العدد ١ - بتاريخ: ٢٤ - ٨ - ١٩١١
ناپیژندل شوی مخ
الكتاب والآداب
الحمد لله أودع الكتاب صوت الماضي وروحه بعد أن فنيت مادته وانعدمت ذاته فأصبح كحلم مضى وعهد انقضى انظر كم يشيد البناؤون من المدن والدور والهياكل والقصور والقلاع والحصون والساحات والصحون وماذا يوسعون فيها ويفسحون ويعلون من ذراها ويشرفون فما مسير كل ذلك وأين يذهب يغوله صرف الزمان وبيده طارق الحدثان ويلتهمه من الوقت بحر شديد الصولة على الإنسان وآثاره يسطو بها فيفنيها أو يكاد الله إلا شيئًا واحدًا أعني الكتاب فإنه الخالد الباقي السالم على عواصف الدهر اللائح من خلال أمواج الزمن كخيال النجم في جوف المحيط.
أين أمة الأعراب - وصيدهم (ملوكهم) والقواد وأين أندلسهم وبغداد عصف الدهر بها إلا رسوما دارسات وطلولا داثرات ولكن أعمد إلى صحائفهم وافتح إحداها فهنالك العرب ومجدها والدولة وسؤددها تحي في تلك الصحف وتخفق وتتحرك وتكاد تنطق فلله من يرى شبرًا من الورق يضم أمة ورجالها ودولة وأعمالها ويستوعب آراءها وأفكارها ونتائجها وآثارها فما أصغر الكتاب وما أكبر وما أعظم وما أحقر وما أضعف وما أقوى وما أفقر وما أغنى.
ويعجبني ما قاله أحد الحكماء إن مخلفات الماضي ثلاث المدن والمزارع والكتب وليست الكتب كالمدائن لا يبرح الدهر ينال منها ويتخون ولكنها أشبه بالمزارع إلا أنها مزارع ذهنية أو ما ترى الكتاب كشجرة روحانية تنمو على الزمن أصولها وتسمو فروعها وتطلع كل عام أوراقها الجديدة من الشروح والحواشي والانتقادات والردود وما إلى ذلك - فيا أيها القادر على إظهار كتاب لا تحسد الملك بأني المدن ولا الفاتح الغازي مخربها فأنت كذلك فاتح منصور مظفر ولكنك منصور على الضلال هازم للشر والباطل وأنت كذلك رب بناء ولكنه بناء أبقى على الزمن من الصخر والحديد والمرمر - بناء العقل ومدينة العلم وكعبة اليقين التي يحج إليها بنو البشر وسكان الأرض كافة.
والكتاب أيدك الله أكبر قوة لترقية المدينة والأخذ بيدها لأنك تراه مصدرًا للعلم والعرفان ومنبعثًا لنور التقى والإيمان ولسانًا يذيع حجة الحق وسلاحًا ينتصف من القوي للضعيف فأما أنه مصدر العلم فذلك لأنه متى حذق الطالب أوليات فن من الفنون وبلغ شأوا يدرك معه كل ما كتب في ذلك الفن فأي حاجة هناك إلى المدارس والجامعات إنما أستاذه اذذاك
1 / 1
الكتاب وكل بقعة صلحت وطابت سواء بين المائدة والسرير والروضة والغدير أو على ظهر الماء أو في ذروة شاهقة شماء فهي مدراسه وجامعته.
وأما أن الكتاب منبعث لنور التقى والإيمان فذلك لأن كل كتاب صالح إنما هو منبر تسمع منه داعى الخير وصوت الحق وخطيب الحكمة والموعظة الحسنة فأنت من كتابك الصالح في محراب ومسجد ومعبد وأنت منه بحضرة ملك كريم أجنحته تلك الصحائف المنقوشة وهل ترى الشعور الشريف بحلوه لك الكاتب الكبير في أكرم حلة من اللفظ فيدب في نفسك دبيب الغناء - إلا من قبيل العبادة وباب الصلاة والتسبيح: وهل ترى الشاعر يظهر لك من جمال زهرة البستان ما كان من قبل غامضًا عنك إلا دالا إياك على فرع من ينبوع الجمال الكلى وعلى سطر خطه القلم العلوي في صحيفة الوجود وحلية صاغتها يد الصانع الأكبر وآية جديدة من آيات الله تدل على أنه الواحد.
وأما أن الكتاب لسان لإذاعة حجة الحق وسلاح ينتصف به من القوي للضعيف فذلك لأن الكتاب صوت الشعب يحامي عنه وينافح ويعرب عن مطالبه ويبين عن حاجه ومآربه فهو برلمانه قبل البرلمان ودستوره قبل الدستور وما القلم في ذلك إلا خطيبًا يسمع الشعب أجمع فهو لهذا قوة عظيمة وفرع من فروع الحكومة له شأن في وضع القوانين والشرائع وفي كل عمل ذي بال ومما لا شك فيه أن كل شعب لا محالة محكوم أو سيكون محكومًا بأرباب الأقلام من أبنائه وذوي الصوت من أهله.
والكتابة نوعان علمية وأدبية فالأولى ما كان أساسها الفحص والتنقيب للوصول إلى الأصول والنظر في الجزئيات لاستنتاج القواعد العامة كعلوم طبقات الأرض والطبيعة والكيمياء والطب والهندسة ما إليها وأما الثانية فهي ما كان محورها وصف الأشياء وصفًا يراعى فيه لذة القارئ قبل كل شيء ثم النصيحة والفائدة بعد ذلك ويكون الوصف من الدقة وحسن البيان بحيث يمثل لك الغائب حتى يقلب سمعك بصرًا فإن كان الموصوف إحساسًا أثار الوصف نفس هذا الإحساس في قلبك وإن كان شهوة هيجها بعينها في نفسك ولا بد من أن يكون الكاتب رجلًا عظيمًا يبصر من أسرار الموصوف وبدائعه ما يخفي على معظم الناس فإن قدم لك الشيء أعارك عينيه لتبصر بها فأنت هو ما دمت تقرأ آياته وتتأمل معجزاته ومن هذا النوع الشعر منظومه ومنثوره والقصص والروايات والسير والتاريخ
1 / 2
والخطب والمواعظ وكلام المتصوفة وكل مارقق الكبد واهتاج الفؤاد.
ولقد ذاع في هذه الأيام بين العامة وأشباههم من الخاصة مذهب مأفون أن للعلميات الفضل الأول والمنزلة العظمى وإن الأدبيات قليلة القيمة عديمة الجدوى ذلك أن الأولى مثمرة للمال والثروة مجلبة للسعادة والرفاهية وما الأدبيات إلا ملهاة للعقول ومروحة للنفوس وما الشعر إلا داعية لعب وباعث طرب وإن ليست الفكاهات إلا حامل على السخف ومسقطة للمروءة - وقد فات هؤلاء أن للإنسان شعورًا كما أن له معدة وإن له روحًا كما أن له أنيابًا وأضراسًا وأنه يحتاج إلى غذاء مادي من الحنطة والبقول والحلوى وإن أقدس واجبات الإنسان وأول غرض خلق لأجله هو معرفة الله في مصنوعاته وذلك ما لا يكون حتى يكشف له الشاعر والكاتب عن بدائع هذه المصنوعات ومعجزاتها وإن الإنسان في الأرض كناسك في معبد وراهب في صومعة يقرأ في النجوم إنجيلًا وفي سطور الزهر توراة ويسمع في ترنم النسيم مزامير وفي تغريد الطيور زبورًا وليس الإنسان في هذه الأرض كالحيوان الأعجم لا شأن له إلا الخضم والقضم.
لشد ما أخطأ الناس معنى الحياة فحسبوا الحياة مجرد الوجود وإنما هي لعمري الشعور والفهم والتمييز وإن يجعل الإنسان عقله ميزانًا يزن الخير والشر وإن يشعر نفسه الصدق والكرم والحياء والعفة والإخلاص والتقى واليقين.
ولا ننكر أن في الماديات شيئًا من النعيم وإن الرجل الذي تنتهي آماله في المعدة وتقف مآربه عن الحلق ولا تطمح روحه إلى ماوراء ستار مزركش أو سقف مزخرف ينعم بنوع من اللذة ولكني أحسب الإنسان فوق ذلك: قال أحد المزاح: لا ريب في أن المرتب الضخم لذة كما من اللذة أن يدعم الإنسان عيشه بأساس متين من الذهب ومن اللذة أن يكفي المرء حاجه ويروح بعيشة راضية ونعمة فسيحة ومن اللذة أن يتكئ المرء في كرسي الوظيفة ويقبض ألفا في العام ولا ريب في أن اللحم والفاكهة والسمك تقوي البنية وتبعث في الوجه حمرة العافية ولكني مع ذلك أرى أن النصب في ابتغاء المجد الصحيح أشهى والفقر في طلاب الحق أعذب وأحلى.
ما سرني اللؤم والغضارة في العي - ش بديلا بالمجد والقشف
أجل هناك مطمحًا وراء حشو المعدة وتلبية الشهوة والناس الآن أحوج ما يكونون إلى
1 / 3
نهضة أخلاقية نتيجة نهضة أدبية فلقد أوشك الإنسان كما قال أحد المزاح أن يقع في المعدة حتى أصبح من الواجب أن يرجع إلى مكانه من العقل ويثوب إلى مثابته من القلب. وأصبح الأمر الأهم والمسألة الكبرى النظر في شرف الإنسان وعظمته وذلك مالا يكون إلا بالشاعر وكاتب الأدب.
الآداب مصدر المدنية الصحيحة والشعر مبعث الشرف والعظمة ومن ثم كانت الآداب إحدى حاجات الأمم وكان الشعر أمنية الروح ومطمح الأنفس ومن ثم كان الشعراء أول أساتذة العالم ومن ثم وجب أن ينفث الشعر في أفئدة الخلق وأن يترجم إلى العربية شعراء الغرب قديمهم وحديثهم وشعراء الفرس والديلم والهنود وتصب أبياتهم وأبيات العرب في روح هذا الشعب صبك الماء في المكان الجديب.
قال أحد كتاب الفرنسيس: من كان ينكر أن الآداب مصدر المدنية فليلق نظرة في إحدى إحصائيات السجون وإليك مثالًا: كان في سجن طولون عام ١٨٦٢ عشرة وثلاثة آلاف مجرما ألف وسبعمائة وتسعة وسبعون منهم كانوا أميين وتسعماية وأربعة لا يجيدون القراءة والكتابة ومائتان وسبعة وثمانون يقرأون ويكتبون وأربعون يعرفون شيئًا طفيفًا فوق الكتابة والقراءة فكان معظم هؤلاء الأشقياء من ذوي الحرف المنحطة الدنيئة وكان العدد يقل كلما سموت إلى الحرف المستنيرة حتى يصل لك الأمر إلى هذه النتيجة: كل من في السجن ذو مهنة منحطة إلا أحد عشر أربعة من باعة الجواهر وثلاثة من خدمة الكنائس واثنان من الأطباء وممثل واحد وموسيقي واحد ولا متأدب ولا أديب: هذا الدليل قاطع إذا كانت المدنية كما نفهم نحن هي رقي النوع عقلًا وخلقًا مع ما ينجم عن ذلك من الهناء والسعادة ولكن الماديين المتعصبين للعلميات الذين إن تسلهم عن المدنية قالوا إنما هي الكهرباء والفونوغراف والمنطاد والتلغراف لا يرون النعيم إلا في هذه الأشياء فهل خيل إليهم أن السعادة أمر لا يدرك إلا بالقطار والكمال غاية لا تبلغ إلا بالبخار أو حسبوا أن البالون يعرج إلى الجنة فيما يعرج: ولا يسعني في هذا المقام إلا ذكر كلمة للحكيم راسكين هي أبدع ما قيل في هذا الصدد قال:
أيظن الماديون أن الانتقال من مكان إلى آخر بسرعة مائة ميل في الساعة أو نسج الأقمشة بمقياس ألف متر في الدقيقة زائد في سعادة الإنسان فتيلًا أو قطميرًا وكيف وأرض الله من
1 / 4
امتلائها بالطيبات والمحاسن بحيث لا يكاد المرء يلم ببعضها ماشيا الهوينا فماذا عساه يدرك منها طائرًا بأجنحة البرق أو جامحًا في عنان البخار فلا يحسب الماديون أنهم استعبدوا الزمان والمسافة بمخترعاتهم فإن المسافة والزمن يأبيان بطبيعتهما الاستعباد ثم لا حاجة بالإنسان إلى استعبادهما إنما الحاجة والثمرة حسن تصريفها ومن ذا يرغب في تقصير الزمن والمسافة إلا أحمق فأما العاقل فيود لو طالت له المسافة والوقت نعم ويحب الأحمق أن يقتل الزمان والمسافة ولكن رغبة العاقل في أن يحرزهما ليحييهما وما السكة الحديدية إن فكرت إلا أداة يراد بها تصغير الدنيا ثم لا بأس على المرء إن كان حرًا مخلصًا أن يسير على مهل لأن مجده ليس في السير إنما هو في العمل فإذا قال قائل القطار نافع لأنه يعيننا على نقل العلم والعرفان إلى الأمم المتوحشة قلنا له قد صح قولك لو كان لديك علم ينقل أما إذا لم يكن لديك سوى السكك الحديدية والبخار والبارود فماذا تصنع أتزعم أنك تريد نشر الدين بين التوحشين. ولو كان ذلك غرضك لقد أمكنك تنفيذه بلا بخار مدة ألف وثمانمائة عام أي منذ ظهور النصرانية إلى وقت اختراع القطار غير أني رأيت أحسن التعليم الديني ما أحدثه أهله على القدم ولعل القدم في مثل هذا الأمر أسرع من القطار. أو تزعم أنك تريد تعليم المتوحش العلم - علم الحركة والطعام والدواء - فهبك لقنته سر البخار فطار بعجلاته وسر الأكل فأجاد السلق والشي والخبز وسر الطب فعرف كيف يأسو الجرح ويجبر الكسر فماذا بعد ذلك؟ أتراك بعملك هذا قد أدنيت المتوحش خطوة من السعادة أو قربته قيد شبر من المدنية الصحيحة. كلا. بل إن أسباب السعادة أقرب إلينا من كل هاتيك الأشياء ولكنا لا نفقه ولا نبصر ووالله ما أبعدنا عن الصواب حين نحسب أن المدنية والسعادة هما في مناعم الخوان واللباس وفي ملاذ الصيد والسباق وفي مسرات الحفلات الليلية وما بها من الغناء الممل المضجر والملابس المثقلة المتعبة وفي التنافس في المنصب والسلطة والثراء والصيت وما أبعدنا عن الصواب وأضلنا عن الجادة حين نظن أن مثل هذه الحقائر هي مما يجوز لنا أن نفخر بإذاعته بين الشعوب المتوحشة والأمم البربرية.
ولعل المتوحش حين يتعهد غرسه ... ويجتذب على المحراث والمعول نفسه
ويصبو إلى حبيبه كلفا ويحن إلى عهد الصبا شغفًا ويملأ صدره رجاء ويتهل إلى ربه دعاء
1 / 5
أقرب إلى المدنية وأدنى إلى السعادة - فهذه هي أسباب الهناء ودواعي الصفاء وعلى عرفاننا بها وتعليمنا الناس إياها يتوقف نعيم العالم وسعادته فأما على الحديد والزجاج والكهرباء والبخار فلا.
وإني من حسن الظن وجميل الرجاء بحيث آمل أن يهتدي الناس يوما ما إلى هذه الحقيقة فإنهم قد التمسوا السعادة من جميع الوجوه إلا الوجه الصواب وضربوا في كل طريق إلا الطريق الأسد. وكأني بهم سيجربون الوسيلة الصحيحة والطريقة المثلى بطبيعة الحال إلا تراهم قد جربوا الحرب والتجارة ومظاهر الأبهة والفخامة وجربوا البخل والكبرياء والتحاقر والتصاغر وكل أسلوب للعيش وطريقة للحياة توقعوا من ورائها فضل الهناء والسعادة. وشموا من تلقائها رائحة الغبطة والنعيم - نعم وبينما هم يمتطون كل صعب في سبيل السعادة ويركبون كل عوصاء إذا بالسعادة قد أوجدها الله بمرأى عيونهم في سحب السماء. وبمنال الفهم في نبات الروضة الفيحاء وكثيرًا ما رأينا الملك الجليل والسلطان الكبير قد كثرت عليه آفات الملك وفدحته أعباء الدولة فخرج هاربًا على وجهه ثم ما لبث أن وجد المملكة العظمى والراحة الكبرى في قيراطة من الأرض وذراع من الظل ولكن الإنسان لم يصدق ذلك وما يزال يضرب صفحًا عن السحاب ويقتلع النبات يقيم مكانه الصانع والمداخن ويطلب السعادة من غير وجهها حتى عثر أخيرًا على العلوم الطبيعية فحسب ضلة وخطأ أن السعادة في مكتشفات الكيمياء ومخترعات الطبيعة فشحن السحاب في الأوعية الحديدية وأرسلها تجري مجرى السحاب واستخرج من النبات خيوطًا فنسجها ثيابًا له جيدة رخيصة وظن أن هذه هي السعادة - ظن أن المسير بسرعة السحاب ونسج كل شيء من أي شيء منتهى الهناء والنعمة.
ولما كذبت في ذلك أيضًا ظنونه ورأى أن السعادة ما زالت منه كأبعد ما كانت أصبح يفتش عن غلطة جديدة يرتكبها ولكني أحسب أنه قد استنفد في هذا الأمر جميع الغلطات فلا غلطة هناك بعد فأما وقد نفدت حيله وعلم أنه لا فرق بعد الاعتياد بين السير الحثيث وبين البطيء وأنه ليس في استطاعة مصانع مانشستر وما تخرج من الأقمشة والثياب أن تكسب الإنسان راحة النفس ورخاء البال فرجائي أنه سيعلم بعد ذلك أن الله ما صبغ حواشي السحاب وألبس السندس مناكب الغاب إلا ليسعد الإنسان برؤية الخالق في آثاره وبتنفيذ
1 / 6
أوامره تعالى من نشر الأمن والسلام وبث الخير والبر بين جميع مخلوقاته على السواء وليس إلا بهذا يبلغ الهناء وتدرك السعادة.
هذا مذهب راسكن ومذهب كل مؤمن بالله طاهر النفس صادق النظر بعيد الرأي شغلته محبة الله عن حب ذاته وصرفته دواعي المروءة والبر والرحمة عن خدمة الشهوات وإطاعة الأهواء ورأى في عجائب الكائنات وروائع الأرضين والسموات مندوحة عما يشغل الجهلة الأغرار من زخرف الدنيا وزبرج الحياة ولعبات الأطفال والصبية: ولعل في كل إنسان مقدارًا من الإيمان صغيرًا أو كبيرًا بحسب فطرته تبديه التربية الحسنة والتفقيه في الدين وعلوم الأدب وليس أبعث لهذا الإيمان من الشعر الكريم الفاضل فإن نفس الحر لتشعر بشغف عظيم إلى أشياء مجهولة ومعاني مبهمة وتحن حنينًا شديدًا إلى روح ذلك الجمال الخفي فهي كالأعمى الذي يعشق الحسان من غيران يراها ولا تزال تتلهف على ذلك السر الغريب وتهيم حتى ينشد الشعر الرائع النفيس فيجلو عمى النفس فتبصر الجمال الغريب الذي طالما اشتاقته ونزعت إليه: هذا الجمال هو أثر الله الذي لا تخلو منه ذرة من الوجود والذي يراه أهل اليقين وذوو القلوب المبصرة والذي قد كان يراه الجهلة الكفار الأغبياء لولا ما ضرب الشيطان (حب الذات) على قلوبهم وأبصارهم ويعجبني جدًا ما قاله الحكيم الإنكليزي وليم هازلت في هذا الموضوع
من فضل التربية الأدبية إنها تلطف الحسن وتهذب الذوق وتفسح مدى النظر وتبعد مسافة الرأي وتعود النفس أن تعني من شؤن الخلق وأحوال العالم بمثل ما تعنى به من شؤنها وأحوالها وأن تحب الفضيلة لذات الفضيلة وأن تؤثر المجد على الحياة والشرف على الغنى ومن فضل التربية الأدبية أنها تبعث أفكارنا إلى ما بعد عن مدارك البشر من معاني الجمال ونأى عن مشاعر الخلق من آيات الشرف والجلال فتعقد الصلة بين نفوسنا وبين أسرار الأبد وتمزج أرواحنا بروح الله ومن فضلها أن تنزع الجبن من قلوبنا وتسل من أفئدتنا مهابة الملوك والجبابرة فتعتق رقابنا من رق الخضوع للسلطة الظالمة والألقاب الكاذبة.
نعم إن بالنفس الإنسانية مهما كانت نزعة إلى الجمال أينما كان وحنينا إلى أن ترى عيشًا نعم مما يكون عادة في هذه الدنيا وحياة ألذ وسنة أعدل ونظامًا أكمل والإنسان لا يزال يتمنى الأماني العذبة ويحلم الأحلام المعسولة ثم لا يجد إلا حقائق مرة ونتائج سيئة وأحوالًا
1 / 7
كريهة فيصبح لذلك من نفسه في سجن وظلمة وفي كرب وغمة فمن له بمنقذ من ذلك الحبس والوحشة وكاشف لذلك الضيق والغصة ومن له بمن ينقل ذهنه إلى عالم مصور من اللذة والنعيم والصفاء والرخاء لا سنة فيه إلا العدل والإنصاف تثاب الفضيلة فيه أحسن الثواب ويحل بالرذيلة أنكل العقاب من للإنسان بذلك إلا القصصي والشاعر ألا ترى الطفل إذا فرغ من آفات النهار ومكارهه زحف في العشاء إلى أمه أو أبيه أو جديه يسألها حكاية أو قصة ثم يراها مهما حقرت مملوءة باللذائذ والرجل يأتيك يستعير منك رواية يقرأها أعني يستعير منك بضع ساعات يتحول أثناءها شاعرًا يصور الأمور والأحوال كما ينبغي أن تكون لا كما هي كائنة أو ما ترى الرعاع والغوغاء يذهبون أفواجًا أفواجًا ليسمعوا من المحدثين أقاصيص عنترة وأبي زيد وكيف يذوبون رقة وصبابة عند أحاديث الحب والغرام وتغرورق عيونهم عند ذكر الأشجان وسماع المراثي وتحمى الدماء في عروقهم عند الحماسيات والمفاخر ألا ترى الموسيقى الذي هو شعر الأفئدة لا يصدح بمكان حتى يعود كعبة القصاد ومنهل الوراد فبربك أيها العود ماذا تقول وبماذا تحدث القلوب حتى تنصاع إليك هذا الانصياع وتسرع نحوك هذا الإسراع وبربك أيها الصوت الرخيم من أين جئت حتى كان لك من اللذة في الروح مالم يك لشيء غيرك فلا شيء في هذه الدنيا كلذتك إنما تلك لذة قدسية تصف لنا نعيم الجنة.
ولقد سمي أدباء العرب أمتع الشر وألذه المرقص وما عدوا في ذلك عين الصواب فإن الشعر الجميل ضرب من النغم لا يكتفي بأرقاص الأعضاء حتى يرقص أجزاء النفس بعد إذ هي جامدة فتنطلق انطلاقًا لا تعود قط بعده إلى حالها الأولى من الجمود وما من إنسان إلا وفي طبعه ميل إلى عالم الجمال واللذة أعني إلى عالم الشعر والقصص وهذا الميل يشتد في ذوي الأمزجة الحارة حتى يكون غليلًا فأما أن يروي من مناهل الرواية والنظم وإلا نزع بصاحبه إلى مواطن الإثم والجريمة أو طوح به في مهواة الجنون وهذه حقيقة لا نعلم كيف يقف أمامها الماديون القائلون بأن الشعر والأقاصيص ومحدثات الخيال آخذة في الاضمحلال مشفية على الانقراض: رأي فائل ومذهب باطل لا نرى في تفنيده أبلغ من الكلمة الآتية لفيكتور هوجو وبها نختم هذا المقال الذي قد تنفي عظاته ما يحدث طوله من الملال.
1 / 8
يزعم الكثيرون ولا سيما سماسرة الأسهم والسياسيون أن الشعر يتلاشى ويضمحل فهذا كقولهم أن جمال العالم يتلاشى ويضمحل وأن الرياض قد خلعت وشي برودها وحلى ورودها وأن الشمس قد أضلت مشرقها بعد أن فقدت رونقها وأنك قد تجوب جنات الأرض فلا يباسمك ثغر إقحوانة ولا يفغمك عبق ريحانة وإن القمر قد قوض خيام نوره بعد أن طوى أطناب شعاعه والبلبل قد وجم بعد طول ترتيله وتسجاعه وإن الليث قد خرست زماجره وقلمت أظافره والنسر قد هيض جناحه وكف طماحه والسحاب قد حبس ودقه وأطفأ برقه وإن البطون قد ضنت بالحسن والمليح وجادت بالسيء والقبيح فلست ترى وجهًا جميلًا أو طرفًا كحيلًا أو خصرًا نحيلًا أو خدًا أسيلا وإن الرأفة ضاعت فلست ترى باكيًا على قبر أو واقفًا بطلل تفر يبكي عهود الأحباب والحبائب ومنايا الأصحاب والأقارب وإن الحنان قد زال فلا أم ترأم ولدها ولا ابنة تجب والدها وإن المروءة قد قضت نحبها وأسلمت الإنسانية رمقها.
1 / 9
تاريخ الإسلام
مقدمات
المقدمة الأولى
قدم التاريخ - التاريخ فطرة في الإنسان - ماهو التاريخ - الطريقة المثلى في التاريخ - أركان التاريخ - عطمة التاريخ الإسلامي - واجبات مؤرخ الدين - ما هو التاريخ الإسلامي - طريقتنا في تاريخ الإسلام - ماذا نقصد إليه من تاريخ الإسلام - المصادر التي اعتمدنا عليها في تاريخ الإسلام -
التاريخ علم قديم وجد مع الإنسان وليست أمة في أقصى غايات التوحش إلا عالجت إثبات تاريخها على حين أنها من الجهل بالحساب بحيث لا يمكنها أن تعد خمسًا - وقد كتب الأقدمون التاريخ بالخيوط الملونة وبالريش المجعول في شكل صور وبالخرز والصدف وبالحجارة أهرامًا وهياكل - ذلك لأن الزنجي والرومي والأصفر والأحمر كلهم يعيش بين أبدين ويخشي إذا ما مات أن يمسح الدهر ذكره ويمحو البلى أثره فلذا تراه يبذل الجهد في إثبات عهده في صحيفة الوقت وعقد طرفي سيرته بالماضي والمستقبل.
ولعل ملكة التاريخ فطرة في الإنسان فكل إنسان مؤرخ ألا ترى أن ذاكرة المرء إنما هي صفحة تاريخ مشحونة بالأخبار والروايات بعضها للأفراح وبعضها للأتراح وشطرها للفوز وشطرها للخيبة فكأن في كل نفس دولة قد سجلت في لوح الحافظة حظوظها من سعد ونحس وحالاتها من بؤس ونعيم وشؤنها السياسية خارجية وداخلية - وهل ينطق أغلب الناس إلا ليقصوا ويحكوا ويلقوا عليك لا ما جادت به قرائحهم بل ما لاقوا وما جربوا وما قاسوا وما كابدوا ثم تصور ماذا يكون لو حيل بين الناس وبين حكاية الحوادث وذكر الأخبار والنوادر إذن لجفت أنهار الحديث ونضبت عيون القول وعاد الكلام خطرات تخطر بين ذوي الألباب من حين إلى حين وتلاشي بتة بين العامة وأشباه العامة وكذلك ترى أن كل أعمالنا تاريخ وكل أقوالنا تاريخ.
وكذلك ترى أن علم التاريخ أي علم معرفة الحوادث الجسام وما أثرت في أحوال البشر من أجل العلوم قدرًا وأردها نفعا وهو في عصرنا هذا أجل منه وأرد في سائر العصور لأنه لما كان الأقدمون أقل علمًا وفلسفة وأكثر سذاجة وقوة خيال كان التاريخ عندهم مجرد سرد
1 / 10
المدهشات واقتصاص الأعاجيب لا يتوخى في ذلك سوى اللذاذة وتفكهة النفس أما الآن فوظيفة التاريخ هو التعليم في قالب حلو شائق وعرفوه بأنه الفلسفة تعلم الناس بالمثال والتجربة في أسلوب جميل وكذلك ترى أن أكبر صفات المؤرخ أن يجمع بين ملكتي الخيال والحكمة أي أن يكون شاعرًا وحكيمًا معًا حتى يأتي كلامه فلسفة في صورة قصص خلاب يأخذ بمجامع القلب فإن استبدت فيه قوة الخيال خرج قوله خرافة وإن ذهبت به ملكة الفلسفة جاء كلامه نظرية وكلاهما انحراف عن المحجة
ولقد درج المؤرخون قديما وفي الحديث على أن يقصروا كلامهم على الأمراء والقواد وما يكون في قصور الملوك ومواطن الحروب كأن ذلك هو كل ما يوجد في أرض الله الطويلة العريضة وكأن ليس في العالم إلا القواد والملوك وإلا حفلات القصر الملوكي ودسائس البلاط وإلا صليل السيوف وصهيل الخيل وقعقعة المدافع وإراقة الدماء وغاب عنهم أن بعيدًا عن هذه المواطن يتدفق نهر الفكر وبحر الإنسانية الطامي في مجراه العجيب طورًا في ظلمة وتارة في ضياء وانتصر الجيش أو انهزم ونجحت المكيدة أو خابت كل ذلك عنده سواء وأن هنالك عالما من الإنسانية يزهر وينضر ويثمر في شمس السعادة والرخاء أو يصوح ويذبل ويموت في ظلمة البؤس والشقاء فمن اللائق بالمؤرخ النافع ولا سيما في هذه الأجيال أن ينصرف عن وصف الأفراد ونعت ماكان من الحوادث ليس له الأثر العظيم في تعديل هيئة المجتمع وتحوير حاله - إلى وصف المجتمع نفسه وتحليل أجزائه وفحص مكينته حتى يصبح القارئ منه كالذي ينظر إلى دخيلة مكينة ساعته لا كالذي يظل من ذلك على جهل ويكتفي بسماع الدقات.
والحق أقول أن من دقق النظر وجد أن أجهر الحوادث التاريخية صوتًا وأعظمها جلبة ليس في الحقيقة شيأ وإنما أخطر الحوادث وأشرفها ما وقع في سكينة وصمت فإن الشجرة العظيمة تحطم فتدوي لهول مصرعها أنحاء الغابة وتبذر كف النسيم ألف حبة فلا تحس لذلك أدنى حركة وكذلك الحروب والوقائع وضجيج الفوارس وقعقعة السيوف تصم الآذان ساعة كونها وتدير كأس الفوح فريق وقدح الغم على آخر ثم لا تلبث أن تزول كأنها لم تكن فهي كالأعراس والمآتم.
* سحائب صيف عن قليل تقشع *
1 / 11
وبعد فعلى المؤرخ إذا أراد أن يكتب تاريخًا نافعًا أن يطرقه من جميع أبوابه ويتسرب إليه من سائر وجوهه وهي (١) الوجه السياسي وهو ذكر إدارة الحكومات وعلاقاتها من حروب ومعاهدات و(٢) الوجه الديني وهو أهمها من حيث أنه يهمنا من صلاح سريرة الإنسان وطهارة نفسه أكثر مما يهمنا من صلاح جسمه وصحة علانيته لأن الأصح جسمًا لا يعدو كونه الأشد قوة وأمنًا والأمن والقوة وحدهما ليسا من الخير المحض والسعادة الصريحة في شيء إنما الخير المحض في التقى والإيمان وكذلك كان الأمر الأهم للإنسان هو العقيدة التي يراها ما يرجى أن يبلغ من مراتب الفضل في الدين لا مذهبه السياسي ومبدأه الحكومي وعلى المؤرخ الديني إذا أراد أن يبلغ الغاية أن يعدل بنظره عن مصطلحات الملل والنحل وظواهرها إلى أعماق سرائر الناس يستشفها من وراء أعمالهم وأقوالهم فيعلم في ارتقاءهم أم في هبوط وانحطاط و(٣) الوجه الفلسفي وهو آراء الإنسان ونظرياته في ماهية خلقه وخلُقه وفي صلته بالكون الظاهر والخفي - وهذا النوع من التاريخ إذا صلح فرع من التاريخ الديني لأن الدين والعبادة جسم يجب أن تكون روحه الفلسفة وقدمًا كان الفيلسوف والكاهن رجلًا واحدًا: ولكن الفلسفة قد انحرفت عن هذا الطريق وما كان بين المؤرخين من عمل على تقريب المسافة بين المذهبين حتى أصبحت عبادة آيات الله (الدين) وفحص آيات الله الفحص العلماني (الفلسفة) يسيران في منهجين متباينين و(٤) الوجه الأدبي والشعري وهو تأثر الإنسان ببدائع صنع الله من حيوان ونبات وجماد وكيف يتغير هذا التأثر بتغير الزمان والمكان وكيف أثر في النفوس والطباع رقة وتهذيبًا وتثقيفًا وتنويرًا وما حدث عنه من التطورات والانقلابات والثورات وكيف أن وجود الشعر والأدب وغيرهما من الفنون الجميلة في أمة ما كان يهذبها ويرفعها ويقربها درجات من الله ومن عيشة الملائكة وإن عدم وجوده كان يضع الأمة ويتركها تدب كالحشرات على مساحف الجهل في هواء ملم قفر من النغم والألحان: ويلي ذلك الوجه التشريعي وهو ما يبحث في وضع القوانين والشرائح وهيئات الحكومات ثم الوجه الطبي والرياضي والفلكي والتجاري والصناعي - هذه هي أركان التاريخ الصحيح التي يجب على من يتعرض لتاريخ أمة من الأمم أن يوفيها حقها من البحث والتحليل وإلا فليس هناك تاريخ وإنما هي أرقام وتقويم أيام.
1 / 12
نعم وإذا كانت الأمم تتفاوت في الأولوية بهذا الواجب فأولى الأمم بذلك وأجدر هي تلك الأمة الحافل تاريخها بالعبر والعظات والأعاجيب والمدهشات تلك الأمة التي أسست على أعظم دين نبغ في هذه الأرض وقام للشرائع والعلوم والآداب فيها دولة بل دولات تلك الأمة التي تحسر دون عظمتها الظنون وتفحم بنعتها قرائح الشعراء وتخرس عن العبارة عنها شقاشق الخطباء ويركع أمام هيكل تاريخها المقدس أكبر المؤرخين إعظامًا وإكبارًا تلك الأمة بل الأمم الإسلامية التي. . . آه يا رب ماذا أقول لا أقول إلا أني لا أقول فالصمت أبلغ ما يكون في مثل هذا الموقف الرهيب تاريخ الإسلام كله مفارقات ضحك وبكاء ويأس ورجاء وقرب ومنعة وضعة ورفعة وعلم وجهل وحزن وسهل ونعيم ورخاء وبؤس وشقاء وتعاليم صحيحة سماوية في أعلى عليين وتعاليم فاسدة أرضية في أسفل سافلين.
تاريخ الإسلام عظيم - عظيم جدًا - وعلى عظمته هذه لم يكتب فيه مؤرخ عظيم وإني يكون ذلك والقائل فيه أما مسلم أي متعصب للإسلام أو غير مسلم أي متعصب عليه وكلاهما لا يمكن أن يكون منصفًا أي عظيمًا أي عظيما ويعجبني ما قاله المؤرخ الحكيم ارنست رنان في مقدمة تاريخ السيد المسيح: يجب على الذي يتصدى لتاريخ دين من الأديان أمران (الأول) أن يكون قد آمن به أولًا وإلا فإنه لا يفهم شيئًا من محاسنه ولا يدرك ما فيه من مطمنات النفوس ومرضيات الضمير البشري (الثاني) أن يكون قد صار ممن لا يؤمنون به إيمانًا مطلقًا من غير شرط ولا قيد: لأن الإيمان المطلق لا ينطبق على العلم والتاريخ لكونه يوجب التسليم والعلم والتاريخ لا يعرفان تسليما: (وبعد) فلقائل أن يقول ما هو التاريخ الإسلامي وماذا تعني به وماذا عسى أن تقول فيه وماذا تقصد إليه من التعرض له وما هي المصادر الذي ستعتمد عليها فيه - فجواب ذلك ما يأتي
التاريخ الإسلامي هو تاريخ الأمم الإسلامية جميعًا على اختلاف صنوفهم أي تاريخ العرب والفرس والترك والديلم والبربر (المغاربة) والسود والقبط (المصريين) ومن إليهم وذلك يستدعي تاريخ مؤسس هذه النهضة العظيمة السيد الرسول ﵇ والنظر في حياته الطاهرة وشمائله والربانية وما جاء به من التعاليم السماوية نظرا فلسفيًا دقيقًا وذلك يستدعي النظر في حال العرب قبل الإسلام ولاسيما قريش الذين بينهم ظهر الإسلام وسطع
1 / 13
نوره وذلك يستدعي النظر في الأديان عامة وأديان العرب خاصة وذلك يستدعي القول في التاريخ وما هو والطريقة المثلى فيه فكان لذلك ما رسمناه لنفسنا أولًا وهو أن جعلنا التاريخ الإسلام ثلاث مقدمات (الأولى) في التاريخ وماهو (الثانية) في الأديان وتاريخها ونظرة فلسفية فيها (الثالثة) في العرب وقريش وصفة مكة وجزيرة العرب ثم كسرنا التاريخ بعد ذلك على كتب وكل كتاب على فصول - أما طريقتنا في التاريخ الإسلامي فهي العمل بما أسلفنا القول فيه من شرح الشؤون السياسية والدينية والأدبية والفلسفية والتشريعية لكل عصر عصر من العصور الإسلامية مع الإشباع والتطويل والتزام خطتي العدل والإنصاف - أما ما نقصد إليه من التعرض لتاريخ الإسلام فاعلم أيها الناظر في كلامنا أن لكل قائل في التاريخ أحد غرضين إما تدوين الحوادث التاريخية كما هي لا لغرض سوى طلب الفن لذاته وأما إصلاح الجمعيات الإنسانية بما يتضمنه التاريخ من العبر والعظات وجميل المثلات حتى يكون الغابر مزدجرا للحاضر وفي الماضي لمن بقي اعتبار أما نحن فغرضنا من القول في التاريخ الإسلامي الأمران معًا أي ذكر حوادث التاريخ الإسلامي كما هي وتوخي الحقيقة فيها جهد الاستطاعة وتذكير الأمم الإسلامية الحاضرة بماضيهم وما فيه من مجد وسودد وتدهور وانحطاط وما في ديننا من آداب عالية هي أرقى ما يصل إليه العقل البشري وما طرأ عليه من التحريف ودخل من التعاليم الفاسدة التي ليست من الحقيقة في شيء - علّ في ذلك تذكرة لمن تذكر وتبصرة للمبصرين - أما المصادر التي سنعتمد عليها في التاريخ الإسلامي فهي مصادر عدة (١) القرآن الكريم (٢) الأحاديث الصحيحة (٣) كتب الفقه وأصول الفقه (٤) كتب السير والتاريخ (٥) كتب الأدب كالأغاني واضرابه (٦) كتب فلسفية وأخلاقية قديمة وحديثة (٧) مقالات ورسائل شتى في موضوعات مختلفة (٨) كتب تقويم البلدان (٩) الرحلات (١٠) العقل أي الميزان الذي يوزن به غث القول وسمينه والمجس الذي يجس به صحيح المعنى وعليله.
هذه هي طريقتنا في تاريخ الإسلام وموعدنا لمقدمة الأديان العدد الآتي إن شاء الله
1 / 14
الفكاهات والملح
التطفيل
سئل رجل أي الشراب ألذ فقال ما لم تبذل فيه درهما. وكم في الناس مثل هذا الرجل ممن تتنازعه الرغبة من جهة والبخل من جهة وكلم فيهم الفقير الذي تدفعه الشهوة إلى ما في أيدي الغير ثم لا يزعه حياء ولا تردعه عفة.
قال رجل لآخر أراد سفرًا إن لكل رفقة كلبًا يشركهم في فضلة الزاد فإن استطعت أن لا تكون كلب الرفاق فافعل.
على أني طالما عجبت ورأيت الناس يعجبون للبخيل الشحيح أو المسكين العديم الكسب كيف تراه حسن الجال يروح ويغدو بظاهر كالمرآة مجلو وباطن كالمخلاة مشو وكيف يحتال إلى معاشرة الأغنياء ويتلطف حتى يخلص إلى موائدهم ويفضي إلى عقد أكياسهم فلعلها صناعة دقيقة ومطلب عويص وسر لم يهتد إليه إلا القليلون من ذوي الحذق والذكاء. فكم من أناس حاولوا هذه الغاية فأخفقوا وأناس نجحوا في بادئ أمرهم فاستولوا على عدد عظيم من موائد الأغنياء ثم أدبر أمرهم وذهبت ريحهم فجعلت تلك الموائد تنفلت من أيديهم واحدة واحدة حتى أشفقوا على موائدهم العارية أن تزول وأصبحوا في الفقر وقلة الخير ينوحون على ما كانوا فيه من الكثرة والنعيم.
ولا أعلم في الطفيليين من هو أشد جرأة وأكبر أمنية من الأديب الذي يحسب أن منزلته من الأدب شفيع له عند صاحب المال وأنه يدفع من مجونه وأدبه ثمن ما يتناول من طعام الغني وذهبه بل لقد تبلغ من قحة ذلك الأديب أنه يشفع التسول بالكبرياء والتكفف بالتيه والخيلاء حتى كان له على الأغنياء حقًا يبغيه ودينًا يقتضيه يفعل الأديب المتطفل ذلك مع من يستطيع خدعه من المنتسبين إلى الأدب فينزل نفسه منهم منزلة الأستاذ من الطالب ولكن هؤلاء قليلون فأما معظم أهل الترف من أعداء العلم والأدب الذين لا يميزون بين الشعر والشعير ولا يفرقون بين المعارف والمغارف فلا يجرأ المتطفل الأديب أن يبدي لهم حركة تنم إلا عن تأدب وخشوع وتواضع وخضوع.
وصناعة التطفيل فن دقيق كما قدمنا قد ينال جزء منه بالمزاولة ولكن لا ينبغ فيه إلا من خلقه الله طفيليًا بالفطرة وللفن قواعد كثيرة أهمها.
1 / 15
أولًا: أن تكون وقاحًا صفيق الوجه. تفاتح الناس الكلام بلا مناسبة ولا تستحي ويعرضون عنك احتقارًا واستنماجا لك فلا تخجل ولا ترعوي
ثانيًا: الذلة وذلك أن تكون جبانًا مهينًا لا نخوة لك ولا إباء ولا عزة فترضى معاشرة الغنى مع علمك أنه شفيه وله ساعات جهل وبطر ينحط فيها عليك بصنوف الإساآت وضروب الشتائم من غير علة ولا سبب وساعات يريد أن يضحك الحاضرين فلا يجد غيرك هدفًا للضحك وغرضًا للسخرية والطفيلي لا يرى في ذلك باسًا ولا عارًا بل يحسب أن ذاك يزيده اتصالًا برب نعمته واستمكانا لمنزلته عنده ويقول لا جرم فإنه يدفع ثمن الضحك والشتم وأراني ساعة يملأ شدقيه ضحكًا أملأ جوفي طعامًا ثالثًا: أن تكون منافقًا متلمقًا. تظل ولا شأن لك إلا حمد كل ما يأتي به رب نعمتك وأبو مثواك حسنًا كان أو قبيحًا ثم تجاريه في جميع أمره فتحمد ما يحمد وإن كان مذمومًا وتذم ما يذم وإن كان محمودًا تنظر بعينيه وتسمع بأذنيه وتذوق بلسانه وتحب بجنانه وتكره بقلبه وتغضب لغضبه وتكون إجابتك ابتسامة بالابتسام وعبوسة بالعبوس وضحكة بالضحك وبكاءة بالبكاء أسرع من رجع صداه وعكس مرآته. وكان أحد المتملقين يقول: إن الرجل الغني ليقول الكلمة الغثة الباردة فاغرب في الضحك وإنما ضحكي بمقدار ما انتظر من العطاء لا بمقدار فكاهة الكلمة. وكان آخر يقول كنت أجلس بين الغنيين فيشتبك بينهما الجدال ويتناضلان بالحجة فلا أزال أميل بالاستحسان إلى هذا تارة وإلى ذاك أخرى فيعجب كل منهما بنفسه ويفتن بحسن قوله ويشغله ما يداخله من الفرح بأصالة رأيه من التمادي في المناظرة ويحمله التيه بذلاقة لسانه. وقوة برهانه. على رحمة مناظره حتى يترك كل منهما المناظرة فيؤول إلى الأمن الوئام والسكينة ما كان يؤذن بالشر والخلاف والخوف. وقال آخر ما خشيت قط شيئًا مثل أن يسألني صاحب الدار عن أمر لا أعرف رأيه فيه فإني أخاف أن أذهب مذهبًا لا يراه وفي ذلك من مخالفة أصول التملق ما فيه. ومن أهم صفات المتملق أن لا يكون له مبدأ ولا رأي بل يستعير مبادئ الغنيّ الذي يجالسه مادام في داره فيلبس لكل بيت زيًا. ويتلون كل ساعة لونًا كأنه الماء الذي لا شكل له في ذاته وإنما يأخذ شكل ما يحيط به من الوعاء فإذا أبى المتملق إلا أن يكون ذا مبدأ فعليه أن يخلع مبدأه مع حذائه على عتبة كل دار يدخلها فلا يلبسهما إلا ساعة الانصراف.
1 / 16
رابعًا: الاشتغال بعلم صناعة الأطعمة فإذا آكل الطفيلي جماعة على خوان أحد الأغنياء جعل همه أن يفرد صنفًا من بين الأصناف فيغري به القوم إغراء خبير واثق مما يقول حتى لا يجرأ أحد على مخالفته وكذلك ينال الطفيلي على الخوان منزلة أشبه بمنزلة رؤساء الأقلام بين عمالهم والمدرسين وسط أطفالهم ويقال عنه هو حاذق بالمشويات كما يقال الشيخ فلان حاذق بالأدبيات وهو أخصائي في التربية والكباب كما يقال فلان أفندي أخصائي في التربية والحساب ويصبح ذوقه ميزانًا للسلطات والمربات ويشهد له عشاق فن المأكل بأنه الفذ المفرد الذي عرف دقائق الفن ووقف على أسرار الصناعة.
وعلم الأطعمة علم صعب المراس بعيد المنال لا تنال دبلومته إلا بعد اثني عشر عامًا من السعي والجد والطلب المشفوع بالإخلاص والاحترام والتفاني - الإخلاص لجانب المعدة. والاحترام لعظمة الخوان وأبهته والتفاني في حب ما يزف عليك من عرائس الألوان وابكار الزجاج التي لم تفض أختامها.
فمن فعل ذلك صار أستاذًا في الفن وآيته أنك لا تسمع له كلامًا إلا في شأن الأكل ولو اطلعت على ذهنه لم تجد له خاطرًا يجزي إلا على صدور الأخونة ولا هاجسًا يهجس إلا بين الكوانين والحلل ولا فكرًا يرسب إلا في قوارير الزيت والخل ولا أملا يعلق إلا بذيل دجاجة أو جناح أوزة وتجده لا كتب له إلا قوائم الأكل ولا يذكر الأمور والحوادث إلا بمواعيد الأكلات وتواريخ الولائم فإذا سئل متى وقع ذاك الأمر جعل يفكر أكان عقب أكلة سمك أم طعمة بقول وهل جرى قبل وليمة ديك أو مأدبة شاة. هذه علائم أستاذ الطفيليين فاعرفها والسلام.
من طريف مايروى في باب التطفيل ما حكي أن طفيليًا بالبصرة مر على قوم وعندهم وليمة فاقتحم عليهم وأخذ مجلسه مع من دعي فأنكره صاحب المجلس فقالوا له لو تأنيت أو وقفت حتى يؤذن لك أو يبعث إليك فقال إنما اتخذت البيوت ليدخل فيها ووضعت الموائد ليؤكل عليها وما وجهت بهدية فأتوقع الدعوة والحشمة قطيعة وطرحها صلة وقد جاء في الأثر صل من قطعك وأعط من حرمك وأنشد:
كل يوم أدور في عرصة الدا - ر أشم القتار شم الذباب
فإذا ما رأيت آثار عرس ... أو دخان أو دعوة الأصحاب
1 / 17
لم أعرج دون التقحم لا أر - هب طعن أو لكزة البواب
مستهينًا بمن دخلت عليهم ... غير مستأذن ولا هياب
فتراني ألف بالرغم منهم ... كل ما قدموه لف العقاب
(وكان) أشعب الطماع المدني المولود سنة تسع من الهجرة ظريفًا وله نوادر في هذا الباب من أملح ما يكون فمن ذلك أنه وقف مرة إلى رجل يعمل طبقًا فقال له أسألك بالله الا ما زدت في سعته طوقًا أو طوقين فقال له وما معناك في ذلك فقال لعل تهدي إلي فيه شيء (وبينا) قوم جلوس عند رجل من أهل المدينة يأكلون حيتانًا إذ استأذن عليهم أشعب فقال أجدهم إن من شأن أشعب البسط إلى أجل الطعام فاجعلوا كبار هذه الحيتان في قصعة بناحية ويأكل معنا الصغار ففعلوا وأذن له فقالوا له كيف رأيك في الحيتان فقال والله أن لي عليها لحردا شديدًا وحنقًا لأن أبي مات في البحر وأكلته الحيتان قالوا له فدونك خذ بثأر أبيك فجلس ومد يده إلى حوت منها صغير ثم وضعه عند أذنه وقد نظر إلى القصعة التي فيها الحيتان في زاوية المجلس فقال أتدرون ما يقول لي هذا الحوت قالوا لا قال إنه يقول أنه لم يحضر موت أبي ولا أدركه لأن سنه يصغر عن ذلك ولكن قال لي عليك بتلك الكبار التي في زاوية البيت فهي أدركت أباك وأكلته.
1 / 18
حضارة العرب في الأندلس
الرسالة الأولى من الإسكندرية إلى المرية
كان انفصالي عن الإسكندرية للوفود إلى الأندلس بسحرة يوم من أيام سنة خمس وأربعين وثلاثمائة من هجرة النبي ﷺ في سفينة عدوليّه لأمير المؤمنين بالأندلس عبد الرحمن الناصر لم ترقط عيني مثلها وكان عبد الرحمن فيما بلغني مولعًا بإنشاء السفن والأساطيل فأنشأ هذا المركب الكبير الذي لم يُعمل مثله وسير فيه أمتعة وبضائع إلى بلاد المشرق لتباع هناك ويعتاض عنها فمر بكثير من ثغور البحر الشامي وكان آخر ما مر به الإسكندرية
ولما نزلت هذا المركب رأيت فيه كثيرًا من أهل بغداد والموصل والشام ومصر يريدون الوفود إلى الاندلس - وممن عرفت منهم عالم لغوي أديب من أهل بغداد يعرف بأبي علي إسماعيل بن القاسم بن عيذون القالي وفقيه مصرأحمد ابن أبي عبد الرحمن القرشي الزهري من ولد عبد الرحمن بن عوف وفقيه مقرئ يسمى أبا الحسن علي بن محمد بن إسماعيل بن بشر التميمي الأنطاكي وتاجر رحلة من أهل الموصل يعرف بابن حوقل وقينة اسمها فضل المدينة - وأصل هذه القينة كما أخبرتني لأحدى بنات هرون الرشيد ونشأت وتعلمت ببغداد ودرجت من هناك إلى المدينة المشرفة فازادت ثم طبقتها في الغناء ثم اشتريت للأمير عبد الرحمن مع صاحبة لها تسمى علم المدينة وصواحب أخرى: وقد عقدت الغربة بيني وبين فضل صحبة - لأن الغريب كما قيل للغريب نسيب - فرأيت منها أديبة ذاكرة حسنة الخط راوية للشعر حلوة الشمائل معسولة الكلام ذلك إلى حذقها في الغناء ولباقتها به مع الظرف الناصع والجمال الرائع فكانت ضنع الله لها سلوتنا في سفرنا وكانت تجلو هموم السفر ومرض البحر بما تنفثه بيننا من حين إلى آخر من سحر الحديث الذي يأخذ بالألباب ويرتفع له حجاب القلوب فهو كما قال أبو حية النميري فيمن يقول:
حديث إذا تخش عينًا كأنه ... إذا ساقطته الشهد أو هو أطيب
لو أنك تستشفى به بعد سكرة ... من الموت كادت سكرة الموت تذهب
ولما أقلعت بنا السفينة من مرسى الإسكندرية تحركت الريح الشرقية نسيمًا فاترًا عليلًا ثم غثى البحر ضباب رقيق سكنت له أمواجه فعاد كأنه صرح ممرد من قوارير فبقينا لاعبين
1 / 19