ويرد عليه القزم قائلا: كل ما هو مستقيم فهو كاذب، هكذا تمتم القزم في احتقار، الحقيقة كلها ملتوية، والزمن نفسه دائرة. «إن القزم قد وفر على نفسه عناء الإجابة، حقا، إن إجابته صحيحة من وجهة نظر نيتشه، ولكنها سهلة يسيرة. فالزمن عنده دائرة؛ الماضي والمستقبل يتعانقان هناك واللانهاية غير المنظورة، كما تفعل الحية التي تعض ذيلها. والزمن إذن حلقة من اللحظات، أو دورة من الآنات؛ فهل هذا هو معنى العود الأبدي؟ أم أن القزم قد أفسد الفكرة التي تحير زرادشت دون أن تستطيع التعبير عن نفسها؟ «يا روح الثقل! هكذا قلت له في غضب، لا تأخذ الأمر بهذه السهولة!» وهل كان في مقدور القزم أن يجد تصورا آخر يعبر به عن دورة الزمن داخل العالم الذي نعيش فيه غير التصورات المألوفة كالدائرة أو الحلقة؟ أليس له عذره في ذلك طالما أنه لم يفكر في الزمن الكلي، بل اقتصر على ما سميناه بالزمن داخل العالم؟»
ما معنى أبدية الزمان، أزلية الزمن الماضي وأبدية الزمن المستقبل؟
إن زرادشت يستخلص النتيجة التي تترتب على هذه الأبدية المزدوجة في الزمان، إنه يقول للقزم: «انظر إلى هذه اللحظة، من بوابة هذه اللحظة يسير درب أبدي طويل إلى الوراء، خلفنا تمتد أبدية. أليس حتما أن تكون هذه البوابة قد وجدت من قبل؟ وأليست الأشياء جميعا مرتبطة ببعضها على هذا النحو ارتباطا وثيقا، بحيث إن هذه اللحظة تجر وراءها كل الأشياء المقبلة كما تجر نفسها بالتالي؟»
وبعبارة أخرى: فإن الماضي اللامتناهي لا يمكن تصوره كما لو كان سلسلة لا متناهية من الأحداث المتجددة على الدوام، وإذا كان هناك ماض غير متناه، فلا بد أن كل ما يمكن أن يحدث قد حدث بالفعل من قبل. الماضي أبدي لا يمكن أن ينقص منه شيء أو يخرج عنه شيء، بل كل ما يحدث لا بد أن يكون قد حدث فيه من قبل؛ فأبدية الماضي تتطلب أن يكون كل ما يحدث قد حدث بالفعل، وأن يكون الزمن كله قد مر من قبل، كما تتطلب أبدية المستقبل أن يحدث في المستقبل كل ما يمكن أن يتم في داخل العالم من أحداث زمنية. ونحن حين نتصور الماضي والمستقبل كأبديتين لا متناهيتين لا بد أن نتصور أنهما هما الزمان كله بكل ما يشتمل عليه من مضمونات زمنية، ولكن هل نتصور الزمن الكلي مرتين؟ أليس في هذا تناقض؟ ولكن هذا التصور هو الذي سيؤدي بزرادشت إلى فكرته عن عودة الشبيه الأبدية، فكل الأشياء وكل ما يدخل في الزمن أو يسير فيه لا بد أن يكون قد سار فيه من قبل ولا بد أن يسير فيه من المستقبل، فعودة الشبيه تقوم على أبدية دورة الزمان، لا بد أن يكون كل شيء قد وجد من قبل، ولا بد لكل شيء أن يعود في المستقبل من جديد: «وهذا العنكبوت البسيط الذي يزحف في ضوء القمر، وضوء القمر نفسه، وأنا وأنت ونحن نتهامس تحت هذه البوابة عن الأشياء الأبدية، أليس حتما أن نكون قد وجدنا من قبل؟ أليس حتما أن نعود مرة أخرى ونسير على ذلك الدرب الآخر، بعيدا، منطلقين إلى الأمام على هذا الدرب الطويل المفزع؟ أليس حتما أن نعود عودا أبديا من جديد؟»
ولا يكاد زرادشت ينتهي من تساؤله حتى يسمع نباح كلب هائج مجنون، يرتعش وينتفض ويتحدى ويستغيث، ويسحقه رعب وحشي مميت، وكأنه يحاول أن يعض يد الموت التي تريد أن تقبض على رقبته: «حقا، إن ما رأيته لم تبصر عيناي مثله من قبل، رأيت راعيا شابا يتلوى ويختنق وينتفض مقشعر الوجه، وقد برزت من فمه حية سوداء ثقيلة. هل حدث لي أن رأيت كل هذا القرف والفزع الشاحب على وجه الإنسان؟ أتراه قد استسلم للنوم فتسللت الحية إلى فمه، وراحت تعضه وتعضه؟ راحت يدي تشد الحياة وتشدها بلا جدوى! فلم تستطع أن تنتزع الحية من فم الراعي، فانطلقت مني صيحة: عض ! عض! افصل الرأس! عض! كل فزعي، حقدي، قرفي، إشفاقي، كل ما في من خير وشر صاح معي صيحة واحدة.»
فكرة العود الأبدي زحفت كما تزحف الحية إلى جوف الإنسان، إنها فكرة خانقة تلك التي تهمس له بأن كل شيء سيعود، وإذا كان كل شيء سيعود، فكل طموح الإنسان عقيم، والطريق الوعر الذي يؤدي إلى الإنسان الأعلى حمق وغباء، إذ لا بد أن يعود الإنسان التافه الصغير من جديد. وإذا كان الزمن سيعيد كل شيء كما كان فكل مغامرة الإنسان عبث، وكل أتعابه هباء. إن فكرة العود الأبدي تبدو الآن وكأنها تناقض إرادة القوة وتفوق الحياة على نفسها أكثر مما فعلت مع روح الثقل التي تمثلت في القزم. ولكن هذا هو ما يبدو في الظاهر فحسب؛ فزرادشت يصيح بالراعي أن يعض الحية ويفصل رأسها عن الجسد، ويفعل الراعي كما أمره النبي المعذب الوحيد، وإذا بالراعي يتحول شيئا آخر: «لم يعد راعيا، لم يعد بشرا، بل متحولا متجليا يضحك، أبدا لم يضحك من قبل إنسان على هذه الأرض كما ضحك!»
إن احتمال فكرة العود الأبدي قد أتى معه بالتحول العام في وجود الإنسان، لقد أحال الجد مرحا، والثقل خفة، والعبوس البشري رقصا إليها.
غير أن فكرة العود الأبدي ذات وجهين، إنا نستطيع أن ننظر إليها من ناحية الماضي كما ننظر إليها من ناحية المستقبل، فإذا كان كل ما يحدث مجرد تكرار لما حدث من قبل، فلا بد أن يكون المستقبل بدوره ثابتا، وأن يكون عودا لما حدث في الماضي، ولا بد أن تصدق العبارة التي تقول: إنه لا جديد تحت الشمس، ولا بد أن يكون كل فعل يقوم به الإنسان وكل مغامرة يخاطر بها عبثا وباطلا، طالما أن كل شيء قد حدد وحسم أمره من قبل، ولكننا نستطيع أيضا أن ننظر إلى المسألة من ناحية أخرى، فنقول على العكس مما قلناه: إن فرصة الفعل ما زالت باقية أمامنا، وإن في وسعنا أن نحسم أمرنا دائما من جديد مثلما نحسمه في هذه اللحظة ؛ فكل لحظة نعيشها لها دلالة تتجاوز حياتنا الفردية، وكل لحظة لا تحدد المستقبل المعروف فحسب، بل تحدد كذلك كل مستقبل يتكرر فيما بعد، فاللحظة هي مركز الثقل الذي يقع على كاهله عبء الأبدية، والقرار اللحظي الذي نتخذه على هذه الأرض هو الذي يفصل في أمر جميع الأحداث المتكررة للوجود الأرضي، مثلما تفصل حياتنا الدنيوية في رأي الأديان السماوية في مصير النفس في الآخرة. إن نيتشه يتشبث بهذا الإلهام المفاجئ وكأنه هديته الأخيرة إلى الفانين، فاللحظة هي التي تحسم أمر الأبد، أو قل: هي الأبد نفسه، وفكرة العود الأبدي تصبح هي الدعامة الأساسية للوجود الإنساني، كما هي حقيقته وعمقه ومركز الثقل فيه.
غير أننا لو نظرنا إلى الناحيتين اللتين تحدثنا عنهما نظرة مدققة؛ لوجدنا أنهما معا موضع سؤال؛ ففكرة العود الأبدي ترفع التضاد الموجود بين الماضي والمستقبل، أو بالأحرى تضفي على الماضي طابع الثبات الذي يتميز به الماضي، إنهما يتداخلان في بعضهما على نحو نادر عجيب، فالزمن يصبح شيئا ثابتا ومتحركا في وقت واحد، شيئا يتقرر بالفعل ويقبل اتخاذ قرار في شأنه. والإرادة لا تستطيع أن تتجه إلى المستقبل فحسب، بل هي في نفس الوقت تعود بإرادتها إلى الماضي، والزمن يفقد اتجاهه المستقيم المألوف، ويصبح ما للمستقبل للماضي، وما للماضي للمستقبل. كل هذا لا بد أن يحيرنا ويدهشنا ويخيفنا؛ فنحن لا ندري إن كان نيتشه يعبر عن فكرة خيالية مجنونة تبدد كل أفكارنا التي تعودنا أن نفهم بها الزمن، أو إن كان يكشف لنا عن معرفة أعمق بالزمن، تحيط به في أفقه الكوني الشامل، لا ندري إن كان يلاحظ الزمن كما يراه في حركة الموجودات «داخل» العالم، أو إن كان يتجاوز مجال العالم كله حيث لا يستطيع أن يلحق به فكر ولا منطق؛ فالقسم الثالث من كتاب نيتشه «هكذا تكلم زرادشت» مضطرب البناء، يشبه جزيرة العجائب التي تزدحم أدغالها بالألغاز والأحاجي والرموز، إنه لا يكاد يبشر بفكرة العود الأبدي في الفصل الذي أشرنا إليه «عن الوجه واللغز» حتى يقطع بشارته، ولكنه يعود في الفصول التالية فيؤكد البشارة من جديد، ويعلن مقدم «الظهر العظيم»، الذي يتم فيه العود الأبدي، وينتصف الزمن ويكشف القناع عن سره الشامل الرهيب: «انظر، إنه يتقدم، إنه يقترب، الظهر العظيم.» ثم يأتي فصل بعنوان «قبل طلوع الشمس» قد نخطئ فنرى فيه إلهامات نفس شاعرية تسحرها روعة الفجر ويذهلها سر النور؛ ذلك أن الصور الشاعرية عن نيتشه هي دائما رموز تدل على فكره، وما يراه زرادشت وهو ينتظر مطلع الشمس هو «هاوية النور»، هو الأفق الكوني الواسع المتوهج، هو السماء التي تظل الأشياء كلها من تحته، وتضيئها، وتجمع وحدتها: «أن ألقي بنفسي في عليائك، هذا هو عمقي: أن أخفي نفسي في نقائك، هذه هي براءتي!»
فالمفكر هو الذي يواجه السماء ويفتح عينيه وصدره لنورها الساطع الشامل، ومدى العمق في تفكيره يتوقف على قدرته على أن يفتح كيانه للنور الذي يسطع فوق الأشياء جميعا، وبراءة الوجود هي نور العالم الذي يغمر كل الموجودات، والتفكير في العالم بكليته يبدد «الخطيئة» و«الذنب» كما يمحو «الخير» و«الشر» وغيرها من كلمات البشر التي تغطي كالسحب وجه السماء، وبالتفكير في العالم بكليته - العالم الذي سير الزمان وأوجد المكان - ينقشع غضب الآلهة، وتتبخر سطوة القدر، وينهار بناء العالم الآخر، وينهدم كل تفسير ميتافيزيقي أو أخلاقي للوجود، الإنسان يتحرر ويصفو ويستعيد براءة الأطفال: «فوق كل الأشياء تقف السماء المصادفة، السماء البراءة، السماء الاحتمال، السماء الكبرياء»؛ ذلك أن جميع الأشياء «قد عمدت في نبع الأبدية ووراء الخير والشر، والخير والشر أنفسهما ليسا إلا ظلالا وأحزانا رطبة وغيوما.» لكن الأشياء لم تعمد في نبع الأبدية؛ لأن لها وجودا آخر غير وجودها الأرضي، أو لأن لها حقيقة في ذاتها تتجاوز عمرها الفاني، بل لأن الأبدية والزمانية ليسا شيئين مختلفين، بل هما في الحقيقة شيء واحد، فالزمن باعتباره العود الأبدي، هو في الحقيقة الأبد نفسه، ورؤية الموجود في نور العالم رؤية زرادشت البريئة النقية معناها أن نخلص هذا الموجود من كل ما ألقته الأجيال الطويلة على صدره من قدر وأخلاق وعالم آخر، ونريحه من كل التفسيرات الغيبية والعقلية ونتركه يسير في الزمن وكأنه طفل خفيف يرقص ويلعب: «أيتها السماء من فوقي، أيتها السماء النقية العالية! هذا هو نقاؤك الآن عندي، أن ليس هناك عنكبوت أبدي للعقل ولا هناك شباك عنكبوت: إنك عندي أرض ترقص عليها المصادفات الإلهية، وإنك عندي مائدة آلهة لزهر إلهي وللاعبي الزهر!» فلعب الوجود قد أصبح الآن لعبا إلهيا، والمفكر الذي يفتح صدره وبصره لنور السماء ويعانق العالم يقف وراء الخير والشر، ويقترب من حقيقة العالم كله، إنه يستطيع الآن أن يسأل السماء قائلا: «ألست أنت نورا لناري؟ أليست عندك النفس الشقيقة لرؤيتي وإلهامي؟» إن زرادشت قد تفتح كيانه كله للعالم، وهذا التفتح الشامل هو الذي يتوقف عليه فهمه الأصيل للعود الأبدي، لقد رفعت الغشاوة عن بصيرته، وتحرر من قيود الموجودات، واستحم بالنور الذي يغمر جميع الأشياء، وتخلص من روح الثقل التي ترهقها معاني الأخلاق والدين وما وراء الطبيعة والمحسوس، وتوصل إلى سر الزمن حين وقف تحت بوابة اللحظات الأبدية الفانية، بعيدا عن دربي الماضي الثابت المستقر والمستقبل الغامض الذي لم يولد بعد. •••
ناپیژندل شوی مخ