كتاب الرد على من جحد الله
وقال بقدم الهواء، وغيره من الأشياء
فإن سأل بعض الملحدين، أهل الحيرة المتمردين:
فقال: ما الدليل على حدث الهواء؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على حدثه أنه لم يخل من الزمان طرفة عين، ووجدنا الزمان محدثا وهو حينئذ سكون الهواء، فعلمنا أن ما لم ينفك من المحدث، ولم يوجد إلا بوجوده، أن سبيله في الحدث كسبيله.
فإن قيل: وما الدليل على حدث الزمان؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على حدثه أن كل ساعة لها أول وآخر، وكل ليلة، وكذلك كل يوم وشهر، فكلما حدثت ساعة انقطعت، فهذا دليل على حدث ما مضى من الزمان، فقد انقطع وفني، وما وقع عليه الانقطاع والفناء، فقد تناها، بين البيان، وأوضح البرهان.
فإن قال: وما أنكرت من الزمان أن يكون الزمان، الذي هو سكون الهواء قديما لم يزل، على ما ترى ساعة تبقى بعد ساعة، وساعة قبل ساعة، إلى مالا نهاية له؟كتاب الرد على من جحد الله ¶ وقال بقدم الهواء، وغيره من الأشياء ¶ فإن سأل بعض الملحدين، أهل الحيرة المتمردين: ¶ فقال: ما الدليل على حدث الهواء؟ ¶ قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على حدثه أنه لم يخل من الزمان طرفة عين، ووجدنا الزمان محدثا وهو حينئذ سكون الهواء، فعلمنا أن ما لم ينفك من المحدث، ولم يوجد إلا بوجوده، أن سبيله في الحدث كسبيله. ¶ فإن قيل: وما الدليل على حدث الزمان؟ ¶ قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على حدثه أن كل ساعة لها أول وآخر، وكل ليلة، وكذلك كل يوم وشهر، فكلما حدثت ساعة انقطعت، فهذا دليل على حدث ما مضى من الزمان، فقد انقطع وفني، وما وقع عليه الانقطاع والفناء، فقد تناها، بين البيان، وأوضح البرهان. ¶ فإن قال: وما أنكرت من الزمان أن يكون الزمان، الذي هو سكون الهواء قديما لم يزل، على ما ترى ساعة تبقى بعد ساعة، وساعة قبل ساعة، إلى مالا نهاية له؟
إما أن يكون عنيت به الزمان الذي انقطع ومضى، وتصرم وفني.
وإما أن تكون عنيت غيره، فإن كنت عنيت غيره، فليس كلامنا إلا فيه، وإن كنت عنيته، فكيف لا يتناهى عند من عقل من أهل النهى شيء قد وقع عليه الانقطاع والفناء، وما انقطع وفني فقد تناهى.
ودليل آخر
إما أن تكون عنيت بقولك: كل ما فني ومضى من الزمان الذي هو سكون الهواء.
وإما أن تكون عنيت ما بقي منه الآن، فإن كنت تريد ما مضى منه وغبر، فقد أجبت نفسك من حيث لم تشعر، وإن كنت عنيت ما بقي من الدهور، وما هو يمر على الخلق ويدور، من الساعات والأيام والليالي والشهور، فها هو اليوم يمضي ساعة حادثة ويحدث غيرها، فكلها حدثت ساعة، فثبتت ساعة وتناهت.
فهذا دليل على ما مضى من سكون الهواء، ولا يزال ذلك أبدا بإبقاء الله تبارك وتعالى، وسنزيد إن شاء الله بيانا، ونوضح لك من ذلك هدى وبرهانا، ونسأل الله أن يوفقنا.
فنقول إن شاء الله: ما تقول أيها السائل عن حدث الهواء؟ أهو في ذلك عندك ساكن أم لا؟
فإن قال: ليس بساكن كابر عقله، واستغني عن مناكرته بجهله، بأن الهواء لابث غير زائل، لا يمتنع من لبثه عاقل، ولا يكابر فيه عالم ولا جاهل.
وإن أقر بسكونه، قيل له: أخبرنا أكله ساكن أم لا؟
فإن قال: إلا بعضه كذب كذبا بينا، وإن قال: بل هو ساكن كله، فللكل نهاية وغاية، لا يخلو من السكون، والسكون يدل على تناهيه وتجديده، إذ لا يخلو منه.
ألا ترى أن الشيء إذا لم يخل من صفته، فذلك دليل على حدوده، كمثل اللون والحركة، والسكون والمسخة، وغيرهن من الأعراض، والكلية والأبعاض.
فإن قال: وما أنكرت من أن يكون الساكن ساكنا إلى مالا نهاية له؟
مخ ۸۱
قيل له ولا قوة إلا بالله: كلامك هذا محال باطل، لا يقبله من الناس عاقل، لأن ما صح حدثه فهو كله محدث، ثم نقضت قولك بقولك لا نهاية له، لأن الكل دليل على أنه لم يبق منه شيء حتى حدث بعد عدمه، فبطل ما ادعيت من قدمه.
ودليل آخر
أن العقل لا يقع إلا على الكل والبعض، والطول والعرض، ولا يخلو الهواء من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن يكون ساكنا كله.
وإما أن يكون بعضه ساكنا، وبعضه متحركا.
وإما أن يكون لا ساكنا ولا متحركا.
فإن قلت: إنه لا ساكن ولا متحرك جحدته، وأبطلت ما بالقدم وصفته، بل إن كنت من المشبهة فقد عبدته.
وإن قلت: بعضه ساكن وبعضه متحرك، فقد حددته وناهيته، وقسمته وجزأته، وأجملته وبعضته، لأنه إن كان على ما وصفت فهو على ضربين، وجزؤين موصوفين متناهيين محدودين، وحالين مختلفين، متغايرين معروفين.
فإن قلت: إنه ساكن كله، فقد أقررت صاغرا إذ وصفته بالسكون فحددته، إذ لم يبق منه السكون شيئا حتى جرى عليه، ولم يذر منه قليلا ولا كثيرا حتى وصل إليه، فانظر أي القولين أولى بالحق.
- - -
باب الدلالة على حدث الأجسام
ودليل آخر
يقال لمن قال بقدم الأجسام: أخبرنا ما أعظم الأجسام وأجلها، فلا بد أن يقول الأرض والسماء، فيقال له: أهما في الهواء، أم لا؟
فإن (1) قال: لا، كذب، وإن أقر بذلك صدق، ووجد الأجسام لا تنفك من الهواء، وما لم ينفك من المحدث، ولم يوجد إلا بوجوده، فهو مثله مكون بكونه.
فإن قال: وما أنكرت من أن تكون الأرض منحدرة سفلا إلى ما لا يتناها، وكذلك السماء مصعدة؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذا محال باطل فاسد، وذلك أنهما مخلوقتان.
فإن قال: وما الدليل على ما ادعيت من حدثهما؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: الدليل على حدثهما أنهما لم ينفكا قط من الهواء الذي بينهما، وقد أوضحنا حدث الهواء فيما تقدم من كلامنا، وما لم ينفك من المحدث ولم يكن قبله، فسبيله في الحدث سبيله.
مخ ۸۲
فإن قال: وما أنكرت من أن يكون الهواء حدث بعدهما، ولم يكن معهما ولا قبلهما، ولا هو في القدم مثلهما؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك، لأن الأرض لم تخل من التحت، ولم تخل من التباعد والتباين، ولم تخل السماء من الارتفاع، ولم تخل الأرض من الاتضاع، وفوق الأرض فهو الهواء، وكذلك هو تحت السماء، وهو المسافة بينهما، وهو سبب تباعدهما، وهو الفرق بينهما، وأيضا فإنك مقر بأزلية تباينهما، وهذا محال لما بينا من كونهما ووجودهما، بوجود هذا الفضاء.
فإن قال: وما أنكرت من أن يكونا في حال أزليتهما غير مفترقين ثم افترقا؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: هذه حجة عليك لا لك، احتججت بها على نفسك، لأن حدث الافتراق دليل على المفرق، وافتراقهما بعد اجتماعهما، دليل على مفرقهما بعد جمعه، ونقلهما دليل على صنعه.
ودليل آخر
أنك قلت: افترقتا، والافتراق لا يكون إلا في مكان كما وصفنا، وكذلك الاجتماع ووجود المكان، دليل على حدثهما، إذ لم يخلوا من هذا المكان المحدث، الذي بينا حدثه فيما مضى من كلامنا، وإذا لم يسبقا المحدث، أعني الهواء، ولم يكونا قبله، فسبيلهما في الحدث سبيله.
ودليل آخر
أنك قلت: افترقنا، والافتراق لا يكون إلا بعد الاجتماع، وإذا كان للاجتماع آخر فله أول، ويستحيل آخر بلا أول، ألا ترى أنهما إذا كانا لم يزالا مختلفتين ثم افترقتا، فقد بطل ما مضى من كثرة سكونهما واجتماعهما، ولا يخلو هذا الباطل الذي بطل، وهو سكونهما من أن يكون بطل كله، أو بطل بعضه.
فإن قلت: بطل بعضه، فهذا محال، لأنك أقررت بحركة افتراقهما، بعد سكون اجتماعهما، وإذا تحركتا فقد بطل كلما مضى من سكونهما، وإذا بطل جميع السكون والساعات الحادثة، فقد صح أن لهما عددا، وإذا صح بأن للساعات عددا محدثا، وصح بعد حدوثه انقطاع جميعه، والأرض والسماء عندك لم يسبقا سكونهما، هذا الذي ذكرنا، حدث ساعاته، وانقطاعها بعد حدوثها.
مخ ۸۳
دليل آخر
أن جميع الأجسام من الأرض والسماء، وغيرهما من الرياح والماء، وجميع ما خلق الله سبحانه وبرى، ودبر وذرأ، لا يوجد إلا في وقت وساعات، لأن الأجسام لا تنفك من السكون والحركات، وكل متحرك أو ساكن لا ينفك من أقل قليل الأوقات، وما لم ينفك من الوقت والزمان، فهو مثله في الحدث والبرهان، لأنا قد أوضحنا حدث الأزمان، فانظر كل علة من العلل، وعرض من الأعراض، فلن تجده إلا في جسم من الأجسام، وما لم يوجد إلا بوجود الجسم فلم يسبق الأجسام، وكيف يسبق ما لم يوجد إلا فيه؟! ولا يستقيم إلا به وعليه؟! وما لو لا هو لما وجد أبد الأبد، ولما رءاه من الخلق أحد، مثل اللون لا يوجد أبدا إلا في جسم، فإذا صح حدث الجسم المنفرد بذاته، فعرضه الذي لا يقوم بنفسه، ولا يوجد إلا متعلقا به، أجدر أن يكون محدثا، وأحرى بأن يكون مصنوعا مدبرا.
ثم انظر إذا أردت أن تعرف حدث جميع الأشياء، فلن تجده إن شاء الله إلا على ما ذكرنا متحركا أو ساكنا، ثم انظر إلى الحركة والسكون، فلن تجدهما أبدا إلا في وقت ولو قل الوقت، ثم انظر إلى يومك وأمسك، وافرق بين ما تأمل من البقاء، وبين الماضي السالك، من عمرك الفائت الذي قد مضى، فإنك تجد كل يوم من أيامك السالفة الماضية، الذاهبة من عمرك الفانية، قد تضمنها الفناء، وكذلك تضمن غيرها، ثم انظر الفناء أوقع عليها كلها أم لا؟! فإنك إن نظرت وجدت كل ساعة من الساعات والأزمنة الماضية الخالية، لم ينقطع آخرها إلا بعد انقطاع أولها، ولم يحدث آخرها إلا بعد حدوث أولها، وكل أول من الزمان حدث وصح حدثه، فلم يحدث آخره حتى فني أوله، وما لم ينفك من الحدث والفناء، فقد تناها منه كل ما مضى، وبلغ غايته وانقضى، فلم يوجد الزمان إلا على هذين الحالين المتناهيين، الحدوث والفناء، وما صح حدثه ومبتداه، وصح فناؤه ومنتهاه، ولم توجد الأجسام جميعا إلا بوجوده، فسبيلهما في الحدث كسبيله.
مخ ۸۴
ودليل آخر
لما نظرنا إلى الزمان والهواء، فأمكن في المعقول أن ينفردا من الأجسام، علمنا إذ ذلك أنهما كانا قبل الأشياء، ثم نظرنا إلى الأشياء فإذا هي لا تنفك منهما، ولا يجوز في المعقول أن تكون قبلهما، فعلمنا أن الأشياء محتاجة إليهما، مبنية في الشاهد عليهما، فلما علمنا أن الأشياء لم تكن قبلهما، ولم توجد إلا بوجودهما، رجعنا إلى الطلب لحدوثهما، والاستدلال على صنع الله فيهما، فنظرنا إلى أجلهما وأوضحهما وهو الهواء، هل ينفك طرفة عين أو أقل منها من الزمان؟ فإذا هو لا ينفك منه أصلا، فرجعنا بطلب الدليل على حدث هذا الذي لا ينفك منه شيء من الأشياء، فوجدنا - والحمد لله - في ذلك ما كفانا، ووضح لنا فشفانا، وهو ما ذكرنا، ولو لا خشية التطويل والإكثار، لشرحنا من ذلك ما لا يدفعه عاقل أبدا بإنكار.
ثم علمنا أن الله خلقهما جميعا مع إذ لم ينفك من الزمان الهواء، ثم نظرنا إلى الزمان فإذا هو عرض من أجل الأغراض، دلنا الله به على حدوث جميع الأجسام، وإبطال دعاوى الطغام، أهل التكمه في الإظلام، وأشباه عجم الأنعام، ولما نظرنا إلى هذا العرض الجليل، لم يكن بد له من جسم، فإذا جسمه هذا المكان.
مخ ۸۵
فيا لمن قال بعدم الطينة الويل! كيف تكون قديمة مع ما بينا من صنع الله الجليل؟! فانظر أيها المسترشد إلى ما ذكرنا، فلن تجده بخلاف ما قلنا، ولن يقدر أحد من الملحدين على فساد ما به دنا، وعلى الله اعتمدنا، وهو حسبنا وخالقنا ومصورنا، وإلهنا ومدبرنا، ومخترعنا ومقدرنا، ورازقنا ومعمرنا، وآمرنا وزاجرنا، وواعدنا وموعدنا، وموفقنا ومسددنا، ومميتنا ومحيينا، وممرضنا وشافينا، ومطعمنا وساقينا، والذي نرجو أن يغفر لنا ذنوبنا ويعفو عن هفواتنا، وبتجاوز عن سيئاتنا وقبيح أفعالنا، وعظيم جرمنا وسيء أعمالنا، وأن يبارك لنا في قصر أعمالنا، ونزع أرواحنا من أجسادنا، وألا يخرج أنفسنا إلا من بعد رضائه عنا، في سبيله بعد اجتهادنا، ونسأله أن يتفضل بذلك علينا، وأن يجعل آخر صحتنا في أعظم ما كلفنا، وأزكى ما به أمرنا، وأن يجعل عند ذلك ذكره آخر كلامنا، واليقين به آخر اعتقادنا، والبذل لأجسادنا في سبيله والغضب له آخر أعمالنا، ولقاه آخر آمالنا، وثوابه آخر سرورنا، وألم الموت آخر محنتنا، والأجداث أول راحتنا، والطاعة أكبر همنا، والعداوة لأعدائه آخر حقدنا، والموالاة لأوليائه آخر ودنا، وأن لا إله إلا هو وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، وأن يجعلنا من رفاقة نبيه وأحبائه، وجيرانه وأوليائه، وأن يجينا من عذابه، فلا قوة لنا إلا به، فما هي إلا مدة سنسأل فيها عن النعيم، إن لم نجتهد في الطلب غاية الاجتهاد، ونشمر قبل رحلتنا وطلب الزاد.
مخ ۸۶
فيا عجبا لمن يشتغل عما له خلق بالدنيا!! وقد وعد بالموت والفناء!! ووعد بعد ذلك بالثواب الجزيل إن عمل، أو بالعقاب الجليل إن غفل، وياعجبا كيف آثر ما هو عنه زائل؟! على ما هو أحد يوميه إليه راحل!! وياعجبا له كيف يطيل أمله؟! وهو ينتظر دون ذلك أجله، وياعجبا له كيف يخرب آخرته الباقية؟! بعمران دنياه الفانية، وياعجبا له كيف يعمر دار غيره؟! ويهدم داره، وياعجبا له كيف يحكم على عقله هواه؟! ويؤثر على آخرته دنياه؟! وياعجبا له كيف يشيد محل رحلته؟! ويترك محل إقامته! وياعجبا له كيف يصلح مال غيره ويفسد ماله؟! وياعجبا له كيف يجمع ما ينفع غيره؟! ويترك ما ينفعه، وياعجبا له كيف يجمع ما هو عنه هالك؟! وما هو لغيره تارك.
وسنعود إلى بيان صنع الله وحكمته، وما هو أكثر من الأدلة برحمته، فنقول: إن أعظم الدلائل على الله سبحانه، وعز عن كل شأن شأنه، ما فطر من الأرضين والسماوات العلا، وصنع منهما تبارك وتعالى.
فإن سأل سائل عن بيان صنع الله فيهما وتدبيره؟ وحكمته وتقديره؟ فجوابنا له في ذلك وبالله نستعين، ما شاهدنا من إثبات السماوات بلا عمد وإثبات الأرضين، ففي ذلك أدل الدلائل على رب العالمين.
ودليل آخر
أنا نظرنا إليهما فإذا هما موصولتان مجتمعتان، ولا بد لك توصيل من موصل، فلا بد لكل تفصيل من مفصل، ولا بد لكل مجموع من جامع، ولكل مصنوع محدث من صانع، وهو الله رب العالمين.
فإن قال: وما أنكرت من أن تكون الأرض لا نهاية لها؟! وكذلك السماء؟!
مخ ۸۷
قيل له ولا قوة إلا بالله: أنكرنا ذلك، لأن ما صح حدثه فقد صح منتهاه، ولا بد لكل مخلوق من غاية يتناها إليها، وصفة لا يوجد إلا عليها، إذ لا بد للمخلوق من تحديد محدد، والإحاطة بعلمه، ولا بد له من منقطع يدل على قاطعه، وحدود تدل على محدده وصانعه، وسنين من ذلك إن شاء الله تعالى طرفا نكتفي به عن التطويل، من صنع الله العظيم الجليل، وكذلك أنا نظرنا إلى الأرض، فإذا هي مختلفة الألوان والأقدار، فعلمنا أن لها صانعا خالف بين أجناسها، ولو كانت قديمة لاتفقت، ولما تفاوتت ولا اختلفت، لأن القديم لا فرق بينه في حال من الأحوال، والمحدث فقد فرق بينه ذو الجلال.
والدليل على نهاية جميع المصنوعات، من الأهوية والأرض والسماوات، أنها لا تخلو من أحد وجهين:
إما أن يكون صانعها فرغ من صنعها وقطعها.
وإما أن تكون ناقصة بعد ما ابتدعها، فإن كان الصانع قد أتم صنعه، وفرغ من العالم وقطعه، فقد صح تناهيه لانقطاعه، وحدده الصانع بعد ابتداعه، وإن كان هذا العالم محتاجا إلى النظام، فناقصه ذو الجلال والإكرام، وما كان ناقصا عن الكمال فهو مقطوع، وما كان له منقطع فهو مصنوع، والله محدثه وصانعه، ومحدده وقاطعه.
فإن قال: فكيف ثبتت الأرض على ثقلها، بغير عمد يعمدها؟!
قيل له ولا قوة إلا بالله: قد قيل في ذلك: إنها ثبتت من قبل الاعتدال، ثم هذا تقول من أحوال المحال، لأنا نجد ما كان ثقيلا، لا يثبت بغير عمد وإن كان معتدلا.
وقيل أيضا: إنها على لحج البحار، ويستحيل كون الأرض على الأنهار، لما طبعت عليه من الإنحدار، وقلة اللبث والقرار.
مخ ۸۸
وقيل: إنها لم تزل تهوي بما عليها، من أجل قوتها وثقلها، وهذا من أضعف المقال، وهو قول الزنادقة الجهال، الكفرة الفجرة الضلال، أنها لم تزل تهوي، وهذا فما لا يقول به أحد يعقل ولا يعي، ولا يتكلم بهذا إلا من سلب عقله، وعظم موته وجهله، وجلى هلاكه وخبله، لأنها لو كانت تحرك على عظمها وجلتها، لهلك من على ظهرها، ولما فرق بين الحركة والسكون إذ كانت حركتها لا ترى، فجعلوا السكون حركة والحركة سكونا، والظنون عقولا والعقول ظنونا، فزادهم الله عمى، وخبلا وضلالة وعيا، فيالهم الويل الطويل!! والعذاب والخزي الجليل. أما علموا لا علمهم الله رشدا، ولا وفقهم لخير أبدا، أن الحركة هي الزوال، وأن السكون هو اللبث؟! وشتان بين الهدوء والجمود!! والحركة والجثة!!
أوما علموا أن حقيقة الحركة هي زوال الجسم واختفاقه؟! وحقيقة السكون تخلف الجسم ولبثه واعتتاقه.
أوما علموا أيضا أن الثقيل كلما ثقل كان أعظم لزواله؟! وأسرع لهويه وانتقاله، فقد رأينا بعقولنا، وشاهدنا بأبصارنا الحجر أسرع هويا في الجو من الطين والتراب، ورأينا التراب أسرع انحدارا من الخفيف، فكيف لحقت الحجر الأرض والأرض أثقل منها، والثقيل أسرع مضيا وانحدارا، وأقل لبثا وقرارا، وأجدر بالسقوط والانحدار، وأبعد من اللبث والفرار.
ثم نظرنا إلى الريشة فإذا هي أخف الأشياء، ورأيناها تلحق الأرض على ضعفها، وقلة انحدارها وموتها.
ودليل آخر
أن الجسم إذا هوى سفلا، أو من السفل علوا، أو من غيرهما من الجهات، لا يخلو في حركته من أن يكون قطع أماكنا متناهية، أو قطع أماكنا لا نهاية لها، أو لم يقطع بحركته أماكنا.
فإن قلت: إنه لم يقطع أماكنا، جعلته ساكنا، لأن المتحرك لا يتحرك إلا في مكان، ولا بد المتحرك يقطع مسافة متناهية.
وإن قلت: إنه قطع أماكنا لا نهاية لها، فهذا محال، لأن قولك قطع أماكنا يوجب نهاية الأماكن، لأن القطع جرى عليها، وإذا قطعت فقد تناها قاطعها.
مخ ۸۹
ثم قولك: لا نهاية نقص لإقرارك الأول، وهو قولك في القطع، وإذا صح تناهي الأماكن بقطع الجسم لها، فقد صح أيضا تناهي حركته وغايتها، إذ لا توجد الحركة إلا في المكان المقطوع، وإن رجعت إلى الحق فقلت: بل قطع أماكنا متناهية، علمت أنه - إن شاء الله - على ما وصفنا، وأنه بأيقن اليقين على ما قلنا.
ألا ترى أن الأرض والرياح إذا كانتا بزعمهم لم تزل حركتهما تقطع مكانا بعد مكان، لا يخلوان من المكان طرفة عين ولا أقل منها، وإذا إن كانتا غير خاليتين من المكان، ولم توجد حركتهما إلا فيه، [فلا بد] من أن يكونا قطعتاه أو لم تقطعاه، فإن لم يجز عليه القطع منهما، فقد عدمت حركتهما، وصح سكونهما، لأن الأرض بزعمهم إذ هوت، فلا بد أن تقطع بهويها ما عبرت، وإذا صح أنها لا توجد إلا في الأجزاء، ولا تقطع إلا ما أتت عليه من الهواء، وكانت حركتها لا توجد إلا في المقطوع عند سيرها، فقد صح تناهي المكان لقطعها له، وصح نهايته إذ لم تنفك من المكان المعبور، ولم توجد إلا بوجوده عند الهواء والمسير، وفي ذلك - والحمد لله - من الأدلة والبراهين، أكثر مما ذكرنا من التبيين، فما طلبنا من ذلك شيئا يسيرا، إلا وجدنا بمن الله كثيرا، وإذا صح تناهي الأرض بالأدلة الواضحة وقد صح أنها له، لم تثبت على ثقلها إلا بلطف مدبرها، وخالقها ومصورها، وجاعلها ومخترعها، ومقتطرها وصانعها، والقول في السماء، كالقول في الأرض عندنا، فنسأل الله أن يوفقنا، وأن يغفر لنا ذنوبنا.
مخ ۹۰
والعارف عندنا من أراه طريق النجاة، فليست إلا بالتسليم للمعقول، وجهاد النفس بالقبول، والاعتماد بأمر علام الغيوب، وإكذاب خواطر القلوب، لأن العاقل إذا ورد عليه شيئان أحدهما ظن، والآخر يقين، وجب عليه قبول أصدقهما، وإبطال أفسدهما بأحقهما، فإن الحق لا يشبه المحال، والهدى لا يماثل الضلال، والعلم لا يقاس بالجهل، والظن لا يمثل بالعقل، والصحة لا توازن السقم، والدليل أولى من الوهم، وصحة الخبرة، أولى من وساوس الحيرة، فيجب على المتعبد أن ينظر الأمر من المتناهيين، المختلفين المتغايرين، المتباعدين المتنافرين، فليستمع قولهما، وينظر دلالتهما، ثم ينظر اختلافهما، فلن يشتبه ضدان أبدا. فليأخذ بأوضحهما دليلا، وأنورهما سبيلا، ويجاهد نفسه على قبوله أشد الجهاد، ويحرس قلبه من الفساد، ولا يبرح صابرا مصطبرا، متيقضا من السهو متفكرا، فلن يشتبه الحق والباطل عنده إن عقل، ولن يهدى إلى الرشد إن غفل.
فرحم الله عبدا نظر لنفسه في أوان المهل، قبل حضور ما وعد به من الأجل، فلعمري لو لم يكن لنا من النظر، إلا ما في أنفسنا من الآيات والعبر، لكان لنا في ذلك كافية، وأدلة واضحة شافية وبراهين جليلة باهرة، وآيات عظيمة قاهرة، وأنوار مبصرة زاهرة، من خلق الذكر والأنثى، من نطفة من مني تمنى، لا سمع فيها ولا بصر، ولا عقل ولا شعر ولا بشر، ولا حياة ولا حكمة، ولا إرادة ولا همة، فبينما هو كذلك إذ هو بشر سوي، حكيم عالم عاقل حي، سميع بصير قوي، أجزاء محكمة، متقنة مفصلة، وآيات محبوكة متسقة موصلة، ومفاصل مجموعة معتملة، وحكمة بالغة معتمدة، مأسورة مشدودة مؤكدة، تدل على حكمة صانعها، ويشهد بالفطرة لفاطرها، وتبين لناظرها، لا يمتنع عاقل حكيم من التصديق بأن تأليفها بعد العدم يدل على مؤلفها، وتصريف فطرتها دليل على مصرفها، وإتقان ما لم يكن متقنا منها دليل على متقنها، وتفصيل أجزائها دليل على مفصلها، وتوصيل آلائها دليل على موصلها.
مخ ۹۱
فكفى لعمري بوجودها بعد عدمها دليلا على صانعها، وكفى بصنع أدواتها دليلا على علم الصانع بها، وكفى بوجود الأرزاق دليلا على الرزاق، الواحد الخلاق، وكفى بما يشاهد من النعم المنزلة من السماء المبسوطة لنا ولأنعامنا، دليلا على المنعم علينا، وكفى بما نشاهد من الأحسان في الأرزاق دليلا على المحسن علينا، فلعمري لفي أقل من هذا ما دل على الله تبارك وتعالى، فيالها نعما عظمت!! وأياديا جلت وجسمت!! ويالها فضائل كثرت عن التعديد!! وزادت على كل مزيد، والحمد الله الواحد الحميد، العدل الخالق المجيد، فلن نذكر من حكمته إلا قليلا، فسبحان الله بكرة وأصيلا، والحمد لله كثيرا، والله أكبر كبيرا.
ولا تكون نعمة صح حدثها إلا من منعم، ولا كرم صح من بعد العدم إلا من متكرم، ولا حكمة بالغة إلا من حكيم، كما لا يكون العلم إلا من عليم، ولا الحلم في الشاهد إلا من حليم، ولا يجعل الشيء للشيء والمعنى للمعنى، إلا عالم بفاقة المخلوق إلى ما جعل وبنى.
مخ ۹۲
ألا ترى إلى ما بث الله من الخلق، وما بسط لهم بعد خلقهم من الرزق، الذي لو لا هو لهلكوا ودمروا، ولما تناسلوا ولا كثروا، ولما ثم بقاء ولا صبروا، فلعلمه بفاقتهم رزقهم، ولإنفاذ الحكمة خلقهم، ولحسن التدبير فطرهم، وبالطاعة والرشد أمرهم، وعن الفواحش زجرهم، وللكفر حذرهم، وبالثواب وعدهم، فسبحان من لا تحصى آياته، ولا تنقطع أبدا دلالاته، فلو لم يكن لنا من الآيات، إلا ما ذكرنا من صنع الله في الحيوانات، لكان ذلك عليه دليلا، ولكان علما عظيما جليلا، من النطف الحقيرة، خلائقا مبثوثة كثيرة، لا يحصيها إلا خالقها، ومبتدعها ورازقها، وما جعل من ذكورها وإناثها، لتكثير نسلها وإحداثها، ثم جعل في الذكور من الشهوة للإناث، ما جعله سببا للجعل والإحداث، وجعل النسل في أصلاب الذكور، بتمام الحكمة والتدبير، ثم جعل لذلك النسل، مسالكا إلى أوصال الإناث، فاتصل بإذن موصله وانفصل من الأصلاب، بمشيئة الله رب الأرباب، فأحسن الصور في الأرحام بإكمالها، بعد أخذها من الأصلاب وإنزالها، ثم آخرجها من بطون الأمهات، وركبها للأغذية واللذات، فجعل لتلك النسول قبل أخراجها أغذية، لعلمه بفاقها، وجعل لتلك الأغذية من ألبان أمهاتها المركبة لهم في أجسادها، لعلمه بضعف الأطفال عن غيرها، مما يغتدي به بعد كبرها، فجعل غذاء الصغير بلطفه، غير غذاء الكبير لما علم من طفولته وضعفه، ثم ألهم هذه النسول رضع أغذيتها، ليتم بذلك ما أراد من حياتها.
مخ ۹۳
فياعجبا لأطفال البهائم العجم التي لا تعي ولا تعقل كبارا!! فكيف إلا صغارا!! كيف اهتدت لأماكن أغذيتها؟! أجل إن ذلك لمن غيرها لضعفها وصغرها، حتى كأن قد علمت ذلك علما يقينا أو حيرت عليه، أو قيدت قودا إليه، ولما علم الله عز وجل ما ركب من خلقه وجبل، وما نزل من الأرزاق وجعل، علم أن تلك الأغذية لا تتم إلا بالوصول إلى الأجساد، ومباشرة البطون والأكباد، فجعل سبحانه لذلك مسلكا فأوصله، وركبه لعلمه بفاقتهم وجعله، ثم بسط الرزق ونزله، فكم مخلوق عجيب الخلقة خلقه؟! ومرزوق لا يحمل رزقه؟!
فالحمد لله الذي تفضل علينا بنشأته وخلقه، وبسط لنا الكفاية من رزقه، ثم علم عز وجل بما خلق وفطر وجعل من الحكمة، ودبر وعلم بفاقة المخلوق إلى مخارج الأغذية، التي لو لا مخارجها ما لبث المخلوق حيا، ولا بقي من الدهر شيا، إلا وقتا يسيرا، ثم تصير نعمته عليه تهلكة وتدميرا، فجعل سبحانه لما علم بمولجه مخارجا، لفاقة المخلوق إلى مخارجه، ثم جعل للمتعبدين عقولا، لتكون لهم عليه دليلا، فسبحان من دلنا إلى معرفته!! وجعل لنا العقول برحمته!! ثم جعل لنا حواسا خمسا، عيانا وسمعا وذوقا وشما ولمسا، فجعل العيان لدرك المهيئآت، والأسماع لدرك الأصوات، والذوق لدرك المطعومات، والشم للروائح المختلفات، من الخبائث والطيبات، وجعل اللمس أعراض المجسمات، من الحر والبرد واللين والخشونات، وجعل الأجسام وما فيها من المفاصل للحركات، ودليلا على حكمة فاطر السماوات، وجعل العقول لتمييز الأمور، ومعرفة الخيرات والسرور.
مخ ۹۴
ثم لم يكلنا إلى ذلك دون أن أرسل إلينا الرسل والنبيين، مذكرين لنا من الغفلة ومخبرين، لما خلقنا له من النعيم والفضل من الله والكرم والتعبد، للفرق بين المطيعين والعاصيين، إذ لم يكن من حكمة الحكيم أن يساوي بين المحسنين والمسيئين، فياخالق الخلق، ويا باسط الرزق: أسألك أن تجعل آخر حياتي، وحضور وفاتي، على أكمل ما يكون من طاعتك، واتباع مرضاتك، والغضب لك، حتى تبلغني بفضلك ماله خلقتني، وأن تختار لي بعلمك، وتقبضني على أيقن يقيني، وتوفاني يا مولاي على شهادة ألا إله إلا أنت الحق اليقين، الصمد الواحد المبين، وأن ترزقني الحياة ما كان الحياة خيرا لي، وأن تمنن علي بالوفاة، في وقت طلبتي للنجاة، وسلوك سبيل الهداية، حتى تتم نعمتك علي وعندي ولدي!!
فقد علمت يا مولاي ندمي على ما هو من غفلتي، فأسألك يا مولاي سؤال من عرفك، واستدل عليك فأيقن بك، أن تقيلني ما كان من عثرتي، وأن تغفر لي ما علمت من خطيئتي، وأن تجاوز عن زلتي، فهاأنا يا مولاي مستعبد إليك، ومتوكل في كل أموري عليك، طارح لنفسي في يديك، فإن عفوت يا مولاي وغفرت، وعدت بفضلك فقد نجوت، وإن لم تغفر لي ما سلف فمن غيرك يا مولاي يغفر لي؟! وإن لم تهدني فمن غيرك يهديني؟! أو يوفقني أو يرشدني؟! وإن لم تنظر إلي فمن ينظر إلي؟! وإن لم تجب دعائي فمن أدعو؟! وإن لم تنجني فكيف أنجو؟! وإن لم أرجك فمن أرجو؟! وإن لم أحبك فمن أحب؟! وإن لم أطلب منك فمن أطلب؟! وإن لم أهرب إليك فإلى من أهرب؟!!
وصلى الله على محمد وآله وسلم تسليما.
- - -
مخ ۹۵
كتاب
الرد على عبدة النجوم
وغيرهم من فرق الملحدين
كتاب الرد على عبدة النجوم وغيرهم من فرق الملحدين
حسبي الله وكفى ونعم الوكيل، والحمد لله الذي ابتدأنا بالهدى، واستنفذنا من الضلالة والردى، نحمده على ما كثر من الدلائل عليه، والدواعي التي دعت أولياءه إليه، فمن استدل بها عليه نظره، ومن قصر عن فهمها لم يره، فأي دلائل على الله ما أدلها!! وأعظم قدرها وأجلها!! لقد بهرت عقل من عرفها من المؤمنين، ودلت من أيقن بالله من المستدلين، واضطرت العقول إلى رب العالمين، فدلائل الله عليه منيرة لا تطفأ، وشواهد صنعه ظاهرة لا تخفى، تدل من فكر في صنع الله وتدبيره، ومعجز فطرته وتقديره، ولا يكفر بدلائل الله وتبصيره، من اشتغل عن وعظه وتذكيره، وأقبل على لهوه وفجوره، وأنى يظفر بدلائل الله من أقبل على اللهو والمحال؟! وقل خوفه من الكبير المتعال، كلا لن يظفر بذلك من اشتغل عن آخرته بدنياه، وصد عن الله واتبع هواه، ولن يكون ذلك بالله من العارفين، ولا إليه من الهادين، ولا عنده من المقبولين.
مخ ۹۶
ومن لم يكن لله من العارفين، لم يكن أبدا من المطيعين، ومن قصد إلى دين الله ورغب في طاعته، وهو مختار لترك طلب الأدلة إلى معرفته، ورضي بجهله وغفلته، كان داخلا في الجهل بمعصيته، ومن كان بالله جاهلا، وعن دلائله غافلا، لم يكن عنده من المؤمنين، ولا به من الموقنين، إذ رضي بالجهل والنقصان، واشتغل عن المعرفة والإيقان، فهو في صفات الله متحير جاهل، وعن الدلائل عليه مستوهل ذاهل، إن عسف النظر في ذلك ارتطم في الضلال، وإن رضي بجهله فهو من أجهل الجهال، لا يملك لقلبه جنة من الشيطان، ولا يؤمن عليه الدخول في محضور ولا عصيان، وإن عبد الله عبده بغير خشوع ولا إيمان، وإن جاهد على الطاعة نفسه، لم ينفعه عند الله علمه وحرصه، إذ كان مطيعا بزعمه من لم يكثر دلائله عليه، ولم يركن حقيقة الركون إليه، وكيف يركن إلى ما هو عنه متحير جاهل؟! وعن العلم بدلائله زائل؟! فليس العمل إلا بمعرفة الله سبحانه، وجل عن كل شان شأنه، فالحمد لله الذي جعل الدلالات عليه للمستدلين، بما صنع من خلقه المصورين.
وبعد فإني لما نظرت الجهل قد شمل كثيرا من الأثام، وقلت معرفتهم لذي الجلال والإكرام، حداني ذلك على أن أضع كتابا للمتعلمين، ومن أراد معرفة الله من العالمين، وأراد التخلص من العذاب المهين.
مخ ۹۷
فنسأل الله التوفيق في ذلك بمنه، ونعوذ بالله من خذلانه، ونسأله التسديد بعونه، فإنه لا يوفق إلا من هداه، ولا يصيب الرشد إلا من خافه واتقاه، ألا ورحم الله عبدا حذر على نفسه من الدنيا، فإن محنتها أصل كل فتنة، والركون إليها أول كل محنة، تصد من أحبها عن ذكر الرحمن، وتشغل من نالها عن الخشوع والإيمان، وتدعو إلى طاعة الشيطان، فكل ما قضى من حوائجها حاجة طاشت به إلى أخرى، وأعقبته عند الله فقرا، فهو عن الموت غافل مغرور، وبلهوها جذل مسرور، وعن الله ذاهل مغمور، فهي تقوده إلى النار والعذاب، وتبعده عن رب الأرباب، فهو من الموت على ميعاد، وهي إلى تصرم ونفاد.
فنسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك لنا في قليل حياتنا، وأن يحضرنا عفوه عند وفاتنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة من عرفه حق معرفته، وأيقن به، وتخضع لعبوديته، ورجاء عفوه عما سلف من خطيئته، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفوته من بريته، شهادة من صدق بنبوته، وتقرب إلى الله بمحبته، واشتاق إلى لقائه ورؤيته، وأشهد أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، شهادة أرجو بها عفوه يوم النشور، وأشهد أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه كان خير البرية بعد نبيها صلى الله عليه وآله وسلم، وأشهد بإمامة ولديه الحسن والحسين ابني رسول الله الفاضلين، وأشهد أن الإمامة من بعدهما فيمن طاب من ذريتهما، وسار سيرتهما واحتذا بحذوهما، واقتدى في دينه بهما، اللهم يا مولاي فاكتبني بذلك مع الشاهدين، واشهد علي بالبراءة من الجاحدين، ووفقني لسبيل الراشدين، واسلك في طريق المهتدين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على مولاي وسيدي خاتم النبيين، وسيد الأولين والآخرين، وعلى موالي وسادتي أهل بيته الطاهرين، الأخيار الأبرار الصادقين.
مخ ۹۸
قال الإمام المهدي لدين الله الحسين بن القاسم عليهما السلام: ثم نقول من بعد توحيد خالقنا، والقول بالحق في الله سيدنا: إن سأل سائل مسترشد، أو قال قائل متعنت ملحد، كيف السبيل إلى معرفة الله جل جلاله، وظهرت نعمه وأفضاله، وبما يعرف، وما معرفته؟
قيل له ولا قوة إلا بالله: أما السبيل إلى معرفة الله القدير، فالفعل المميز للأمور.
وأما قولك: بما يعرف؟
فليس يعرف إلا بما أظهر من صنعه وتدبيره، ومعجز فطرته وتقديره.
وأما قولك: وما معرفته؟
فمعرفته اليقين بإلاهيته، والإقرار والتصديق بربوبيته.
فإن سأل سائل عن معرفة الله سبحانه وظهر دليله وإيقانه، فقال: أمعرفة الله اضطرار أم اختيار؟
فالجواب له في ذلك: أن معرفته اختيار، ولو كانت معرفته ضرورة كمعرفة الأرض والسماء، وغيرهما من الأشياء، لما كان بين معرفة الجاهل والعالم فرق، ولكان الخلق كلهم بالله عارفين، ولما كانوا أبدا جاهلين، ولكانوا جميعا به موقنين، وعلى معرفته مجمعين، وهذا محال عند أهل العقول.
فأما من كان من الجهال، وأهل الحيرة والضلال، فلن يزال ذلك في الشك مترددا حايرا، وعن اليقين بالله نائيا جائرا، إذا رضي بتعطيل ما ركب الله من عقله، واستغنى عن المعرفة بجهله، وإنه وإن كان بالله جاهلا، وعن اليقين به غافلا، فليس بمعذور في ترك طلب الدليل، والنظر والبحث عن الخطب الجليل، فإن عطل ذلك لم يكن معذورا، وإن كان عن الله جائرا مغمورا، ألإن الله عز وجل قد جعل له عقلا وفكرا، وتمييزا وذكرا، واضطره إلى درك صنع عجيب، لا يخلو في الفعل من أحد أوجه، من عطلها لم يضطر إلى حقيقتها إذ جهلها، وسنذكر إن شاء الله ما يصح لذوي الألباب، ويستدل به على الله رب الأرباب، وذلك أنا نظرنا إلى أنفسنا، إذ هي أقرب الأشياء إلينا، فرأينا كل جارحة من جوارحنا قد جعلت لسبب ومعنى، ولا يجهل الشيء لصلاح الشيء إلا عالم حكيم بما صنع وبنى.
مخ ۹۹
من ذلك ما شاهدنا، في جميع الحيوانات منا ومن غيرنا، من عجيب تصويرها، وإحكام صنعها وتدبيرها، وإصلاح منافعها وتعميرها، وما جعل الله لها من تفصيل أجسامها وتوصيلها، وشد أسرها وتعديلها، وإثبات مصالحها التي لو لا هي لهلكت ودمرت، ولما تناسلت ولا كثرت.
ومن ذلك ما جعل فيها من العقول لاختلاف المنافع ونفي المضار، والمفاصل التي جعلها للحركة والمجيء والإياب والإدبار، وما جعل من الحواس الخمس، من العيان والسمع والشم والذوق واللمس، وجعل كل حاسة لشيء بعينه، لما أراد من ثبات الدليل وتبيينه، إذ لا يجعل الشيء للشيء إلا حكيم، ولا يدبر ويصف إلا عليم.
ومن ذلك ما جعل من الذكور والإناث، وأبان في ذلك من الجعل والإحداث، فجعل كل زوج من ذلك يصلح للآخر بتقديره، لما أراد سبحانه من خلق النسل وتكثيره، ثم جعل للنسل معايش في صدور الإناث بلطفه، لما علم من فاقة الطفل وضعفه، وهذا ومثله فلا يتم إلا بعلم من عليم، وتدبير من صانع حكيم، ثم جعل سبحانه للأطفال بعد كبرهم معايش غير معايشهم في حال صغرهم، ليتم بذلك ما أراد من تعميرهم، فبسط لهم الكفاية من رزقه، بعد إكمال تصويره وخلقه، وجعل في الأجساد مداخلا للأغذية لعلمه بفاقتهم إليها، وجعل لهم مخارج لها إذ فطرهم عليها، فلما نظرنا إلى عجيب ما صنع وافتطر، وبين من حكمته وأظهر، صح عندنا بأيقن اليقين أن الحكمة لا تكون إلا من حكيم، لأن ا لحكمة لا تهيأ إلا لعليم، لأن الجهل ليس معه نعمة، ولا يتم للطبائع التي ادعا الملحدون علم ولا حكمة، لأن الموت لا يكون حكيما ولا سمعيا (1)، ولا يكون المصلح المنعم إلا رحيما.
فمن أنكر ذلك!! قيل له ولا قوة إلا بالله: ما نقول هل فيما ذكرنا حكمة تدل على الواحد الجليل؟
مخ ۱۰۰