أما التركيب فهو الحركة العكسية، وهدفه إعادة تركيب المعطى عقليا بغية البرهنة عليه أو تحقيقه. وهو قابل للتعميم.
فالاستنباط والاستقراء، والتحليل والتركيب، هي العمليات المقالية المتدرجة (
discursives ) للعقل البشري. ويجب إكمالها بالحدس، وهو معرفة مباشرة تنصب على ما هو فردي. ولكن هل الحدس معرفة عقلية؟ هناك فلسفات للحدس تؤكد أنه خارج عن مجال العقل، ومن قبيلها الميتافيزيقا المسيحية عند باسكال، وفلسفة برجسون. أما نحن فنعتقد بالأحرى، مسايرين في ذلك النزعة العقلية، أن الحدس هو الصورة العليا للعقل، وأن الإدراك العميق للتفكير العلمي كفيل بأن يهتدي فيه إلى الروح مكتملة، وفي أرفع صورها.
التحليل أفضل صور الاستقراء، وهو المحرك الخفي له
درسنا في الفصل السابق العملية التي نصل بها من الوقائع إلى القوانين. وهناك قوانين «كيفية» خالصة، تنتهي إلى القول بأن للشيء خاصية مميزة، كالقول بأن من خواص الحرارة أن تؤدي إلى تمدد الأجسام، وتصهرها وأن الأثير يذيب المواد الدهنية، وأن الأفيون مخدر. وقبل أن يضع جاليليو وديكارت أسس علم الطبيعة الرياضي، ولافوازييه أسس الكيمياء الرياضية، كان العلم كيفيا. وكان قوامه قضايا كيفية أيضا، وكان الاستقراء الذي ينتهون به إلى القوانين «استقراء كيفيا» ومع ذلك، فالعلم لم يتخلص تماما من هذا الطابع. فإلى جانب الطبيعة الرياضية بمعناها الصحيح، يوجد دائما علم للطبيعة يسمى «بالتجريبي»، بمعنى خاص لهذه الكلمة؛ لأن قوامه أساسا تجارب تهدف إلى الكشف عن الخواص، وإثباتها وإظهارها، فالطبيعة التي تدرس لتلاميذ لم يتعمقوا العلوم الرياضية بعد، هي طبيعة «تجريبية»، وعندما يبدءون في التعود على معالجة المعادلات، ولا سيما معادلات التفاضل، بعد دراسة الرياضة في الفصول العالية، يمكنهم الانتقال إلى بحث الطبيعة الحديثة والكيمياء الحديثة بمعناهما الصحيح، وهما العلمان اللذان يحتل الحساب الرياضي فيهما مكانة أهم بكثير من مكانة التجربة. غير أن الطبيعة «التجريبية» ليست فقط صورة من الطبيعة أقرب إلى عقول الناشئين، بل هي أيضا صورتها الأولى التمهيدية. فلزام على علم الطبيعة أن يكون في البدء تجريبيا.
ونتيجة ذلك أن هناك نوعين من استدلال البحث: نوعا كيفيا، تمهيديا، هو الاستقراء بمعناه الصحيح، ونوعا كميا، رياضيا، يستخدم في إضفاء مزيد من الصبغة الرياضية على العلم التجريبي، ويسمى بالتحليل .
فلنقل إذن إن التحليل بالنسبة إلى الطبيعة الرياضية هو بمثابة الاستقراء بالنسبة إلى الطبيعة التجريبية.
ولنضف إلى ذلك أنه إذا كان التحليل عملية مادية، فهو في البدء عملية رياضية، وفي هذه المسألة نجد أن التحليل المادي مكمل للتحليل الرياضي.
وفضلا عن ذلك، فالتحليل تقابله عملية مكملة، هي التركيب الذي يقف إزاء التحليل نفس موقف الاستنباط إزاء الاستقراء.
وأخيرا، فإذا كان علم الطبيعة الرياضي هو أعلى وأكمل صور علم الطبيعة وأقربها إلى العقل، فإن التحليل والتركيب ينبغي أن يكون أقرب صور الاستقراء والاستنباط إلى العقل أيضا، وهذا ما ستوضحه الدراسة التي سنقوم بها، وكما يحدث دائما في المجال العقلي، فالأكمل هو سبب الأقل كمالا، والأعلى هو سبب الأدنى، فالتحليل هو الروح الخفية للاستنباط، والحق أن للاستقراء أنواعا يعلو بعضها على بعض تباعا؛ فالاستقراء الشكلي ليس إلا تلخيصا والاستقراء التعميمي فيه انتقال من الخاص إلى العام. غير أن هذا التعميم كان يصبح مستحيلا لو لم يكن «ابتداعا» للقضية العامة، ووثبة حقيقية ننتقل بها من المحسوس إلى المعقول. وما كان الكشف عن المعقول ليكون ذا أهمية لو لم يكن هو سبب المحسوس أو شرط وجوده. على أن حركة العقل، التي تنتقل نحو سبب الشيء المشار إليه أو شرطه، هي بعينها التحليل. وسنرى فيما بعد أن التركيب هو نفس بناء البرهان الرياضي، والاستنباط، كما تبين لنا من دراسة المنطق الرياضي، يزداد كمالا باقترابه من البرهان الرياضي، الذي يعد صورته المثلى.
ناپیژندل شوی مخ