فلما دخل عليه في قاعة الجلوس، ودنا منه بوجه غير عبوس، وانكب على القدمين، وقبلهما بعد اليدين، قال له: ما الذي قطعك عني، وأنت بمنزلة الروح مني؟ فقال: قطعتني عنك السياط، وحرماني أنا وعيالي من المرتب للسماط، فتأسف عليه وتألم، وقال: تالله يا أبا مريم، إني ما رأيتك منذ عدة شهور، مع احتياجي لك في بعض الأمور، وإني ما أشرت إلى أحد بضربك، ولا أغريته على شتمك وسبك، ولا أمرت بقطع الراتب، بعد قيده في سجل الكاتب، فقال له: يا سبحان ربي! أما أنت الذي أشرت بضربي، وأمرت بقطع معاشي، وشق ريش رياشي؟ فقال: لا وحرمة ما لك علي من الخدامة، ما وقع في حقك ما يوجب الملامة، فإن كان قد أصابك من الإهانة، ما يقضي بالانخفاض بعد علو المكانة، فلا تحمله على الاستخفاف، بمن هو دونك ولو من الأجلاف، بل احمله على رداء إبليس، الذي يستر به عين كل رئيس، عند قيامه بوظيفة جليلة؛ لينسيه صديقه وخليله، ويضرب الحجاب بينه وبين العدو والحبيب، حتى لا يميز البعيد من القريب.
فلما سمع الشيخ منه مقاله، عرف أنه صادق المقالة، وصفا له وقبل عذره، وانقاد له وامتثل أمره، وشرع على جري عادته في إتحافه بالأخبار، فزال عنه بعض ما نزل به من الأكدار، وضاعف له أرزاقه، وحل منه الفقر وثاقه، وكساه حلة جديدة، وملأ بطنه الجائع بالثريد والعصيدة، وأقطعه ضيعة خصبة، ذات بساتين وعيون عذبة، يقال إن غلتها لا تنقص في كل سنة، عن مائتين من الدنانير المستحسنة، ووعده أنه إن عاد إلى منصبه الفخيم، وانجلت عنه دياجي العزل الوخيم، كان أول داخل عليه وآخر خارج من عنده، وشاركه في أمره ونهيه وحله وعقده، فعند ذلك قال له الشيخ بعد أن أخذ عليه العهود: سترجع إلى منصبك على رغم الحسود، ثم تركه ومضى إلى البيت، يعدو على رجليه كالجواد الكميت، وقال لزوجته: أيتها الوليفة، إن الرجل تاق إلى الوظيفة، فاستعدي للدعاء له لا عليه، عسى يعود منصبه إليه. فقالت له: إنه ما عرف لك هذه المنقبة، لما سالمته الأيام وجلس على المرتبة، وإننا لا نزال بخير، ما دام هو في ضير، وقد رأيت بالأمس ما فعله. فقال: لا تثريب عليه يغفر الله له، ثم دعا فأجيب بعد مدة من الزمن إلى ما طلب، وفاز الرئيس من دعائه بالأرب.
وكان الشيخ قد احتال حتى خرق سقف مخدع ظريف في الطريق الموصلة إلى الديوان المنيف، وانتظره إلى أن ركب ومن تحته عبر، فأدلى من الخرق رداء حجب بصره عن النظر، فانزعج الرئيس وقال وهو في حالة الخوف: ما هذا الملم الذي حرك مني الخوف؟ فقال له الشيخ: يا مولاي، لا بأس عليك، هذا ردائي قد سبقت به إليك، حتى لا يتمكن إبليس من وضع ردائه على وجهك المهاب، وأعود أنا إلى ما كنت فيه من العذاب.
فلما عرفه ذهب عنه الروع والاضطراب، وأنزله من المخدع وقربه منه كل الاقتراب، ووصله واتصل به غاية الاتصال، وعاش معه في أرغد عيش بلا انفصال، حتى أدركه الحمام بعد ثمانية أعوام، ولم يزل أولاد هذا الشيخ من بعده، رافلين عند الرئيس في حلل رفده، ناطقين بشكره، إلى أن ثوى بقبره، تغمده الله برحمته ورضوانه، وأسبغ عليه النعم السرمدية في جناته، ومتعه فيما بها من القصور، بوصال الحور الفائقة في الحسن على تمام البدور.
المقالة السادسة
في لص حليف إنصاف، حميد أخلاق وأوصاف
قرأت في صحف الأوائل، من أخبار بعض القبائل، حكاية عجيبة، ورواية في بابها غريبة، غردت بها العناديل والبلابل، على أفنان بساتين مدينة بابل، وهي أنه كان بهذه المدينة، ذات الأسوار العالية الحصينة، لص حليف إنصاف، حميد أخلاق وأوصاف، كان إذا ألجأته الضرورة إلى القوت، وتسلق على جدران بعض القصور والبيوت، لا يأخذ منه لغذاء العيال، سوى مؤنة ثلاث ليال؛ ليكون فيها منعم البال، لا يذوق مرارة السؤال، فكان لسان حاله ينشد، إذا لامه لائم أو فنده مفند:
خبرت الناس قرنا بعد قرن
فلم أر غير ختال وقال
وذقت مرارة الأشياء طرا
ناپیژندل شوی مخ