ولما صدر هذان الخطان الشريفان سألت الدول الأوروبية الدولة الروسية أن تسحب أسطولها من مياه البوسفور وجنودها من أراضي الدولة، فأجابت الطلب ولكنها لم تنفذه إلا بعد أن أمضت مع الدولة العلية على معاهدة «خورنكار أسكله سي» التي جعلت للروسيا في الدولة العلية نفوذا قويا وسلطة عظيمة.
ومضمون هذه المعاهدة: أن الدولة العلية تتحالف مع الروسيا تحالفا دفاعيا، وأن تتعهد كل واحدة منهما بمساعدة الأخرى في داخل بلادها أو في خارجها حسب الظروف، ولا شك أن ظاهر هذه المعاهدة لا يفيد شيئا غريبا، ولكن المتأمل يرى أن الدولة الروسية كانت غير واقعة وقتئذ تحت خطر، فكان من المستحيل أن ترسل الدولة العلية يوما ما جيشا تركيا لداخل البلاد الروسية، بخلافها فإنها كانت واقعة تحت خطر ظاهر، وكان احتمال دخول الجنود الروسية إلى قلب المملكة العثمانية حاصلا. ذلك فضلا عن أن الروسيا كان في استطاعتها أن تحدث في قلب الدولة من الاضطرابات ما تشاء لما كان لها فيها من الآلات القوية؛ أي إنه كان يمكنها أن ترسل بجنودها إلى داخل الدولة في أي وقت تريد.
والذي يثبت أن دخول الجيوش العثمانية إلى قلب المملكة الروسية كان مستحيلا حتى في حالة قيام الحرب بين الروسيا وبين إحدى الدول خلافا لظاهر معاهدة «خونكار أسكله سي» أن الروسيا اشترطت في آخر المعاهدة أن الدولة العلية غير ملزمة بإرسال مدد عسكري إليها في حالة وقوع الحرب بينها وبين إحدى الدول، بل يكفيها عوضا عن إرسال مدد عسكري أن تقفل بوغاز الدردنيل أمام أساطيل الدولة أو الدول المحاربة للروسيا.
وقد علمت فرنسا وإنكلترا بهذه المعاهدة، وعملت كلتاهما على إبطالها، ولكن مسعاهما لم ينجح، وتكدرت بذلك علائقهما مع الروسيا. •••
ولم يسر حكم هذا الاتفاق طويلا، فإن إنكلترا التي كان يسوءها استتباب السكينة والسلام في الشرق، والتي اقتضت سياستها في كل أطوار المسألة الشرقية إضعاف سلطة المسلمين، عملت على تحريض الدولة العلية على الأخذ بالثأر، والانتقام من عزيز مصر، وفضلا عن اهتمام إنكلترا بإضعاف السلطة الإسلامية في الآستانة ومصر، فإنه كان يروق لها أن تأخذ المركز الأول في النفوذ لدى الباب العالي، وتخفض من نفوذ الروسيا وسلطتها، فلذلك استمرت تحرض الدولة على الانتقام من «محمد علي باشا» ووجدت عند رجال الدولة آذانا صاغية؛ لأن قلوبهم كانت قد تغيرت من جهة مصر وأميرها، وتركت فيها حوادث الشام آلاما كبارا.
وقد نجحت إنكلترا في هذه السياسة، وعقدت مع الباب العالي اتفاقا تجاريا يخول لها كل ما للروسيا من الحقوق والامتيازات، وقابلت ثقة تركيا بها بأن استعدت لاحتلال «عدن» كأنها أرادت أن تعرف الحكومة العثمانية مقدار ثمن المودة الإنكليزية ...
ومع ذلك فقد اتبعت الدولة العلية آراء الإنكليز ونصائحهم، وسيرت جيشا جرارا إلى آسيا تحت قيادة «حافظ باشا»، فعبر هذا الجيش نهر الفرات في 21 أبريل سنة 1839. وفي 7 يونيو من السنة نفسها أعلنت الدولة العلية الحرب على جيوش مصر، وقد كان المرحوم «محمد علي باشا» علم من قبل باستعداد الدولة لمحاربته وإخراجه من الشام، فتأهب للقتال واستعد أكمل استعداد.
فلما علمت الدول الأوروبية باستعداد الدولة العلية للحرب اهتمت كلها بالمسألة، وأخذت إنكلترا تبذل الجهد في استمالة فرنسا إليها، والاتفاق معها على مساعدة تركيا ضد «محمد علي باشا» وإضعاف نفوذ الروسيا في الدولة العلية، ولكن فرنسا لم تقبل الاتفاق مع إنكلترا ضد عزيز مصر لما كان له عندها وعند الشعب الفرنساوي من الاحترام العظيم والكلمة العليا.
وقد قام وقتئذ الخطباء على منبر مجلس النواب الفرنساوي بإلقاء الخطب البليغة دفاعا عن أميال عزيز مصر وأغراضه السياسية، سائلين حكومتهم مساعدته ومنع كل عمل عدائي ضده، ولم يظهر الرأي العام الفرنساوي قوته وشدة تأثيره على حكومته في ظروف كثيرة مثل ما أظهر في مسألة الخلاف بين مصر والدولة العلية، فإنه كان منتصرا لعزيز مصر أشد الانتصار.
وقد أدى رفض فرنسا لطلب إنكلترا إلى اتفاق هذه الدولة مع الروسيا اتفاقا مبدئيا ضد عزيز مصر.
ناپیژندل شوی مخ