دليل آخر
أن جميع الأجسام من الأرض والسماء، وغيرهما من الرياح والماء، وجميع ما خلق الله سبحانه وبرى، ودبر وذرأ، لا يوجد إلا في وقت وساعات، لأن الأجسام لا تنفك من السكون والحركات، وكل متحرك أو ساكن لا ينفك من أقل قليل الأوقات، وما لم ينفك من الوقت والزمان، فهو مثله في الحدث والبرهان، لأنا قد أوضحنا حدث الأزمان، فانظر كل علة من العلل، وعرض من الأعراض، فلن تجده إلا في جسم من الأجسام، وما لم يوجد إلا بوجود الجسم فلم يسبق الأجسام، وكيف يسبق ما لم يوجد إلا فيه؟! ولا يستقيم إلا به وعليه؟! وما لو لا هو لما وجد أبد الأبد، ولما رءاه من الخلق أحد، مثل اللون لا يوجد أبدا إلا في جسم، فإذا صح حدث الجسم المنفرد بذاته، فعرضه الذي لا يقوم بنفسه، ولا يوجد إلا متعلقا به، أجدر أن يكون محدثا، وأحرى بأن يكون مصنوعا مدبرا.
ثم انظر إذا أردت أن تعرف حدث جميع الأشياء، فلن تجده إن شاء الله إلا على ما ذكرنا متحركا أو ساكنا، ثم انظر إلى الحركة والسكون، فلن تجدهما أبدا إلا في وقت ولو قل الوقت، ثم انظر إلى يومك وأمسك، وافرق بين ما تأمل من البقاء، وبين الماضي السالك، من عمرك الفائت الذي قد مضى، فإنك تجد كل يوم من أيامك السالفة الماضية، الذاهبة من عمرك الفانية، قد تضمنها الفناء، وكذلك تضمن غيرها، ثم انظر الفناء أوقع عليها كلها أم لا؟! فإنك إن نظرت وجدت كل ساعة من الساعات والأزمنة الماضية الخالية، لم ينقطع آخرها إلا بعد انقطاع أولها، ولم يحدث آخرها إلا بعد حدوث أولها، وكل أول من الزمان حدث وصح حدثه، فلم يحدث آخره حتى فني أوله، وما لم ينفك من الحدث والفناء، فقد تناها منه كل ما مضى، وبلغ غايته وانقضى، فلم يوجد الزمان إلا على هذين الحالين المتناهيين، الحدوث والفناء، وما صح حدثه ومبتداه، وصح فناؤه ومنتهاه، ولم توجد الأجسام جميعا إلا بوجوده، فسبيلهما في الحدث كسبيله.
مخ ۸۴