وكثر الكارهون للمكتشف العظيم بعد اشتهار أمره حتى إنه حرم لذة اكتشافه، فمات حزينا والناس لا يعرفون قدره، وتوافد المكتشفون على أميركا من بعده وكان في جملتهم ربان اسمه أميركو عرف باكتشاف مصب نهر الأمازون في بلاد برازيل وسميت القارة كلها باسمه، وظل الناس بعد ذلك في اكتشاف حتى عرفوا جوانب القارة الأميركية كلها في زمان قصير، وكان للدولة الإسبانية القسم الأوفر منها ولا سيما في القارة الجنوبية ما خلا بلاد البرازيل؛ فإنها ملكتها البورتوغال وظلت في قبضتها زمانا.
وكان الهولانديون والفرنسويون والإنكليز يومئذ في بدء قوتهم فأخذوا يملكون الأراضي الأميركية، وكان معظم أملاك الإنكليز في شمال الولايات المتحدة وإلى شمالهم الفرنسويين في بلاد كندا وإلى الجنوب منهم الهولانديون، ولكن الإنكليز حاربوا هاتين الأمتين وانتصروا عليهما، فصارت كندا ونيويورك وأكثر الولايات المتحدة من أملاكهم، ثم تقهقرت الدولة الإسبانية فاستقل معظم البلدان الأميركية التي كانت خاضعة لها وانفصلت بلاد البرازيل عن دولة البورتوغال، وصار للقارة الأميركية شأن عظيم.
أما الولايات المتحدة فإنها ظلت تحت حكم إنكلترا إلى سنة 1776 حين هبت للثورة، ومعظم سكانها يومئذ مهاجرون من بلاد الإنكليز ساءهم أن حكومة بلادهم قررت عليهم ضرائب فادحة، ولم تنظر إلى بعض مطالبهم؛ فأرسلوا إليها يطلبون أن يكون لهم نواب في مجلس الأمة الإنكليزية يناضلون عن حقوقهم أسوة بالإنكليز الذين تطلب منهم الضرائب والرسوم، فامتنعت حكومة إنكلترا عن إجابة هذا الطلب وزادت الضغائن بين الطرفين حتى اجتمع نواب الأميركيين من الولايات كلها، وهي في ذلك الحين ثلاث عشرة ولاية وقرروا محاربة الدولة الإنكليزية والانفصال عنها وتأسيس حكومة مستقلة وجعلوا جورج واشنطن الشهير قائد جنودهم، ومن ثم دارت رحى الحرب، وكان النصر في أكثر مواقعها للأمير كان وساعدتهم فرنسا على الإنكليز، ففازوا بالاستقلال المرغوب وأسسوا جمهورية مستقلة كان رئيسها الأول جورج واشنطن الذي ذكرناه، وسنوا نظاما بديعا لبلادهم هو على حاله إلى اليوم، وسنعود في فرصة أخرى إلى بيانه.
ورقيت الولايات المتحدة بعد استقلالها مراقي العز والفلاح، وفتحت أبوابها للراحلين والمهاجرين من كل بلاد حتى تقاطر إليها الألوف والملايين فعمروا البلاد واستدروا خيرها، وزادوا قوة البلاد وعظمتها في عهد قريب حتى إن هذه الجمهورية العظيمة اشترت من فرنسا ولاية لويزيانا في الجنوب بعد استقلالها بقليل - أي سنة 1803 - واستولت على فلوريدا وهي في الجنوب أيضا عام 1818، وعلى تكساس وكالفورنيا ومكسيكو الجديدة عام 1846، وكانت كلما ملكت أرضا تجعلها ولاية مثل بقية الولايات المتحدة حتى عم شأن البلاد، وزاد عدد سكانها زيادة عجيبة، فإن عددهم لم يزد أول القرن الغابر عن خمسة ملايين، وصار 12 مليونا في سنة 1813، و23 مليونا في سنة 1850، و35 مليونا في سنة 1866، و50 مليونا في سنة 1880، وهو الآن لا يقل عن 85 مليونا، منهم 77 مليونا من أصل أوروبي، و16 من العبيد و6 من الهنود الأصليين، ومعظم العنصر الإفرنجي في أميركا من أصل إنكليزي، فأفراد هذا الجنس الآن نحو 35 مليونا، ومعهم 15 مليونا من أرلاندا و13 من ألمانيا و5 من فرنسا، و4 من إسبانيا و5 من أجناس أخرى.
جورج واشنطن أول رئيس لجمهورية أميركا.
وفي الولايات المتحدة الآن أكثر من مائتي ألف ميل من السكك الحديدية، منها الخط الذي يوصل نيويورك بسان فرانسيسكو على شاطئ الباسيفيك، وهو يخترق القارة الأميركية من الشرق إلى الغرب مسافة 3500 ميل أو خمسة أيام ونصف يوم متوالية في القطر المستعجلة .
وتحاربت الولايات المتحدة وإنكلترا مرتين بعد الاستقلال كان النصر فيهما أكثره للأميركان. وفي سنة 1861 نشبت في البلاد حرب أهلية هائلة دامت 4 سنوات بين أهل الولايات الشمالية والولايات الجنوبية، بسبب أن أهل الشمال أرادوا إبطال النخاسة واستعباد البشر وخالفهم أهل الجنوب لكثرة ما عندهم من مزارع القطن والسكر والعبيد، فتحارب الفريقان حربا يذكرها معظم كبراء الأميركان إلى الآن، ففاز أهل الشمال بعد أهوال جمة، وألغي الاستعباد من تلك البلاد الحرة، وقد اشترت الولايات المتحدة بعد هذه الحرب بلاد ألاسكا من روسيا وحاربت إسبانيا سنة 1898 ففازت، وظهر للملأ اقتدارها، وهي اليوم أغنى دول الأرض بلا مراء، ولها قوة تحاكي قوة أعظم الممالك الأوروبية، وشأن في الخافقين عظيم.
وقد توالى الرؤساء على هذه الجمهورية من بعد استقلالها، فكان أولهم جورج واشنطن وتلاه آخرون أهمهم إبراهام لنكون الذي حدثت الحرب الأهلية السابقة الذكر على عهده. والرئيس ينتخب مرة كل 4 سنوات، كان راتبه في أول الأمر 5 آلاف جنيه في السنة، ثم صار 10 آلاف وهو الآن 15 ألفا، واسم الرئيس الحالي تافت والرئيس السابق روزفلت، وكلاهما من أعاظم الرجال، وقد زادت قوات أميركا البحرية في الزمان الأخير حتى إنها أصبحت الثانية بين دول الأرض في قوة أساطيلها، ولكن جيشها البري قليل الأهمية، وأما صناعة هذه البلاد وتجارتها فإنهما نمتا نماء هائلا عجيبا كما نما السكان في عددهم حسب البيان الذي ذكرناه.
المعرض الأميركي
لما اشتهرت مصر وسارت في سبيل الحضارة والارتقاء بعد الذي فعله ولاتها العظام من آل محمد علي باشا، صارت الدول العظمى تنظر إليها وتعدها في مصافها عند كل حادثة علمية أو تاريخية كبرى، ولا سيما من بعد أن فتحت ترعة السويس على عهد المغفور له إسماعيل باشا الخديوي الأسبق، وما كان من احتفاله الباهر بافتتاحها؛ فإنه كما يعلم الجمهور فاق الأوائل والأواخر في السخاء على الاستعداد لتلك الحادثة المشهورة، ودعا إليها ملوك الزمان، وأعد لهم فوق الذي يليق بأهل الأبهة والسلطان، فجاء هذا القطر السعيد ملوك عظام في مقدمتهم إمبراطور النمسا وإمبراطورة فرنسا السابقة - نريد بها أوجيني أرملة نابوليون الثالث - وجاء الأمراء الفخام مثل ولي عهد السلطنة الإنكليزية، والوزراء النائبون عن بقية الملوك، فزادت شهرة مصر زيادة كبرى، وجعلت الدول من بعد ذلك الحين تدعوها إلى معارضها ومؤتمراتها، فهي دعيت رسميا لمعرض باريس العام سنة 1867 ولمعرض فيينا الذي تلاه. ولما أقامت دولة الولايات المتحدة معرضا عاما في مدينة فيلادلفيا عام 1876 احتفالا بمرور مائة عام على استقلالها - كما ترى في الخلاصة التاريخية - كانت مصر في عداد الدول المدعوة؛ فصدر أمر إسماعيل باشا الخديوي بتشكيل لجنة في مصر تعد المعدات اللازمة للقسم المصري في ذلك المعرض، وكان رئيس اللجنة توفيق باشا الخديوي السابق - رحمه الله - وهو يومئذ ولي عهد الخديوية المصرية؛ فجمعت هذه اللجنة شيئا كثيرا من الأبضعة المصرية والحاصلات الطبيعية، كسن الفيل وريش النعام والصمغ وخشب الأبنوس والسنمكة والخرتيد من السودان، ومصنوعات فضية كالصواني وعلب السجارة وظروف وفناجين وأطباق وسلال قش من عمل السودانيين. وأخذت من محصولات مصر قطنا وغلالا على أنواعها، وأخذت من المتحف المصري مثالا للأهرام بديعا وبعض الحلي والآثار الثمينة، ووضعت هذه كلها مع حاصلات البلاد ومصنوعاتها في صناديق عدتها مائة وخمسون، على أن ترسل إلى المعرض الأميركي، فلما انتهت من ذلك صدر الأمر بانتخاب رجال ينوبون عن البلاد المصرية في ذلك المعرض وترسل معهم تلك التحف والرواميز، فوقع الانتخاب على دانينوس باشا وبروغش باشا وكاتب هذه السطور، وورد علينا كتاب من دولتلو نوبار باشا ناظر الخارجية في ذلك الحين يعلننا بالانتقاء لهذه المهمة بأمر من سمو الخديوي، ويشير علينا بالإسراع في السفر إلى الولايات المتحدة حتى نكون في المعرض يوم افتتاحه في أول مايو سنة 1876، فصدعنا بالأمر ومثلنا بين يدي الخديوي فأوصانا بالاجتهاد وإتقان شكل المعرض المصري؛ حتى يكون من ورائه شهرة لمصر ومقام مذكور، ثم تشرفنا بمقابلة ولي عهده توفيق باشا، وهو رئيس اللجنة التي مر ذكرها فسر بانتقائنا لهذه المهمة، وسألنا أن نرسل إليه كل أسبوعين تقريرا عن المعرض وشئونه، وأعطانا رسمه الكريم فخرجنا من لدن الأمير وولي عهده معجبين، وبدأنا بالاستعداد للسفر بدون إمهال.
ناپیژندل شوی مخ