ولقد أدى تقيد شوقي بما اختار من تفاصيل قصة المجنون القديمة إلى ملء مسرحيته بالكثير من الخرافات القديمة التي قد يظن أن شوقي قد التجأ إليها جريا وراء ما يسميه الرومانسيون «باللون المحلي»، ولكنها في الواقع لا تدخل في هذا اللون الذي ظل - ويجب أن يظل - مقصورا على بعض المظاهر والعادات الخارجية، ولا يمكن أن يمتد إلى الحقائق النفسية التي يجب أن تظل خاضعة للعنصر الإنساني العام الذي يستطيع وحده أن يكون تلك المشاركة الوجدانية المطلوبة.
تقيد شوقي إذن باختيار تفاصيل تلك القصة وصياغتها شعرا غنائيا يبلغ الذروة أحيانا كثيرة، ولكنه لا يستطيع أن يخفي ضعف عنصر «الدراما» في كثير من مواقف المسرحية، وبخاصة في موقفها الأساسي، وهو الصراع الذي كنا نتوقع من المؤلف أن يركز عليه اهتمامه، وهو الصراع الداخلي الذي كان من الطبيعي أن يثور في نفس ليلى بين حبها لقيس وخضوعها لتقاليد العرب، التي تأبى على الفتاة أن تتزوج بمن تغزل بها في شعره، وفضح حبه لها، ففي سهولة عجيبة يفوض المهدي والد ليلى لها الأمر لتختار زوجها، وفي سهولة عجيبة تختار ليلى وردا الثقفي وتفضله على قيس، وكل ما نلمسه منها هو مجرد ندم على هذا الاختيار، بل إننا لنلمح تناقضا واضطرابا في تصوير التقاليد العربية التي جعل لها شوقي كل هذا السلطان، ولا أدل على ذلك من أن نرى وردا زوج ليلى يمهد لغريمه بعد الزواج فرصة الاختلاء بزوجته، والتحدث إليها في بيته، فهذا ما لا نظن أن التقاليد العربية - بل ولا المشاعر الإنسانية - يمكن أن تجيزه، وأكبر الظن أنه من ابتكار شوقي.
وإذا كان شوقي قد تقيد إلى هذا الحد بأسطورة المجنون القديمة، فشلت خياله وثلمت بصيرته، فهل تراه قد تحلل من مثل تلك السيطرة في الأسطورة الأخرى، التي اختارها موضوعا لمسرحية «عنترة»؟ أو تخير من تفاصيل هذه الأسطورة التاريخية ما يماشي فن الدراما، وما يمكن من تصوير شخصيات إنسانية، نستطيع أن نشاركها حياتها مشاركة وجدانية عميقة؟
هذا ما سوف نراه.
عنترة
وهذه مسرحية عربية أخرى، أغرى شوقي موضوعها الذي أصبح من الأساطير الشعبية، التي نسج حولها الخيال الشعبي الكثير من أعمال البطولة والفتك، فضلا عن الغرام، والصراع العنيف بين قيمة الفرد الشخصية ووضعه الاجتماعي، فعنترة ابن زبيبة الحبشية فارس عربي شجاع، ولكن سواد جلده، وانحداره من أمة حبشية يغمطه فضل هذه الشجاعة، ولا يجعله أهلا لعبلة بنت مالك السيد العربي، والحائل بين عبلة وعنترة في هذه القصة أعنف وأشد تأصلا في نفوس العرب من الحائل بين قيس وليلى، فقيس عربي سليم النسب كفء لليلى، ولا يحول بينه وبينها شيء غير تشبيبه بها، أما عنترة فعبد وابن أمة، ومن المعلوم إلى أي حد كان عرب الجاهلية يتمسكون بالأنساب ويستميتون في سبيلها، وكل هذه الحقائق توضح الفارق الكبير الذي يميز عناصر «الدراما» في قصة مجنون ليلى عنها في قصة عنترة وعبلة.
ولقد أغرت قصة عنترة خيال الشعراء والأدباء، وبخاصة بعد أن نماها الخيال الشعبي، وضرب بها في مختلف الآفاق، وإذا كانت هذه الدراسة السريعة لا تتسع لتقصي جميع ما كتبه الأدباء والشعراء من قصص ومسرحيات حول عنترة وعبلة، فلا أقل من أن نشير إلى أن هذا الموضوع قد عالجه في سنة 1910 أديب لبناني، هو شكري غانم، الذي كتب باللغة الفرنسية مسرحية عن عنترة مثلت في «مسارح باريس ذاتها»، وأكبر الظن أنه إذا لم يكن شوقي قد شاهدها أو قرأها فقد سمع بها على الأقل، وربما كانت من الأسباب التي لفتت نظره إلى هذا الموضوع، وأما قصة الأستاذ فريد أبو حديد التي نشرها في سلسلة «اقرأ» عن عنترة فلاحقة لمسرحية شوقي.
والواقع أن قصة عنترة الشعبية قد أفسحت المجال أمام الشعراء والأدباء ليختاروا من وقائعها ما يلائم فنهم، ويحقق الأهداف التي يقصدون إليها، وها نحن نرى كلا من شكري غانم وشوقي وأبا حديد، يختار للقصة وجهة وحلا يختلفان عما اختاره الآخر.
فشكري غانم يستمد الحل من شجاعة عنترة الخارقة، التي حملت قومه على أن يلحقوه بهم، وأن يصححوا نسبه ويزوجوه من عبلة بعد حسن بلائه في الدفاع عنهم ضد العرب والفرس وحماية ذمارهم، وأما أبو حديد فيتخير الحل فيما قيل من أن والد عبلة طلب لابنته من عنترة ألفا من النوق العصافير التي لا توجد إلا في الحيرة، وسافر عنترة لعله يغنم تلك النوق، ولكنه وقع أسيرا في يد ملك الحيرة، ومع ذلك أكرم هذا الملك مثواه، واشتغل عنترة في الحيرة بالتجارة، حتى جمع ألفين من تلك النوق، وعاد بها إلى قومه وقوم عبلة، ففرق بينهم تلك النوق، وإذا بهم يظاهرونه ويزفون إليه عبلة، وكأنه قد اشترى موافقة العرب على زواجه بهذه النوق العصافير.
وأما شوقي فقد اختط نهجا آخر؛ فهو لا يحدثنا في مسرحيته عن تصحيح نسبه، ولا عن موافقة أهل عبلة على زواجها منه لشجاعته، أو لكرمه وسخائه، أو لحاجتهم إليه، بل يترك معارضة مالك في زواج ابنته من عنترة عنيفة قاسية إلى نهاية المسرحية، وهي معارضة بلغت حد طلب رأس عنترة مهرا من منافسيه: «صخر» و«ضرغام»؛ ولذلك اضطر أن يلتمس خاتمة مسرحية لروايته، وهي تآمر عبلة مع عنترة؛ لكي تزف إليه هو لا إلى صخر في ليلة زفافها، بينما تزف إلى صخر الفتاة الأخرى ناجية التي كانت تحب صخرا قدر محبة عبلة لعنترة، وهكذا استحالت قصة عنترة عند شوقي إلى ملهاة، بل ملهاة مزدوجة من النوع المسمى عند الغرب «تراجي كوميدي» أو «ڨودڨيل»، خاتمتها انقلاب مسرحي مزدوج، هو زواج عنترة من عبلة وصخر من ناجية.
ناپیژندل شوی مخ