أما النمسا، فقد عرضت على الدول مشروع عقد مؤتمر بفيينا لحل المشكلة المصرية، فلم تقبل الروسيا هذا الطلب خوفا من تداخل الدول في شئون تركيا الداخلية، وإضعاف نفوذها بمثل هذا التداخل، ورفضت فرنسا كذلك طلب النمسا منعا لاتفاق الدول ضد «محمد علي باشا».
وبينما الدول مشتغلة بهذا الخلاف الخطير إذ انتشر خبر واقعة «نصيبين» أو «نزيب» التي انتصر فيها الجيش المصري بقيادة «إبراهيم باشا» على الجيش التركي في 24 يونيو سنة 1839، وبعد هذه الواقعة بأسبوع واحد توفي المرحوم السلطان «محمود الثاني» ولم تكن وصلته أخبار واقعة «نصيبين» لعدم وجود الأسلاك البرقية وقتئذ، وتولى بعده على الأريكة العثمانية ابنه السلطان الغازي «عبد المجيد خان».
وفي 4 يوليو من السنة نفسها، شرع أحمد باشا القبودان الأول للأسطول العثماني في تسليم هذا الأسطول لعزيز مصر، وسبب ذلك أنه كان يبغض خسرو باشا الصدر الأعظم بغضا شديدا ويميل كثيرا إلى عزيز مصر. فلما علمت الدول الأوروبية بهذا النبأ الغريب، أرسلت مذكرة إلى الباب العالي بتاريخ 27 يوليو سنة 1839 تفيده أنها متفقة كلها على مساعدته في هذه الأزمة ودفع الخطر عن المملكة العثمانية، وقد اشتركت فرنسا مع بقية الدول في إرسال هذه المذكرة، ولم يكن قصدها بذلك الاشتراك معها ضد «محمد علي باشا»، بل منع اتفاقها ضده اتفاقا حربيا.
وبناء على رجاء فرنسا لم يتقدم «إبراهيم باشا» بعد «نصيبين» بل وقف عندها.
وقد عرض وقتئذ بالمرستون وزير خارجية إنكلترا على الدول الأوروبية أن ترسل جميعها إنذارا لعزيز مصر تأمره فيه بسحب جنوده من الشام، والاكتفاء بإمارته على مصر، وتهدده بأنها تنفذ مطالبها بالقوة إن لم يرض بها ويذعن إليها؛ فعارضت فرنسا مطلب بالمرستون أشد المعارضة، وطلبت باسم «محمد علي باشا» تعيينه أميرا على مصر والشام وبلاد العرب، واستمر الجدال بين حكومتي باريس ولنودره طويلا، واشتدت لهجة السياسيين من الجانبين، كما اشتدت لهجة جرائد الدولتين، وتكدرت عقب ذلك العلائق بين الحكومتين؛ فسعت الروسيا في أن تضم إليها إنكلترا وتجعل ما بين هذه وفرنسا من الخلاف أساسا لوفاق يوضع بينها وبين إنكلترا، وأرسلت لهذا الغرض البارون دي «برونو» للوندرة، ولكن بعض وزراء الحكومة الإنكليزية كانوا يخالفون بالمرستون رأيا، وكانوا يودون الاتفاق مع فرنسا. فلم يتم لهذا السبب بين إنكلترا والروسيا الاتفاق، وعاد البارون دي «برونو» إلى سان بطرسبورغ ليتلقى تعليمات جديدة.
وقد زاد وقتئذ تهيج الشعب الفرنساوي في صالح عزيز مصر ازديادا هائلا، وخاف «لويس فيليب» ملك فرنسا من عواقب هذا التهيج، فأمر بإرجاع بقايا «نابليون الأول» من جزيرة سانت هيلينه، ودفنها بباريس في موكب حافل؛ ليشتغل الشعب الفرنساوي عن مصر وأميرها بذكرى نابليون الأول، وذكرى فتوحاته وانتصاراته العديدة، وبالفعل جيء بجثة نابليون الأول، وسارت في باريس في موكب لم ير له مثيل لا في جلاله ولا في فخامته؛ مما حول أنظار الشعب الفرنساوي عن مصر كثيرا لا قليلا.
أما إنكلترا فقد اتفق سواسها مع البارون دي «برونو» بعد عودته من الروسيا، ودعوا الدول الاوربية لإرسال مندوبين من قبلها لحضور مؤتمر يعقد بلوندرة لحل المشكلة المصرية، وقد اشتركت فرنسا في هذا المؤتمر غير أن سفيرها بلوندرة المسيو «جيزو» الشهير وجه عنايته كلها لمد أجل المؤتمر، ومنع الدول من الوصول إلى اتفاق نهائي؛ لأن الحكومة الفرنساوية كانت مشتغلة سرا بالتوسط بين تركيا ومصر، وكانت تؤمل بلوغ نتيجة مرضية لعزيز مصر بدون تداخل الدول الأخرى.
وقد نجحت فرنسا في مخابراتها السرية مع مصر والباب العالي بعض النجاح، وتوصلت إلى عزل «خسرو باشا» الصدر الأعظم، إلا أن «بونسونبي» سفير إنكلترا بالآستانة علم بمخابرات فرنسا السرية، وأبلغ حكومته هذا الخبر العظيم الأهمية؛ فهاج «بالمرستون» لذلك واغتاظ كثيرا، وصمم على الانتقام من فرنسا؛ فدس الدسائس ضد «محمد علي باشا» في الشام، وأقام أهلها ضده، وعمل على عقد اتفاق بين إنكلترا والروسيا والنمسا والبروسيا، أي بين كل دول أوروبا ما عدا فرنسا، وبالفعل عقد هذا الاتفاق، وأمضى مندوبو الدول الأربع في لوندرة بتاريخ 15 يوليو سنة 1840 على اتفاقية مختصة بالمشكلة المصرية.
وهذه الاتفاقية تضمنت أن «محمد علي باشا» يرد إلى الدولة جزيرة كريد وبيت المقدس وأطنه وبلاد الشام الشمالية، وأن يحفظ له ولأبنائه من بعده مصر، ويتولى ولاية «عكا» مدة حياته، وأنه إن لم يخضع لأوامر الدول في مدة عشرة أيام من تاريخ إرسال الإنذار الدولي إليه، لا تترك الدول له غير مصر، وإن لم يخضع في مدة عشرة أيام أخرى لا تترك له مصر نفسها، وتضمنت هذه الاتفاقية غير ذلك أن الدول تشترك في بوغازي الآستانة والدردانيل ضد كل اعتداء.
وقد اتفق مندوبو الدول في هذه الاتفاقية على أنها تنفذ قبل توقيع دولهم عليها إذا اقتضى الحال ذلك.
ناپیژندل شوی مخ