وقال ابن إسحاق: «وذكروا أنه قال لعلى: أي بني، ما هذا الدين الذي أنت عليه؟ فقال: يا أبت آمنت بالله وبرسول الله، وصدقت بما جاء به، وصليت معه لله واتبعته. فزعموا أنه قال له: أما إنه لم يدعك إلا إلى خير؛ فألزمه.»
وبر أبو طالب بقسمه، وحمل السيف في سبيل نجدته، وروى القرطبي أنه ناجز أبا جهل وجلة قريش في مجموعهم يوم اعتدى ابن الزبعرى عليه في صلاته. وكان النبي - عليه السلام - قد دخل الكعبة ليصلي كعادته، فقال أبو جهل: من يقوم إلى هذا الرجل فيفسد عليه صلاته؟ فقام ابن الزبعرى فأخذ فرثا ودما فلطخ به وجه النبي، وانفتل النبي من صلاته وقصد إلى عمه، فسأله عمه: من فعل هذا بك؟ قال: عبد الله بن الزبعرى، فقام أبو طالب ووضع سيفه على عاتقه ومشى معه حتى أتى القوم، فلما رأوه قد أقبل جعلوا ينهضون، فقال أبو طالب: والله لئن قام رجل لجللته بسيفي. فقعدوا حتى دنا منهم، وأخذ أبو طالب فرثا ودما فلطخ به وجوههم ولحاهم، وانصرف وهو يغلظ لهم القول.
وقد تكفل أبو طالب بالنبي في طفولته الباكرة، وصحبه في غدواته وروحاته؛ خوفا عليه من إساءة تمسه في غيابه، وانتوى السفر إلى الشام والنبي في نحو الثانية عشرة من عمره، فأشفق عليه أن يجشمه عناء السفر البعيد، ثم تهيأ للرحيل فتعلق به الغلام الودود وبكى لفراقه، فلم يقو على مفارقته وهو باك، وقال لصحبه: والله لأخرجن به معي ولا يفارقني ولا أفارقه أبدا.
ولقد كان الرجل الجليد يذكر أخاه كلما لمحت عيناه الغلام اليتيم فتشرق عيناه بالدموع، ويقول: ما أشبهه بعبد الله! وقد كان أبو طالب وعبد الله - كما تقدم - أخوين شقيقين، ولم يثبت قط أن هذا العم الكريم تخلى طرفة عين عن ابن أخيه، أو أحزنه بكلمة لا ترضيه من طفولته إلى أن جهر بدعوته، ولم يخالف هذا الإجماع - من أخبار أبي طالب والنبي - أحد من المؤرخين، حتى أولئك المفسرين الذين حسبوا أن أبا طالب هو المقصود بما جاء في القرآن في سورة الأنعام:
وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاءوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين * وهم ينهون عنه وينأون عنه وإن يهلكون إلا أنفسهم وما يشعرون [الأنعام: 25، 26].
فقد وهم أولئك المفسرون أن أبا طالب كان هو المقصود بهذه الآيات لأنه كان ينهي عن أذى النبي ولا يدين بدينه، ولم يكن أبو طالب ممن يلقون النبي ليجادلوه فيصدق عليه ذلك التفسير، وأوضح من خطأ هؤلاء المفسرين هنا ظنهم أن أبا طالب مقصود بعد وفاته بقوله تعالى في سورة القصص:
إنك لا تهدي من أحببت [القصص: 56]؛ فإن سورة الأنعام قد نزلت بعد سورة القصص كما جاء في كتاب الإتقان، فلا هداية ولا جدال ولا نهي عن أذى النبي بعد الوفاة.
وعلى الجملة تبدو لنا رعاية أبي طالب لابن أخيه - على الرغم من قريش - خلائق رحمة ونخوة ووفاء واعتداد بالجاه والكرامة، وتبدو لنا من سيرته كلها خلائق أخرى من قبيل هذه الخلائق التي تجمع بين الطيبة والقوة؛ فإننا نعلم أنه كان يلقب بسيد الأباطح، وأنه كان يخرج للتجارة آونة بعد أخرى، وأن أباه عبد المطلب كان على ثراء عظيم، وكان سادات بني أمية ينافسونه بالغنى والسخاء، فلا يدركونه في هذا ولا ذاك.
ثم نعلم على كل هذا أن أبا طالب قد لقي ضنكا في شيخوخته، وأن النبي قد أعانه بكفالة ابنه علي وتربيته في داره، ونعلم كذلك أن النبي لم يكن على حال من الوفر قبل اشتغاله بتجارة السيدة خديجة، ومشاركته في ربح أموالها، فمصير ابن عبد المطلب وحفيده إلى حال من القلة بعد غنى الجدود الأوائل قد ينبئ عن نصيب الأسرة النبوية من السدانة، ومن مناصب الدين في البيت المعمور، فأكبر الظن أنها كانت مغرما يأخذ من أموالهم، ولم تكن مغنما يربحون منه الكثير أو القليل، ولولا سعة التجارة التي عمل فيها هاشم والمطلب حتى قيل: إن أحدهما سن لقريش سنة الرحلتين إلى الشام واليمن لما وصل إليهما ذلك الثراء المشهور، ولا استطاعا النهوض بأعباء الشرف ومناصب الدين.
ولقد مر بنا من نجدة أبي طالب لابن أخيه ما تتم به فضيلة النجدة كاملة لهذا الشيخ الكريم، ولكنها كانت في الحق نجدة تتسع لكل قاصد ومستجير، ولو لم تكن حقوق ابن الأخ على عمه، فقد استجار به أبو سلمة صاحب بني مخزوم، فأجاره وأعلن على الملأ جواره، فمشى إليه رجال من بني مخزوم فقالوا: يا أبا طالب، ما هذا؟ منعت منا ابن أخيك محمدا، فما لك ولصاحبنا تمنعه منا؟ قال: إنه استجار بي وهو ابن أختي، وإن أنا لم أمنع ابن أختي لم أمنع ابن أخي.
ناپیژندل شوی مخ