ثانيا:
أن يصور بمهارة زائدة جميع أدوار الحياة وأفراحها وأتراحها، وهو يغار غيرة شديدة على حفظ الرباط العائلي ورباط الزوجين طاهرا من الدنس بعيدا عن الفساد، وكذلك يدعو الناس إلى تربية الأولاد التي ينبغي أن يشترك بها الوالدان، وينصح للأمهات أن يرتبطن بأولادهن ارتباطا متينا لا تحل عراه الليالي الراقصة والاجتماعات البيتية والألعاب الغير لائقة للنساء؛ لأن الرباط العائلي إذا كان خاليا من المحبة، ومؤسسا على المظاهرات الخارجية فقط يكون كالبيت المؤسس على الرمل الذي يهدم بسرعة، ويجر وراءه الويل والخراب.
ثالثا:
أن تولستوي هو الوحيد بين الكتاب الروسيين الذي وصف فساد المعيشة الجندية، من أعظم قائد إلى أحقر جندي، ووصف الحرب وعدد أضرارها الكثيرة وشرورها العظيمة التي تجلبها لجسم المجتمع الإنساني، وقد قال عن ذلك - إن الحرب تقطف زهرة حياة الشبان، وتخفي نور السرور، وطيب العيش من بينهم، وبطرقه هذا الباب فتح بابا جديدا كان مقفلا ليس لكتاب الروس فقط، بل لجميع كتاب أوروبا.
رابعا:
إن الفيلسوف أعدل كاتب روسي وصف حالة الفلاح الروسي المستقبل وحالة الفلاحين المستعبدين للأشراف استعباد الرقيق، وبوصفه هذا وقوة براهينه أفهم العالم طرا بأن هذا الشعب البسيط الذي يعتبره العالم إبان السلم شعبا خشنا متوحشا يظهر في وقت الحرب معدن خير وشجاعة وشهامة وصبر، ولذلك لا يسوغ للمتمدنين أن يحتقروا الشعب المتحلي بهذه الصفات في وقت السلام. آه ...
قال الكاتب الذي نقلنا عنه ترجمة حياة هذا الفيلسوف: إن كل روسي يجري في عروقه الدم السلافي يفتخر بالكونت تولستوي الذي أولى روسيا فخرا عظيما، وأظهر لأوروبا أن في روسيا قوة مدفونة حان زمان إخراجها، وأنها ستفوق قوات أوروبا العقلية جمعاء.
الفصل الثاني
زمن صباه
قال الفيلسوف: لله ما أحسن أيام الصبا التي لا تعود! وما أحلى ذكراها في فمي وأطربها على فؤادي! فإنها تنعش صدري، وترفع نفسي، وهي ألذ ذكرى عندي؛ لأنها تذكرني بما مر في زمن الصبا من أويقات الأنس والصفاء، فقد كنت أقضي سحابة نهاري باللعب حتى يجيش دمي فأدخل مساء غرفة الطعام، وأجلس على مقعدي الخاص أمام المائدة، وأتناول قدحا من اللبن اللذيذ المحلى بالسكر، وبعد ذلك يسطو علي النعاس فيثقل جفناي في وقت أفضل فيه البقاء في مكاني على براحه؛ لكي أتمتع بالإصغاء للحديث، وكيف لا أصغي لحديث والدتي مع الآخرين؛ فإن صوتها الرخيم وكلامها العذب كانا يخرقان أعماق قلبي ويرتسمان فيه كأنهما من نار، ولكن عيني كانتا تزيدان ثقلا، وسلطان النوم يسطو علي فأتفرس بوالدتي فأراها تصغر كثيرا حتى يصبح وجهها بنظري بقدر الذر، ولكنه مع ذلك واضح لي تمام الوضوح، ويظهر لي أنها تنظر إلي مبتسمة فأطرب جدا بمرآها على تلك الصورة، فأحدق بعيني وأشدهما لأتمكن من رؤيتها أكبر مما هي ظاهرة لي، ولكنها لا تبلغ في نظري حجم أولئك الصبيان الذين نراهم في إنسان العين.
ناپیژندل شوی مخ