لا ريب أن المرحوم «محمد علي باشا» كان يعمل لتوسيع نطاق ملكه، وكان مولعا بأن يتولى إمارة مصر والشام؛ لتتم له الكلمة في الشرق وفي البحر الأبيض المتوسط، وكأنه رأى ما رآه قبله نابليون من أن صاحب مصر لا يهنأ له عيش ولا تكمل له سعادة بغير الشام، وكذلك صاحب الشام لا تؤيد إمارته ولا تقوى سلطته إلا باستلامه زمام أمور مصر، فطمح لذلك مؤسس العائلة الخديوية لجعل الشام تحت حكمه، وانتهز فرصة رفض والي «عكا» قبول طلبه بإرجاع المصريين المهاجرين من مصر إلى وطنهم؛ لفتح الشام وتحقيق أمانيه، ومما سهل له ذلك علمه بارتباك أحوال الدولة عندئذ، واشتغال المرحوم السلطان «محمود الثاني» بتنظيم جيش جديد.
وقد ذهب بعض المؤرخين إلى أن «محمد علي باشا» كان يؤمل القبض على زمام الخلافة الإسلامية والسلطنة العثمانية والجلوس على أريكة ملك آل عثمان، ولكني لست ممن يرون هذا الرأي، بل ولا ممن يظنونه ظنا، فإن «محمد علي باشا» الذي وهبه الله من الذكاء النادر والفكر الحاد والنظر الصائب والبصيرة الصادقة ما جعله في نظر الكثيرين فوق «نابليون» رأيا وعملا أبعد من أن يؤمل مثل هذا الأمل المستحيل، وإن ذلك الذي سخرت له الرجال وذللت أمامه صعاب الأعمال كان يعلم أكثر من كل إنسان أن زوال المملكة العثمانية أمر لا يكون إلا إذا زال هذا الوجود، وأن دولة الروسيا القوية العظيمة لم تستطع بلوغ هذه الغاية، فكيف به وما كان إلا أمير مصر؟!
كلا، إني لست ممن يرون بأن مؤسس العائلة الخديوية الكريمة كان يؤمل أو يحلم أن يقبض على زمام الدولة العثمانية، ولكنه كان يريد أن يحكم الشام مع مصر، وها هي رسائله إلى «لويس فيليب» ملك فرنسا مدونة في المستندات الرسمية والتاريخية تثبت أن غاية أمانيه كانت الاستيلاء على الشام.
ولو كان يعلم عزيز مصر بالنتائج السيئة والعواقب الوخيمة التي تنشأ عن دخوله الشام، ووقوع الخلاف بينه وبين الدولة العلية؛ لكان ولا محالة عدل عن أمنيته وعمله، ولا جرم أن «محمد علي باشا» تندم طويلا على هذا الخلاف المشئوم، وتحسر على ما فرط منه.
وقد يذهب الإنسان عندما يقلب صحائف تاريخ هذه الأزمة المشئومة إلى أن هنالك أسرارا لم يكشفها لنا التاريخ دفعت بعزيز مصر ضد الدولة العلية، فإن المرحوم «محمد علي باشا» كان يعلم علم اليقين أن إنكلترا هي أول عدوة له ولمصر، وأنها لذلك تعاكسه بكل ما في وسعها، وكان لا يغيب عنه أن الروسيا لا يروق لها استيلاؤه على الشام وتأسيس دولة إسلامية جديدة يكون لها من القوة والحول ما تستطيع معه الدولة العلية يوما من الأيام أن تقهر الروسيا وتردها عن ديارها.
وعلى أي حال، فهذه الأزمة المشئومة يجب أن تكون درسا أبديا للعثمانيين والمصريين، بل ولسائر المسلمين؛ فإن هذا الخلاف القديم كان سببا لمصائب جمة تساقطت على مصر وعلى الدولة العلية، وفي أغلب الملمات التي نزلت بالدولة أو بمصر يرى الإنسان أثرا من آثار ذلك الشقاق المنحوس.
وقد يعمل بعض المفسدين على إحياء الضغائن في صدور رجال الدولة العلية بإيهامهم أن مصر طامحة الآن وفي كل آن إلى ما طمح إليه مؤسس العائلة الخديوية ، وهي دسيسة لا يقصد بها إلا الإضرار بمصالح الدولة وبمصالح مصر.
فإذا كان الخلاف القديم قد جر على الدولة وعلى مصر المصائب والبلايا، فواجب على بني الدولة وبني مصر أن يعتبروا به، وأن يجعلوا الوفاق والاتفاق رائدهم في كل أعمالهم؛ فمصر من الدولة روحها ومن الخلافة فؤادها، ولا حياة لهذا الجسم العظيم إلا بالاتفاق بين أعضائه في العمل.
وإذا كانت دول أوروبا تتحد وتتفق مع قوتها وعظمتها عندما يهم المسيحية أمر، فكيف لا نتحد معاشر المسلمين وبلادنا واقعة في أشد البلاء، والأخطار محدقة بها من كل جانب، وأعداؤها يكيدون لها أعظم كيد كلما سنحت لهم الفرص؟!
لا سلامة للدولة العلية ولمصر إلا بالوفاق والاتحاد، وقد أدرك هذه الحقيقة المصريون عن بكرة أبيهم مقتدين بالعباس أميرهم المحبوب، فتقربوا من الدولة العلية، وجاهروا بمحبتها في السراء والضراء، واعترف العالم كله بأن أهل مصر أصدق المخلصين للدولة العلية وللعرش الشاهاني؛ إذ ثبت ذلك بأجلى بيان في الحرب الأخيرة، ولا ريب عندي أن أمة مصر العزيزة ثابتة في أميالها لا تتحول أبد الدهر عن إخلاصها للدولة العلية حماها الله.
ناپیژندل شوی مخ