والآن سندرس فلسفة أخرى للحدس، تكاد تكون معاصرة، وهي فلسفة برجسون (1859-1941م) التي تأبى أن تعزو إلى المذهب العقلي في علم الطبيعة الرياضي القدرة على فهم اتصال الظواهر النفسية والحيوية وتطورها، وتقصر معرفتها على الحدس الخارج عن مجال العقل. (1) العقل في رأي برجسون
يرى برجسون أن العقل طريقة للمعرفة أساسها التدرج المقالي. وهو يقتطع الواقع إلى أجزاء، تدخل عليها ألفاظ عامة مجردة، يجمعها العقل بإرشاد التجربة. ففي الإدراك الحسي مثلا يدرك العقل أشياء. أو على الأصح نماذج لأشياء يهتدي إليها فيما بعد على صورة تكاد تكون مماثلة لها (كالقلم أو الورق) ويمكن استخدامها من جديد لتفسير إدراكات حسية أخرى، وهو يجمعها في مجموعات يعبر عنها بأحكام مثل: أكتب بالقلم على الورق، ولعملية الاقتطاع والجمع الذهني هذه هدف نفعي وعملي، لأن من يدرك حسيا يهدف إلى التعرف على الأشياء ليستطيع الإفادة منها.
فالهدف الأساسي للعقل البشري إذن هو المعرفة النفعية. وهو إنما يميز القلم والورق حسيا لكي يتمكن من التدوين بالقلم على الورق، وقد بين برجسون أن الإنسان عاقل
homo sapiens
بقدر ما يستطيع الإفادة من أشياء بوصفها أدوات له، وأنه عاقل بهذا المعنى ذاته. والأهم من ذلك أنه يستطيع صنع أدوات: فهو إنسان صانع
homo faber
وهذا هو بعينه ما يميزه عن الحيوان. وإذا كانت بعض الحيوانات تقترب منه في عقلها فما ذلك إلا لأنها تستطيع أن تميز أدوات، وأن تستخدمها في حالات معينة بسيطة.
وإذن، فدور العقل ورسالته هي قبل كل شيء وظيفة الصنع
fonction fabrcatrice
أي تشكيل الأدوات واستعمالها، ووظيفة التفكير المقالي المتدرج تنتج عن هذه؛ فهي إدراك أشياء ينطوي تركيبها على نوع من التشابه، وقدر من الدوام، ويمكن استخدامها والانتفاع منها. ففي الدرجة الأولى يأتي صنع الأدوات واستخدامها . وفي الدرجة الثانية تأتي الأفكار المجردة العامة، والتفكير اللغوي، وجمع الكلمات في قضايا وجمل.
ناپیژندل شوی مخ