الجو كأنما تريد أن تبلغ السماء، ومدت أغصانها في كل ناحية فأظلت هذا المكان الهادئ الجميل، وكان النسيم يضطرب بين هذا كله والضوء الرفيق الرقيق يترقرق في هذا الجو المريح، فكانت الينابيع ترسل مياهها العذبة هادئة تنساب على العشب كأنها الحيات.
وكانت الفتاة برسيفونيه بنت الإلهة ديمتير تلعب مع أتراب لها من بنات الآلهة في هذه الروضة الرائعة التي يلائم جمالها ما يمتاز به العذارى من براءة النفوس وصفاء الضمائر وطهر القلوب.
وكانت عن يسار هذه الروضة الجميلة صخور ترتفع غير شاهقة، ولكنها تخيف من يدنو منها بعض الشيء. وكان العذارى يشفقن من هذه الصخور، ويكرهن أن يسعين إليها أو يقربن منها. وإنهن لفيما تعودن أن يأتين من اللعب والمرح ذات يوم يستبقن حينا ويسترحن حينا آخر ويرسلن أصواتهن الحلوة بالأغاني العذاب من حين إلى حين، إذا شخص مروع مخيف قد انفرجت عنه الصخور، فأقبل يسعى، ونفرت الفتيات مجفلات إلى برسيفونيه، فقد ثبتت له، لا آمنة شره ولا منتظرة قربه، ولكن مذعنة لهذا القضاء القاسي الصارم العنيف، الذي كان يبسط سلطانه على الناس وعلى الأشياء وعلى الآلهة أيضا. فلما بلغ هذا الشخص المخيف مكان الفتاة برسيفونيه مد ذراعيه القويتين فاحتمل الفتاة، وعاد أدراجه والتأمت الصخور واستقرت حياة الروضة كأن لم يحدث فيها شيء. وثاب الفتيات مشفقات فنظرن فلم يرين صاحبتهن، ولم يرين ذلك الشخص المخيف، فانبعثت أصواتهن الحلوة لا بالغناء العذب ولكن بالصياح والعويل.
وأقبلت ديمتير إلهة الأرض والنبت والثمر على هذه الأصوات المرتاعة الملتاعة، فلما لم تر ابنتها لم تسأل عن شيء، ولم ترد أن تعلم شيئا؛ لأنها فطنت لكل شيء، واستيقنت أن أديس إله الحجيم قد خرج من دار الظلمة والموت، فاختطف ابنتها ليتخذها له زوجا في دار الظلمة والموت.
هناك صرخت الإلهة صرخة اضطربت لها الأرض، وانشقت لها السماء، وذعرت منها الشمس، وتنبه لها كبير الآلهة زيوس، فقال لمن حوله من بنيه: إن في الأرض لأمرا عظيما. وما هي إلا أن ترقى ديمتير إلى كبير الآلهة العلويين، فتقص عليه إثم كبير الآلهة السفليين، وتسأله العدل والرحمة والإنصاف. ويسعى السفراء بين السماء والجحيم يطلبون إلى إله الظلمة أن يرد إلى الأرض ابنتها فيأبى ويلح في الإباء، وتحزن الأرض أشد الحزن وتجزع الأرض أشد الجزع، فتكف عن إخراج النبت وإنضاج الثمر، وإرسال الماء من الينابيع، وإذا العيون تجمد، والأنهار تجف، وإذا كل شيء مجدب، وإذا كل مكان قفر، وإذا الناس والحيوان يأخذهم الجوع والظمأ والحرمان، وإذا الموت سعيد يطوف في الأرض، فيحصد من النفوس ما يعيا بحمله إلى دار الموتى، وإذا الآلهة يجزعون وإذا السفراء يلحون في السعي، ثم يتم الصلح بين السماء والجحيم، أو بين النور والظلمة، على أن تستقر الفتاة ستة أشهر عند زوجها الذي اختطفها قسرا، ثم تصعد فتستقر ستة أشهر عند أمها التي لا تستطيع على فراقها صبرا، ولا تجد عنه عزاء.
وتعود الفتاة إلى أمها فتسيل العيون والينابيع، وتجري الأنهار والغدران، ويخرج النبات ويورق الشجر، وينضج الثمر ويحيا الناس، وينعم الحيوان، وتبتسم الدنيا كعهدها قبل أن تختطف الفتاة.
بهذه القصة كان يتحدث قدماء اليونان، ولهذه القصة كانوا يؤمنون كما نؤمن بأوضح الأشياء، وأدناها إلى البداهة والصدق الذي لا شك فيه. وكانوا يضيفون إليها ويحذفون منها ويذهبون في روايتها وتفسيرها وتأويلها المذاهب التي تختلف باختلاف البيئات وتتفاوت بتفاوت المدن، وتتباين بمقدار ما كان بين اليونان من اختلاف في رقي العقل وسعة الفهم وقوة الإدراك. وكان الشعر الهوميري قد سبق إلى تخليدها في نشيد من هذه الأناشيد الخالدة التي سيحفظها الزمان ما استطاع أن يحفظ آثار الناس. فلما ارتقى العقل اليوناني وانشقت عنه سذاجة الطفولة واستطاع أن يلقى شمس الحق ويثبت لها، لم يرفض هذه الأسطورة ولم ينكرها، وإنما اتخذها رمزا من رموز الدين ومثلا لهذه الفلسفة العليا التي تدبر شئون الحياة والأحياء، فأصبحت برسيفونيه رمزا للربيع وما يحمل إلى الناس من جمال وحياة، ومن خضرة ونضرة، ومن خصب وسعة، ومن بهجة ونعيم، وأصبحت أمها ديمتير رمزا للشتاء الذي تجدب له الأرض وتعقم فلا تعطي الناس ثمرا ولا نباتا، ولا تبعث في الشجر حركة ولا حياة، ثم أخذ اليونان يستقبلون الربيع فيحتفلون بعودة الفتاة المخطوفة إلى أمها، ويستقبلون الشتاء فيحزنون لهبوط الفتاة إلى زوجها.
ثم أقيمت المعابد ورسمت العبادات ونظمت الحفلات تنظيما دقيقا، واستقر أكبر معبد لهاتين الإلهتين في مدينة إيلوزيس قريبا من أثينا، وعبد اليونان والرومان فيه هاتين الإلهتين عبادة منظمة خفية قد اعتبرت أصولها ومراسمها أسرارا مقدسة لا يعرفها الناس إلا إذا لقنوها تلقينا، ودرسوها درسا خفيا، مقصورا على الذين قد احتكروا علمها وتعاليمها من القسس والكهان. وانضم إلى هاتين الإلهتين في هذا المعبد إله ثالث هو ديونوزوس إله الخمر والكرم، إله الابتهاج والابتئاس، إله السرور الذي يبلغ الجنون وإله الحزن الذي يبلغ اليأس والقنوط. حتى إذا كانت غارات الأمم المتوحشة على حضارة اليونان والرومان، هدم هذا المعبد فلم تقم له قائمة، ونسي الزمان إيلوزيس ومعبدها وهؤلاء الآلهة الثلاثة الذين كانوا يقيمون فيه ويتلون فيه تلك العبادة الخفية التي كانت تملؤها الأسرار والألغاز.
فلما كان العصر الحديث وتذكر الزمان حضارة القدماء وآثارهم، أخذ المحدثون يدرسون تلك الحضارة، وهذه الآثار. وأنت تستطيع أن تسأل هذه الكتب التي لا تعد والمعاجم التي لا تحصى عن أخبار هؤلاء الآلهة وعن أسرارهم، فتظفر بشيء كثير، ولكنك ستجهل أشياء كثيرة. وحسبك أنك قد عرفت الآن هذه القصة، وحسبك أن تعلم أن المؤرخين المحدثين يجدون في الشرح والتفسير وفي التحليل والتعليل، ليردوا هذه القصة إلى أصولها التي نشأت عنها، وإلى أوطانها التي انبعثت منها، وأكثرهم يردها إلى مصر، ويزعم أنها صورة يونانية من قصة إيزيس المصرية. حسبك هذا لأني أريد أن أحدثك عما تركت هذه القصة من الآثار الأدبية، وعن آخر هذه الآثار وأقربها إلينا بنوع خاص. وقد ذكرت لك أقدم هذه الآثار الأدبية، وهو هذا النشيد الذي كان اليونان يضيفونه إلى هوميروس. وقد أثارت هذه القصة في نفوس الشعراء والأدباء والمتصوفة من اليونان عوطف وأهواء ليس هذا موضع الحديث عنها، وقد ألهمت هذه القصة أصحاب الفنون فأحسنت إلهامهم، وأتاحت لهم إنتاج طائفة ضخمة من الآثار بين عمارة ونقش وحفر وتصوير. وهذه القصة من أحب القصص إلى الأطفال، يكلفون بها ويأنسون إليها. وقد رأيت منهم من يشتركون في تمثيلها، فيتخذ بعضهم شخص برسيفونيه ويتخذ بعضهم الآخر شخص إله الجحيم، وتجتمع أسراب منهم على اللعب والغناء، حتى يأتي هذا الإله القاسي العنيف فيختطف الفتاة الحلوة الوديعة. ولعل الكاتب الفرنسي العظيم أندريه جيد شغف بهذه الأسطورة اليونانية في طفولته كما شغف بغيرها من أساطير اليونان، ولكن المحقق الذي ينبئنا به أنه فكر في تمثيل هذه القصة في صورة شعرية غنائية منذ عشرين سنة، ولكنه لم يوفق إلى ما كان يريد حتى أتيحت له آيدا روبنشتاين تلك التي حدثتك عنها في الأسبوع الماضي، والتي حملت بول فاليري على إخراج قصتيه المشهورتين، آنفيون وسميراميس، أتيحت هذه السيدة لأندريه جيد بعد أن نيف على الستين، فما زالت به حتى أحيت في نفسه ذلك الخاطر القديم، وإذا هو يضع هذه القصة القصيرة، في أجمل لفظ وأعذبه، وأدناه إلى النفوس، وأحسنه موقعا في القلوب، وإذا هي تأخذ منه هذه القصة الجميلة فتدفعها إلى الموسيقي سترافنسكي، فيضع لها لحنا يختلف فيه النقاد. ولا أستطيع أن أقول لك عنه شيئا؛ لأني لم أسمعه بعد. حتى إذا التأم الشعر والموسيقى جدت هذه السيدة في التمثيل، فأخرجت للناس في هذا العام آية من آيات هذا الفن الجديد الذي حدثتك عنه في الأسبوع الماضي، والذي لا يظهر فيه فن بعينه منفردا بالتأثير في نفوس النظارة، وإنما هو مظهر لطائفة غير قليلة من الفنون.
ولا بد من أن ألخص لك هذه القصة القصيرة تلخيصا موجزا، ولو استطعت لترجمتها لك، فهي خليقة أن تترجم، والترجمة وحدها هي التي تستطيع أن تقدم إليك منها صورة مقاربة. وأخص ما تمتاز به هذه القصة التي أخرجها أندريه جيد هذا التجديد الرمزي الذي قصد إليه الشاعر الفرنسي والذي أحب أن يطيل أدباؤنا النظر فيه؛ لأنه يجلو أمامهم حقيقتين خليقتين بالتفكير الطويل: إحداهما أن من الآداب القديمة ما يمتاز بحياة لا يمكن أن يبلغها الفناء، فهو باق دائما، وهو ملهم دائما، وهو خصب البقاء متنوع الإلهام. والثاني: أن من الأدباء من يحسنون استكشاف هذه الحقائق وفهمها والانتفاع بها واستغلالها، وإذا هم يجددونها تجديدا ويعرضونها على الناس في صور لم يكونوا يعرفونها ولا ينظرونها، فيلائمون أبدع الملاءمة وأرقاها بين القديم والجديد. نحن في مكان كهذا الذي وصفته لك في أول هذا الفصل، نشهد العذارى الحسان يلعبن ويغنين من حول الفتاة برسيفونيه، ولكن بطلا من أبطال اليونان هو إيمولبوس قد قام غير بعيد يلقي على الفتيات وعلى النظارة شعرا رقيقا حلوا يرسم للفتيات ما سيأتينه من حركة، ويشرح للنظارة ما سيرونه من أحداث، وهو ينبئنا بأن أم الفتاة توصي العذارى بابنتها خيرا وتتركها لعنايتهن، وإن كانت تحس بأن القضاء قد هيأ لها أمرا. والفتيات يرقصن ويغنين ويدعون صاحبتهن إلى الرقص والغناء والابتهاج بالحياة المبتهجة. والفتاة مستعدة لإجابة هذا الدعاء، تستقبل الحياة الحلوة بقلب يملؤه حب أوسع من الحياة، ولكن البطل اليوناني يغريها بزهرة النرجس هذه التي تتفتح غير بعيد، والتي تتكشف لمن يتنسم عطرها وينظر فيها عن هذه الظلال التي تضطرب حزينة في دار الموتى. وتسعى الفتاة إلى الزهرة تريد أن تقتطفها، ويحاول الفتيات أن يلفتنها عن ذلك، ولكنها تأبى عليهن. ولا تكاد تبلغ الزهرة وتقطفها وتشمها وتنظر فيها حتى يملأ قلبها الحب والإشفاق؛ لأنها رأت ظلال الموتى، فهي تريد أن تحمل إليهم شيئا من العزاء. وهي تنحدر إلى دار الموتى مستجيبة لدعوة الإشفاق معرضة عن جمال الحياة.
أرأيت إليها تهبط إلى الموتى من تلقاء نفسها تدفعها الرحمة والحنان ولا يخطفها إله الحجيم؟ ثم انظر إلى هذا الظلام يغشى الملعب شيئا فشيئا حتى يغمره كله، وإذا نحن في دار الموتى والفتاة مستلقية على سرير تحيط بها جوقة من الظلال، ويجري قريبا منها نهر من أنهار الجحيم، وقد قامت على شاطئه طائفة من العذارى يغترفن منه الماء ليملأن به جرارا لا تريد أن تمتلئ؛ لأن القضاء أراد لهؤلاء العذارى أن يقضين حياتهن الخالدة في هذا الغناء الخالد، والفتاة تفيق وتسأل نفسها وتسأل من حولها أين هي ؟ فإذا أنبئت بأنها في مملكة الموت حنت إلى دار الحياة، وهي مع ذلك تحاول أن تعزي من يطيف بها من الظلال. ولكن أين السبيل إلى عزاء هذه الظلال الشاحبة الكئيبة التي لا تعرف ولا يمكن أن تعرف لوعة ولا بهجة، وإنما هي في كآبة متصلة يلذ لها مع ذلك أن تسمع أحاديث الربيع؟ وهذا إله الجحيم يريد أن يتخذ الفتاة له زوجا، وهو يقدم لها التاج، ويحمل إليها الهدايا، ويقدم لها الشراب، ولكنها لا تقبل من ذلك شيئا؛ لأن إشفاقها على أهل الجحيم لا يمنع حنينها إلى الأحياء المنعمين. ثم انظر إلى هذا السحاب المتكاثف في أقصى الملعب وهو ينشق عن إله من آلهة السماء، هو مرميس، قد أقبل ومن حوله ساعات الزمان قد ارتدين ثيابا مختلفة الألوان؛ بعضها يصور المساء، وبعضها يصور الصباح، وبعضها يصور الضحى، حتى إذا دنا هذا الإله الشاب إلى الفتاة قدم إليها رمانة فأصابت منها، ثم ينصرف عنها وتنصرف هذه الساعات. فانظر إلى هذا الإله الشاب! إنه لم يأت سفيرا من كبير آلهة السماء إلى كبير آلهة الجحيم، وإنما أتى مغريا للفتاة يطمعها في حياة الأحياء. فإذا انصرف عنها اشتد شوقها إلى الأرض ومن عليها، وإذا جوقة الظلال تذكرها بزهرة النرجس فتشمها وتنظر فيها، فماذا ترى؟ ترى أمها ديمتير شقية محزونة تحتمل الجهد والمشقة في البحث عنها حتى تنتهي إلى قصر من قصور الملوك، فيعهد إليها صاحب القصر بتربية وليده الجديد. والفتاة ترى أمها وهي تحنو على الطفل، وتغذوه بغذاء الآلهة، وترى الطفل يشب جميلا قويا رائع الجمال والقوة، وإذا هي تدعوه باسمه تراتوليوس، وإذا هي تحبه وتدفع إليه دفعا، وإذا هي تصعد عائدة إلى الأرض لتلقى أمها وزوجها وأترابها، وإذا الظلام الذي كان قد غمر الملعب ينكشف عنه شيئا فشيئا حتى يتغير المنظر، وإذا نحن حيث كنا في أول القصة نرى العذارى وجماعة من الأطفال قد أقبلوا يبتهجون بمقدم الربيع، ويدعون برسيفونيه إلى أن تخرج إليهم من أعماق القبر. وقد وقفت أمها الحزينة ومعها الفتى غير بعيد، ثم ينشق القبر وتخرج الفتاة منه ذاهلة رائعة، فلا تكاد تتنسم نسيم الأرض حتى تعود إليها الحياة ويعود إليها الحب المبتهج، وإذا هي تتقدم إلى أمها فتحييها وإلى زوجها فتعانقه، ولكنها تعلن إليه أنها لن تستطيع أن تبقى معه طوال الزمن، فالليل والنهار يتعاقبان وفي قلبها حب وفي قلبها إشفاق، وهي زوج لهذا الفتى الذي هو رمز الحياة، ولكنها زوج لذلك الشيخ الذي هو رمز الموت.
ثم انظر إليها وقد تخلصت من ذراعي زوجها الشاب وانحدرت إلى مقر زوجها الشيخ. واستمع للبطل اليوناني وهو يختم القصة بهذه الأبيات:
وكذلك تسعين بطيئة الخطى إلى الظلمة السفلية، في يدك المشعل، وقد ملكت على ذلك الملك الواسع المضطرب بين اليقظة والنوم، قصاراك أن تحملي إلى الظلال قليلا من ضوء النهار، قليلا من الهدوء لشفائهم الذي لا حد له، وقليلا من الحب لحزنهم العميق.
يجب ليظهر الربيع أن ترضى الحية بالموت تحت الثرى لتظهر بعد ذلك حصادا ذهبيا في المستقبل.
ناپیژندل شوی مخ