إن القمة العالية التي يصل إليها الآن تفكير زرادشت هي القمة التي يرتفع فيها حتى فوق ارتفاعه فوق نفسه، أي التي يرتفع فيها فوق إرادة القوة، ويتفكر في حقيقتها وسبب وجودها. ولكن ارتفاعه إلى قمته الأخيرة هو في نفس الوقت - وهذه هي المفارقة التي لا يمكن بغيرها أن نفهم تفكير نيتشه - هبوطه إلى أعمق الأعماق.
3
إنه يصل إلى القمة حين يغوص إلى الهاوية، أو هو يرتفع إلى أقصى حدود الارتفاع حتى يصل إلى الموضع الذي تتحد فيه القمة والهاوية: «من أين تأتي أعلى الجبال؟ هكذا سألت ذات يوم، عندما تعلمت أنها تأتي من البحر، هذه الشهادة مكتوبة في حجارتها وعلى جدران قممها، من أعمق الأعماق يجب أن يصل أشد الأشياء ارتفاعا إلى ارتفاعه.» إن زرادشت لن يصل إلى أعلى قمم الإنسان الأعلى حتى يهبط إلى أبعد أعماق بحر الزمن، التحول الأخير الذي ينتظره مرهون بالتفكير في حقيقة العالم ككل، في علته وسببه الأخير، إن أشد الناس وحدة يفكر الآن في أشد الأشياء شمولا، إنه وحده يستطيع الآن أن يخرج إلى العالم الرحب، والذي تجرد من كل شيء يستطيع الآن أن يرى سر كل شيء، وها هو يروي رؤياه إلى الملاحين، رؤيا الوحيد، إنه يختار هؤلاء المغامرين الباحثين الفرحين بالألغاز، والجسورين الذين يقطعون الأسفار البعيدة ولا يحبون أن يعيشوا بغير خطر؛ لكي يبوح لهم بفكرته عن عودة الشبيه الأبدية. إنه يحكي لهم تجربته الحافلة بالأحاجي والرموز: «عطشان مضيت منذ عهد قريب خلال غبش الضباب الملون بلون الجثث؛ عطشان صلب العود، بشفتين مضمومتين، لم تكن شمس واحدة قد أفلت في عيني.» لقد صعد ذات مرة على الجبل، وعلى كتفيه جلس «روح الثقل» نصف قزم ونصف حيوان يدب في الطين، وظل يصعد متحديا هذا الروح الذي يشده إلى أسفل، ويصب في أذنيه الرصاص، ويقطر في ذهنه أفكارا من رصاص. إن طريقه هو الطريق الصاعد إلى أعلى درجات الإنسانية، المرتفع إلى الإنسان الأعلى، على الرغم من روح الثقل، عدوه اللدود، وهو طريق المبدع الذي يعلو فوق نفسه، طريق الإرادة الخلاقة التي ترتفع فوق ذاتها على الدوام. ولكن هل كان في وسعه أن يستمر في الصعود؟ هل يستطيع الإنسان الخلاق أن يتجاوز ذاته إلى غير حد؟ أم لا بد له أن يصل إلى نهاية يقف عندها؟ إن روح الثقل الذي يرزح فوق كتفيه يهمس في أذنيه بفكرته الثقيلة الخانقة، ويحاول أن يغل إرادته المنطلقة إلى المستقبل: «زرادشت، يا حجر الحكمة، أنت أيها الحجر المندفع، يا محطم النجوم! قذفت بنفسك إلى أعلى ارتفاع، ولكن كل حجر يقذف به لا بد أن يسقط!»
طموح الإنسان لا بد أن يهبط في نهاية المطاف، والصعود اللامتناهي مستحيل؛ لأن الزمن المتناهي يضع له حدا، إنه يستنفد كل طاقة، ويقوى على كل إرادة قوية، ويقوض كل أمل شامخ، روح الثقل تجذب كل كرة يقذفها الطموح إلى الأرض، والنظر إلى هاوية الزمان أو إلى عبث كل مشروع يقدم عليه الإنسان تشل الجسد وتصيب الفكر بالدمار، كل معنى يصبح الآن بالقياس إلى الزمن اللامحدود عديم المعنى، وكل مغامرة عبثا، وكل عظمة حصاد ريح. إن روح الثقل أو المعرفة بلاتناهي الزمن، يمنع انطلاق «الإنسان» إلى «الإنسان الأعلى»، ويحول بينه وبين التفوق على ذاته، ويسحق طموحه تحت عجلات الزمن، الزمن اللامحدود يبتلع كل قوة محدودة، ويجذب إلى قاعه السحيق كل سفينة تحاول أن تكتشف سره، وكيف يستطيع أن يعرف الزمن من هو نفسه زمني؟ ألا تفترض المعرفة نوعا من «الخروج» عن الموضوع الذي نريد أن نعرفه، أو نوعا من الاستقلال عنه؟ ولكن كيف نستطيع أن نخرج من الزمن ونحن سائرون في تياره؟
ولكن زرادشت لا ييئس، إنه يستنجد بشجاعته لكي يتغلب على هذا الروح الثقيل، هذا القزم، هذه المعرفة القاتلة بجبروت الزمن ولا نهائيته، إنه يستنجد بالشجاعة التي تعينه على احتمال فكرته العميقة عمق الهاوية، فكرته عن العود الأبدي. ولا بد أن تكون هذه الشجاعة شيئا لم يسمع به أحد، شجاعة «تميت الموت»، تهاجم لأن في كل هجوم «لعبا رنانا»، ولأن الإنسان هو أشجع الحيوانات، وبهذه الشجاعة تفوق على كل حيوان، كما تفوق على كل ألم؛ لأن ألمه هو أعمق الآلام، إنه يواجه القزم بأشجع أفكار الإنسان، بفكرته التي تجعله يقول للحياة: «هل كانت هذه هي الحياة؟ حسنا، فلتكن مرة ثانية، أيها القزم! أنا أو أنت! إنك لا تعرف فكرتي العميقة عمق الهاوية، إنك لن تستطيع احتمالها.» ويقفز القزم من فوق كتفيه، ويتحرر زرادشت من روح الثقل التي كانت تقيده، ويبدأ الحديث بينهما عن الزمان.
كان زرادشت والقزم يقفان تحت بوابة على طريق، انظر إلى هذه البوابة، أيها القزم! إنها ذات وجهين، هناك طريقان يجتمعان هنا، لم يحدث لمخلوق أن وصل إلى نهايتهما، هذه الحارة الطويلة إلى الوراء، تمتد امتداد الأبدية، وتلك الحارة الطويلة إلى الأمام، إنها أبدية أخرى. الطريقان يتقاطعان ويصطدمان تحت هذه البوابة يتلاقيان، واسم البوابة مكتوب عليها: إنها «اللحظة».
لنتذكر الآن ما قلناه من أن إرادة القوة وصلت إلى حدها النهائي حين عرفت أن الزمان هو طريقها ومصيرها، ففي استطاعة الإنسان أن يريد المستقبل، أما الماضي الثابت الذي لا سبيل إلى تغييره فينفلت من قبضة إرادته. إن أقصى ما يستطيعه هو أن «يعترف» به ويسلم بحتميته، وربما استطاع أيضا أن يعقد الصلح بين الحرية والضرورة عن طريق الخضوع بحريته لهذه الضرورة، (وقد عبر شيللر عن هذه الفكرة فسماها الصلح بين القدر والحرية) وانتزاع شوكة الجبر من مخلب القدر.
ولكن زرادشت يفهم الزمن فهما آخر؛ إنه يوجه حديثه ضد القزم، ويهاجم هذه الحتمية الزمنية بالذات، فاللحظة هي النقطة التي يتلاقى فيها دربان طويلان، يسير أحدهما إلى الأمام ويسير الآخر إلى الوراء. إن رأسيهما يصطدمان عند هذه اللحظة، فيتقاطعان ويتناقضان، ومع أن الماضي هو ما كان وانتهى أمره، والمستقبل هو ما لم يكن بعد وما زال مفتوح النوافذ على شتى الممكنات، فإنهما مع ذلك يصطدمان ببعضهما في اللحظة أو «الآن»، ومن هذه اللحظة العابرة الفانية يمتد الدربان كل إلى غايته، فأما أحدهما فيعود إلى الماضي الأزلي، وأما الآخر فيمضي إلى المستقبل الأبدي.
زرادشت إذن يبدأ من الزمن كما يدور في داخل العالم، إنه عنده سلسلة من اللحظات أو «الآنات»، وهو يقف عند إحدى هذه الآنات ليرى سلسلة لا متناهية من الآنات الماضية تمتد وراءه، وسلسلة أخرى من الآنات المستقبلة تمتد أمامه. ولكن السؤال الآن إن كانت هذه الآنات تمتد حقا إلى غير نهاية، وان كان دربا الزمن يفترقان إلى غير التقاء، والماضي البعيد يترك وراءه ماضيا آخر أبعد منه، وكذلك المستقبل إلى أبد الآبدين. هل يستطيع الإنسان حقا أن يتصور هذه اللانهائية الزمنية؟ ألا يتوه الفكر الإنساني وهو يحاول أن يتخيل الماضي السحيق ويلاحق المستقبل البعيد؟ ألا يقف الموت لمغامرته البائسة بالمرصاد؟
ويسأل زرادشت القزم: «ولكن من يمضي على أحد هذين الدربين، ويظل يمضي ويمضي على الدوام؟ ألا تعتقد أيها القزم أن هذين الدربين يفترقان إلى الأبد؟» إنه يريد أن يعرف منه إن كان التفكير في الزمان كما نألفه في داخل العالم، وكما نفرق فيه بين الدربين اللذين يسير كل منهما في اتجاه معارض للآخر، هو الحقيقة الأخيرة عن الزمن، وهو يريد أن يفهم منه معنى «الأبد» حين نقول: إن الدربين يسيران في طريقي المستقبل والماضي الأبديين، هل هو الأبد حقا؟ أم هو اللاتناهي «السيئ» الذي نسميه عادة بالتكرار؟
ناپیژندل شوی مخ