قالت: تفضلت يا سيدي بالمعروف، فلا تتعب سرك، وأنا لك ممنونة، دعني أذهب إلى منزلي وحدي فإني أعرف الطريق.
قال: بل أمضى معك، فلا أدعك تذهبين وحدك في مثل هذه الساعة.
قالت: بل نفترق هنا، فلا يراك أحد برفقتي، بالله أن تجيب طلبي فالطريق مأمونة، ولا خوف علي من شيء ما.
قال: لا يمكن ذلك، ولا بد أن أسلمك إلى والدتك وإلا لم يسكن لي بال، ولا يقر لي فكر. فلما رأت عفيفة أن لا سبيل إلى مخالفته انقادت له، فنزلا من العربة وسارا من وراء دار البوسطة في الشارع المعروف بشارع البواكي، وانتقلا إلى الشارع المعروف بشارع المجلس القديم، واستمرا سائرين إلى شارع درب الجنينة، ومرا تحت القنطرة المقابلة للطريق، ثم عرجا شمالا بعض خطوات، ووقفت الفتاة فسلمت على فؤاد مصافحة بيدها، وقرعت الباب، ففتح لها ثم أغلق في دخولها. وكان قد رفع فؤاد بصره إلى فوق فرأى امرأة تنظر من إحدى نوافذ الدور الثاني، فلم تبرح حتى دخلت عليها الفتاة، فعرف المنزل جيدا، وانطلق في حال سبيله، وكان منزله قريبا يشرف على ميدان التياترو، فمشى تنازعه الأفكار متعجبا من هول ما سمع ورأى في تلك الليلة.
الفصل السادس
نهض في الغد همام إلى منزل شقيقته أم فؤاد واسمها سيدة، وكان حضوره قبل الظهر بنصف ساعة، فدخل قاعة الاستقبال، وجلس على كرسي مكسو بقطيفة حمراء من عادته الجلوس عليه في كل مرة يجيء، ثم أوقد كبريتا فأشعل سيجارة، وتناول جرنالا ليقرأه وجده على طاولة وسط المكان منتظرا قدوم شقيقته، وكانت الحجرة مزينة مزخرفة بالصور والتماثيل الدينية الدالة على تقوى ربة المنزل وعبادتها، وكان همام لا يعتقد بالديانات، ويعبث بأخته ضاحكا عليها بجعلها الصور في حجرة الاستقبال، وهي أولى بالمعابد والمساجد. وبينما هو جالس يتأمل سمع صوت قادم فأبصر فإذا هي شقيقته سيدة قد أقبلت، وكانت تناهز الخمسين سنا، وعليها الملابس الفاخرة المتقنة، دخلت وفي يدها كتاب مذهب له قفل فضي، ولم تكن متبرجة بحلاها وأزهارها شأن النساء الجاهلات المجاوزات الأربعين سنا المكثرات من التبرج وأسباب الزينة وصباغ الوجه زعما بأنهن يرددن بالصباغ والزينة ما محت الأيام من محاسنهن أيام الشباب، فيعرضن بذلك أنفسهن للسخرية والاحتقار بدلا من الإكرام والاحترام الواجبين للطاعنات سنا. وكانت ممتلئة الجسم طلقة الوجه، عليها لوائح الهيبة والكرامة، تقدمت فحياها همام بالسلام، وبادرها بقوله: نفعنا الله ببركة صلواتك، إنك إن لم يخطئ حذري آتية من الصلاة، والدليل الكتاب الذي في يدك.
فلم تجاوبه شقيقته بشيء ما على قوله، وهبت مسرعة تفتح نوافذ الحجرة معربدة من رائحة الدخان تقول: قطعها الله من عادة رديئة تمسك بها أهل هذا الزمان في التدخين، فلا نراهم يستطيعون الإقلاع عنها، وقد جعلها الشبان - لجهلهم - من علامات التظرف والتمدن، والبالغون قد زعموا أنها من الضروريات لحفظ الصحة، وساء ما يزعمون. ثم إنها التفتت إلى همام تقول له: ما من شيء أشد كرها من شم رائحة دخانك!
فقال همام مبتسما: تجدين دخاني كريها، وقل أن تجدين مثل السجائر التي أدخنها، فإن لم تصدقي ذلك، فاسألي فؤادا ابنك.
قالت: الظاهر أنك علمته التدخين، فأصبح مثلك أو يزيد عليك، وبئس العادة عودته.
قال: بيني وبينه مراحل حتى يعرف التدخين مثلي، وأي سوء ترين في هذه العادة؟ فوالله إني لا أخشى أن يكتسب فؤاد بإرشاداتك صفات التخنث التي لا تليق إلا بالنساء.
ناپیژندل شوی مخ