79

فغضب أبو لهب في هذه المرة لأخيه الشيخ وثار بهم قائلا: يا معشر قريش، والله لقد أكثرتم على هذا الشيخ، ما تزالون تتواثبون عليه في جواره من بين قومه، والله لتنتهن عنه أو لنقومن معه في كل ما قام فيه حتى يبلغ ما أراد. فخشي زعماء قريش مغبة الوفاق بين الأخوين في النجدة والجوار - وكان أبو لهب معهم على رسول الله في دعوته - فقالوا: بل ننصرف عما تكره يا أبا عتبة. وانصرفوا راغمين.

وحكي عن هشام بن السائب الكلبي عن أبيه في رواية لا نثبتها ولا ننفيها: أن أبا طالب لما أحس الموت «جمع إليه وجوه قريش فأوصاهم فقال: يا معشر قريش، إني أوصيكم بمحمد خيرا؛ فإنه الأمين في قريش، والصديق في العرب، وهو الجامع لكل ما أوصيكم به، وقد جاء بأمر قبله الجنان، وأنكره اللسان؛ مخافة الشنآن، وايم الله كأني أنظر إلى صعاليك العرب، وأهل الوبر والأطراف المستضعفين من الناس قد أجابوا دعوته، وصدقوا كلمته، وعظموا أمره، فخاض بهم غمرات الموت، فصارت رؤساء قريش وصناديدها أذنابا، ودورها خرابا، وضعفاؤها أربابا، وإذا أعظمهم عليه أحوجهم إليه، وأبعدهم منه، وأحظاهم عنده، قد محضته العرب ودادها، وأصفت له فؤادها، وأعطته قيادها. يا معشر قريش، كونوا له ولاة، ولحزبه حماة، والله لا يسلك أحد سبيله إلا رشد، ولا يأخذ بهديه إلا سعد، ولو كان لنفسي مدة، ولأجلي تأخير؛ لكففت عنه الهزاهز، ولدفعت عنه الدواهي ...»

وهذه الوصية لا يثبتها القارئ لها على هذا الأسلوب إلا أن تكون لسان حال لا لسان مقال، وإلا أن يكون ما قيل بعض لفظها وبعض معناها، ولم يكن كل ما جاء فيها.

العباس وحمزة

وعمان آخران غير أبي طالب كانت لهما شهرة وصلة بالدعوة النبوية عرفنا منها بعض ما اتصفا به من صفات وكفايات، وهما: العباس وحمزة، وكلاهما أخ لعبد الله غير شقيق.

فالعباس على صغره تولى السقاية بعد أبيه، وامتاز بين سادات قريش بالرأي والدهاء وطول الأناة، وكان له علم بالأنساب، وقدرة على تألف الناس ودفع العداوات، مع هيبة يحسب لها حسابها جلة قريش من هاشميين وأمويين، وهو جد بني العباس، ومن خلائقه خلائق أبنائه الكفاة الدهاة من كل رئيس مطاع في هذا البيت الفريد بين بيوتات الهاشميين.

وحمزة فارس الفرسان في خلائق الفروسية كلها من شجاعة وصدق وإيمان ودراية بالسيف والخيل، قال ابن إسحاق في قصة إسلامه: «فلم يلبث حمزة بن عبد المطلب - رضي الله عنه - أن أقبل متوشحا قوسه، راجعا من قنص يرميه ويخرج له، وكان إذا خرج من قنصه لم يصل إلى أهله حتى يطوف بالكعبة، وكان إذا فعل ذلك لم يمر على ناد من قريش إلا وقف وسلم وتحدث معهم، وكان أعز فتى في قريش وأشد شكيمة، فلما مر بالمولاة - مولاة عبد الله بن جدعان - قالت له: يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفا من أبي الحكم بن هشام، وجده ها هنا جالسا، فآذاه وسبه وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه ولم يكلمه محمد

صلى الله عليه وسلم .

فاحتمل حمزة الغضب لما أراد الله به، من كرامته، فخرج يسعى ولم يقف على أحد، معدا لأبي جهل إذا لقيه أن يوقع به، فلما دخل المسجد نظر إليه جالسا في القوم فأقبل نحوه، حتى إذا قام على رأسه رفع القوس، فضربه بها فشجه شجة منكرة، ثم قال: أتشتمه؟ فأنا على دينه أقول ما يقول، فرد ذلك علي إن استطعت. فقامت رجال من بني مخزوم لينصروا أبا جهل، فقال أبو جهل: دعوا أبا عمارة؛ فإني والله قد سببت محمدا ابن أخيه سبا قبيحا ...»

قال القوم: ما نراك يا حمزة إلا قد صبأت.

ناپیژندل شوی مخ