المقالات والرسائل
الجمال والحب وأثرهما في الحياة
للكاتب الفاضل محمد حسين هيكل
لعل أرقى غاية يعيش من أجلها الإنسان أن يصل إلى اكتشاف الجمال المكتن في الأشياء التي تحيط به ولعل كل القوى التي يصرفها في أعماله والمجاشم التي يتجشمها والمتاعب الكثيرة التي تثقله بحكم الحياة والآلام التي تنتابه من حين إلى حين. لعل ذلك كله على الرغم مما كان يقتضيه بالطبيعة من إدخال اليأس إلى نفسه وتشجيعه على مغادرة عيش مملوء بالأحلام الفظيعة أكبر دليل على أن هناك له مقصدًا ساميًا غير الغرض المادي الذي يريد: هذا المقصد السامي هو تقديس الجمال وعبادته.
سألت نفسي مرارًا ما معنى الحياة ومن أجل ماذا أعيش. وسألت آخرين هذا السؤال فلم احر جوابًا في الأولى ولا رد على من سألت في الأخرى إلا بنوع من الحيرة تخالطه دهشة وغرابة حتى كأن صاحبي لم يسمع هذا السؤال حياته. والواقع أنه سمعه مرارًا. ولكن لما لم يكن يدري الغرض المحدود الذي يرنو له والذي يريد أن يظفر به من حياته. لما لم يكن يدري المعاوضة التي سيجدها يوم يريد أن يودع أرضنا إلى الفناء الأبدي المهيب لم يجد جوابًا يجيبني به غير الدهشة والحيرة.
أما أنا فأعتقد أن أرقى الناس مدارك وأدقهم إحساسات إنما يعيشون ويعملون ويحبون الحياة حبًا في الجمال الذي تحويه. ذلك شأنهم من أيام ما قبل التاريخ وشأنهم اليوم. ولو أنك أخذت أقدم الكتب التي يمكن أن تقع تحت أيدينا لوجدت المعنى الشعري يتمشى فيها من أولها إلى آخرها ولتبين لك مقدار خيال الغابرين من أجداد الإنسانية وولوعهم بالطبيعة التي تحيط بهم وتقديرهم لما تحويه من جمال. كما أن الكتب العلمية البحتة في هذه العصور الحاضرة أي حين جاهد الكتاب للتفريق بين العلوم والآداب ما أمكنهم لا تخلو من الوصف الدقيق والولوع بالجمال في أدق الأشياء إلى حد كبير. بل أن أكثر الناس ولوعًا بالطبيعة وجمالها جماعة العلماء أمثال دارون وسبنسر. وكفى دليلًا على ذلك بحثهم فيها وتنقيبهم عن مخبآتها.
والواقع أن العلم فتح أمامنا بابًا واسعًا نقدر منه تقديرًا أدق ما تحويه الأشياء من إبداع
3 / 35