وهو يراها في الفصل الرابع، فلا تسل عن ابتهاجه ولا تسل عن وجومها، فهو يتحدث ويتحدث ويتحدث في غير انقطاع. يريد أن يقبلها فتنفر منه، فيعلل ذلك بلحيته العظيمة وبما عليه من آثار السفر الطويل. وهو يتحدث معربا عما يملأ قلبه من بهجة وغبطة، ولكن امرأته قد أفلتت منه إفلاتا وانصرفت مدبرة. فلا يشق عليه ذلك، وإنما يفسره بالدهش وطول أمد الفراق ويجلس مطمئنا. ثم يخرج من متاعه شيئا ضئيلا يضعه على المائدة. وهو في ذلك وإذا كارل يقبل، فلا يكاد يراه حتى يبتهج لمقدمه، ولكنه لا يرى شرا ولا ريبة، وإنما يرحب بصديقه ويذكر أيام الأسر، ويذكر ذلك اليوم الذي افترقا فيه، ويتحدث عن نفسه وعن زوجه حديثا لا ينقطع. وكلما هم كارل أن يقول كلمة لم يجد إلى ذلك سبيلا؛ لأن الرجل سعيد سعيد مغتبط لا حد لسعادته ولا لاغتباطه.
وهذه ماري قد أقبلت، فلا تكاد ترى ريشار حتى تعرفه وتسرع إليه، وهو يتحدث إليها في غير انقطاع كما كان يتحدث إلى صاحبه في غير انقطاع أيضا. وكلما سألته أو سأله صاحبه عن آنا، قال إنها ذهبت لبعض الشئون وستعود من غير شك بعد قليل. وأكبر الظن أنها عرفت مقدم كارل فذهبت تشتري ما تتم به العشاء.
وما هي إلا لحظة حتى تعود آنا، وكأنها ذهبت تلتمس صاحبها، فإذا دخلت واجمة ذاهلة مضى صاحبنا في الحديث. ولكن صديقه يطلب إليها أن يخلي بين آنا وبين حريتها، فلا يظهر الاستماع، فإذا كرر عليه الطلب واستمع له وفهم عن صاحبه، ثار واضطرب وهم أن يقتل صاحبه، ولكن آنا تحول بينهما ثم تطلب إليه إذا لم يكن بد من القتل أن يقتلها هي أيضا؛ لأنها لا تستطيع أن تعيش بدونه.
وقد كان الرجل مذعنا لا يريد إلا أن يقتل هذا الفتى، وكان فيما يظهر مستعدا للعفو عن امرأته والعناية بأمر هذا الجنين. فإذا رأى حب هذه المرأة لصاحبه ودفاعها عنه واستعدادها للموت دونه، أخذه اليأس فصعق وسقط على كرسيه أبله حائرا لا يدري ماذا يصنع ولا يعرف كيف يقول! وهذا الحب الخفي الذي كان قد ظهر، ثم أخذ يستحيي لمقدم الزوج؛ هذا الحب الخفي قد عاد إلى الظهور واسترد قوته كلها وصراحته كلها. وهذه المرأة تهيئ أمرها للسفر وتأخذ من ثيابها ما لا بد من أخذه ، يعينها صاحبها على ذلك، والرجل ينظر مخذولا وصديقتها ماري تنظر إليهما حائرة مبهوتة، فهي تحب صديقتها ولكنها تحب ريشار أيضا، وقد طالما تكلفت إخفاء هذا الحب وفاء لصديقتها وحياء منها ومن نفسها.
وقد مضت آنا ومضى معها كارل، وبقي الرجل صعقا مخذولا وبقيت ماري. وينظر الرجل إلى المائدة فيرى هذا الشيء الضئيل الذي كان قد استخرجه من متاعه منذ حين، وكان يعده هدية قيمة لامرأته، فيأخذه بيده ويدفعه إلى الفتاة وهو يقول بصوت محزون متهدم يائس: «إنها قطعة من الشوكولاتة.»
مدرسة المشعوذين
مثلت منذ أعوام في باريس فأثارت لغطا كثيرا، كما مثلت قصة أخرى من قبلها في موضوع مقارب لموضوعها فأثارت لغطا ودهشا وإعجابا لم ينقض بعد.
ذلك أن موضوع القصتين يتصل بالطب والأطباء، وبالمرضى والمرض، وبالصلات بين الأطباء والذين يحتاجون إليهم من المرضى والأصحاء جميعا. وتعرض التمثيل للطب والأطباء وللمرض والمرضى قديم، قد سن فيه موليير سنة ما زالت آثارها باقية ومناهجها واضحة، وما زال الكتاب الممثلون يتبعونها ويذهبون مذهبه فيها.
فقصة الطبيب على كره منه، وقصة المريض الواهم ما تزالان من الآثار الأدبية الخالدة التي يقرؤها الناس أو يشهدونها فيعجبون بها أعظم الإعجاب، على اختلاف العصور وتباين الظروف وتفاوت البيئات. بل يقرؤها الناس المرة بعد المرة ويشهدونها كذلك المرة بعد المرة، فيتجدد إعجابهم بها وإكبارهم لها وضحكهم لما تعرض من المشاهد واعتبارهم بما تثير من الملاحظات، لا يبلغون من ذلك أقصى ما يريدون؛ لأن اللذة الفنية الخالدة من طبيعتها أن تجدد هذه اللذات، وأن تحدث لنا إعجابا وإمتاعا كلما أحدثنا لها قراءة أو استماعا. وقد أراد الكاتب الفرنسي العظيم جول رومان أن يذهب مذهب موليير في العناية بالطب والأطباء، وفي تسليط سخرية الفن ودعابته وهجائه اللاذع أيضا على هذه الطائفة الموقرة التي نتملقها جميعا؛ لأننا جميعا نحتاج إليها ونشفق منها، ونذعن لما تأمر، ونؤمن لما تقول. فوضع قصته المعروفة كنوك أو انتصار الطب، ثم قدمها إلى ملاعب التمثيل، فلم تضحك باريس وحدها وإنما أضحكت فرنسا كلها، ثم أضحكت وما زالت تضحك العالم المثقف كله. وأكبر الظن أنها أضحكت الأطباء أنفسهم قبل أن تضحك غيرهم من الناس؛ فقد أظهر الكاتب فيها الفروق القوية بين الطبيب الشيخ، المحافظ، المعتدل، المتواضع أيضا، الذي يعيش في قرية من القرى ويتكسب بمهنته صادقا ناصحا لا مسرفا على المرضى ولا مسرفا على الأصحاء، فهو يكسب حياته وشيئا من الثروة معتدلا، ولكنه لا يستغل فنه كما يستغل التجار المسرفون تجارتهم، أو كما يستغل المرابون المسرفون ما بين أيديهم من المال؛ وبين الطبيب الشاب الذي لم يفرغ لدرسه ولم يقصد إليه عن عناية واستعداد، وإنما دفعته إلى ذلك المصادفة، فواتته الظروف وأسعدته الحيلة، وانتهى إلى الظفر بالإجازة الطبية، فهو يريد أن يستغل هذه الإجازة كأشد ما يكون الاستغلال، وأن يكرهها على أن تجلب له من المال أكثر ما يمكن أن تجلب له. وهو يخلف الطبيب الأول في قريته، وقد اتخذ لنفسه قاعدة هي أن الأصل في الناس أن يكونوا مرضى وأن الصحة شذوذ. وهو يجد في أن يقنع الناس بهذه القاعدة، يستعين على ذلك بالوهم والخوف، وهو يبلغ من ذلك ما يريد، وهو يملأ القرية وما حولها من القرى إيمانا بالطب ويقينا بالمرض. فهو يشتغل في الليل ويشتغل في النهار، وهو يمكن الصيدلي من أن يشتغل في الليل والنهار أيضا، وهو يمكن الفندق من أن يمتلئ دائما حتى يضيق بالقاصدين إليه من الأصحاء الذين بلغتهم شهرة الطبيب في قراهم البعيدة فتأثروا بها واستيقنوا أنهم مرضى وأقبلوا يلتمسون الصحة والشفاء عند هذا الطبيب البارع.
وليس جمال هذه القصة فيما بين الطبيبين من التناقض، ولا في تطبيق هذه القاعدة الغريبة وتحويل الأصحاء إلى مرضى فحسب، وإنما يأتيها الجمال من هذا ومن نواح أخرى قد أعرض لها حين أحلل هذه القصة في غير هذا الفصل. وكأن هذه القصة قد ألهمت الكاتبين اللذين أتحدث عنهما اليوم، وأثارتهما للرد على جول رومان نحوا ما، فكتبا قصتهما هذه ووضعا أمر الطب والأطباء والمرض والمرضى وضعا آخر مخالفا كل المخالفة للوضع الذي لخصته لك آنفا، معاكسا له كل المعاكسة. فقد كان الطب متسلطا على الناس سواء منهم المرضى والأصحاء. في القصة الأولى كان الطب يضطهد طلاب الشفاء ويستبد بهم، أما في هذه القصة فالمرضى هم الذين يضطهدون الطبيب، وهم الذين يريدون أن يخرجوه من طوره وأن يضطروه إلى أن يتخذ طبه تجارة وإلى أن يستغل هذه التجارة استغلالا عنيفا مسرفا لا قصد فيه. والقصة صراع بين الطبيب الذي يريد أن يكون شريفا وأن يظل شريفا مخلصا لنفسه ولشرفه ولحاجة المرضى الذين يعتمدون عليه، وبين الناس الذين يريدون أن يكونوا مرضى وإن أتم الله عليهم نعمة الصحة، ويريدون أن يكرهوا الأطباء على أن يعترفوا لهم بهذا المرض ويداووهم منه، ويمنحوهم من الوقت والجهد والعناية ما ينبغي أن يمنحوه للمحتاجين إليه حقا. وقد نستطيع أن نقول في عبارة موجزة: إن الكاتبين اللذين وضعا هذه القصة أرادا أن يثأرا للأطباء، وأن يضحكا النظارة والقراء من الناس بعد أن عبث جول رومان بالأطباء فأضحك منهم النظارة والقراء.
ناپیژندل شوی مخ