[149] والبصر لكثرة اعتياده لتمييز أبعاد المبصرات فهو في حال إحساسه بالصورة وببعد المبصر قد تخيل مقدار موضع الصورة ومقدار البعد، وأدرك من مجموع المعنيين عظم المبصر. إلا أن مقادير أبعاد المبصرات هي من جملة الأعظام التي يدركها البصر. وقد تقدم أن مقادير أبعاد المبصرات منها ما يدرك بالتيقن ومنها ما يدرك بالحدس. والتي تدرك بالحدس إنما تدرك من تشبيه بعد المبصر بأبعاد أمثاله من المبصرات المتيقنة البعد، والأبعاد المتيقنة المقادير هي التي تسامت أجساما مرتبة متصلة. ومن إدراك البصر للأجسام المرتبة المتصلة التي تسامتها ومن تيقنه لمقادير تلك الأجسام يكون تيقن مقادير أبعاد المبصرات التي عند أطرافها. فقد بقي أن نبين كيف يدرك البصر مقادير أبعاد المبصرات التي تسامت أجساما مرتبة متصلة وكيف يتبين مقادير الأجسام المرتبة المتصلة التي تسامت أبعاد المبصرات.
[150] والأجسام المرتبة المتصلة التي تسامت أبعاد المبصرات هي في الاكثر أجزاء الأرض التي تلي القدمين. والمبصرات المألوفة التي يدركها البصر دائما وعلى الاستمرار هي المبصرات التي على وجه الأرض التي جسم الأرض متوسط بينها وبين جسم الإنسان الناظر إليها. ومقادير الأجزاء من الأرض المتوسطة بين الناظر وبين المبصرات التي على وجه الرض التي تسامت أبعاد هذه المبصرات عن البصر يدركها البصر دائما ويقدرها ويدرك مقاديرها. وإدراك البصر لمقادير الأجزاء من الأرض المتوسطة بين الناظر وبين المبصرات التي على وجه الأرضى إنما هو من تقديره بعضها ببعض ومن تقدير ما بعد عنه من أجزاء الأرض بما قرب إليه منها وما تيقن مقداره منها. ثم من استمرار إدراكه لأجزاء الأرض واستمرار تقديره لها وكثرة تكرر هذا المعنى على البصر صار يدرك مقادير أجزاء الأرض التي تلي القدمين بالمعرفة وبتشبهها ما أدركه من أمثالها. فالبصر إذا لحظ الجزء من الأرض المتوسطة بينه وبين مبصر من المبصرات فقد عرف مقداره لكثرة تكرر إدراكه لأمثال ذلك الجزء من الأرض وتوسط أمثال ذلك الجزء بينه وبين المبصرات. وهذا المعنى هو من المعاني التي يكتسبها الحاس منذ أول النشوء ومنذ الطفولية وعلى مر الزمان، فتحصل مقادير أبعاد المألوف من المبصرات متشكلة في التخيل ومستقرة في النفس من حيث لا يحس الإنسان بكيفية استقرارها.
مخ ۲۸۱