85

مقالات موقع الدرر

مقالات موقع الدرر السنية

ژانرونه

مشكلة أصحاب تلك النظرية الأخيرة أنهم حين يناقشون مسألة الإلزام بمرجعية الشريعة، يتحدث أحدهم وكأن لديه دولة سوف يعيد تركيبها من الصفر. هو يتحدث وكأنه جالس على كرسي، وبين يديه أرض فضاء لا يوجد فيها دولة، ولا سكان، ولا سلطة لأحد عليها، وعن يمينه يجلس الشعب الذي سوف يسكن هذه الأرض بعد تشكيل نظامها، وعن يساره صندوق فيه مفاتيح السلطة التشريعية. فيأتي أحدهم ليفتح الصندوق، ويخرج منه مفاتيح السلطة بأطراف أصابعه، ثم يسأل من حوله بذكاء وفطنه: أيهما أحسن وأضمن أن نعطي مفتاح السلطة للشعب كله، أو أن نختار فردا واحدا نمنحه حق فرض الشريعة؟

ترى أحدهم يحدث من حوله مفاخرا: أنا أرى منح سلطة التشريع للشعب. بينما أنتم ترون منحها لفرد متغلب. هذا هو الفرق بيني وبينكم. فكلنا نؤمن بمرجعية الشريعة. لكن نختلف في تحديد الطرف الذي سوف نمنحه حق الحكم بالشرع!

ما لم ينتبه له هذا القائل أن النقاش والبحث ليس عن دولة سوف نبنيها على أرض المريخ أو زحل. بل الكلام يتعلق بأوضاع ودول قائمة لم تأت باختيار أحد ولا مشورته. فحين يكون أمامك بلد محكوم بنظام فردي متغلب مستأثر بالسلطة، ولا ينوي التنازل عنها، أو إشراك غيره فيها، والناس خاضعون له (طوعا أو كرها)، وهو يحكمهم بقانون وضعي لم يشاورهم فيه. فهل هناك إشكال لو سعينا في إقناعه بتحويل نظامه، أو تقريبه -على الأقل- إلى المرجعية الإسلامية؟

حسب نظرية (سيادة الأمة) لا يجوز ذلك. لأن هذا من الإكراه في الدين. فإذا لم يقبل المتغلب الاحتكام لسيادة الأمة والتصويت على مرجعية الشرع، حرم علينا السعي إلى تحكيم الشريعة من خلاله! ومن نصح هذا الحاكم المتنفذ بالتزام شرع الله في حكمه، فإنه يكون آثما عند الله -عز وجل-، لأن الشريعة لا يجوز أن تأتي إلا عبر سيادة الأمة!

وقد تعب جملة من الأفاضل كي يشرحوا: أنهم لا يؤمنون بصحة وجود فرد متغلب يملك حق نصب الشريعة ونزعها متى شاء. لكنهم يعالجون أوضاعا قائمة، ويجتهدون في الاقتراب من حكم الشرع حسب السبل المتاحة. فإن كانوا يعملون في ظل نظام يحتكم للتصويت والانتخاب ويلتزم نتائجه، فسوف يسعون لمرجعية الشريعة من خلال هذا النظام إن رأوا المصلحة في ذلك. وإن كانوا يعملون في ظل نظام حكم فردي يرفض التنازل عن السلطة، فسوف يسعون لتحقيق مرجعية الشريعة من خلاله أيضا. ولو أن هذا الفرد المتغلب سمع وأطاع لهم فالتزم شرع الله في قضائه وحكمه وتشريعاته، فلا يعني هذا أن القصة انتهت، فتفرده بالسلطة المطلقة وإن كان واقعا مفروضا بالقوة، فليس هو الوضع الصحيح الذي ينشدونه، لكنه خير من وضع يجمع بين تفرد بالسلطة، وإقصاء لمرجعية الشرع.

هذه النقطة ظلت عصية على فهم أصحاب تلك النظرية المتفردة، فظلوا يرددون ويتساءلون بذكاء: أيهما أحسن أن يناط تطبيق الشريعة بالفرد أم بالأمة؟

تناقض غير مفهوم

عزيزي القارئ حاول أن تجمع بين هاتين الفكرتين، علك تفلح فيما عجزت عنه.

يقول أحدهم:

"وظيفة الاستفتاء هو الاحتكام إلى إرادة الناس حين تتصارع القيم والإرادات، فيتم حسمها بمسار سلمي وحضاري، لا بمسار الحروب والاقتتال والإرهاب والقمع والإقصاء وسفك الدماء وانتهاك الحرمات ... ".

تأمل معي - أيها القارئ الكريم- كيف يتم تصوير نتيجة إقرار مرجعية الشريعة دون تصويت: (اقتتال)، (إرهاب)، (قمع)، (إقصاء)، (سفك دماء)، (انتهاك حرمات).

مخ ۸۵