وعلى ذلك استطعت بعد المجاهدات العظيمة والأحوال المتناقضة تأييد الأمن في الشام، فحل فيها اليوم السلام محل الفوضى والاضطراب، وإذا كنت قد أظهرت عظيم رغبتي في بقاء هذه البلاد تحت حكومتي؛ فذلك لأني معتقد بأنها إذا نزعت من يدي عادت إليها المصائب التي استأصلت جراثيمها منها. ومن جهة أخرى، أرى أن الشام تصير إذا بقيت في يدي عنصر قوة أستطيع به وقتئذ مساعدة مولاي السلطان ودولتي العلية مساعدة فعلية حقيقية، ولكنها لما كانت في يد الدولة العلية - وذلك ما أتجاسر على القول به - كان الاضطراب والفوضى والحروب الأهلية مستحكمة فيها، وها قد تحققت اليوم شيئا مما كنت أخافه، فلقد ساعد النفوذ الأجنبي عناصر الشقاق والاضطراب حيث لم يكن يفلح أول الأمر مسعى الذين كانوا يهيجون الأمة، ولكن مساعي أولئك الذين كانوا يظنون أنهم يخدمون استقلال تركيا بإحداثهم الاضطراب في إحدى ولاياتها نجحت هذه المرة، لا في إثارة خواطر البلاد فقط، بل وفي إقامة الأمة ضد بعضها، فثارت بذلك الحروب الأهلية.
وإن دواعي المصلحة العمومية التي كانت ترغبني في المحافظة على الشام، وجعلها تحت حكومتي زالت اليوم بالمرة، ولم تبق هنالك إلا مصالحي الخصوصية ومصالح عائلتي، وإنني مستعد لحياطة هذه المصالح بكل ما يصل إليه جهدي في سبيل سلامة العالم، فأترك إذن الأمر للحكمة العالية، وأضع بين يدي ملك فرنسا حظي، فهو الذي يسوي كما تقتضيه رغبته الخلاف الحالي.
وإذا وافق ما أعرض على جلالتكم؛ فإنني أرضى من الشام بعكا؛ لأنها البلد التي قاومت بكل الوسائل مساعي التهييج التي عملت لإثارتها ضدي، وقد يجوز أن جلالتكم ترى من العدل أن تترك لي جزيرة «قنديه» التي صارت تحت سلطة حكومتي حسنة زاهية من عهد بعيد، ولكن إذا أرشدتكم حكمة جلالتكم العالية إلى أن زمن التساهل والتنازل قد فات، وأن المحافظة الشديدة واجبة، فإني مستعد للكفاح حتى آخر لحظة من حياتي أنا وسائر أولادي، وإن جيشي في الشام لا يزال عظيما، ودمشق وحلب وكل المدائن المهمة لا تزال تحت سلطتي، وجيشي الذي في الحجاز ها هو عائد نحو مصر، وقد وصل قسم منه إلى القاهرة، ويصل القسم الآخر قريبا، وبين يدي شيوخ ذوو نفوذ هم نازعون الآن إلى جبل لبنان متعهدين بأن يخضعوا لسلطتي الدروز والمارونيين، ولدي أربعون باخرة مستعدة للسفر لأول إشارة من جلالتكم.
وعليه فأؤمل أن أسباب مسعاي لا تبقى مجهولة بعد اليوم، حتى لا يظن إنسان ما أن الخوف صار قائدي الآن، فإن حياتي كلها براهين داحضة لمثل هذه الدعوى، ولو كان الخوف يقودني، لجاز أن أرى ضعيفا واهنا، ولكنت تنازلت منذ 15 يوما حيث كان وجودي مهددا بالأخطار، ولكن اليوم وقد أنقذ وجودي السياسي بإعلان فرنسا، فإنني لا أخاطر بشيء كبير إن طالت الحرب.
كلا، وليست القوة التي يعدونها ضدي هي التي ترهبني؛ بل إن الذي يرهبني هو أن أكون سببا لحرب عمومية، وأن أجر فرنسا التي أنا مدين لها كثيرا إلى حرب لا يكون لها داع غير فوائدي ومصالحي الشخصية.
ولهذا فإنني أعرض حقيقة الأمر على أنظار جلالتكم، واعترافي لكم بالجميل يجعل ذلك فرضا وواجبا علي، فضلا عن أني معجب وواثق بملك فرنسا، ذاك الإعجاب وهذه الثقة اللتين تحمل العالم كله عليهما حكمة جلالتكم وذكاؤكم العالي، وإنني بهما أضع حظي بين يديكم.
ومهما كان قرار الملك، فإني أقبله بشكر وامتنان ما دامت جلالتكم مشتركة في المعاهدة التي سيتفق عليها بين الدول العظيمة، والتي تقرر حظي ومستقبلي.
وأخيرا، مهما وقع ومهما كان الأمر، فإني أرجو الملك أن يسمح لي بأن أقول له: «إن اعترافي بالجميل نحوه ونحو فرنسا سيبقى في قلبي إلى الأبد، وإني أتركه إرثا لأبنائي وأبناء أبنائي من بعدي كواجب مقدس.»
ولقد كنت أود أنه كلف أحد ضباطي العظام المعول عليهم بحمل هذا الكتاب إلى أعتاب جلالتكم، ولكن الصعوبة وطول القورتنينه حملتاني على تكليف الكونت «والوسكي» بتوصيله إلى جلالتكم، ا.ه.
محمد علي (3) الأزمة الثالثة: حرب القرم
ناپیژندل شوی مخ