فسألت بخبث: أي حزب؟
فضحك عاليا، حتى احتقن وجهه الوردي بالدم ثم قال: لا أهمية للحزب، المهم الولاء لصاحب العرش!
فقلت بقلق: لا خبرة لي بذلك العمل. - أغمض عينيك ودع المأمور يعمل، لن يطلب منك أكثر من ذلك.
فوجمت وهو ينظر لي ثم قال متأسفا: الحق أني رشحتك لما أعهده فيك من خلق طيب، ولكني لن أثقل عليك.
ونهض مادا يده فصافحته وغادرت الحجرة، وأسفرت نتيجة الانتخابات عن نجاح عشرة من الشيوخ الوفديين في أربع وأربعين دائرة، استعملت فيها جميع صنوف الضغط والإرهاب والتزوير كالعادة، فحمدت الله على أنني لم أشترك في تلك الجريمة التاريخية المدبرة.
وقد اختلفت الأقوال في نزاهته فمن قائل إنه كان نزيها بالرغم من عيوبه الكثيرة، ومن قائل بأنه لص أريب شديد الحذر، ومعروف أنه امتلك فيلا جميلة في حلوان وعمارة في الدقي، ولكنه كان يردد دائما بأنهما اشتريا بأموال زوجته، ولما قامت ثورة يوليو 1952 قدم إلى لجنة التطهير بناء على ما قدم فيه من عرائض، ولكن الظاهر أنه لم يثبت عليه ما يدينه، فاستمر في عمله. وقيل إنه استمر بفضل شفاعة ابنه الضابط والله أعلم. ورقي بعد ذلك وكيلا للوزارة، ثم عين رئيسا لمؤسسة عقب تطبيق القوانين الاشتراكية. وتسلل إليه الحزن مرتين، مرة عندما أصيب ابنه برصاصة غير قاتلة في حرب اليمن، ومرة عندما أصيب زوج كريمته إصابة عشواء - وهو جالس في مقهى - في مظاهرات الطلبة التي تفجرت عقب هزيمة 5 يونيو 1967. ولم أره منذ غادر الوزارة، وانقطعت عني أخباره إلا فيما تسوقه المصادفة بين الحين والحين، وآخر ما سمعت عنه من صديق رآه في مكة عام 1970 وهو يؤدي فريضة الحج.
شعراوي الفحام
لعله كان أطيب أصدقاء العباسية، طيبة تخالطها لا مبالاة، وبساطة بالغة في الذكاء والتفكير، وأتذكره كلما تذكرته ضاحكا لسبب ولغير ما سبب، وكان يكفيه أن يسمع شتمة أو ملاحظة عابرة ليغرق في الضحك، وكلما اشتد نقاشنا في السياسة ضحك، وكلما تجادلنا في الكرة أو السينما ضحك، وإذا شهدنا جنازة قريب لصديق تجنبنا النظر نحوه خشية إثارة فضيحة بين المعزين. حضرنا يوما جنازة شاب قريب لجعفر خليل، وخرجت أم الشاب تودع النعش أمام البيت في حال جنونية، حافية القدمين محلولة الشعر تلطم خديها بشبشب، ثم من شدة الحزن راحت ترقص كالمجنونة، منظر أثار حزننا جميعا وأجرى دموعنا، ولاحت مني التفاتة نحو شعراوي الفحام فرأيته يعض النواجذ على ضحكة تريد أن تفلت على حين راح جسمه النحيل يرتعش تحت ضغط الضحك المكتوم، ولم يكن قاسيا ولا بليدا ولا أبله ولكنه كان غريبا، كان نوعا قائما بذاته. وكان يقيم مع أمه في البيت المجاور لبيت سيد شعير، بلا أب ولا أخوة، مات أبوه وهو في المهد، تاركا له ولأمه البيت ومعاشا مقداره عشرة جنيهات، وكرست أمه حياتها لتربيته معتمدة على معاش زوجها وريع وقف يماثله في المقدار، لذلك اعتبرت أسرة ميسورة الحال، وستظل كذلك حتى يدخل شعراوي طور الشباب فتكثر مطالبه ويتغير الحال. ولم يوفق شعراوي في دراسته الابتدائية، لا بسبب الإهمال والشقاوة مثل خليل زكي وسيد شعير، ولكن بسبب الإهمال والشقاوة والغباء. وفصل من المدرسة لكثرة سقوطه، فلم يجد سوى البيت والمقهى والطريق. ونفر بطبعه المهذب من مصاحبة خليل زكي، ولكنه وجد ملاذه عند سيد شعير، فلازمه في سهرات الحي الحسيني ثم في أحياء البغايا بعد ذلك. وعن طريقه تعلم شرب الخمر، ثم لم يفارقه إدمانها حتى الموت. ويوما قال لي وكان ما زال تلميذا بالابتدائية: أنا عارف!
فسألته عما يعنيه فقال: أنت تحب حنان مصطفى.
فسكت ضيقا وحياء فقال: وأنا أحب حنان مصطفى!
ناپیژندل شوی مخ