الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
ناپیژندل شوی مخ
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
ناپیژندل شوی مخ
ملكة القلوب
ملكة القلوب
تأليف
نجيب الحداد
الفصل الأول
يعلم أهل مدينة القاهرة، والذين قدموا إليها متفرجين من الأجانب وغيرهم من عهد قريب أن في قسم الأزبكية فندقا شهيرا بالفندق الشرقي مكتوب عنوانه بالفرنسية (أوتيل أورينتال)، فوق واجهته هدى للقاصدين.
كان في إحدى غرف الفندق قريبا من بابه الجنوبي رجل يناهز عمره الستين، جميل الهيئة، عريض المنكبين، مرتفع القامة، ممتلئ البدن، قوي الجسم، طلق الوجه، لين العريكة، مولع بالمزاح والمجون، واسمه «همام». كان جالسا على مقعد من القطيفة الحمراء، لابسا أوسمة الجهادية، فإنه سبق فقضى السنين الطويلة في هذه الخدمة الافتخارية، ونال المراتب السامية والدرجات الرفيعة فيها.
وكان في وسط الحجرة مائدة معدة لجلوس أربعة أشخاص، وعلى بابها غلام قائم في الخدمة، وللحجرة شباك جنوبي فوق باب الفندق مطل على حديقة الأزبكية وموقف العربات، وعليه واقف فتى لم يتجاوز السابعة والعشرين، جميل الصورة، صبوح الطلعة، نظيف الثياب، لبق، جلس متكئا على مسند الشباك، ينظر إلى الخارج بتمعن واهتمام ... واسم الفتى «فؤاد».
فبعد أن فرغ همام من كلامه مع الخادم نادى فؤادا، فلم يسمع نداءه؛ لاشتغاله بأمر ذي بال، فكرر همام النداء، ثم تقدم إليه ينبهه، وأمسك بطرف ثوبه قائلا: ما بالك لا تجاوبني؟ أناديك فلا تسمعني حتى كأني أصرخ في جماد، فقد بح صوتي من النداء ... أخبرني ماذا تنظر؟ وأي شيء يشغل فكرك؟
قال: أنظر إلى امرأة أرى منها أمورا غريبة لو يهمك ذلك.
ناپیژندل شوی مخ
قال همام: وأي شيء لا يهمني من حديث النساء؟ ألعلك رأيتني في زمرة المتقاعدين، فظننت أني أعرضت عن زهرات الدنيا، أو زعمت أني عاجز عن القيام بخدمة أهل الجمال. أين غادتك الهيفاء؟ أرنيها.
قال ذلك وتقدم إلى النافذة، فأشار فؤاد بيده إلى امرأة جالسة على رصيف عند موقف العربات بثياب رثة، تلوح على هيئتها أمارات الحزن والضعف والكبر، فلما رآها همام رجع إلى الوراء مستعينا بالله من سحنتها، وقال لصاحبه: أنت تسخر بي، أهذه المرأة الدميمة شغفتك؟! فكأنها من بقايا ثمود وعاد، أو أنت تخفي الحقيقة عني؟!
قال فؤاد: وحق معزتك عندي إني ما نظرت إلا إلى المرأة التي رأيتها، ولم يشغفني هواها، إنما نبهني إليها اضطرابها وعلامات الغم الظاهر على وجهها، فتيقنت أن لها شأنا من الشئون غريبا.
قال همام: ظننتك تتصابى شغفا في غادة هيفاء، مشرقة الوجه، لينة المعاطف، فأوليتك عذرا، ولم ألمك مع علمي بأنك راغب في الزواج، فلا يغفر لك عملك ... فشفيعك عند لائمك وعذولك تجرد خطيبتك من الجمال، فإنها ليست فريدة في عصرها حسنا وظرفا، ولا وحيدة في دهرها أدبا ولطفا، فلا عجب إن صبوت إلى حسناء، والله ما أراك باشتغالك في المرأة التي أمامك إلا باردا صقيعا.
ولما قال همام هذا، أعرض عن فؤاد، وإذا بعربة وقفت أمام باب الفندق تحت شباك الحجرة، فقال فؤاد: إن لم يخطئ ظني فهذا غانم مع ابنه سعيد.
فضحك همام وقال لصاحبه: إنك تجهل ولا شك أمر غانم وبخله الموصوف. فوالله إنه ليطوفن مصر جريا على قدميه، فلا يركب عربة أو حمارا، أما لو رأيته راكبا يوما فاعلم أنه مدعو وأن الذين معه هم الذين يدفعون الأجرة عنه.
ثم إنه تقدم وفؤاد لينظرا جلية الأمر، فأبصرا المرأة المحكي عنها قادمة حتى وقفت أمام باب الفندق متفرسة جيدا وجوه الذين في العربة، فخرج منها أربعة أشخاص كانوا من نزلاء الفندق، فلما لم تجد بينهم مطلوبها ارتدت على عقبها، واشتدت علامات الغم والحزن على وجهها كمن هو في درجة اليأس الرائع.
فقال فؤاد: إن أمر هذه المرأة لغريب، فهذه هي المرة الخامسة أراقبها، فأراها كلما أقبلت عربة دنت من باب الفندق ثم ترجع، فما أعلم أي شيء يحركني لمعرفة سرها والاهتمام بأمرها.
قال همام: لأعظم من استغرابك أمرها، استغرابي تعبك واشتغالك بالسفاسف، فكأن شباب هذا العصر اتفقوا على حب العجائز، أو زعموا أن ذلك من علامات التمدن، فوالله إني غير هذا المشرب لا أميل إلا إلى الغيد الحسان وكل كاعب زهراء.
قال فؤاد: لم يشغفني منظر المرأة، وإنما أدركت أن لها نبأ غريبا فأحببت أن أستقصيه، وقد يتفق أن تكون المرأة تعيسة ومسكينة شابة وعجوزة؛ إذ ليس لنزول البؤس وقت محدود، ولم أنظر إلى هذه المرأة نظرة شهوة وهي نصف شوهاء. وجدت في حالها ما يوجب الأسف عليها والرأفة بها؛ فراقبتها لأعلم النهاية.
ناپیژندل شوی مخ
قال همام: إنما يشغف الناس ويهتمون للجمال أن تصيب أهله مصيبة، ولا يهتمون بمن مضى زمنه، وذوى غصنه، وأفل نجم سعوده.
قال فؤاد: إن كان لا يعجبك إلا الظواهر، وليس في قلبك محل للرقة والحنان، فلا عجب أن تنفر من رؤية هذه المسكينة، وتعد كبر سنها ذنبا كبيرا لا يغتفر.
قال همام: أما ترى أن من طعن في السن هو أولى بعناية الله لا البشر؟
ثم إن همام انصرف بوجهه عن صاحبه لحظة، وأخرج من جيبه ساعة، ونظر فيها ثم قال: مضى الوقت المعين لأكل الطعام، وصاحبنا غانم غاب مع ابنه لم يحضرا، فوالله إني ما أكره شيئا كرهي الانتظار، وما أرى الرجل أقل أدبا مثل أن يخلف ميعاد أكله مع صحبه وخلانه.
قال فؤاد: إن حضرا فأهلا وسهلا، وإن غابا فتوفير ولا أسف.
قال همام: ما أراك إلا مبغضا لغانم وأهله، رغما عن إرشادات والدتك ومواعظها ونصيحتها لك بمجاملة أهل هذا الرجل وتبجيله واحترامه كما يجب، فمن اللازم أن أكلمك قليلا في هذا الصدد، فاقفل هذه النافذة، واجلس على كرسي في جانبي، فقد صعقتني ضجة الطريق، ومشاهدة سحنة صاحبتك العجوز قتلتني، وإن رؤيتها لتقطع الرزق وما في ذلك شك.
ولما جلس فؤاد قال له خاله: قد بلغت يا فؤاد السابعة والعشرين من العمر، لك إيراد بالغ خمسة آلاف فرنك في السنة تقريبا، وهو مبلغ طفيف قليل، لا يمكنك من المعيشة بين أقرانك بالراحة والانبساط، وكثيرا ما خاطبتك والدتك بشأن زواجك بالسيدة سعدى بنت صاحبنا غانم التاجر الغني المشهور فامتنعت وعاندت. ففي أي زمن تتزوج إن تخلفت عن التأهل في زمن الشباب؟ وماذا يجول في رأسك من الخواطر حتى امتنعت؟ أخبرني عن السبب ولا تغالط.
قال فؤاد: تسألني عن سبب امتناعي فأجاوبك أولا أن السيدة سعدى في غاية الدمامة والقبح، وليست على شيء من الحسن.
قال همام: قد ضللت، ولك علي البرهان بأن الدمامة في المرأة من السجايا الحميدة.
قال فؤاد مستتبعا، كأنه لم يسمع خطاب خاله: ثانيا أنها غير نبيهة.
ناپیژندل شوی مخ
قال همام: وهذه صفة ثانية مطلوبة في النساء.
قال فؤاد: وبالتفرس فيها نراها متصنعة، قليلة الذوق، عديمة الإحساس.
قال همام: كل هذه أوصاف سنية في النساء، تفوق الذهب والفضة قدرا وقيمة.
قال فؤاد: وكأنما هي صنم من أصنام الجاهلية، لا يؤثر عليها كلام، ولا يظهر في وجهها كدر ولا شيء من الترح والفرح، خلقها الله لحما على عظم، مجردة من مميزات نوعنا الإنساني عن غيره.
فأجاب همام مسترسلا في رده قائلا: والله يا فؤاد إنك لجاهل بالنساء، فلا تعي من أحوالهن شيئا، ولا لوم عليك إذ لم يتثقف بعد ذهنك ولبك لتميز بين السخيف والحسن، ولم يفدك شيئا ذكاء والدتك وما قام فيها من صفات الحزم وسمو المدارك وإصابة الحدس، فخذ الخبر الصحيح مني عن أمور النساء، فإني عارف بأطوارهن، عالم بأسرارهن وسرائرهن، وسأبسط لك القول بالكفاية لتنجلي لك الحقائق، فتميز بين الغث والسمين، وتعلم ما يحمد وما يذم من خصالهن، وما هو جوهري لازم نافع، وما كان بعكس ذلك عرضا لا عبرة به تغني الحال عنه، وهذه نصيحتي إليك: إن رغبت في خليلة تلهو بها لأجل مسمى من الزمان فاطلب الجميلة ذات الظرف والدلال والذوق اللطيف والمحاسن والعقل، وإن رغبت فيها خليلة شرعية تتزوجها على سنة الله ورسوله، فأنت في غنى عن كل ذلك بامرأة غنية، وإلا فرأيك ضليل وعن الصواب بعيد بعد السموات العلى عن أرضنا السفلى وما دونها في الهابطين.
قال فؤاد معترضا: كيف يمكن لزوج الدميمة محبتها إن أمكن اجتماع أليفين على غير المحبة؟
فأجاب همام بقوله: حسبك يا فؤاد دليلا على غرورك وجهلك العناء الذي تجلبه لك الزوجة الجميلة الوجه، الرقيقة الشعور، الدقيقة الفكر، فلن تجد معها راحة البتة ... فإن جمالها الفتان يستأسر القلوب، ويسلب عقول العشاق؛ فيرنون بألحاظ الغرام إليها فتصيبهم وتبادلهم الهيام والشوق، فصور لعقلك ذلك، وتأمل جيدا حالة الزوج المغبون تجدها بئس الحالة، فما أظن أن رجلا عاقلا شريفا على صون عرضه وحفظ كرامته يقبل بها. أما لو كانت الزوجة بعكس ذلك قليلة الحسن إلا أنها صحيحة الجسم حسنة التهذيب كالسيدة سعدى، وجدت الهناء في معاشرتها، وطابت أوقاتك بقربها، ولم يزاحمك عليها مزاحم، فحفظت عرضك. والعرض ليس بالشيء اليسير عند اللبيب الحازم العزيز النفس. ثم قال: ولو تدبرت قولي وتأملت أن ابنة غانم موسرة، يبلغ إيرادها السنوي أضعاف إيرادك ودخلك، لرأيت أنها غنيمة باردة تصيبها بغير عناء، فكيف تعرض عنها؟ وبعد فإني أخاف عليك من الغيرة تأخذك إن تزوجت بامرأة مليحة حسناء، فينغص عيشك؛ لعلمي بغيرتك الشديدة، وما هو قائم من أخلاقك من الأنفة وعزة النفس، فلا أضمن لك السعادة وراحة البال وصفو الخاطر ورغد العيش إلا أن تتزوج بامرأة قليلة الحسن والأوصاف الجميلة.
قال فؤاد: أجل، قد قلت حقا، ولكنني أعترف بضعف طبيعتي البشرية، فإني أفضل الزواج بحسناء مليحة الأوصاف، غير مكترث بالعناء الذي يصيبني بسببها، فذلك أهون علي من زواجي بامرأة دميمة الشكل، لا يميل إليها قلبي.
قال همام: ليس حديثنا في المحبة.
قال فؤاد: إن صدقتك، فإنني لم أشعر بعد بنار الحب في فؤادي، وإنما أخاف أن يثور سعيرها دفعة واحدة، وأكون قد تزوجت، فأحار كيف أصنع؟ فإما أن أقتل نفسي، وإما أن أخرق عهد زوجتي فتخونني، وتقوم القيامة بيني وبينها. ولا يخفى عليك أن قوام العائلة محمول على تبادل المحبة بين الرجل وقرينته؛ فأي قوام وأي نظام ترجوه إن تزوجت بامرأة لا أحبها إلا أن تكون يا خالي قد رضيت لي التعب والنصب والبلاء المقيم؟!
ناپیژندل شوی مخ
فلما سمع همام حجة الفتى، حاول المغالطة بالضحك وقال: أخطأت يا عزيزي الصواب، وأنزلت الزواج غير منزلته، فقد يصح قولك على القوم الذين يأخذون على الظواهر، ولو بحثت ودققت لرأيت أنك لم تقل شيئا معقولا، ولئن سألتني عن رأيي أجبتك أني ما أرى بأسا أن يتزوج الرجل كل يوم بامرأة، فما يكلف بمحبتها والإخلاص إليها، وإلا فالزواج هلاك يحشر فيه الزوج حيا.
ومضى همام مطنبا في شرح حالة الرجل المتزوج بامرأة قبيحة الشكل دميمة المنظر، وأنه يكون خلوا من الشواغل والمتاعب. وبينما هو يتكلم دخل خادم الفندق يخبر بقدوم امرأة تطلب الدخول، فسأله عن صفتها وسنها، وهل هي قبيحة أو جميلة؟ فأجابه الخادم أنها قبيحة متقدمة بالسن، فأنف همام عند سماع ذلك من دخولها، وقال للخادم: أغنانا الله عن رؤيتها، ثم سأله: هل أخبرته بشيء؟
فقال: إنها طلبت مقابلة الخواجه غانم، وزعمت أنه في هذه الحجرة.
قال همام: أدققت النظر فيها؟
قال الخادم: نعم، دققت فيها النظر وسوف تبصرها.
قال همام: صدقتك، وعرفت أنها ثقيلة بمجيئها في هذا الوقت، وهو أوان الطعام.
ثم إنه التفت إلى ابن أخته يقول: من الواجب علينا احتراما لصاحبنا غانم أن نقابل من يأتي لزيارته أو يكون له معه اتصال ومعرفة.
فقال فؤاد: لا بأس بذلك. وأمر الخادم بأن يدخل المرأة، فلما دخلت إذا هي تلك التي رآها تقف مضطربة أمام باب الفندق عند موقف العربات، فقطب همام جبينه لرؤيتها، وانصرف بوجهه عنها إلى أقصى الحجرة ساخطا لاعنا يقول: ألا قبحها الله من عجوز تكاد تنال الأرض بوجهها ... إن منظرها ليقطع شهية الأكل للجائع، ويتخم طعام المتغذي، قاتل الله غانما وعشيرته.
وكانت المرأة على الحقيقة شمطاء، مجعدة الجبين، صفراء اللون، واهية القوى، رثة الثياب، وعلى وجهها علامات الغضب، وعيناها جاحظتان، وأخذت تلتفت يمينا وشمالا باحثة عن غانم، فلما لم تره أرادت الخروج، فمنعها فؤاد لشفقة أخذته عليها، وقال لها: لم يحضر بعد صاحبنا غانم، فإن رأيت أن تنتظريه، فهو لن يتأخر في ظني عن الحضور، وهذا أوانه.
قالت: أخشى إزعاجك يا سيدي.
ناپیژندل شوی مخ
قال: لا بأس، فادخلي واقفلي الباب، واجلسي على هذا المقعد، فتولى المرأة الذهول، فلم تدخل، واستمرت واقفة على الباب متكئة، وزاد اصفرار وجهها، ورجفت قدماها حتى كادت تسقط على الأرض لولا هم همام وصاحبه فؤاد فسنداها بكلتا يديهما وأجلساها على المقعد، ثم إنه أصابها الإغماء فأنعشاها بالروائح، وجعلا يعالجانها حتى أفاقت وعادت إلى رشدها.
وكان همام في أثناء ذلك يلوم نفسه، ويلعن الساعة التي رأى فيها وجه تلك المرأة. ونهض فؤاد يناولها كأس ماء لتشرب، ونادى الخادم فأحضر لها طعاما فامتنعت، وقالت: مرضي في كبدي لا في معدتي، فما يفيدني الطعام شيئا، وكثيرا ما يصيبني الإغماء، والله وحده يعلم السبب فيه.
قال همام: أنت على خطر دائم من مرضك، فلا يصح خروجك من منزلك؛ لئلا يصيبك الإغماء في الطريق؛ فلا تجدين من يهتم بشأنك، وينظر في أمرك معتنيا، وقد تصدمك الخيل الجامحة فتكون العاقبة سوءا عليك.
قالت: كل شيء مصيره للفناء، والموت واحد وإن تنوعت الأسباب.
قال: تستهينين بالموت، فوالله إني رأيته عيانا، فلم أسمع به، وخضت المنايا في ميادين القتال، فما أتهاون به مثلك.
ثم إن همام خشي أن يطول الجدال، ولرغبته في انصراف المرأة قال لها: مضى الوقت على غانم، فما أظنه يحضر الآن، فمن العبث مكوثك في انتظاره، وأرى الأنسب أن تختاري وقتا غير هذا لمقابلته، ولك فسحة لتزوريه، فإنه سيقيم في القاهرة مدة من الزمان.
قالت: إن لي شانا مهما يحملني على مقابلته في نفس هذا اليوم، فلا أستطيع التأخير.
وما أتمت كلامها حتى ابتلت بالدموع عيناها، وزاد الوجد في وجهها، فعطف قلب همام عليها، فطيب خاطرها بقوله: ما يمنعك أحد من انتظاره، وإن شئت فأقيمي هنا إلى أن يحضر.
ثم جعل ينظر في ساعته متأففا، ويقول لغلبة الدعابة في طباعه: ليس من حسن المعاشرة أن يبطئ الصاحب على الصاحب وقت الطعام، فها نحن في انتظار غانم نحمل في أيدينا البطون والمعدة خاوية، وما كان لي قبل عادة بتأخير ميعاد أكلي.
وما إن أتم كلامه حتى سمع حركة قادم، وانفتح الباب لغانم مسلما على همام وفؤاد، معتذرا عن إبطائه.
ناپیژندل شوی مخ
وقد كان هذا الرجل غنيا واسع الثروة، حصلها بالتجارة في السودان، وأحرز فيها صيتا عظيما وشهرة فائقة، واستمر هناك حتى انقطعت الأسباب فآب إلى مصر، وأقام في إحدى مدنها التجارية.
وكان بخيلا شديد الحرص على متاع الدنيا مقترا على نفسه، وفي قلبه قسوة، وفي طباعه جفوة، فلا تأخذه رحمة على فقير، ولا يجير المستجير، وسنه تبلغ الستين، وكان في قامته طول، وفي جسمه هزال، غير أن بنيته كانت شديدة.
تقدم هذا الرجل في دخوله نحو همام وجعل - كما تقدم القول - يعتذر عن تأخره لبعض الأمور العارضة، وأنه تكدر من ذلك، وحمل على التأخير قسرا عنه لا برضاه واختياره.
ثم إنه التفت يسأل عن ابنه، فلما لم يجده جعل يستقبح سيره، ويعنف على غيبته، قائلا: لي عذر يشفع بي إن أبطأت، فما العذر الذي يقدمه سعيد عن تأخره عن الوقت الموقوت؟!
وبينما هو يمشي وقع نظره على المرأة التي سبقت الإشارة إليها؛ فانقبض وجهه، وانقلبت سحنته، وبدت علامات الكدر في عينه، فلم تمهله المرأة أن تقدمت إليه ودموعها تنسكب، وقالت: حبيبي أنعم الله أوقاتي برؤياك ... لو تعلم مقدار شوقي إليك بعد غيبة سبع سنوات خلتها دهورا، أطال الزمان علي فنسيتني، وغيرت صروف الدهر أحوالي وصورتي فما عرفتني؟
ثم إنها قبضت على كفه، وجعلت تضغطها، وهو في أثناء ذلك يتأخر عنها كمن يبغي الفرار، وحار في أمره كيف يصنع، وانحبس لسانه فلم ينطق بكلمة، وكان فؤاد ينظر مندهشا تارة إليه وأخرى إلى شقيقته، وخاله يراقب حركات الجميع مبهوتا معربدا يخشى أن يطول الوقوف فيتأخرون عن تناول طعامهم على تضوره جوعا، ولبث هكذا واجما حتى انطلق لسان غانم، فقال مجاوبا شقيقته: لا جرم أني نسيتك بعد طول الفراق وخصوصا أني لم أكن منتظرا مشاهدتك، ولا خطر في بالي قدومك هنا.
ثم إنه التفت إلى صاحبه يعتذر عن هذا التثقيل الذي جاء في غير أوانه، والتمس إمهاله ربع ساعة من الزمن ليصرف المرأة عنه وأن يحادثها على انفراد.
فقال همام واجما: اقتضى رأيك ذلك، فلا بأس أن نأكل طعام المساء سحورا، فانظر في أمر قريبتك، بينما أنا مع فؤاد نروح حتى تكون قد فرغت من شغلك.
فلما خلا المكان لغانم نظر إلى شقيقته شزرا، واسمها كريمة، وكانت علامة الغيظ بادية على جبينه المقطب، كمن قد جرد من الإنسانية، فلم تعطفه على أخته أواصر القربى، وكأن لم يكن بينهما تعارف البتة، ودار بينهما ما سيأتي من الحديث بعد هذا.
الفصل الثاني
ناپیژندل شوی مخ
بخروج همام وابن أخته أوصيا خادم الفندق بأن يستدعيهما عند ذهاب المرأة الزائرة، وانطلقا يمشيان قريبا من قهوة البورس، وكان على وجه همام الوجوم، وفي قلبه الكدر، ورأسه يهتز من الغيظ، وأسنانه تصطك حنقا، وفؤاد إلى جانبه يجيل أفكاره في أمر الأخت وأخيها ملتزما الصمت حتى بدا له أن يسأل خاله مستفهما بقوله: أكان في علمك أن لغانم أختا؟
فأجابه خاله مستغربا من سؤاله بقوله: أي عجب أن يكون له أخت كما لغيره من الناس؟!
قال فؤاد: ما هذا مقصدي، بل سؤالي: هل كنت تعرف أن لصاحبنا شقيقة على هذه الحالة، قد رأيتك متكدرا من أجلها؟!
قال همام: لا تلمني، فإني سريع الغضب، أتكدر من أقل شيء، وفي دمي حرارة لم تبردها الستون من عمري، فكأنني لا أزال في ريعان الشباب، ولتعلم أنني لم أتكدر من شناعة منظر هذه المرأة، بل إن تأخري عن أكل الطعام في المواعيد هو الذي كدرني وأزعج معدتي. ولا يخفى عليك أن المعدة أساس قوام الجسم وعليها مداره، بل هي مصدر الحياة، إن اعتلت؛ اعتلت سائر الأعضاء، فلا تعجب إن رأيت مني اهتماما بشأنها، وقد قرأت في الكتب الطبية أن الخروج عن العادة يهلك الأجسام، وأن التأخر عن مواعيد الطعام يورث الخلل في المعدة؛ فتبطئ حركتها، ويكسل الجسم عن القيام بوظائفه، وأكثر عجبي من الناس الذين يدعون التمدن ولا يراعون الواجبات الصحية فيخلفون موعد الأكل.
قال فؤاد: صدقت في قولك. وإنما أرجوك أن تجاوبني عن سؤالي الأول: هل كنت تعرف قبل الآن أن لصاحبنا غانم شقيقة؟
قال همام: سمعت أن له أختا تزوجت برجل رزقت منه بفتاة جميلة، وأن أخته لم تقم مع زوجها أمدا مديدا حتى توفي، فتزوجت برجل آخر اسمه قاسم، كان في خدمة أخيها غانم، وكانت تزيده بعشر سنوات، وقد علمت أنه سيئ الطباع، ذميم السيرة، قبيح السريرة، فهي في عناء مستمر من معاشرته، فلو قسم الرحمن لك الزواج بسعدى ابنة صاحبنا غانم، كانت المرأة عمة لعروستك.
قال فؤاد: أسأل الله ألا يتصل نسبي بهذه العائلة إن ملت إلى الزواج يوما.
قال همام: أراك رجعت إلى المحاولة والقول السخيف، وأرى حجتك ضعيفة في عدم الزواج بسعدى لكونها غير جميلة، والحال - كما قدمت - أن الجمال لا عبرة به عند المتزوج، فدولة الحسن - كما قيل - زائلة يتبعها زوال الحب والسآمة والضجر، والحكيم الحازم من ينظر إلى ثروة المرأة وعلمها، فإن كانت غنية كسعدى فمن الغلط تأخره عنها، والغنى أساس كل سعادة وهناء، فاجعل في خاطرك أن من كان حسيبا كريم الأصل نظيرك لا يجدر به الزواج إلا بامرأة غنية، تمكنه بغناها من المحافظة على مقامه وشرف اسمه.
قال فؤاد: إذن أتزوج غناها، وهي تتزوج حسبي ونسبي؟
قال همام: وأي حرج في ذلك؟! أليس الزواج واحدا على اختلاف علله وظواهره؟! ابحث قليلا عن الغنى تجد أكثره من مال الزوجة، فقد أصبح الزواج في عهدنا مربوطا بالثروة، وما ترى للابنة الجميلة الحسناء خاطبا إلا إذا كان المال موفورا عندها، فما الذي تنكر - والحالة هذه - وتكره بسببه زواجك بسعدى؟! هل كبر عليك أن تكون نسيبا لهذه المرأة المسكينة ، أو تجد في ذلك عارا؟! فأنت في سائر الأحوال حر بأن تقطع العلاقة مع أهلها، وتسد عليها بابك، فلا تنزعج بقربها.
ناپیژندل شوی مخ
قال فؤاد: وحقك يا خالي إني لا أنزعج من رؤية هذه الحزينة المنكودة الحظ، بل بعكس ذلك تجدني عطوفا عليها شفوقا، أتوجع لها من تقلب الأحوال وتغير الزمان، الرافع لكل وضيع، الواضع لكل رفيع، ولن أشمئز لمخالطة الحزانى البائسين، ولا أجد التقرب منهم عارا، وعندي أن التخفيف عنهم من الأمور الواجبة على كل ذي لب، والأجر في ذلك جميل، وإني عطفت قلبا على هذه المرأة عند رؤية ذلها وانكسار خاطرها، ولم يكدرني سوى سوء مقابلة أخيها لها وانقباض وجهه وتغير سحنته سخطا وغضبا حين رآها، بينما هي تبش في وجهه وتهش إليه وهو معرض ببصره عنها نافر من قربها، ألا قاتل الله قوم الشح، كيف يتجردون من الرقة، وتقسو قلوبهم، ويعدمون المروءة والشرف؟!
قال همام: إن ما تعده من الأمور نقائص إن هو في الغالب إلا أساس الغنى والثروة ... فهذا صاحبنا غانم، ولولا شدة بخله لما خلف لابنته ثروة وافرة تزيد في كل يوم جديد ... فلو تزوجت بها وقاسمتها ذلك الغنى الواسع؛ لانقلب هجاؤك إياها مدحا، وجعلت تتيه بتدبير الرجل وحزمه، فإنه جمع ما جمع من الأموال لتتمتع بها غنيمة باردة، ولولا بخله لم تصبها. وهكذا قد يكون الحرص نافعا وهو رذيلة، وقد يضر الكرم وهو فضيلة، إن تدبرت قليلا وجدت الصواب في قولي.
قال فؤاد: إني لا أنكر الثروة المجموعة إلا أن تكون مكتسبة بوجوه الحلال.
قال همام: غلطت وضل زعمك، فالغني معتبر على الدوام ومحترم، وترى الجميع يرحبون به، فلا يسألون عن أمره، وكيف جمع ثروته، وإذا حضر في مجلس قام في الصدر وبالغ الناس في إكرامه واحترامه، ولم نسمع واحدا منهم يسأل أو يعيب عليه جمعه الأموال بالوجوه المحترمة أو الخسيسة.
قال فؤاد: لن أوافقك على زعمك، فعندي أن الثروة المجموعة بالظلم والتقتير تضع من قدر صاحبها، فلو تزوجت بسعدى كنت لها كارها كرهين؛ فالأول لذاتها ، والثاني لأبيها، وبئست المعيشة.
فنظر همام عند سماع ذلك شزرا إلى فؤاد، وقال له: أزهقت روحي، أنا أكلمك في حديث الابنة وأنت تكلمني عن أبيها، ومرادك مخالفتي فافعل ما تشاء، وسواء عندي تزوجت أم لم تتزوج، فما أنت إلا عنيد تجهل مصلحتك.
وجعل همام يعربد واشتد به الغضب، فأسرع في مسيره حتى صادم رجلا كان أمامه واقفا أمام أحد المحلات، وكانت الصدمة شديدة كادت ترميه على الأرض لولا استناده إلى الحائط، وبدلا من أن يعتذر إلى الرجل بادره بالزجر قبل أن يتفرس وجهه، وقال له: أعمى الله بصرك ... تنتصب في وسط الطريق كالصنم وتضايق المارين يا بلية.
فأجابه الرجل قبل أن يرى وجهه قائلا: تصدمني ثم تزجرني.
فلما تفرس به همام إذا به سعيد بن غانم، فقال له: عفوا فإني لم أنتبه، وسأله: أين كان؟ وإلى أين ذاهب؟
فأجابه سعيد بقوله: أنسيت أنك دعوتني إلى الفندق، وعزمت علي بأكل الطعام معك؟!
ناپیژندل شوی مخ
قال همام: كان الموعد أن تحضر بعد الغروب لا في الساعة التاسعة، فما شاء الله إنك تعتبر الأصحاب، وتقيم عند قولك، وتحفظ مواعيدك، ولكن لا عتب عليك بمشابهتك أبيك، فمن يشابه أباه فما ظلم.
وبعد أن نطق همام بهذا تركه وأسرع في مسيره، فتقدم سعيد نحو فؤاد يحييه ويسأله عن كدر خاله وهياجه، فقال فؤاد مجاوبا: إن خاله متكدر بسبب إخلاف الموعد في الحضور وكرهه الإخلال في نظام معيشته.
قال سعيد: إنك لا تجد الترتيب إلا عند الكبار الطاعنين في السن، وهو عندنا نحن الشباب سبب للمضايقة، ومن عادتي أني لا أجعل لطعامي ميعادا، وإنما متى جعت أكلت، ولي - بحمد الله - اشتهاء وقابلية، وقد أكلت ثلاث مرات في هذا اليوم، ولو حضر الطعام أمامي الآن لما تأخرت عنه.
كان سعيد أشقر الشعر، عريض الكتفين، كبير القدمين، حسن الثياب، وله من العمر خمس وعشرون سنة، وكانت تلوح على وجهه لوائح الطيش والجهالة، كما يظهر من الحديث الذي دار بينه وبين فؤاد وهذا ملخصه:
قال سعيد: لا أقدر أن أشرح لك عن مقدار انشراحي في مصر، فقد حضرت إليها منذ خمسة عشر يوما قضيتها بالأنس والطرب، واللهو في مجالس الغيد، والحمد لله أبي لا يعلم شيئا من ذلك، وهو لو علم لسخط علي وعذبني عذاب الجحيم، وقد كلفت ثلاثة خياطين بأن يصنعوا لي ملابس من الزي الجديد، عشرة من كل زي، واشتريت دبابيس للصدر وخواتم وساعات وكثيرا من الحلي، وفي كل يوم أنزل إلى السوق وجيبي مملوء نقودا فلا أعود ومعي قرش واحد.
قال فؤاد: إن مضيت على هذا السبيل لا يطول الزمان حتى تكون قد بددت ما جمع الوالد.
قال سعيد: جمع الوالد أموالا لا تأكلها نيران، وله أملاك واسعة لا يفنيها التبذير، فحقا لو علم بمقدار ما أصرفه لأقام القيامة علي، وتراني من مكري إن اشتريت شيئا بالدين أشترط على المداينين أن يكتموا الأمر عنه وإلا امتنعت عن شراء شيء منهم، ولا يخفى عليك أني بالغ رشدي، وأن أمي توفيت من سنة، وخلفت لي عقارا وأموالا، فإن عنفني والدي وغضب علي طلبت حصتي من ميراثها فلا أكون مضطربا، ولا يعوزني شيء، فلذلك تجدني قرير العين، مرتاح البال، أنفق بغير حساب، وأدخل القهاوي والخمارات ومحلات القمار ومنازل العاهرات فيستقبلني الجميع بغاية الترحاب وغاية الإكرام، فلا يخالفوني في كلمة أو إشارة.
قال فؤاد: أنت تفتخر بهذا، وتزعم أن لك الوجاهة بترددك على هذه الأماكن والمحلات.
قال سعيد: أنت لا تعلم أسباب الحظ والسرور، ودواعي الحظ والانشراح فيها، ولو وافقتني على رأيي ولو شاركتني في حظي وأنا متأكد من محبتك، وستزيد المحبة بيننا تمكينا عندما تقترن بأختي قريبا، وتصبح نسيبي، وأظن أنك تعلم تضييق والدي علي في المصروف، وأنه لم يكن ينقدني القرش الواحد إلا بعد زهوق الروح، فإذا خرجت سألني: كيف صرفت ذلك القرش؟ فكانت حياتي عذابا، لم يخرجني منها إلا بلوغ رشدي، فأصبحت حرا، وأشبعت نفسي من ملذات الدنيا وملهياتها ومطرباتها؛ لأعتاض عن حرماني في الزمن الماضي، وأنسى أكداري في زمن الصبا، وهذه أموال والدي كثيرة، وأنا وريثه مع أختي ، فإن فرغ جيبي من النقود أقترض من الصيارف، فهم لا يبخلون علي بشيء؛ لعلمهم أني موفيهم حقهم عاجلا أم أجلا مع الفوائد رغما عن أنف والدي، فإن شئت أن ترافقني هذه الليلة دللتك على محلات الأنس والطرب، وشرحت صدرك بسماع الغناء الحسن؛ فتعود شاكرا لي مثنيا علي مجبورا مسرورا.
قال فؤاد: جزاك الله خيرا، ولا تؤاخذني إن لم أقبل دعوتك، فمشربي غير مشربك، ولو سمعت نصيحتي فارتدع عن مثل هذه العادات التي تظنها من أسباب التسلية والانشراح، وهي طريق ضلال تقود صاحبها إلى الشقاء والتعاسة، فلا يمضي عليه زمن مديد حتى يسوء حاله، وينفد ماله من يده فيندم حين لا ينفع الندم، ولكم رأيت شبابا خلف لهم آباؤهم أموالا كثيرة فما مضى عليهم أمد قريب حتى بددوها بالطريق التي ذكرتها، فأصبحوا في فقر مدقع وحالة من النكد والبؤس يرثى لها، والسبب في هذا الضياع سوء التربية في الصغر وشدة تقتير الوالدين البخلاء على أولادهم، وإن قصتك لتحاكي قصتهم، وإني لأعلم أن الذي دفعك إلى الجهل والغواية والاسترسال في التبذير هو شح أبيك عليك، فلو أنصفك وتوسع في الإنفاق عليك لصرف عنك سبب الغواية، ولكنه ظلمك فأضاعك، وسوف تلقيك جهالتك في هاوية الدمار والخراب، ويكون والدك هو المأزور بما بخل وأنت بما تفعل.
ناپیژندل شوی مخ
وبينما كانا يتكلمان أقبل همام لخاطر ورد له، وتذكر أن شقيقة سعيد ستصبح زوجة لفؤاد، فرأى من الضروري تمكين علاقات الوداد بين العائلتين؛ لرغبته في هذا الزواج لتتسع ثروة فؤاد وتقبل أحواله، فقال لسعيد يمازحه: إن رغبت أن أصفح عنك فأخبرني ماذا كنت تنظر في هذا المخزن حين صدمتك وأنت غير ناظر؟ قل الصحيح، ألم تكن تغازل واحدة من الخياطات الجالسات داخلا؟ أرنيها فلعل ذوقك لطيف يقارب ذوقي أو يناسبه.
قال سعيد: أشهد لك أيها البطل بسداد الرأي وشدة العزم، وأنك من أظرف الناس خلقا، حلو الطباع، جميل المعاشرة، حتى كأنك من أترابنا، وقد سألتني أن أريك الفتاة التي شغلت أفكاري، فانظر إلى واجهة المخزن، وتمعن في الفتاة الهيفاء الشقراء الجميلة الثياب اللطيفة القوام، هل رأيت أحسن منها خلقا وتكوينا؟
وكان المخزن المذكور معدا للخياطة وعمل برانيط النساء، فتقدم همام ينظر، فرأى خمس بنات جالسات حول مائدة مستديرة يشتغلن، فأبصر فيهن اثنتين بغير حسن، فصرف نظره عنهما إلى الثالثة، وكانت سمراء اللون، قصيرة القامة، ممتلئة الجسم، لا تتجاوز السادسة عشرة من السن، سريعة الحركة، لينة الجانب، تسطع على وجهها أنوار الصحة والعافية، فراقت في عينه.
وكانت البنت الرابعة أكبر من الثالثة سنا، ويظهر أنها المتقدمة عليهن جميعا في العمل، كانت شقراء اللون، طويلة القامة، ليس فيها شيء من البهاء والصباحة، وعمرها يبلغ الثلاثين، وشعرها كثيف أشقر مسترسل، وثيابها من الحرير الأزرق معقود ببنود ملونة، وفي أذنيها الحلق، وفي عنقها سلسلة مدلاة على صدرها، وتحت نهدها ساعة صغيرة معلقة بالسلسلة، وفي أصابعها الخواتم المتنوعة بالأحجار الكريمة، فلو رآها أحد لأكبر أنها تكون قد أصابت هذه الجواهر بشغل الخياطة، وهو لا يكاد يفي بمصروف زينتها، وعلم أن لا بد أن يكون لها دخل آخر. فهذه كانت الفتاة التي راقت في عين سعيد فوقف ينظر إليها.
وكانت في آخر المائدة البنت الخامسة بمعزل عن أخواتها، وهي فتاة لطيفة الذات، دقيقة القوام، لابسة ثيابا سوداء، كانت جالسة تشتغل ووجهها محول عن الباب، فلم يتيسر لهمام رؤيتها، وكان قد دقق النظر، فلما انتهى من المعاينة تباعد قليلا عن مكانه، والتفت إلى سعيد يقول له: قد انتقدت الوجوه، فلم أجد صاحبتك الشقراء على شيء من الحسن والجمال، وهي قد بلغت الثلاثين ولونها زاه. وأما شعرها الكثيف فما أظنه إلا مستعارا، وأنا أشبهها بالطاووس؛ لتعدد ألوان ثيابها، أو كالحرباء يتلون جلدها. فتكدر سعيد لسماعه هذا الحكم، وتأخر إلى الوراء بعض خطوات، فقال له همام: لئن كدرك كلامي فقد وجب علي قول الحق، فأنتم معشر الفتيان تنخدعون بسهولة، وتغركم كثرة الشعر، وزينة الثياب، والتبييض والتحمير، فتنشغلون بالعرض عن الجوهر، وأما العاقلون العارفون نظيري فلا يلتفتون إلى تبرج المرأة وزينتها بل إلى نفسها، فلو أنك ذكرت لي تلك الفتاة السمراء الجالسة بقرب حبيبتك الشقراء لحكمت لك بإصابة الرأي وصحة الذوق وحسن النظر، فإنها بالحق تساوي ألف واحدة من صاحبتك التي افتتنت بها.
فنظر سعيد إلى الفتاة السمراء التي أشار إليها همام، فلم ترق في عينه وقال ساخرا: أتستلطفها ولا تنظر إلى رثة ثيابها وقصر قامتها؟! فهي والله لا تجدر بأن تكون خادمة لصاحبتي البهية المشرقة النظيفة الثياب المزينة بالحلي الذهبية.
قال همام: لا يعيبها حقارة ثوبها، فنحن في حديث الجمال لا في حديث الغنى، وكفى السمراء فوزا على صاحبتك الشقراء بصغر السن وملاحة الفم، فهي لا تزيد على الثامنة عشرة، وعلى وجهها علامة الصحة والقوة، وتلك من الصفات المحمودة المرغوبة في المرأة.
قال سعيد: أي حسن لها وهي بغير حلي وحلل؟! أكان التجرد من الزينة محبوبا في النساء؟ أوتجهل أن الملابس الباهرة تكسب المرأة حسنا فائقا وجمالا رائعا، وتزيدها جلالا وإشراقا؟!
قال همام: قد اختلفنا، وللناس فيما يعشقون مذاهب، فلا سبيل لأن أقنعك بالقول حتى نحكم بيننا رجلا آخر.
قال سعيد: ربما كان انشغافي بالشقراء للمشاكلة في اللون بيني وبينها.
ناپیژندل شوی مخ
فتبسم عند سماع ذلك همام، فإن سعيد كان أحمر الشعر ومعشوقته شقراء شديدا، وجاهد نفسه ليمتنع عن الضحك مخافة أن يغضبه في ساعة يرى استرضاءه واجبا؛ لإتمام زواج فؤاد بشقيقته سعدى، فرأى أن يغير موضوع الكلام، وقال ملتفتا إلى فؤاد: لو لم تكن ابن أختي وعلى أهبة الزواج، والمطلوب منك أن تكون قدوة في السلوك الحسن لأقمتك بيننا حكما تفصل في الخلاف.
قال سعيد: وهل الزواج يمنع فؤادا عن إبداء رأيه؟ إنه صاحب نظر دقيق، وذوق صحيح، ولي ركون إلى قوله واقتناع بحجته.
قال همام: ماذا تقول شقيقتك حين يبلغها أنا انتدبنا خطيبها حكما بيننا يقضي في خلاف مثل هذا يتعلق بالنساء؟
قال سعيد: كيف يبلغها الحديث؟! فإن من عاداتي ألا أفوه ببنت شفة.
قال همام: ونحن أيضا نكتم الخبر، فلا يظهر له من أثر، وشرطنا على فؤاد أن يتقدم، ويدقق النظر في البنات، ويفصل المشكلة بيننا ، فقد قبلت برأيه وحكمه.
فتقدم فؤاد ودقق النظر في البنات تدقيق المنتقد الخبير، فأبصر أولا الفتاتين الشقراء والسمراء، فوجدهما لا تستحقان النظر أو تليقان أو تروقان في أعين أهل الذوق السليم، ووجه بصره إلى الابنتين الأخريين فلم يجد فيهما شيئا من الحسن، فلوى عنقه لينصرف إذ وقع بصره على الابنة الخامسة المقيمة بمعزل عن رفيقاتها ... وكان قد سقط الشريط من يديها على ركبتيها، فتنهدت الصعداء من التعب، ووقفت تنظر إلى ما فوقها، ومالت بوجهها نحو باب المخزن بحركة من يستيقظ من نومه مضطربا بسبب الأحلام المزعجة، وانكشف وجهها بنور الغاز فزاده اصفرارا، فتأمل فؤاد فيها مندهشا من بديع جمالها، ولطف قوامها، وبهائها، وملاحة فمها، وسحر عينيها، ورأى آثار النباهة على جبينها، فكأنما في وجهها مادة شفافة عما يخالجها من الشعور إن محزنة وإن مفرحة، فيرتسم فيه ذكاء الفضل والنباهة والفضول والمكر والخجل والسذاجة، وغير ذلك من العلامات التي تقرأ في العيون إن سكنت أو تحركت، فترسل الشرر عند الغضب، وترشق القلوب بلواحظ الرقة في ساعات الرضا.
وبينما كان فؤاد ينظر مبهوتا تفرس فيها أمارات الحزن الشديد، وكأنها سابحة في أبحر التصور والافتكار، فلا تعي شيئا مما حولها، ولا تدري ماذا تفعل، حتى هبت كبيرة الخياطات تناديها زاجرة بقولها: أعدت إلى الكسل يا عفيفة - وهو اسم الفتاة - أضجرت من الشغل ففتحت للهواء فاك؟ فإن استمرت الحال هكذا مضى الشهر كله فلم تفرغي من عمل البرنيطة التي تصنعين شريطها مع علمك بأن صاحبتها مستعجلة في طلبها.
فتنبهت الفتاة واستأنفت العمل ورئيستها توبخها وتعنفها بكلام أحد من ضرب الحسام، والرفيقات الأخريات يهزأن بها. فرق لها قلب فؤاد، واشمأز من سخرية البنات الأخريات منها، واستمر ناظرا إليها لعلها ترفع رأسها ثانية فيتمتع بمرأى جمالها البديع.
وكان همام في أثناء ذلك قد ضاق ذرعا من انتظار حكم ابن أخته في الأمر الذي اختلف مع سعيد عليه، فتقدم وأمسكه بيده وخاطبه بقوله: إن سليمان الحكيم لم يصرف من الزمان في إبرام حكمه المأثور ما صرفت لإصدار رأيك في المسألة التي جعلناك حكما فيها ... فأفتنا، أليست السمراء الحديثة السن الجيدة الصحة أجمل من رفيقتها الشقراء المقيمة إلى جانبها؟
قال سعيد: لا ريب أنه استحسن الشقراء لجمال قوامها ولياقتها، فهو على الذوق الحسن ورأيه لا يختلف عن رأيي.
ناپیژندل شوی مخ
قال همام: تكلم يا فؤاد ... أينا المصيب وأينا المخطئ، وأينا سليم الذوق؟
قال فؤاد: ترغبان مني الوقوف على رأيي فأقول: إني لا أرى الشقراء والسمراء تستحقان الالتفات، فهما مجردتان من الحسن، فالشقراء كالحة اللون بغير لطف ولا ظرف، والسمراء قصيرة القامة ليس فيها ما يدل على الرقة والنباهة.
فلما سمع همام هذا الحكم جعل يضحك ويقول: اتبع صاحبنا فؤاد العادة في مسائل التحكيم، إنه يرضي الطرفين، فلو قال الواحد: هذا اللون أبيض، وقال الآخر مغالطا: بل أسود، جاء الحكم يقضي بينهما فيقول: اللون أحمر، فيفصل الخلاف بينهما بقضائه. ثم إنه تضاجر وقال لصاحبيه: دعانا من الجدال فهذه الساعة التاسعة، وقد فات ميعاد طعامنا، وأشهد الله على نفسي أنني لن أعود بعد هذا أدعو أحدا من بيت غانم إلى طعام.
قال فؤاد: سألتماني عن رأيي فأبديته، فأخبراني الآن هل أبصرتما الفتاة الجالسة بمعزل عن أخواتها منعكفة على شغلها ومحولة وجهها إلى الداخل؟
قال همام: إنها فتاة رقيقة الجسم، دقيقة القوام، لا ترفع رأسها عن عملها، لم أتبينها جيدا لأحكم في أمرها.
قال سعيد: والغالب في الظن عندي أنها حديثة عهد في هذه الصناعة، وأنها فقيرة بدليل رثة ثيابها وتجردها من الحلي، فليس في أذنها قرط ولا في أصابعها خواتم.
قال فؤاد: هذه الفتاة الضعيفة النحيلة القوام هي الجميلة وحدها بين أخواتها، كالنجم اللامع والبدر الساطع.
قال سعيد: رأيتها حين التفتت فإذا هي صفراء اللون حزينة كالثاكلة، ليس على وجهها شيء من الحسن، فأنا أستغرب كيف تجدها جميلة؟
قال فؤاد: إن كان الجمال بعرفك هو جمال الصور والتماثيل المصنوعة للتزويق؛ ليطرف إليها الولدان، فهذه الفتاة أجل من أن توصف بذلك، فجمالها بديع حقيقي لتجرده عن التصنع والتطرئة، وقد تفرستها فرأيتها قد جمعت مع اللطف والظرف همة الرجال وشهامتهم وكملت بالأوصاف البهية.
قال همام: أكثرت من الإطناب، فوالله لو سمعك سامع تمدحها وتصفها بهذا الوصف لظن أنك مشغوف بها مفتون.
ناپیژندل شوی مخ
قال فؤاد: إني أعرف طبعك يا خالي، فالمزاح غالب عندك، وتحب التهكم في كل شيء، ولكني أشهد لك بلطف الذوق وسلامته، وأنك تقدر الأمور قدرها، وتعطي الجمال حقه، فأرجوك أن تعيد النظر إلى الفتاة مدققا فيها، ثم بعد ذلك تعلمني هل تستحق وصفي وأكثر منه أم لا؟
قال همام: مضى علينا الوقت وفرغ صبري، فوالله لو عرضت علي نساء العالم لما ساوين عندي طحنة ضرس، فقد اشتد بي الجوع وزاد ضجري من غلاظة غانم التي بلغت النهاية، فإن طال الزمن وقعت في داء يكون سببه غانما وابنه، قبح الله كل (ثقيل).
وبينما همام يتكلم والغضب يعمي بصره أقبل خادم الفندق، فتباشر همام برؤيته، وابتسم منشرحا مسرورا سرور قوم نوح حين عادت الطير إليهم تحمل عرق الزيتون.
قال الخادم: إن المائدة قد أعدت للطعام فتفضلوا.
فاتجه الثلاثة الرفاق نحو الفندق، وكان همام في مقدمتهم يسرع في جريه فقابلوا في أثناء الطريق شقيقة غانم وعلى وجهها الحزن الشديد والغم الكثير، فكأنما قد زادت أوجاعها، وكثرت آلامها بمكوثها في الفندق، غير أن همام لم ينتبه إليها لاشتغال فكره بالطعام. أما فؤاد فأمال رأسه مسلما، وأما سعيد فلم يعرفها؛ لأن الفقر والغم غير حالتها بعد فراقها وغيبتها سبع سنوات.
مرت المرأة المذكورة أمامهم، واستمرت سائرة إلي مخزن الخياطة، فوقفت برهة تنظر إلى داخله متنهدة ثم سارت في سبيلها.
الفصل الثالث
ندع هماما ورفيقيه عائدين إلى الفندق، ونحدث القارئ بما جرى من الحديث بين غانم وشقيقته.
بخروج همام وفؤاد جلست كريمة شقيقة غانم على كرسي، وجعلت تنظر إلى أخيها منتظرة منه المجابرة، وأن يترحب بها ويبش في وجهها ويفرح بمقابلتها بعد طول فراقها وغيبتها؛ فخاب ظنها وضاع الأمل، فإن أخاها كان يرمقها شزرا، ويلحظها بعين الغضب والانزعاج وفكره مضطرب اضطراب البخيل من سؤال المسكين، فكأنه قد خشي أن تكون زيارتها لطلب صدقة، فانتظر أن تبادره بالكلام، فإذا بها لبثت صامتة، فلما طال على ذلك الأمد قال لها مغاضبا: تكلمي فإنه لا يليق قضاء الوقت سكوتا والأصحاب في انتظاري خارجا ... أخبريني باختصار عما ترغبين مني.
فانقبض قلب الشقيقة عند سماعها هذا الكلام الخشن، وعظم الأمر عليها، فأطرقت في الأرض، وأذرفت الدموع الساخنة.
ناپیژندل شوی مخ
فقال غانم: أجئت تبكين وتندبين؟ تكلمي ما الذي حضرت بشأنه؟ أجئت تصنعين مأتما؟ فإني أعلم براعتك في التصنع، ما الداعي لحضورك في هذا المكان؟
قالت وقد رفعت رأسها، وتأثرت من جفوة أخيها: كنت أظن نفسي قبل أن أقابلك أشقى خلق الله، وأن تعاستي بلغت النهاية، فإذا التعاسة لا نهاية لها، وما كنت - والله - لأتوقع منك أن تقابلني بالإعراض أو أسمع من فيك هذه الألفاظ الموجعة بعد فراق السنين الطويلة، وأنا شقيقتك من أبيك وأمك، وأنت سند العائلة وكبيرها ورأسها، وإليك وجهت آمالي، وجعلت اتكالي عليك، أفتحرمني من مجابرتك ولا تواسيني بلطفك ورحمتك، وقد جئت أشكو إليك أحزاني وما أنهكني من الشقاء والعناء؟! فارحم ضعفي، واجبر كسري، ولا تعرض بوجهك عني في أوان الشدة، وتفضل بالإصغاء إلى أمري، فإنه وحقك لذو شأن عظيم يستوجب أن لا تعاملني من أجله بالقساوة. نعم، إنا افترقنا على كدر وحقدت علي بسبب زواجي بخليل، وكان الحق، وقد اعترفت بخطئي، وعرفت مقدار جرمي بمخالفة أوامرك، فأي إنسان لا يخطئ؟ هذه كثير من السنوات صرفتها في التعب والأوصاب، فكانت كفارة عما جنيت، فأرجوك يا حبيبي أن تصفح عني وترثي لحالي، فالرأفة واجبة لمثلي، وقد رثى لحالي الأجانب، وشفقوا علي، وحزنوا لحزني، وأنت أخي وشقيق روحي تعرض عني وتصم أذنيك عن سماع شكواي ونداي حين آتيك طالبة إحسانك وإسعافك.
فاسود وجه غانم، وتقطب جبينه لسماعه كلمة الإحسان والإسعاف، فقال في نفسه: هذا والله ما كنت أخشاه.
فتفرست أخته فيه الكدر، فقالت له: الله يا أخي، هون عليك، فلا تقطب وجهك، وتحول نظرك عني، أي ذنب جنيت حتى ...؟!
قال غانم وقد اشتد به الغضب: أي ذنب جنيت؟! أبلغت بك الوقاحة حتى أتيت التمويه وتجاهلت حتى كأنك لا تعرفين شيئا؟ أم كان مرادك تكديري بحضورك إلى هذا المكان، وأنا في صحبة الإخوان، قد اجتمعنا لمسألة مهمة، فجئتنا على غفلة لتقلقي الأفكار، وزدت على ذلك أنك لبست هذه الثياب الرثة التي لا يلبسها الخدم، أما كان من الواجب عليك على الأقل أن تلبسي ثيابا لائقة، وتحفظي مقامي، ولا تضعي من قدري أمام صحبي وخلاني؟
قالت كريمة وقد تبسمت: وحقك يا أخي هذه أفخر الثياب عندي قد لبستها، ويشهد الله أن ليس عندي أحسن منها.
فرأى غانم أن الإسهاب في هذا الموضوع يجر إلى أمور يرغب أن يتجنبها، فصرف الحديث إلى موضوع آخر، وقال لأخته: كان من الواجب عليك أن تقابليني في الفندق الذي نزلت فيه لا أن تحضري إلى هذا المحل.
قالت: ذهبت خمس مرات إلى فندقك فلم أجدك، فسألت الخدم فقالوا لي: إنك لا تحضر إلا قليلا.
قال: كيف علمت الفندق الذي نزلت فيه؟ ألعل عندك جواسيس يسعون في أثري؟
قالت: أعلمني بحضورك رجل من معارف زوجي، وكان ذلك بطريق الصدفة.
ناپیژندل شوی مخ
قال: رأينا حضرة زوجك خليل، فإنه لم يحضر لزيارتنا والسلام علينا، فكأنه بسلامته يضن علينا بهذا الشرف، وبالحق فإنني ممنون من غيبته ومسرور أن لا أراه.
قالت: ولعل سرورك أن لا تراني أيضا، فإني أرى حضوري قد كدرك، فوالله ما جئتك إلا للضرورة القصوى، فإن عطفت علي أعرتني سمعك قليلا؛ لأعرض عليك الغاية من حضوري.
فتضاجر غانم من هذه المحاورة، وحار في أمره، وأشفق أن تكون نتيجة هذه المقابلة اغترام صدقة يدفعها إلى أخته؛ فقاطعها بالكلام قائلا: علمت السبب في حضورك بدون أن تتكلمي، إنك جئت تخبريني بسوء أحوالك، وأن زوجك بدد أموالك، فأصبحت وإياه صفر اليدين، لا تملكين شيئا، ومرادك أن أنعم عليك بشيء تعيشين به، وأسلفك نقودا لتفتحي لزوجك دكانا يبيع فيه ويشتري، ويتخذها له معاشا، فارفعي هذا الأمل من قلبك، واعلمي أن مسعاك خائب، فلا تكلفي نفسك العناء والشرح الطويل، ولتعلمي أني لا أريد أن أعرف زوجك، ولا أعطيه أو أن يعطيه أحد خلافي مليما واحدا، فقد علم الجميع بسوء أخلاقه وفساد سيرته وإسرافه وقلة أمانته. وهذا كلامي إليك بصريح العبارة، فلا تطمعي مني شيئا، وقد أفهمتك أني لا أتدخل في أمره، وتذكري أني لم أرضه لك بعلا، ومنعتك عنه فلم تمتنعي، ونصحتك فلم تقبلي النصيحة، فالذنب ذنبك، تحملين عواقبه؛ لتعلمي نتيجة العناد، وتكوني عبرة للآخرين.
قالت: قد اعترفت لك يا أخي بخطيئتي، والله يرحم الخاطئين، وأي ذنب في الكون لا يغفره الله للتائبين! فارحمني يرحمك الله، وأشفق علي إني حزينة مسكينة.
قال: إني لا أشفق على من يجلب على نفسه الشقاء ولا ألتفت إليه، فلو أنك سمعت نصيحتي لدفعت عن نفسك النكد، وكنت في ألف خير، فلم تقاسي ما أنت فيه الآن من العناء والبلاء. وبعد، أفإنك وإن كنت في ضيق يوجب الأسف عليك، فإني أيضا في مركز صعب لإعسار الأحوال، فإن أملاكي قليلة الإيراد، والمحصولات متأخرة، وجميع أشغالي في تقلب، وعلي ديون كثيرة ونفقات جسيمة، وما أرى أمامي غير الخراب والدمار، فلا أستطيع أن أحسن إليك بشيء.
قالت: ما يليق هذا القول بك يا أخي، لا تجحد نعمة الله عليك، فأنت في نعمة سابغة، وفضل الله عميم وكرمه عظيم.
قال: وبفرض أني بعد كل التعب الذي تجشمته والمشقات التي كابدتها قدرت أن أجمع شيئا من المال أنفقه على نفسي في الكبر، وأبقيه لأولادي من بعدي، أفيكون من العدل أني أبدده، أو أتبرع به على زوجك الفاسد الطوية القبيح السيرة؟ وهل يفعل هذا الفعل إلا كل أبله معتوه ليس في رأسه ذرة من العقل؟ نعم، أكلف بأمرك وأمر ابنتك لو كنت أرملة، ولكنك في عهد زوجك وهو الملزوم بك، فما يعنيني من أمره وأمرك شيء. وليكن في علمك أني جمعت المال اليسير الذي عندي بغاية التعب والصعوبة، فما يلومني أحد إن حافظت عليه، فلم أضيعه هبة أو أبذله إلى من لا يعرف قيمته. والحمد لله أني من العقلاء، أصون نفسي عن فعل أفعال المجانين الجاهلين، فاقطعي الأمل، ولا تكلفي نفسك التعب ومضض السؤال.
فوقع هذا الكلام في نفس كريمة وقع الحسام، ولا سيما عند إشارته إلى أنه لا يسأل بأمرها إلا بعد وفاة زوجها، فسالت العبرة من عينيها، وقالت: زدتني يا أخي حزنا على حزني ولم تشفق علي، وأنا في حالة الفقر المدقع من زمان طويل محرومة من كل هناء وراحة، صابرة على البلوى حمولة موجعة القلب، أتمنى الموت وفراق هذه الدنيا التماسا لراحتي في الأخرى ... فاعلم يا أخي أني لم أحضر لأطلب منك مالا، فالمولى يزيدك عزا وغنى، وإنما مطلوبي شيء أعز من المال.
قال: أي شيء أعز منه غير الروح، وما أظن أنك حضرت لتطلبيها؟!
قالت: محبتك يا عزيزي أغلى من كل شيء، وأثمن من كل نفيس في العالم، وأعز من روحي إلي.
ناپیژندل شوی مخ