قال وقد أوجس من كلامها شرا: أخشى أن تكون في رأسك مكيدة، وليست مسألة فئران في البيت تهلكينها، وإن كان لا بد لك من هذا الدواء، فليحضر والدك أو خلافه يستلمه.
قالت: أبي توفي وليس لي أهل.
قال: توفي أبوك وليس لك أهل، وترغبين أن أبيع لك زرنيخا، وهو من شر السموم القاتلة؟! كلا، هذا مستحيل، ولا بد أن يكون في الأمر سر خفي، فأخبريني أين أنت مقيمة؟
فرفعت الفتاة رأسها، وقد انقشعت قليلا غياهب الهواجس من عقلها فأجابت قائلة: ما يعنيك من معرفة محل إقامتي وأن تسألني هذا السؤال؟
قال: بل يعنيني ذلك ويهمني جدا، وفي قلبي محل للريب من فتاة مثلك وفي سنك تسير وحدها في الشوارع ليلا تبتاع سموما لسوء نية وخبث قصد، فاعلمي أننا مسئولون عن بيع العقاقير السامة، فمن الواجب علي معرفة اسمك وعائلتك ومحل إقامتك، فإن لبيت الطلب فبه وإلا استعملت الطرق الأخرى. فنظرت إليه عفيفة بعين الازدراء والاحتقار والنقمة، ثم ولت بوجهها معرضة عنه، وسارت نحو الباب تبغي الخروج، فأشار الصيدلي لأحد غلمانه بأن يمنعها عن الخروج، وأمر غلاما آخر بأن يستدعي أحد رجال البوليس، فتقدم الغلام الأول ليقبض على ساعدها، ويحجز عليها ...
فتعرض له فؤاد ودفعه بعنف إلى داخل الصيدلية، والتفت إلى الفتاة يكلمها قائلا: لك الأمان، اذهبي بسلام.
ثم التفت إلى الصيدلي وقال: لا أنكر عليك امتناعك عن بيع الزرنيخ للفتاة، إنما أراك قد جاوزت حقوق الوظيفة وواجبات المهنة، فصنعتك بيع العقاقير لا إجراء التحقيقات.
وكانت عفيفة لا تزال واقفة عند الباب، فرجع إليها فؤاد يخاطبها بقوله: أنت حرة في قيامك وذهابك، فلحظته الفتاة شاكرة وانطلقت مسرعة كالطير يفلت من القفص.
فغضب الصيدلي وغلمانه، وتعجبوا من تصرف فؤاد وانتصاره لفتاة حلت نفسها محل الشبهة، وقصدت قتل النفس تعمدا، فقال له فؤاد: وهل ظهر على وجهها أنها تقصد تسميم أحد، فسعيت في أذيتها، وهي لا تريد إلا تسميم نفسها؟ ألم تر أمارة اليأس والقنوط عليها؟ ثم إنه جعل على التختة ريالا ثمن الدواء الذي اشتراه، وخرج مسرعا يعدو على أثر الفتاة.
فقال صاحب الصيدلية: إن الفتاة مختلة الشعور، والشاب معتوه دفع الريال ثمن الدواء ولم يأخذه، وجعل فؤاد يلتفت يمينا وشمالا ليرى الفتاة، فإذا هي آخر الطريق المؤدية إلى تياترو الأوبرا الخديوية، فتبعها وقد توجهت من شارع التياترو إلى شارع المغربي المجاور للفندق المعروف ب (نيو أوتيل) بالإنجليزية أو الفندق الجديد، وكان يسرع في السير مثلها، ويقول في نفسه: إن لهذه الفتاة شأنا عجيبا ونبأ غريبا، وهي حديثة السن تشكو تصاريف الزمن، وقد طلبت السم لتميت نفسها في تجرعه، فالظاهر أنها عاشقة، كلفت بهوى رجل فتركها، فابتغت من اليأس قتل نفسها لأجله، وإلا فما الباعث يا ترى لها على هذه الجرأة والإقدام على مثل هذا الأمر المنكر؟! ولتفطر قلب فؤاد عليها من الحزن عزم على أن يتبعها أيان ذهبت ليعلم حقيقة الخبر ويمنعها عن قتل نفسها. وكانت الفتاة سائرة لا تدري بأمر فؤاد أنه يقتفي أثرها، وكانت كلما تقدمت في السير تزداد اضطرابا وحزنا حتى وصلت إلى منتهى الشارع، فعرجت شمالا إلى شارع مصر العتيقة قريبا من نمرة 24 وهي لا تلتفت إلى جهة ما، فلو رآها راء على هذه الحال لجزم بأنها مجنونة هائمة على وجهها في شارع الإسماعيلية، ضالة عن الطريق، فظل فؤاد يتبعها إلى رأس الشارع المؤدي إلى كوبري قصر النيل، وهنالك حديقتان صغيرتان مستديرتان في وسط كل منهما بحيرة جميلة مزدانة بالأزهار والنبات، يحيط بهما سياج من الحديد، فجلست من التعب على رصيف إحدى الحديقتين تطلب لنفسها راحة، وتقول: قرب الله يوما أبلغ فيه الراحة الدائمة وألحق بوالدي. وبعد أن جلست قليلا من الزمن استأنفت المسير، وقالت تناجي نفسها: لا يسوغ لي صرف الوقت سدى وأبي ينتظرني، وأنا مشتاقة إلى رؤياه ... فتبعها فؤاد حتى أدركت كوبري قصر النيل، فرآها وهي تنظر إلى المياه الجارية من تحته خائفة من سكون الليل وهيبته، وقد سارت فوق الكوبري ملتفتة يمينا وشمالا تقيس العلو، ثم توجهت مستقيما، ثم عرجت يمينا، ثم قعدت، قاومت، ثم وقفت في محل مرتفع على شاطئ تجري من تحته المياه في عمق عظيم، وكان في قرب المحل شجرة من النخيل اختبأ فؤاد في ظلها كي لا تراه الفتاة.
ناپیژندل شوی مخ