السعادات الجسمانية خسيسة ، وأقل ما فيها : أن الحيوانات الخسيسة تشارك الإنسان فيها بل الاستقراء يدل على أن تلك الحيوانات الخسيسة أقوى وأكمل في جانب تلك اللذات من الإنسان. وأيضا فالحدس والاستقراء يدلان على أن الخوض في جلب تلك اللذات يجذب النفس من أعالي عالم الأرواح المقدسة إلى أسافل عالم البهيمية. وأيضا فهذه اللذات سريعة الانقضاء والانقراض ، واللذات الروحانية آمنة من الزوال ، مصونة عن الفناء. وأيضا فالاستكثار من اللذات الجسمانية مشهود عليه بفطرة جميع الخلق أنه خسيس فإن الانسان الذي يكون كل أوقاته مصروفا إلى الأكل والوقاع يكون محكوما عليه عند كل أحد بخساسة الذات ودناءة الهمة وعلى أنه بهيمة محضة. وأما الانسان الذي يعتقد فيه التقليل من هذه الأحوال فإن طبع كل عاقل يحمله على تعظيمه والاعتراف له بعلو الدرجة وكمال المنقبة. ولذلك فإن العوام من الخلق إذا اعتقدوا في إنسان قلة الرغبة في الأكل والشرب والنكاح اعتقدوا فيه كونه مستوجبا للتعظيم والخدمة وعدوا أنفسهم بالنسبة إليه كالعبيد إلى الأرباب ، وكل ذلك يدل على أن هذه السعادات الجسمانية خسيسة نازلة ، فأما السعادات الروحانية فإنها باقية دائمة عالية شريفة تجذب النفس من حضيض البهيمية إلى أوج الملكية ، ومن ظلمات عالم الأجسام إلى أعالي عوالم المقدسات المطهرات. فلهذه البراهين القاهرة ، قال في الكتاب الإلهي : ( والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا ) (1) وقال صاحب الوحي والشريعة حكاية عن رب العزة تعالى : (أنا جليس من ذكرني) (2) فقد ظهر بما ذكرناه : أن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية. ولا شك أن رأس السعادات الروحانية ورئيسها (وزبدتها) (3) وخلاصتها : معرفة المبدأ الأول ومعرفة صفات جلاله ونعوت كماله وكبريائه. وأيضا قد دلت الشواهد النبوية والمعالم الحكمية على أن الجهل بهذا الباب يوجب العذاب الدائم ، والخسار المطلق ، وأن الفوز بهذه المعرفة
مخ ۳۹