وسرعان ما عرف في الوزارة كأهم شخصية في مكتب الوكيل، أهم من مدير المكتب نفسه، فصار كعبة لطلاب الحاجات من الموظفين والأهالي، وانهالت عليه الهدايا أشكالا وألوانا ، وأصبحت ابتسامته أو تحيته هدية يفاخر بها المتلقي وهو يحمد الله المنان. وحدث أن تولى وزارتنا وزير من «أهل ذلك» فانفجرت أزمة لم تجر لأحد في خاطر، بالرغم من أن الوزير والوكيل كانا ينتميان إلى حزب واحد. ودبر المؤامرة موظف كبير من محاسيب الوزير، كان يتحين الفرص للانتقام من الوكيل؛ لإساءة سبقت منه إليه، فحدث الوزير حديثا مغريا عن سكرتير الوكيل «الجميل». ورتب لقاء بين الوزير والسكرتير لعرض أوراق طلب الوزير الاطلاع عليها، وقيل إن الوزير اقتنع بكفاءة السكرتير من النظرة الأولى، وإن السكرتير رحب بتقدير الوزير ترحيب شاب ليس لطموحه حد. وأبلغ الوكيل برغبة الوزير في نقل سكرتيره إلى مكتبه فثار غضبه، وصارح مبلغه بأنه لا يستغني عنه. وغضب الوزير بدوره، فأصدر أمرا بنقل شرارة إلى مكتبه فما كان من الوكيل إلا أن اعتكف في قصره، وقيل إن رئيس الحزب وبخ الرجلين، وإنه حذرهما من تسرب خلافهما إلى الصحف الوفدية، فرجع الوكيل إلى عمله كاظما غيظه. وتتابع صعود شرارة النحال فرقي إلى الخامسة - مع قيده على الرابعة - وترامى المستقبل أمامه فسيحا باهرا. غير أنه لم يشق طريقه معتمدا على جماله وحده، أو إن جماله لم يكن ميزته الوحيدة، فكان إلى ذلك ذكيا عالي الهمة مزودا بأكثر من سبب من أسباب النجاح، ففي أثناء عمله المرهق انقلب من جديد تلميذا مجتهدا، وحصل من «منازلهم» على شهادات الكفاءة فالبكالوريا وأخيرا ليسانس الحقوق. وعلق عباس فوزي على اجتهاده متهكما وجادا في آن فقال: ليس كغيره من أمثاله، فهم اعتمدوا على جمالهم وحده، وهو خاصية تفقد قيمتها سريعا بالتقدم في العمر؛ لذلك تجدهم الآن كهولا منسيين في الدرجة الرابعة أو الثالثة على الأكثر، أما صاحبنا فيعد نفسه للمناصب الرفيعة!
وكموظف يعتبر من أكفأ الموظفين الذين عرفتهم في حياتي، همة في العمل وجلدا عليه، وحسن تصرف فيه، فهو مرجع من المراجع الهامة في الإدارة، ومن ناحية أخرى اشتهر بالطموح والأنانية، والقسوة في معاملة مرءوسيه من زملائه القدامى، فلم يغفر لأحدهم هفوة أو زلة لسان ، وكان قدرا كبيرا من سعادته لا يتحقق إلا بإذلالهم والتمثيل بهم. واستقالت الوزارة وهو في الدرجة الثالثة مديرا لمكتب الوزير. وتولى الوفد الحكم، وأحيل الوكيل إلى المعاش قبل أن يتمكن من الانتقام من محبوبه القديم، وهرع الحاسدون إلى الوزير الجديد فاتهموا مدير المكتب بالحزبية المضادة والشذوذ الأخلاقي. ودافع شرارة عن نفسه باستماتة فقال إنه «موظف» وموظف فحسب، ولاؤه أولا وأخيرا للعمل، وإخلاصه لمن يعمل في خدمته. وتقرر نقله مديرا للمحفوظات، وهي وظيفة خلفية لا مجال فيها للطموح، ومع ذلك فقد عكف على دراسة نظام الأرشيف، وأعاد تنظيمه على أسس جديدة مما بث فيه حياة لم يحظ بها من قبل. ودعا الوزير لتفقده فأعجب الرجل باجتهاده وأثنى عليه، وإذا به ينشر مقاله في جريدة المقطم بعنوان «وزير وفدي يثني على خصم من خصوم الوفد»، نوه فيها بعدالة الوزير وإخلاصه وإيثاره للمصلحة العامة، وكيف أنه شجعه بدل أن يبطش به، وختمها بقوله: إن الإنسان ليحتاج إلى قوة خارقة لتمنعه من الارتماء في أحضان الوفد.
وحدثني الأستاذ عباس فوزي بأنه كان في حضرة الوزير عندما استدعى شرارة النحال لشكره، وأنه قال له: من أين لك بهذا الأسلوب البليغ؟
فما كان من شرارة إلا أن قال على الفور: إنه فضيلة يا صاحب المعالي اكتسبتها من حفظ خطب خالد الذكر سعد زغلول باشا!
ونقل شرارة النحال مديرا للمستخدمين، ثم رقي إلى الدرجة الثانية قبيل إقالة حكومة الوفد. وفرح الحاسدون وقالوا «الدب وقع»، فها هو الوزير السابق يعود ومعه الوكيل أيضا، فما عسى أن يصنع شرارة النحال؟ وتوقعنا أن نشهد خاتمة الرجل، ولكنا فوجئنا جميعا بترقيته إلى الدرجة الأولى مديرا عاما للإدارة! - ما معنى هذا؟ - ماذا جرى في الدنيا؟!
ومضت الأخبار تتسرب كنقط الماء، عرفنا ما خفي علينا، فطيلة عهد الوفد لم ينقطع شرارة عن زيارة وزيره السابق سرا، وكان ينفذ له رغائبه دون أن يدري أحد. وأكثر من ذلك سعى سعيه حتى صالح بين الوزير السابق والوكيل المحال إلى المعاش؟ فلما رجعا قال بكل ثقة : رجع عهدنا العتيد!
وقيل أيضا إنه راح يعطي دروسا خصوصية لابن الوزير الوفدي الطالب بكلية الحقوق. غير أنه بفطنته أدرك أن ميزان القوة الحقيقي مضى يتركز في السراي، وأن السراي خير وأبقى لمن أوتي بعد نظر حقيقي، وعليه ألف كتابه الوحيد «صانعو مصر الحديثة» أرخ فيه لمحمد علي وإسماعيل وفؤاد، وأهداه إلى السدة الملكية. وجاءه من الديوان الملكي جواب شكر نشر في جميع الصحف، وقال لزميله وغريمه عدلي المؤذن: الآن أصبحت من رجال السراي، ولن يفكر حزب في التنكيل بي.
وفي أواخر أيام الحرب تزوج من أسرة محترمة، فأنجب بنتا وولدا، كانا - مثله - آيتين في الجمال، وقد تزوجت الفتاة من سكرتيره، أما الشاب فعمل ضابطا في الجيش، وعقب انتهاء الحرب العظمى الثانية وقبيل إجراء انتخابات لمجلس الشيوخ استدعاني في مكتبه، وتعطف فسمح لي بالجلوس أمام مكتبه وقال لي: انتخابات الشيوخ غاية في الأهمية، ولو فاز الوفديون لحق لهم تغيير العهد كله.
فنظرت إليه متسائلا فواصل قائلا: إني أفكر في إرسال اسمك ضمن المرشحين لرئاسة اللجان الانتخابية.
فابتسمت ولم أنبس فقال: ستجد في الدائرة رجلا من رجال حزبنا.
ناپیژندل شوی مخ