والأفكار مقهورة والخواطر مزجورة ، وحقيقة الحق لا يمكن الوصول إليها بخطرات العقول والأفكار ، وكبرياء الإلهية يمتنع الوقوف عليها بأجنحة الأقيسة والأنظار. فظهر أنه لا حاصل عند العقول إلا الإقرار بإثبات الكمال المطلق له ، وتنزيه النقائص بأسرها عنه ، على سبيل الإجمال ، أما سبيل التفصيل فذاك ليس من شأن القوة العقلية البشرية.
الحجة الثالثة في هذا الباب : إن العلوم إما تصورية وإما تصديقية. أما التصويرية فنحن نجد من أنفسنا وجدانا بديهيا ، بعد الاختبار التام والاستقراء الكامل أنه لا يمكننا أن نشير بعقولنا ووهمنا وخيالنا إلا إلى أحد أنواع أربعة من التصورات.
فأحدها : الماهيات التي ادركناها بأحد الحواس الخمس ، وهي : المبصرات ، والمسموعات ، والمشمومات ، والمذوقات ، والملموسات.
وثانيها : الماهيات التي ندركها من نفوسنا إدراكا ضروريا كالألم واللذة والجوع والشبع والفرح والغضب وأمثالها.
وثالثها : الماهيات التي ندركها بحكم فطرة عقولنا كتصورنا (لمعنى) (1) الوجود والعدم والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان والامتناع.
والنوع الرابع : الماهيات التي يركبها العقل والخيال من (هذه) (2) البسائط ، أما تركيب الخيال فهو كما إذا تصورنا بحرا من زئبق وإنسانا له ألف رأس (فإنا بحس البصر أدركنا البحر ، وأدركنا الزئبق ، فالخيال يركب صورة البحر مع صورة الزئبق) وكذا القول في سائر الأمثلة ، وأما تركيب العقل فهو أنا إذا قلنا : شريك الاله ممتنع الوجود ، فما لم يتصور العقل (معنى) (3) شريك الإله يمتنع أن يحكم عليه بالامتناع ، ثم إن العقل إنما يمكنه تصور معنى شريك الإله ، لأنه قد تصور معنى الشريك في بعض المواضع ، وتصور أيضا معنى الإله في
مخ ۴۹