مقدمة
القسم الأول
1 - ترجمة حياة الكونت نيكولا يفيتش تولستوي
2 - زمن صباه
3 - في سبب صداقته لصديقه ديمتري نيكيليدوف
4 - معيشة الكونت في قرية ياسنايا بوليانا
5 - فلسفته وآدابه وآراؤه الدينية
القسم الثاني
1 - قرار المجمع المقدس أو حرمان تولستوي
2 - رد على اعتراض تولستوي
3 - كتاب مكشوف للكونت تولستوي من رجل كان على مذهبه ثم ارتد إلى الكنيسة
4 - خاتمة الكتاب
مقدمة
القسم الأول
1 - ترجمة حياة الكونت نيكولا يفيتش تولستوي
2 - زمن صباه
3 - في سبب صداقته لصديقه ديمتري نيكيليدوف
4 - معيشة الكونت في قرية ياسنايا بوليانا
5 - فلسفته وآدابه وآراؤه الدينية
القسم الثاني
1 - قرار المجمع المقدس أو حرمان تولستوي
2 - رد على اعتراض تولستوي
3 - كتاب مكشوف للكونت تولستوي من رجل كان على مذهبه ثم ارتد إلى الكنيسة
4 - خاتمة الكتاب
مذهب تولستوي
مذهب تولستوي
تأليف
سليم قبعين
مقدمة
بسم الله الحي الأزلي
حمدا لمن رقى مدارك الإنسان، ترقية أفضت إلى تقدم العمران، فولد عقله الاكتشافات الجديدة، والاختراعات المفيدة، والعلوم الزاهرة النافعة، والفلسفة الحقيقية الساطعة، فسن النواميس والشرائع، ووضع كل مفيد نافع؛ لكي يرقي الناس قمة الكمال الأثيل، فيبلغوا ميناء سواء السبيل، ويخلعوا عن أعناقهم نير الجهالة الثقيل، فسيقا لمن يدرك الفلسفة الحقيقية ويسير تحت أعلامها، وتعسا لمن يغتر بالسفسطة ويرضخ لأحكامها.
أما بعد؛ فأقول: لقد حدثت في هذين العامين حركة فكرية سرت من أقصى الأرض إلى أقصاها؛ فأحدثت دويا هائلا في جميع أنحاء الغرب فاتصل صداها بالشرق، ولم تزل بين الناس موضوع جدال عنيف، ومنشئ هذه الحركة هو الفيلسوف الشهير والعالم الخطير الكونت تولستوي،
1
فإن هذا الرجل العظيم أدهش علماء أوروبا بفلسفته الصائبة وأفكاره الثاقبة فاعترفوا له بسمو المدارك، وأقروا بأنه من أشهر فلاسفة العالم، وأقبلوا على مطالعة كتبه وتعريبها إلى لغاتهم، وراجت مؤلفاته رواجا غريبا، وانتفع منها الناس نفعا أدبيا والكتاب نفعا ماديا، وقد كتب هذا الفيلسوف في مواضيع مختلفة، وتطرق إلى الكتابة في الدين فخالف بها عقائد الكنيسة الأرثوذكسية وخطأها، الأمر الذي حرك رجال الدين في روسيا عليه، والتأم أعضاء المجمع المقدس الروسي وأصدروا حكما عليه، وحرموه من الكنيسة كصاحب بدعة وضلالة، وكان لذلك الحكم رنة مؤثرة في جميع أنحاء روسيا كادت تفضي إلى شغب داخلي لولا أن تلافت ذلك الحكومة الروسية بالحكمة والتؤدة.
ومعلوم أن الجرائد والمجلات العربية كتبت المقالات الطويلة في هذا الشأن، وكلها عربت أقوال تولستوي عن الجرائد الإفرنسية والإنكليزية، وكان لتلك الأقوال وقع عظيم في نفوس قارئيها. فلما رأيت تلك الحركة العجيبة هزتني خدمة العلم لتأليف هذا الكتاب وتعريبه عن اللغة الروسية، وهو يحتوي على مختصر تاريخ حياة هذا الرجل العظيم، ووصف معيشته وآدابه وفلسفته وآرائه الدينية وردود رجال الدين عليها، وقد عزمت بعون الله على ترجمة كتبه ورواياته خدمة لأبناء اللغة العربية، وشرعت الآن بترجمة رواية «الحب والزواج»، فأرجو من جماعة المتأدبين، وأهل الفطنة والذكاء، أن يغضوا الطرف عما يرونه من الزلل؛ فإن العصمة لله وحده.
ولا بد لي في الختام من تقديم مزيد الشكر لحضرة خادم العلم والأدب إبراهيم أفندي فارس صاحب المكتبة الشرقية في القاهرة؛ لتفضله بطبع هذا الكتاب على نفقته، أدامه الله بدرا ساطعا في سماء المكارم والفضل.
سليم قبعين
الناصري
عن الناصرة في 25 ديسمبر سنة 1901 (الكونت ليون نيكولا يفتش تولستوي) «مستعارة من مجلة المقتطف البهية».
هوامش
القسم الأول
الفصل الأول
ترجمة حياة الكونت نيكولا يفيتش تولستوي
ولد هذا الرجل العظيم والفيلسوف الشهير في 28 أغسطس «آب» سنة 1828م، في قرية ياسنايا بوليانا، من أعمال ولاية تولافي، أملاك والدته التي هي إحدى عائلة فولكون الشهيرة العريقة في الحسب والنسب والإمارة، ولقد توفيت قبل أن يبلغ ولدها هذا العاشرة من عمره، فعهد أمر تربيته إذ ذاك إلى عناية السيدة تاتيانا إحدى قريبات عائلته وربيبتها.
وفي سنة 1837 انتقل والده مع أسرته إلى مدينة موسكو، حيث توفي فيها في نفس السنة، ولما شعر بدنو أجله أقام وصية لأسرته السيدة بوشكوفا التي نزحت بأسرة تولستوي من موسكو إلى كازان عام 1841، وفيها عهدت تثقيف وتعليم الفيلسوف إلى مهذبات وأساتذة أجانب، وفي سنة 1843 دخل كلية كازان، وانخرط في صف اللغات الشرقية، ولكن دخوله فيها لم يكن عن استعداد كاف لذلك ، ولكنه بذكائه المفرط وحذاقته فاق أترابه، وكان في المدرسة مثال النجاح والنشاط والنباهة والجد والاستقامة، ولما بلغ الثامنة عشرة من عمره ترك تلك المدرسة التي لم تكن ذات أهمية تذكر في ذلك الحين، ولذلك لم يحصل على فائدة كبرى فيها؛ خصوصا وأن أكثر طلبتها من أبناء الأشراف الفاسدي السيرة المتعودين على البذخ والكسل والتواني في جميع الأعمال، ولذا لم تنغرس المبادي القديمة في نفسه في أيام صباه، وهاك ما قاله فيما بعد عن ذلك: «تفسد أخلاق الشاب في المدرسة؛ لأن جميع رفقائه فسدة الأخلاق، يصحبونه معهم إلى أندية الرجس فيفقد طهارته وعفته وهو لا يدري أن في فعله هذا ما يخالف الآداب والفضيلة. تفسد أخلاق الشاب من أول نشأته؛ لأنه لا يسمع من مرشديه أن الفسوق محرم؛ بل بالعكس يسمع أن صحة الجسم تستلزم بعض الشيء ... وجميع المحيطين به يقولون إن الوقاع شيء طبيعي مفيد للصحة وفكاهة الشباب الحلوة؛ لهذا كله لا يدرك الشاب أنه سائر في طريق الضلال؛ بل يقطع الطريق الطبيعية التي يسير فيها كل صحبه وأفراد الوسط الذي يعيش فيه، فيبدأ بالفحشاء كما يبتدي بشرب المسكر والتدخين ... إلخ.»
قلنا إنه أضاع أيام الصبوة سدى، ولم ينل في صغره تهذيبا جيدا، ولا تعلم العلوم اللازمة لترقية عقله ورفع شأنه، ولكن نفسه الكبيرة كانت تطمح إلى ارتقاء ذروة المجد، فانكب على مطالعة كتب أشهر الفلاسفة وأعظم العلماء، ودرس حالة الهيئة الاجتماعية درسا نظريا مدققا حتى انغرست فيه هذه المبادي، كما ظهر من مؤلفاته التي كتبها بهذا الشأن.
وبعد أن غادر تلك الكلية غير آسف على فراقها، برح كازان وعاد إلى قرية ياسنايا بوليانا مسقط رأسه، واتخذها وطنا له، واستولى إذ ذاك على ما خصه من ميراث أبيه، ومكث في تلك القرية ثماني سنوات متوالية، وكان يذهب بعض الأحيان إلى موسكو وبطرسبرج، فيمكث بضعة أيام، ويقفل راجعا إلى قريته.
وفي سنة 1851 زاره شقيقه الأكبر نقولا تولستوي الذي كان ضابطا في جيش القوقاس، ومكث عنده مدة إجازته العسكرية، ولما أحب الرجوع إلى فرقته صحبه معه إلى تلك البلاد الفيحاء، فأعجبه فيها جمال مناظرها الطبيعية، واعتلال هوائها، وعذوبة مائها، وخصوبة أرضها، والذي زاده سرورا رفاه عيشة الضباط وجنود القوزاق، فألح عليه شقيقه أن ينتظم في خدمة الجيش بعد أن رأى منه ميلا لذلك؛ فصادف منه قبولا وإقبالا، وانخرط في خدمة الجيش القوقاسي، ومن هذا الوقت ابتدأت تظهر للوجود أفكاره السامية يمليها على الطرس قلمه السيال، فوصف بلاد القوقاس ومعيشة أهلها أحسن وصف على صفحات رواية المهرب «نابيغ»، ولم يكتف بذلك، بل أردفها برواية أخرى لا تقل عنها انسجاما دعاها «القوزاق»، وصفهم فيها وصفا مدققا لم يسبقه إليه كاتب، ثم رواية «الفتوة» والصبوة والشبيبة يصف بها نفسه في جميع أدوارها، وبعد أن شرح وأطال وبين كيف يسير الشاب في طريق الضلال بدون أن يردعه رادع عن غوايته قال: «والغريب أن أمهات كثيرات يعتنين بأمر أولادهن في هذا الطريق رعاية لصحتهم فلا يبقى على الشاب إلا أمر واحد يخشى عاقبته من ارتكاب الموبقات، وهو العدوى من المرض المشهور، غير أن الحكومة التي تهتم بصحة رعاياها لم تدع مجالا للخوف، فإنها بهمة فائقة تعتني اعتناء تاما بالفواجر، والأطباء كهنة أصنام العلم، يراقبون المومسات لقاء أجور يتقاضونها، وهم من جهة أخرى يفتون للشبان بضرورة الجماع ولو في الشهر مرة مراعاة لقانون الصحة، فهم على ذلك يرتبون سير الفحش ترتيبا مدققا، ويضبطون دائرته ضبطا محكما ... إلخ.»
وفي سنة 1853؛ أي في ابتداء الحرب الشرقية نقل صاحب الترجمة إلى صفوف جنود الطونا، حيث انضم إلى فيلق القائد الشهير غورتشاكوف، ثم ضم إلى حامية «سيفاستوبل»، واشترك في معركة سنة 1855، وكذلك شهد ضرب سيفاستوبل من الجنود المتحدة فأظهر بسالة فائقة الحد؛ لأنه كان لا يعبأ بالأهوال المحدقة به، فيلقي نفسه في أشد المخاطر، ويشجع إخوانه الجنود للدفاع عن الوطن بكلام كان يؤثر في نفوسهم تأثيرا شديدا فيستقتلون في الهجوم. وفي أثناء تلك المعمعة المخيفة والأحوال المضطربة أرسل معتمدا إلى جلالة القيصر نقولا الأول حاملا إليه أوامر سرية مهمة، وفي ذلك الوقت المضطرب وقت الشدائد والأهوال وضع روايته الشهيرة «سيفاستوبل»، ثم أردفها برواية أخرى دعاها روبكاليسا «قطع الغابة».
ولما انتهت تلك الحرب المشومة، ورأى الفيلسوف عاقبتها الوخيمة التي كانت سببا لهرق دماء ألوف من الرجال الأبرياء، وتيتيم الألوف من الأطفال، وجرت بلاء عظيما على البلاد، كل ذلك على رأيه نتيجة أوروبا وفساد المجتمع الإنساني استقال من الخدمة العسكرية، ومن ذلك الحين صار يكره الحرب كرها شديدا، ويعتبرها جريمة يقترفها بنو البشر، وصار يمقت بل يتحامل على كل دولة تفتح حربا على أخرى، ولذلك لما انتشبت الحرب في جنوبي أفريقيا بين الإنكليز والترانسفال استاء استياء شديدا، وتمنى انتصار البوير واندحار الإنكليز؛ لزعمه أنهم معتدون عليهم وراموا سلب أملاكهم وبلادهم، ولكنه لما سافر وفد من البوير إلى أميركا طلب إليه بعض الأميركيين الذين يميلون إلى البوير أن يكتب في إحدى الجرائد الأميركية بضعة أسطر يظهر فيها ميله إلى البوير، علما منهم بأن كلام الفيلسوف يؤثر تأثيرا شديدا في نفوس الأميركيين، فتتحرك حكومتهم وتهب لنصرة البوير؛ فأجاب على ذلك بقوله: لا أتمنى لوفد البوير الفوز في أميركا؛ لأن فوزهم يتوقف على مداخلة الأميركان، ومداخلتهم تفضي إلى انتشاب الحرب بينهم وبين الإنكليز وأنا لا أريد ذلك، فإني إن فعلت أكون داعيا إلى الحرب التي تمقتها نفسي وأدعو الناس إلى تركها والتزام جانب الوئام والسلام، وهذا الكلام يطابق قول الشاعر العربي:
إذا استشفيت من داء بداء
فأقتل ما أعلك ما شفاكا
وعلى أثر استقالته اعتزل أشغال الحكومة، وأقام عدة أعوام قضاها في موسكو وبطرسبرج، وبين عام 1855 و1861 كتب الروايات الآتية: «دفاغوسارا» (الضابطان) وألبرت وليوتسرن وسعادة العائلة وبوليكوشكا، وفي عام 1861 جال في بعض أنحاء أوروبا، وعند عودته عاد فاستوطن قرية ياسنايا بوليانا، وجرد نفسه لخدمة الشعب داعيا إلى حب السلام والخير والفضيلة، فكان إذا وقع خلاف بين الفلاحين يحسمه بآرائه الثاقبة ويعيد السلام إليهم، وبذلك يمنعهم عن رفع قضاياهم إلى الحكومة التي - هي بنظره - تظلم الأهالي بأعمالها الحالية المجحفة بحقوقهم إجحافا ظاهرا لا يخفى على أولئك المساكين الذين لا يمكنهم الضغط أو الخوف من التصريح بتلك المظالم الفادحة. ثم أنشأ الفيلسوف في هذه القرية مدرسة وطنية كان ينفق عليها من جيبه الخاص، ويعلم بنفسه أولاد الفلاحين، ويبث فيهم روحا جديدا؛ فاشتهرت تلك المدرسة شهرة زائدة دوى صداها في جميع أنحاء روسيا، فصار يتقاطر إليها كثيرون من شبان بطرسبرج المتخرجين في كلياتها؛ ليتلقوا العلوم فيها مجانا تحت مراقبة وإرشاد الفيلسوف، وإنما كانوا يفعلون ذلك ليقتبسوا من معارفه العالية، ويغترفوا من بحار فلسفته ينبوعا صافيا خاليا من شوائب الأكدار، وينضموا تحت لوائه الذي هو - ولا ريب - لواء العلم والفلسفة الحقيقية التي لا يستطيعون الحصول عليها في تلك الكليات بين ذلك الوسط المضطرب الفاسد، ثم أصدر مجلة تهذيبية دعاها باسم تلك القرية المحبوبة، وشرع ينشر فيها المقالات الأدبية والتهذيبية بقصد تقويم أخلاق الأهالي والأولاد، ثم أخذ يدرب تلامذته وينشطهم على كتابة القصص الصغيرة، وينشرها لهم في المجلة.
وفي عام 1862 اقترن الكونت بكريمة الدكتور بيرس صوفيا، وبعد زواجه صار يسكن تارة في موسكو وطورا في القرية منتقلا بينهما، وفي أواخر السنة الستين كتب روايته الشهيرة «الحرب والسلام» جاعلا مدار الكلام فيها على عيشة الطبقة العليا الفاسدة وحرب سنة 1812، وفي السنة السبعين كتب رواية «حنه كارينينا»، وقد ذاع ذكر هاتين الروايتين في عموم أوروبا، وأكسبتا الفيلسوف شهرة عظيمة، حتى إنهما عربتا إلى أكثر اللغات الأجنبية بسرعة أشبه بسرعة البرق، وصادفتا رواجا عظيما حتى أعيد طبعهما مرارا بالنظر لما حوتاه من الوصف المدقق والأفكار السامية التي يعجز عن وصفها أبرع كتاب العالم، وبناء على ذلك عظمت منزلة الفيلسوف العلمية عند جميع علماء أوروبا، واتفق العالم أجمع على أنه أحذق كاتب في الوصف الحقيقي، ولتأثر كتابته في نفس قارئيها في عصرنا الحالي.
وفي عام 1882 كتب في مجلة «ديتسكي أوتضيخ» (راحة الأولاد) روايته البديعة «بما يحيا الناس»، ثم وضع عدة كتب تهذيبية ليطالعها الشعب الروسي الذي هو بأشد احتياج إليها، وللآن لم يزل يؤلف الكتاب بعد الآخر، وهذه رواياته العديدة كالبعث أو القيامة، وأين المخرج ، والحب والزواج وغيرها، أكبر شاهد على سعة اطلاعه وسمو مداركه، وكفانا شاهدا عدلا أنها تترجم إلى أكثر اللغات الأجنبية في نفس اليوم الذي تظهر فيه باللغة الروسية. ومؤلفاته هذه مختلفة المواضيع والمباحث؛ فإنه يكتب في الدين، والتهذيب، والأدب، والنفس، وهو بنفسه يحرث الأرض، ويشتغل سحابة نهاره وبعض ليله بدون كلل ولا ملل، وقد وزع أخيرا أملاكه الواسعة على فلاحيه بالسواء، تاركا لنفسه وأولاده بعض الأراضي التي يكفي ريعها لسد نفقاتهم باقتصاد.
إن الفيلسوف تولستوي يمتاز عن جميع كتاب الأرض بأمر واحد، هو وصف الأشخاص والأشياء وصفا يطابق حالتها تمام المطابقة، فإذا وصف فلاحا، أو عجوزا، أو متسولا رث الثياب، أو ملكا، أو وزيرا، أو قائدا، أو أحدا من طبقة الأشراف أو الأغنياء أو إحدى العقائل، فإنه يأتي على وصف صفاتهم وحالتهم وأفكارهم الحقيقية وسكناتهم وحركاتهم بما يخلب الألباب ويأخذ بمجامع القلوب، فيتخيل للقارئ أنه يرى الشخص أو الشيء الموصوف أمامه كما هو تماما، والقارئ أيضا يرى أنه يعرف تلك الأوصاف ويشاهدها كل يوم، ولكنه لا يستطيع أن يجمعها كلها أو يوردها مترادفة كما يوردها الفيلسوف الذي هو بهذا المعنى كمصور بارع يصور الأشخاص تصويرا حقيقيا، لا يدع مجالا لمنتقد، وإنما تولستوي يزيد على ذلك بتصويره حالة نفس الإنسان الداخلية وشعوره، فكأن نظره أشعة رنتجن تخرق أعماق القلوب فتكشف مخبآتها، يورد ذلك بكلام بسيط لا يحتاج إلى تغيير زائد أو تأويل، وهو لا يخوض عباب موضوع إلا بعد أن يدرسه درسا نظريا مدققا، ولا يكتفي بالظن أو السمع أو الإشارة، وكل تآليفه يقصد بوضعها خير الناس وإرشادهم سواء السبيل، وهي من هذا القبيل تطابق تعليم السيد المسيح السامية، ولقد حصر صفات الإنسان القبيحة فإذا هي كما يأتي: العديم القلب، القساوة، الأنانية، الكذب، قلة الأدب، الاختلاق، البلادة، العظمة أو الكبرياء. والصفات الحسنة هي: البساطة، طهارة القلب، عدم الاعتماد على الغير، ذو شعور وإحساس، محبة الناس، التنازل، التواضع، رقة الجانب، البشاشة، الرحمة.
ولذلك نرى الفيلسوف في جميع تآليفه يورد أمثلة من وسط رجال ونساء الطبقة العالية الذين لم ينغمسوا في الشهوات ولا تهوروا في البذخ والعيشة المعيبة والقصف والتهتك، وكذلك يورد أمثلة من وسط الجنود والفلاحين والشعب البسيط الذي يفضله تولستوي على طبقة الروسيين العلياء الفاسدة، ويمثل بهذا الشعب قوة روسيا الغير الممسوسة، أو بعبارة أخرى: التي لم يطرأ عليها الفساد.
أما المواضيع التي بحث فيها هذا الفيلسوف العظيم في تآليفه فهي مختلفة المباني والمغازي، ويمكن حصرها في أربعة أقسام:
أولا:
بحث بحثا مفصلا مدققا في عيشة الطبقة العلياء الروسية، وهذا الموضوع لم يسبقه إليه كاتب لا روسي ولا خلافه، وفي هذا الباب يبحث عن آداب وتمدن الشبان الروسيين الأغنياء والأمكنة التي يستهلكون الوقت فيها وعن حالة نفسهم، ثم يبحث في تمدن النساء الفاسد وأوصافهن مع أبنائهن وبناتهن، ويورد عنهن روايات مختلفة حقيقية، ثم يبحث في حالة المعيشة العيلية.
ثانيا:
أن يصور بمهارة زائدة جميع أدوار الحياة وأفراحها وأتراحها، وهو يغار غيرة شديدة على حفظ الرباط العائلي ورباط الزوجين طاهرا من الدنس بعيدا عن الفساد، وكذلك يدعو الناس إلى تربية الأولاد التي ينبغي أن يشترك بها الوالدان، وينصح للأمهات أن يرتبطن بأولادهن ارتباطا متينا لا تحل عراه الليالي الراقصة والاجتماعات البيتية والألعاب الغير لائقة للنساء؛ لأن الرباط العائلي إذا كان خاليا من المحبة، ومؤسسا على المظاهرات الخارجية فقط يكون كالبيت المؤسس على الرمل الذي يهدم بسرعة، ويجر وراءه الويل والخراب.
ثالثا:
أن تولستوي هو الوحيد بين الكتاب الروسيين الذي وصف فساد المعيشة الجندية، من أعظم قائد إلى أحقر جندي، ووصف الحرب وعدد أضرارها الكثيرة وشرورها العظيمة التي تجلبها لجسم المجتمع الإنساني، وقد قال عن ذلك - إن الحرب تقطف زهرة حياة الشبان، وتخفي نور السرور، وطيب العيش من بينهم، وبطرقه هذا الباب فتح بابا جديدا كان مقفلا ليس لكتاب الروس فقط، بل لجميع كتاب أوروبا.
رابعا:
إن الفيلسوف أعدل كاتب روسي وصف حالة الفلاح الروسي المستقبل وحالة الفلاحين المستعبدين للأشراف استعباد الرقيق، وبوصفه هذا وقوة براهينه أفهم العالم طرا بأن هذا الشعب البسيط الذي يعتبره العالم إبان السلم شعبا خشنا متوحشا يظهر في وقت الحرب معدن خير وشجاعة وشهامة وصبر، ولذلك لا يسوغ للمتمدنين أن يحتقروا الشعب المتحلي بهذه الصفات في وقت السلام. آه ...
قال الكاتب الذي نقلنا عنه ترجمة حياة هذا الفيلسوف: إن كل روسي يجري في عروقه الدم السلافي يفتخر بالكونت تولستوي الذي أولى روسيا فخرا عظيما، وأظهر لأوروبا أن في روسيا قوة مدفونة حان زمان إخراجها، وأنها ستفوق قوات أوروبا العقلية جمعاء.
الفصل الثاني
زمن صباه
قال الفيلسوف: لله ما أحسن أيام الصبا التي لا تعود! وما أحلى ذكراها في فمي وأطربها على فؤادي! فإنها تنعش صدري، وترفع نفسي، وهي ألذ ذكرى عندي؛ لأنها تذكرني بما مر في زمن الصبا من أويقات الأنس والصفاء، فقد كنت أقضي سحابة نهاري باللعب حتى يجيش دمي فأدخل مساء غرفة الطعام، وأجلس على مقعدي الخاص أمام المائدة، وأتناول قدحا من اللبن اللذيذ المحلى بالسكر، وبعد ذلك يسطو علي النعاس فيثقل جفناي في وقت أفضل فيه البقاء في مكاني على براحه؛ لكي أتمتع بالإصغاء للحديث، وكيف لا أصغي لحديث والدتي مع الآخرين؛ فإن صوتها الرخيم وكلامها العذب كانا يخرقان أعماق قلبي ويرتسمان فيه كأنهما من نار، ولكن عيني كانتا تزيدان ثقلا، وسلطان النوم يسطو علي فأتفرس بوالدتي فأراها تصغر كثيرا حتى يصبح وجهها بنظري بقدر الذر، ولكنه مع ذلك واضح لي تمام الوضوح، ويظهر لي أنها تنظر إلي مبتسمة فأطرب جدا بمرآها على تلك الصورة، فأحدق بعيني وأشدهما لأتمكن من رؤيتها أكبر مما هي ظاهرة لي، ولكنها لا تبلغ في نظري حجم أولئك الصبيان الذين نراهم في إنسان العين.
ثم أنهض من مكاني وأضطجع على الكرسي الهزاز الكبير فتقول لي أمي: إنك تنام على الكرسي ويضرك البرد، وخير لك أن تذهب إلى غرفة منامك في الطابق الأعلى. فأجيبها أني لا أريد أن أنام، غير أن نوم الصبا الصحيح كان يثقل جفوني فأنام نوما هنيئا هادئا، ولا أستيقظ إلا عندما توقظني، فأشعر إبان نومي بأن يدا ناعمة لطيفة تطوق عنقي، وبمجرد لمسها لي كنت أعرفها حالا وأجذبها إلي وألصقها بفمي وأقبلها قبلات حارة متعددة؛ فتخاطبني بصوتها الحنون قائلة: انهض يا روحي، قد حان وقت النوم. أما أنا فكنت أتناوم غير خائف كدرها، وإنما أفعل ذلك قصدا؛ لتزيد في مداعبتي وملاطفتي فلا أفوه ببنت شفة، ولا أبدي حركة؛ بل أقبل يدها مرارا وتكرارا، فتقول: انهض يا ملاكي، قم يا عمادي، استيقظ يا مهجة فؤادي وقرة عيني. ثم تدغدغني بيدها الأخرى، فتتنبه أعصابي، وأنهض مدفوعا فأرى أمي جالسة أمامي، فأطوق عنقها بيدي، وأضع رأسها على صدري، وأتنفس الصعداء، وأقول: آه كم أني أحبك يا أماه! فتتبسم ابتسامة تشف عن حب عظيم، ثم تجذب رأسي إليها، وتقبل جبيني، وتنهضني على حجرها، وتقول لي: إذن أنت تحبني يا ليون، فداوم على حبك، ولا تنسني أبدا، وإذا جاءك يوم لم تجد فيه أمك فلا تنسها؛ بل ابق على حبها كما لو كانت أمامك. ثم تكرر تقبيلي فتتهيج حواسي وأذرف دمعا سخينا، وأقابلها بالقبلات الحارة، وبعد ذلك أصعد إلى الطابق الأعلى، وأدخل غرفة النوم، وأقف أمام الأيقونات، وأصلي صلاة وجيزة أختمها بالدعاء بطول بقاء والدي، ولا أجد أعذب من تلك الألفاظ لفؤادي، وهي عندما كنت أقول: ارحم يا الله أبي وأمي، وحين تلاوة تلك الصلاة كنت أشعر بسعادة عظمى؛ ذلك لأني أمزج محبة والدي بمحبة الله الحي.
وبعد الصلاة أتوسد الفراش فتهجم علي الأفكار والهواجس، فتطرد بعضها بعضا، وكلها ملآنة بحب طاهر وآمال عظيمة بالسعادة النيرة المستقبلة، فيمر في مخيلتي ذكر أستاذي كارلوس وما حل به من المصائب؛ فأتألم من ذلك كثيرا، فأسأل الله القادر على كل شيء أن يخفف مصابه، وأن يمكنني من مساعدته لأقدم له كل ما في استطاعتي تقديمه. ثم تنتقل أفكاري فجأة إلى ألعوباتي وكلبي الأمين الذي كنت أحبه، فترتاح نفسي لذلك، ولا يعود يهمني إلا أن يكون الجو في اليوم التالي جميلا لأتمكن من الخروج إلى النزهة، ثم أتحول إلى جانبي الآخر فتمتزج تلك الهواجس والأفكار فأنام نوما هنيئا لذيذا ، ووجهي رطب بدموع السرور والابتهاج، فهل يا ترى تعود إلي هذه الوجدانات الرقيقة وعواطف المحبة العامة الشديدة، وقوة الإيمان والرجاء الزائد التي كنت حائزا عليها في أيام صغري؟ وأي شيء يتمنى الإنسان خيرا من أن تجتمع فيه صفتان جيدتان؛ سرور دائم طاهر، وحب زائد للجميع، وتكون هاتان الصفتان ملازمتين له في جميع أدوار حياته، ومحركتين له على فعل الخير والصلاح والأعمال الحسنة المرضية. أين تلك الصلاة الحارة؟ وأين تلك المواهب الثمينة، وتلك الدموع الطاهرة؛ دموع الالتماس والآمال؟ لقد هبط ملاك التعزية ومسح تلك الدموع ببشاشة وهشاشة. فهل الحياة ألقت على عاتقي حملا ثقيلا من متاعبها، ونزعت عني تلك الدموع والأفراح، ولم تبق لي سوى ذكرها ...؟
ومما قاله ذاكرا زمن فتوته: أيصدقني الناس لو علموا الأفكار التي كانت موضوع تأملاتي الدائمة في أيام فتوتي، ذلك لأنها غير مطابقة لسني وحالتي، وعلى رأيي أن عدم المطابقة بين حالة الإنسان وأعماله الفكرية الأدبية هي برهان واضح للحقيقة، وإني قد انفردت سنة كاملة كنت أسعى في أثنائها لحل بعض مسائل عويصة ظهرت في فكري، ولم أتمكن من كشف النقاب عن محياها بالنظر لصغر سني، وهي: ماهية الإنسان، وحياته المستقبلة، وخلود النفس، ومع هذا فإن عقلي القاصر في ذلك الحين كان يلتهب لإيضاح هذه المسائل التي تعد بعرفي خطوة شاسعة؛ ليستطيع أن يدركها عقل الفتى الذي لم يتح له السن حل معماها أو إيضاحه.
ويظهر لي أن العقل البشري يترقى في كل شخص بمفرده بحسب الطريقة التي يسير عليها في التثقيف، وأن الأفكار التي تشتغل لتكون أساسا للأعمال الفلسفية ليست إلا قسما متحدا مع العقل، فهما من هذا القبيل رضيعا لبان، وأن كل إنسان يشعر بها، ويميل إليها قبل أن يدرس الفلسفة، ولقد تمثلت هذه الأفكار في عقلي تمثلا واضحا، حتى إنني عزمت على أن أتخذها طريقة أسير عليها في جميع أدوار حياتي، وكنت أتوهم في نفسي بأني أول مكتشف لهذه الحقائق العظيمة النافعة، ومرة خطر على بالي فكر، وهو أن السعادة لا تتوقف على الأسباب الطارئة الخارجية؛ بل على علاقاتنا بتلك الأسباب ونسبتنا إليها، وأن الإنسان الذي تعود خوض المنايا واحتمال المشقات والمصاعب، لا يمكن أن يكون تعيسا، أو يشعر بالتعاسة، وأنا لكي أعود ذاتي على التعب كنت أحمل بيدي الممدودتين مدة خمس دقائق قاموسا غير مبال بالألم الشديد.
وذات يوم ورد على فكري فجأة بأن الموت ينتظرني في كل ساعة وكل دقيقة، وقد حتمت دون أن أدرك تلك الحقيقة التي لم يدركها الناس السالفون بأن خير واسطة لسعادة الإنسان هي أن يتمتع، وينتفع بالحاضر، ولا يفتكر بالمستقبل، فأثر في نفسي هذا الفكر تأثيرا شديدا، حتى إنني خضعت له، وتركت الدرس ثلاثة أيام متوالية، واضطجعت على سريري، وتفكهت بمطالعة الروايات، وتنعمت بألذ المأكولات وأشهاها.
ومرة وقفت أمام اللوح الكبير الأسود في غرفة التدريس، وجعلت أرسم عليها بالتباشير صورا مختلفة غير مرتبة، فخطر لي فجأة معنى وهو لما يسر النظر بالترتيب والانتساق، وسألت نفسي ما هو الانتساق؟ وعلى أي شيء مؤسس؟ وهل كل شيء في هذه الحياة منتسق الوضع؟ فقلت: كلا هذا غير ممكن، ثم رسمت على اللوح صورة فرضت بأنها الحياة، وقلت: إن النفس تذهب بعد الحياة إلى الأبدية، فمددت خطا طويلا من الصورة حتى إلى آخر اللوح، ورسمت في آخر الخط صورة وفرضت بأنها الأبدية، ثم سألت نفسي: لماذا لا يوجد خط آخر من جهة صورة الحياة المقابلة؟ وكيف لا يمكن أن تكون الأبدية من جهة واحدة فقط ... فلا ريب بأننا وجدنا قبل هذه الحياة، ولكننا قد نسينا وجودنا ولم نعد نتذكره؟
إن هذا الفكر ظهر لي بأنه جديد، لكنه واضح لا يحتاج إلى برهان، ثم أخذت دفترا وعزمت أن أكتبه فيه كي لا أنساه غير أن الأفكار العديدة تجمعت في تلك الآونة في رأسي، وحالت دون ذلك، ولم أجد وسيلة لطردها سوى أني نهضت من مكاني، وشرعت أتخطر في الغرفة ذهابا وإيابا، ثم أبصرت فرسا فجعلت أفتكر أين تذهب روحها بعد موتها؛ أإلى إنسان أم حيوان؟ وبينما كنت أجهد أفكاري لحل هذا السؤال دخل علي أخي، فلاحظ أنني أفتكر بأمر ذي بال فابتسم، وابتسامته هذه وضعت حدا لأفكاري، وأفهمتني بأن كل ما أفتكر به ما هو إلا خرافات باطلة.
وإني لم أتمسك بمعتقدات الفلاسفة القائلين بوجود الصور والأجسام؛ لأنني أعتقد أنه لا يوجد أحد أو شيء غيري في هذا العالم، وأن الأشياء ليست بأشياء، وأن الأجسام والصور تظهر لي عندما أشاهدها أو أوجه إليها التفاتي، وأنه عندما لا أفتكر بها أو لا أشاهدها تختفي عني حالا، ومجمل القول: إني وافقت مذهب سيللنغ القائل بعدم وجود الأجسام والأشياء، بل توجد نسبتنا إليها وعلاقتنا بها.
إن الأفكار الجديدة تتولد بواسطة مقدرة الإنسان من المعرفة أو الإدراك على ضبط حالة النفس بوقت محدود، ثم استعمالها عند الاقتضاء، ولا يخفى أن ميلي إلى الأفكار الجديدة رقى إدراكي ترقية غير طبيعية، وآل بي إلى أنه عندما أشرع أفتكر بالشيء البسيط كنت أسقط في لجة أفكار مختلفة يصعب علي الخروج منها، ولا أعود أستطيع أن أحصر أفكاري بذلك الشيء الذي يشغل فكري؛ بل كنت أفتكر بماذا أفتكر، فأسأل نفسي: بم أفتكر؟ فأجيب: أفتكر بما أفتكر. وبماذا أفتكر يا ترى الآن؟ إني أفتكر بالشيء الذي أفتكر به؛ لأن الإدراك الآن قد وافى العقل ... وفوق ذلك فإن اكتشافاتي الجديدة قادتني إلى محبة ذاتي، فقد جعلت أتصور بنفسي رجلا عظيما قد اكتشفت لخير الإنسانية أجمعها حقائق جديدة، فأفضل ذاتي على جميع العلماء المتقدمين الذين لم يفيدوا العالم بشيء، ولكن يا للعجب والدهشة؛ فإني عندما كنت أقابل نفسي بواحد منهم كنت أجزع خوفا من ذلك، وبمقدار ما كنت أعلي منزلتي لذاتي لم أستطع في تلك المقابلة أن أرفعها ولو قليلا بالنسبة إلى الغير، حتى إني لم أتمكن من أن أضبط نفسي عن الخوف والخجل لدى كل حركة تبدو مني أو لفظة أتفوه بها.
الفصل الثالث
في سبب صداقته لصديقه ديمتري نيكيليدوف
قال الفيلسوف: دخلت ذات يوم غرفة أخي فوجدته مضطجعا على المقعد يطالع رواية إفرنسية، فرفع رأسه ليرى الداخل، ولما أبصرني رجع إلى حالته الأولى، واستمر على المطالعة دون أن يكلمني، فأخذت كرسيا وجلست حذاء المنضدة، وبعد برهة سألته هل يريد البقاء في البيت أم يروم الخروج للنزهة مع أصحابه؟ فأحدق بي مليا بدون أن يجاوبني، فاستدللت من ذلك أنه لا يرغب الكلام معي. فأخذت كتابا وشرعت أطالعه، ولبثنا برهة غير يسيرة لا يكلم أحدنا الآخر، فاستكبرت الأمر وقلت في نفسي: مر علينا يومان لم ير أحدنا الآخر فيهما، والآن لدى اجتماعنا لا يريد أن يكلمني! إن هذا مما يقضي بالأسف والعجب، وفي أثناء ذلك دخل علينا صديقا أخي دوبكدف وديمتري نيكليدوف، وسلما عليه بشوق، ولم يكترثا بي لأني أصغر منهما، ثم أخذوا يتحادثون عن أمور مختلفة.
أما أنا فلبثت في مكاني ولم أبد أقل حركة كأني غير موجود بينهم، وفي أثناء الحديث قال صديقا أخي له: هلم بنا نذهب هذه الليلة إلى التياترو؛ لأننا قرأنا في الجرائد إعلانا عن رواية بديعة المثال لم يسبق تمثيلها قبل الآن. فأجابهما: لا أستطيع ذلك بالنظر لعدم استعدادي للخروج. فاشتد بينهما الحديث حتى اتصل إلى جدال عنيف وتعنيف مخيف، حتى قال ديمتري لأخي: إنك تحب ذاتك محبة شديدة، والأنانية صفة قبيحة لا يليق بالشاب الأديب أن يتصف بها! فأنكر أخي عليه ذلك، وقال: إنك تنسب إلي هذه التهمة ظلما وأنا بريء منها! فتداخلت أنا في الموضوع وسألتهم جميعا ما هو حب الذات؟ أو ما هي الأنانية؟ فأطرقوا كلهم مليا، ثم عرفها كل منهم تعريفا لا يطابق الحقيقة. فقلت لهم: إن تعريفكم غير صحيح، وما كنت أنتظر صدوره عنكم أنتم الذين تعلمتم العلم الصحيح، وتخرجتم في أشهر المدارس العالية «كليات». فتفرس في ديمتري وقال لي متهكما بي: عرف لنا حب الذات أيها الفيلسوف الشهير. فخفق فؤادي سرورا؛ لأني علمت أنها أحسن فرصة أتيحت لي لأبرهن لهم بأني لست أقل منهم إدراكا، فقلت: إن حب الذات هو أن يثق الإنسان بنفسه بأنه أحسن وأعقل جميع الناس. فقال نيكليدوف: إن تعريفك هذا لا يوافق عليه أحد أبدا. فأجبته : لا يهمني إن كان أحد يوافقني أم لا، وإنما أؤكد لك أني أعتقد بنفسي بأني أعقل كل الناس وأحسنهم، وأعتقد أيضا بأنك نفسك تعتقد مثل هذا الاعتقاد. فقال نيكليدوف: كلا، إني لا أعتقد بنفسي كذلك أبدا، وإني أعرف كثيرين هم أسمى مني، وأعترف لهم بسمو العقل والإدراك عني. فأجبته: ذلك مستحيل، ولا يمكن أن يكون أبدا أبدا؛ فازداد في تفرسا، وقال: هل عن جد تقول هذا الكلام؟ فأجبته: نعم، ثم نعم. وإذ ذاك حضرني خاطر فقلت له: وإني أبرهن لك على ذلك برهانا لا تقدر على دحضه وهو: لماذا يحب كل واحد منا نفسه أكثر من الآخرين؟ ... ذلك لأنه يحسب نفسه أحسن منهم، وأنه أهل للمحبة أكثر منهم، ولو أننا نجد غيرنا أحسن منا لكنا لا محالة أحببناهم أكثر من أنفسنا، وذلك مستحيل ورابع المستحيلات، فافتكر جيدا وتأمل كلامي تجد أني محق كل الحق في ما قلته. فصمت نيكليدوف هنيهة يفتكر، ولما لم يستطع أن يعترض على رأيي رفع رأسه وابتسم ابتسامة تشف عن طهارة وصداقة، وقال: ما كنت أظنك مدركا بهذا المقدار! فشعرت إذ ذاك بأن أجنحة السعادة ترفرف فوق فؤادي.
ولا يخفى أن للمدح والثناء قوة شديدة تؤثر تأثيرا عظيما في عقل الإنسان، والدليل على ذلك أنني شعرت من نفسي بأنني أصبحت أكبر وأعظم وأعقل مما كنت كثيرا، وهذا الشعور ولد برأسي أفكارا ومعاني جديدة.
ثم اتصلت ونيكليدوف من حب الذات إلى المحبة الحقيقية، وبقطع النظر من أن حديثنا يظهر للقارئ تافها أو بدون معنى، فقد كان له عندنا أهمية عظمى، فإن نفسينا اتفقتا اتفاقا واحدا كأنهما في جسد واحد، بحيث لو ضرب أحدنا على أوتار نفس الآخر لرأى أن الرنة تؤثر تأثيرا بينا في نفسه فتبدي نغمة واحدة، ولقد شعر كلانا بسرور عظم لاتفاق عواطفنا وشعورنا أيضا بأنه ينقصنا وقت ليظهر فيه الواحد للآخر ما يخالج كلا ضميره.
ومن ذلك العهد تمكنت عرى الصداقة بيننا، فكنا ننفرد أحيانا كثيرة في غرفتي نتطارح الحديث، ونتكلم عن معيشتنا المستقبلة ، وخدمة الحكومة، والزواج، وتربية الأولاد، وما شابه ذلك، ولكن لم يكن يخطر ببالنا ولا مرة واحدة بأن كلامنا ما كان إلا حديث خرافة؛ ذلك لأننا كنا نجد فيه طلاوة جديدة تطرب حواسنا بسماعها؛ لأن الصغير يقتنع في نفسه ويعتقد في عقله اعتقادا ساميا.
ومعلوم أن جميع قوى نفس الشاب تكون موجهة بجملتها إلى المستقبل الذي يولد في رأسه أفكارا مختلفة لذيذة، وهي لا تكون مبنية على اختبار المعيشة الماضية؛ بل على أمل عظيم بإمكان الحصول على سعادة عظمى في المستقبل، وهذا الأمل الوطيد في النفس يؤلف أو يكون سعادة الشاب الحقيقية.
وعندما ابتدأ الناس يحتفلون بموسم الرفاع «كرنفال» انهمك صديقي نيكليدوف في السرور والابتهاج، وزارنا عدة مرار، ولكنه لم يلتفت إلي، ولم يحادثني البتة؛ فاستكبرت الأمر، وحسبت ذلك إهانة لي، وحكمت بأنه متشامخ غير أهل للصداقة، فجعلت أترقب فرصة لأعلمه بها بأني ما عدت أهتم بصداقته فأقطع معه كل علاقة.
فلما زارنا أول مرة بعد انقضاء الرفاع تقدم إلي على قصد محادثتي، فقابلته بعبوسة وقلت له: ليس لي وقت للحديث لأني مضطر لاحضار دروسي. ثم تركته وصعدت إلى الدور العلوي، وانزويت في غرفتي، ولكن بعد ربع ساعة فتح باب غرفتي ودخل علي نيكليدوف، وقال: هل يكدرك حضوري؟ فأجبته بعامل خفي: كلا. مع أني قصدت عمدا ألا أقبله، ثم قال لي: لم تركتني وحدي يا عزيزي؟ أليس لأنه مضى علينا بضعة أيام لم نجتمع ولم نتحادث سوية؟ أفلا تدري أني قد اعتدت ذلك وأشعر عند عدم محادثتك كأنه ينقصني شيء؟
فسرى عني حالا ما كنت به، وذهبت من نفسي تلك الشكوك، وظهر لي ديمتري كما كان يظهر من ذي قبل بأنه شاب لطيف، فأجبته: أنت تعلم لماذا تركتك. فقال: يحتمل ذلك، ولكنني لو عرفت السبب فلا أصرح به؛ لأني أفضل أن أسمعه منك. فقلت: إني أصرح لك بالسبب وهو: تركتك لأني كنت غضبانا عليك، ولا أقول غضبانا بل منفعلا منك، ثم إني كنت أظن دائما أنك تزدري بي بالنظر لحداثتي بالنسبة إليك. فألقى علي نظرة تشف عن حب طاهر شديد، وقال: أتعلم لماذا تعلقت بك وأحببتك أكثر من كل معارفي؟ ذلك لأنك متصف بصفة تفردت بها عن سواك، وهي الإخلاص والاعتراف بكل شيء.
فأجبته: أجل، إنني أعترف دائما بكل أمر حتى ولو كان معيبا، وإنما أعترف فقط لمن أثق بصداقته وولائه.
فقال: إن كلامك عين الصواب، فإنه لكي تثق بشخص ما ينبغي أن تكون مخلصا له إخلاصا حقيقيا، أولسنا صديقين يا ليون؟ أفما تكلمنا عن شروط الصداقة وماهيتها، وقد اتفقنا على أن نكون صديقين حقيقين، وأننا نثق ببعضنا كل الوثوق؟ وها إننا نتعاهد من الآن فصاعدا على أن نعترف بكل شيء لبعضنا، وبهذه الوسيلة نتمكن من درس أخلاق بعضنا، ولا نعود نخجل من شيء، ولكي لا نخشى فساد الغير نتعاهد أيضا ألا يتكلم أحدنا عن الآخر في أي مكان وجد. قال كار: إنه يوجد لكل اتحاد طرفان؛ الواحد يحب والآخر يرشح ذاته للمحبة، الواحد يقبل والآخر يقدم وجنته للتقبيل، وهذا عدل لا ريب فيه، وفي صداقتنا كنت أنا أقبل وديمتري يقدم لي وجنته لأقبلها، وهو أيضا كان مستعدا لتقبيلي؛ لأن حبنا كان متساويا متبادلا. •••
إن صداقة نيكليدوف كشفت لي دورا جديدا للحياة وغايتها وعلاقتها، وفهمت منه أنه من واجبات الإنسان أن يترقى في كل شيء حتى يرقى قمة الكمال الأدبي الذي هو سهل المنال ومستطاع لكل من يسعى للوصول إليه والحصول عليه، أما أنا فإني كنت حتى هذا العهد أبتهج باكتشاف الأفكار الجديدة، وأعتقد أيضا أني أستطيع الوصول إلى قمة ذلك الكمال، فكنت أرسم في مخيلتي رسوما عديدة لأعمالي المقبلة؛ لأن عيشتي كانت حتى هذا الوقت عيشة اضطراب وبطالة وتشويش أفكار.
إن الأفكار الحسنة التي تبادلتها مع صديقي ديمتري نيكليدوف كانت تعجب عقلي فقط دون حواسي، غير أنه أتى وقت ظهرت لي تلك الأفكار بمظهر جديد وقوة جديدة شعرت على أثرها بخوف شديد، وآسفت على ذلك الوقت الطويل الذي صرفته عبثا، وعزمت عزما ثابتا أن أشرع من تلك الدقيقة باتخاذ هذه الأفكار الجديدة قانونا أسير عليه في حياتي، ووطدت النفس بأني سأحافظ عليها، ولا أحيد عنها حتى النفس الأخير من حياتي. إن هذا التغيير الفجائي الذي حصل لي أسميه ابتدأ زمن الشبيبة ومعترك الحياة.
هذا ما كتبه الفيلسوف عن نفسه في كتاب عنوانه فتوة وصبوة وشبيبة تولستوي نقلناه عنه باختصار.
الفصل الرابع
معيشة الكونت في قرية ياسنايا بوليانا
لا ريب بأن القاريء الكريم يشوقه الاطلاع على معيشة هذا الرجل الفاضل في داره، وقد يتبادر لذهنه نظرا لشهرة الكونت ورفعة شأنه، ووفرة ثروته، وعلو حسبه ونسبه، أنه يسكن قصرا فاخرا محكم البناء والاتقان مزدانا بأقصى درجات البهرجة والزينة، ولديه عدد وافر من الجواري والخدم، ولا بد تأخذه الدهشة عندما نصفه له بما يأتي:
إن بيت الكونت تولستوي واقع في ظاهر قرية ياسنايا بوليانا تحيط به غابة كثيفة في دورين، جدرانه مغشاة بالجير الأبيض في غاية البساطة، وليس له شرفات ولا أروقة، ولا شيء من الزخرفة تدل على أنه بيت الكونت، وهو يعيش فيه مع زوجته وأولاده عيشة بسيطة خالية من كل تكلف، لا تفرق شيئا عن معيشة الفلاحين، وليس ذلك فقط؛ بل إنه يرتدي ملابس نظيرهم؛ أعني سراويل واسعة وفوقها قميص واسع أيضا يتمنطق عليه بمنطقة من الجلد الروسي، فإذا أصبح يتناول الشاي، ثم يذهب إلى الغيط يحرث الأرض، ويغرس الأشجار، ويبذر الحبوب، وإذا عاد مساء من الحقل يجلس مع زوجته وأولاده حول الخوان لتناول طعام المساء.
أما أثاث بيته، فهو عبارة عن مقاعد خشبية وعدة كراسي، وقد علق على بعض جدران المنزل صورة شكسبير ودكنس وبعض صور أسلافه، وقد طال شعر الكونت ففرقه كالنساء فوق جبينه كما ترى من رسمه.
ولا يكتفي الكونت بزراعة أرضه، بل يساعد الفلاحين الفقراء بالحراثة وغرس الأشجار؛ لأنه يرى أن مساعدة الفقير بالعمل أفضل له كثيرا من المساعدة المالية، وقد قال عن ذلك: ساعد المحتاج بالعمل تعلمه الجد والكد، والابتعاد عن الكسل الذميم، وتكون له خير أنموذج حسن فيضطر أن يقتدي بك، ويرى أن العمل أمر شريف وواجب على كل إنسان مهما كان رفيع المقام وافر الثروة، وبهذه الواسطة يقنع كل فقير بما يحصله بتعبه ونشاطه، ولا تعود نفسه تطمح إلى التقاعد والكسل، بخلاف إذا تصدقت عليه بالمال، فإنه يدب فيه روح الكسل، ويميت منه عاطفة الشهامة، فيجنح إلى التواني وقلة الشغل فتسوء حالته تدريجا، ويصبح عضوا غير نافع في المجتمع الإنساني، ويجر على عائلته الويل والمصائب ... إلخ.
ثم إن للفيلسوف في بيته القروي مكتبة، وهي عبارة عن مقصورة ضيقة تحتوي على كرسي من الخشب، وطاولة مغطاة بغطاء من الجوخ الأخضر القديم، وحول جدران الغرفة رفوف خشبية مرصوصة عليها كتبه الكثيرة، وفي إحدى زوايا الغرفة معلقة صورة رجل روسي من القائمين على الحكومة، وكثيرون من شبان روسيا المتخرجين في كلياتها يقصدون الكونت في قريته، ويتتلمذون له، ويحذون حذوه في أمر مساعدة الفلاحين، والاشتراك بالعمل مع الجميع.
الكونت في داره بمدينة موسكو
لقد ذكرنا حالة معيشة الكونت في قرية ياسنايا بوليانا حيث يقضي فصل الصيف فيها، وأما في الشتاء فيقيم في مدينة موسكو فينقطع عن الأعمال الجسدية المتعبة، ويتفرغ للأعمال العقلية النافعة؛ فيؤلف الكتب المفيدة، ويطالع أشهر المؤلفات العلمية والفلسفية، ولا يقابل أحدا من رجال الروس إلا القليل الذين له علاقة معهم، أما الأجانب فيأذن لكل واحد منهم بمقابلته في أي وقت أرادوا. وبيته واقع في ظاهر المدينة في شارع «حقل البنات» تدل ظواهره على أنه من البيوت القديمة، وهو مؤلف من دورين، وخصص الكونت لنفسه غرفة في الدور الثاني مفروشة فرشا بسيطا، وفيها مكتبة ومقعد وعدة كراسي وطاولة، وأما الدور الأول حيث تقيم زوجته وأولاده فهو مفروش بالرياش الفاخرة فتزدحم فيه أقدام الزوار حيث يلعبون الألعاب المختلفة؛ لأن عيلته تسير في معيشتها في موسكو كأهل هذا العصر في اللعب، وكثرة الزيارات، والكونت لا يشاركها في ذلك أيضا؛ بل يكون دائما منزويا متفرغا للعلم والعمل، وهيئته تدل على الرزانة وكبر العقل، وهو ينهض من النوم الساعة الخامسة صباحا فيشتغل بالتأليف والتحرير، وعلى الغالب يقابل زواره عند المساء ، وهو لطيف المعشر أنيس المحضر، يلاطف زائريه ويهش في وجههم من أية طبقة كانوا، وإذا حدث أحدهم أطال الكلام معه، وهو قوي الحجة، شديد العارضة، قوي البرهان، يقنع خصمه بالأدلة القاطعة والبراهين الساطعة السديدة فيجعله مقتنعا ممتنا منه، ويشاركه أولاده في تبييض الكتب وتصليح مسوداتها.
وإتماما للفائدة ننقل عن مجلة المقتطف
1
الغراء ما دار من الحديث بين الفيلسوف والكاتب الإنكليزي المستر لونج إبان زيارته له، حيث قال: لما زرت الفيلسوف المرة الثانية رأيته قد أتم كتابة كتاب إلى البعض من أعضاء مجلس النواب الأسوجي، وكانوا قد كتبوا يسألونه عن رأيه في دعوة القيصر إلى عقد مؤتمر السلم؛ فأجابهم أن ما عرضه القيصر باطل لا يمكن العمل به؛ لأن الحكومات الحاضرة لا تستطيع أن تبطل الحروب ولا أن تخفف ويلاتها، ثم قرأ لي جوابه، وكان كلما قرأ فصلا منه يقف ويقول لي: أفهمت مرادي؟ حتى أتى على آخره، فقال: هذا ما أرتئيه في مؤتمر القيصر، فإنه كله سخافة ورياء لا غير، ولا تستطيع الحكومات الحاضرة أن تبطل الحروب ولا تريد إبطالها؛ لأن الحروب ليست عرضا طارئا عليها؛ بل هي جزء جوهري من قوامها لازم لوجودها. فإذا قلت إن هذا المؤتمر رياء برياء لا أعني أن الحكومات التي أشارت به واشتركت فيه قصدت أن ترائي قصدا، ولو كان عملها رياء.
إذا قلت إنك عازم على تغيير شيء لا يغير ما لم تغير طبعك وأنت غير عازم أن تغير طبعك فأنت مراء. فاقتراح القيصر رياء، وقبول حكومات أوروبا به رياء، وما منهم من يعتقد نجاحه، وكأن الحكومات تريد أن تخفي أعراض دائها لكي تحول أذهان شعوبها عن العلاج الشافي، لكنها لا تفلح في ذلك، ولا يستطيع هذا المؤتمر أن يقلل الحروب، ولا أن يقلل مضارها. إذا تسلح رجلان وكان كل منهما يعتقد أن مصلحة الآخر ضد مصلحته، فلا يأتمن أحدهما الآخر، ولا يركن إليه، ولا يصدق كلامه إذا عاهده على السلم؛ لأنه لو صدق كل منهما الآخر لما بقي داع للسلاح ، وإذا استطاعت الممالك أن تعيش بالسلم من غير أن يكون عند كل منها مليون جندي تستطيع أن تعيش بالسلم من غير أن يكون عند كل منها ألف جندي؛ لأن القلة لا تمنع الحروب إذا كانت الكثرة لا تمنعها.
ولما حوصرت سفاستوبل رأى البرنس أورسوف أن أحد الحصون أخذ واسترد مرارا، فقال للقائد العام: دعنا نطلب من الأعداء أن يعينوا رجلا منهم يلاعب رجلا منا بالشطرنج فمن غلب كان الحصن له، ولا شبهة في أن القائد ضحك من هذا الاقتراح؛ لأنه يعلم أن الفريق الذي يخسر الحصن بالشطرنج لا يكف عن استرجاعه بالسلاح إذا استطاع، والناس يفصلون خصوماتهم بقتل بعضهم بعضا لا بلعب الشطرنج؛ لأن الغالب هو الذي يثخن في خصومه ويضطرهم إلى الكف عن مقاومته، والمغلوب يتربص بغالبه الفرص حتى إذا استقوى واستضعف خصمه عاد إلى الأخذ بالثأر، وقد يضع المؤتمر قواعد وقوانين لمنع الحروب، ولكن هذه القواعد والقوانين لا تمنع دولة من أن تدعي أن خصمها هو الذي نكث العهود أولا. وقلت له: إن الحكومات لا تمنع الحروب، ولكنها تقلل مضارها. فقال: هذا وهم ورياء من الذين يدعونه، ومصلحتهم قائمة بإبقاء الحروب، وقد قلت إنه رياء؛ لأن الغرض منه إقناع الناس بأن مضار الحرب يمكن أن تقل كثيرا، فإنك ترى الحكومات تمنع استعمال الرصاص المنفجر؛ لأنه يجرح ولا يقتل حالا، ولكنها لا تمنع استعمال الرصاص العادي مع أنه كثيرا ما يجرح ويؤلم، والسبب الحقيقي لمنع الرصاص المنفجر أنه لا يقتل حالا فلا يفي بغرضهم وهو التنكيل بعدوهم حتى يضطر إلى التسليم والخضوع، ولذلك لا أريد أن ينجح هذا المؤتمر، ولا أنا معتقد بنجاحه، وإن نجح فيكون منه ضرر؛ لأنه يحول أفكار الناس عن الحل الحقيقي الذي يمكن العمل به في كل مكان، وهو أن يخضع كل إنسان لضميره، والضمير يقول له: إن قتل الناس غير جائز، فإذا اقتنع كل إنسان بذلك بطلت الحروب من نفسها، وعجزت الحكومات عن إثارتها. فقلت له: هب أن أمة من الأمم اقتنعت بصحة رأيك وعملت به ، فلا ينتظر أن أمم العالم كلها ترى رأيها حينئذ وتفعل مثلها، وهب أن أمة من هذه الأمم اعتدت على الأمة الأولى وحملت عليها، أفلا تضطر الأمة الأولى إلى حمل السلاح للدفاع عن نفسها.
فقال: لا؛ لأنه يجب عليها أن لا تقتل غيرها، والواجب واجب كيفما كانت الحال.
وهاك فقرات من كتاب كتبه لجلالة القيصر يعترض فيه على نظام الحكومة الحاضرة، ويطلب مطالب كثيرة للإصلاح:
إليكم نرفع خطابنا يا ولاة الأمور من القيصر، وأعضاء مجلس الحكومة الأعلى، والنظار إلى أقارب القيصر أعمامه وإخوته وكل الذين يستطيعون أن يكلموه. إليكم نرفع خطابنا لا كأعداء بل كإخوان مرتبطين معنا ارتباطا متينا «أردتم ذلك أو لم تريدوه»، حتى إذا حلت بنا البلايا أصابكم شيء منها، ليس اللوم على الذين يثورون؛ بل اللوم كله عليكم لأنكم لا تفتشون إلا عن راحتكم ورفاهيتكم، وقد كان الواجب عليكم أن تفتشوا عن سبب الثورة والشكوى وتزيلوه، والناس مسالمون بالطبع لا يطلبون الخصام والعداء، بل يفضلون الوفاق والمسالمة، فإن كانوا قد ثاروا عليكم الآن، وطلبوا الإيقاع بكم، فلا يكون ذلك إلا لأنهم وجدوكم مانعا يمنع عنهم وعن الملايين من إخوانهم أعظم نفع يطلبه الإنسان في هذه الدنيا وهو الحرية والعلم، وغاية ما يطلب منكم لكي لا يبقى سبيل لثورة العامة عليكم، وهو نافع لكم أيضا لأجل راحتكم وسلامتكم، هذه الأمور الطفيفة، وهي:
أولا:
المساواة بين الفلاحين والعمال وغيرهم من أهل الطبقات العليا «في أمور ذكرها بالتفصيل؛ مثل إلغاء القوانين التي تربط العمال بأصحاب الأعمال، وإعفاء الفلاحين من الأموال الأميرية التي تأخرت على غيرهم، ومن أخذ الجواز إذا أرادوا الانتقال من مكان إلى آخر، ومن تقديم الخيل والعلائف لرجال الحكومة، ولا سيما رجال البوليس، ومن العقاب بالضرب».
ثانيا:
إلغاء الحكومة العرفية التي تلجئون إليها آونة بعد أخرى، فتسلطون على الرعية أناسا ظالمين فاسقين سخاف العقول.
ثالثا:
إزالة كل الموانع التي تمنع تعليم أولاد العامة؛ لكي يتحرر جمهور الروسيين من ربقة الجهل، والجهل أكبر معين للحكومة على الاستبداد بهم .
رابعا:
وأخيرا إطلاق الحرية الدينية ... إلخ.
والكتاب طويل، وعلى كل لمحة من هذه اللمحات شرح مسهب فاجتزأنا بما تقدم.
هوامش
الفصل الخامس
فلسفته وآدابه وآراؤه الدينية
اشتهر الفيلسوف تولستوي ببسط فلسفته في روايات يؤلفها، وهي تقسم إلى ثلاثة أقسام: من حيث الدين، ومن حيث الاجتماع، ومن حيث الفنون؛ أي الفلسفة الدينية والاجتماعية والفنية، على أنها كلها فروع لشجرة واحدة مبنية على قاعدتين؛ الأولى: أحبوا بعضكم بعضا في كل شئونكم، والثانية: لا تقاوموا الشر بالشر فإن الشر لا يقتله إلا الخير.
وقد أوصلته فلسفته الدينية إلى النتيجة الآتية:
إن التعاليم المسيحية التي تستحق أن تكون قاعدة للضمير البشري إنما هي الأناجيل الأربعة فقط: متى، ومرقص، ولوقا، ويوحنا، وما سواها فخارج عن الديانة المسيحية الحقيقية، فعلى من أراد أن يكون مسيحيا حقيقيا أن لا يتمسك بشيء يناقضها، وأن يعيش كما عاش المسيحيون الأولون من حيث البساطة، والقناعة، والاشتراك، والحرية.
هذه هي فلسفته الدينية، أما فلسفته الاجتماعية فهي هذه: يقولون إن الهيئة الاجتماعية فاسدة رديئة. نعم، ولكن الذنب ذنبنا واللوم علينا؛ لأننا نتكاسل فتسوء حالتنا، ونقاوم الشر بالشر فيزيد الفساد فسادا، ذاهلين عن قول المسيح: «من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ.» فإذا لم نعود أنفسنا مقاومة الشر بالخير؛ أي باللطف والمجاملة والإحسان والمحبة، فإننا لا نتغلب على الشر في العالم، وتزداد الإنسانية فسادا على فساد. فإذا كنا نطلب إصلاح الهيئة الاجتماعية فلنعمل أولا على إصلاح أنفسنا بغرس المحبة والمسالمة والاعتدال وحب العمل في قلوبنا، فإن في ذلك إصلاح الهيئة الاجتماعية.
وأما فلسفته الفنية: فمقتضاها أن كل فن وعلم وصناعة يجب أن تكون غايتها نبيلة، وهي ترقية شأن البشر وراحة النوع الإنساني والمساعدة على رفع راية السلام في العالم أجمع، وإذا خرجت العلوم عن دائرة هذا الغرض، وانصرفت إلى اختراع الآلات الحرب والدمار وأسباب القصف والخلاعة واللهو، فإنها تسبب الفساد وتجلب الشقاء والضرر والعناء، وتصبح عبثا في عبث.
أما مبادئه الدينية: فإنه يعتقد في الأربعة الأناجيل فقط كما سبق القول، ولكنه لا يعتقد بكل ما ورد فيها ، بل يعتقد بالقسم التعليمي اعتقادا شديدا، ويقول: إن تعاليم الإنجيل سامية جدا، إذا سار الناس بموجبها ينتشر ملكوت الله في الأرض ويصبح الناس في إخاء، وقد أورد في روايته «البعث» بعض المبادئ الدينية، نقتطف منها المبادئ الخمسة الآتية كما عربتها مجلة الجامعة البهية:
1
المبدأ الأول:
أن الإنسان لا يجب عليه فقط أن لا يقتل أخاه الإنسان، بل يجب أيضا أن لا يغضب منه، ولا يشكوه، ولا يحتقره، وإذا خاصم إنسانا فيجب عليه أن يصالحه قبل أن يقدم قربانا لله؛ أي قبل أن يتحد مع الله بالصلاة القلبية.
المبدأ الثاني:
أن الإنسان لا يجب عليه فقط أن لا يستسلم إلى شهواته، وأن لا يدنس جمال المرأة بجعلها آلة للذته الخشنة، بل يجب عليه أيضا إذا تزوج بامرأة أن لا ينفصل عنها مدة حياته.
المبدأ الثالث:
أنه يجب على الإنسان أن لا يحلف بأنه يصنع كذا، أو يهب كذا؛ فإنه لا يملك نفسه، ولا أي شيء في هذا الوجود.
المبدأ الرابع:
أن الإنسان لا يجب عليه فقط أن لا يطلب عقاب العين بالعين والسن بالسن، بل يجب عليه إذا ضربوه على خد أن يدير لهم الآخر، وأن يصفح عن مهينيه، ويحتمل الإهانة بصبر جميل، وأن لا يرفض شيئا مما يطلبه منه البشر إخوته.
المبدأ الخامس:
أن الإنسان لا يجب عليه أن يبغض أعداءه ولا يقاومهم، بل يجب عليه أن يحبهم ويساعدهم ويخدمهم. ا.ه.
وهو يستشهد بآيات الإنجيل كثيرا، سواء كان في كتاباته أو في حديثه، مع أن تعاليمه تدل على أنه بعيد عن ذلك بعدا شاسعا، فهو ينكر سر الفداء والثالوث الأقدس وألوهية المسيح، أما اعتقاده بخلود النفس والحياة الثانية فهاك ما قاله عن ذلك:
إني أعتقد بالحياة العتيدة، وأعتقد أيضا بأن الحياة لا تنتهي بالموت، ولكنني لا أدري كيف تكون تلك الحياة؛ لأنه لا لزوم لمعرفتها.
ومما قاله عن فساد المجتمع الإنساني: إن تاريخ الإنسان من حين وجوده لغاية الآن تاريخ ظلم وجور وحرب وخصام، والناس مختلفون في تحديد الظلم والجور، فإذا أتيح لكل واحد أن يقاوم ما يحسبه ظلما وجورا لامتلأت الدنيا بالحروب والخصومات، وأفضل شيء لملافاة هذه الشرور الكثيرة أن يفعل كل واحد الخير مع غيره بدلا عن الشر، فتنصلح أحوال الناس عما هي عليه من الظلم والجور.
أما سبب زيادة الشقاء ووقوع الجرائم، فهي لأن كل إنسان في هذا العالم يهتم بنفسه، ويسعى لصالحه الخاص بدون أن ينظر إلى أخيه في الإنسانية مهما كانت حالته، فلو اهتم الأغنياء وكبار الناس وألفوا جمعيات، وأنشئوا المعامل، وجمعوا للعمل فيها المتشردين وذوي الفاقة لانقطعت اللصوصية واللصوص عن وجه الأرض؛ لأنهم يخلدون إلى السكينة والانصباب على العمل، وإذا بحثنا عن أحوال اللصوص وقطاع الطرق نرى أن سبب اندفاعهم إلى إقلاق راحة الناس وسلبهم هو العوز والاحتياج، فعدم اهتمام الأغنياء والحكومة بالفقراء وذوي البأساء، وتركهم وشأنهم يدخلون الحانات وبيوت الفساد والرذيلة لقلة العمل بسبب وجود الفساد والشر، والحكومة إذا تسنى لها وقوع أحد المجرمين في قبضة يدها تقوده إلى المحاكمة، وتستدعي الأغنياء المنتخبين أعضاء لديها فتحكم عليه وتزجه في السجن مع أولئك المنكودي الحظ الذين حرمتهم الحرية، وعلمتهم البطالة والفساد، وقادتهم إلى الرذيلة والشر، وهي - أي الحكومة - تظن أنها بزجها المجرمين في السجن تقوم بواجباتها نحو الهيئة الاجتماعية، غير عالمة بأنها تقترف جريمة لا تغتفر مع أخيها في الإنسانية الذي قادته إلى السقوط، وكان في وسعها أن تخلصه من الحالة التي آل إليها أمره؛ لأن السجون لا تؤثر في حالة الناس بل تزيد في تعاستهم، والهيئة الاجتماعية ليست قائمة الآن بسطوة القضاء وقوة المحاكم؛ بل لأن الناس لا يزالون يحبون بعضهم بعضا، ويشفقون على بعضهم.
وقال يصف الشرور: «إن الفلاح الذي يفلح أرض غيره، ويبتاع ضروريات الحياة بالثمن الذي يطلب منه لا يستطيع أبدا أن يصير غنيا مهما كان مجتهدا مقتصدا، وأما الرجل الشريف المبذر الذي يتسرب في مناصب الحكومة، أو ينال الحظوة لدى أربابها، أو يصير مرابيا، أو صاحب معمل أو بنك، أو تاجر خمر، أو يقتني بيتا للمومسات ، فهذا ينال الغنى من أقرب طريق، وأمثلة ذلك كثيرة حولنا.»
ثم قال: «على م نرى الرجال الأقوياء الماهرين المعتادين التعب هم والفريق الأكبر من بني البشر يخضعون لأناس ضعفاء الأبدان لرجال أخنات أو شيوخ عجزة؟ لماذا نرى الأقوياء يتعبون لهؤلاء الضعفاء؟ لأن الضعفاء قد امتلكوا الأرض وخيراتها والمعامل وما فيها، والحق الذي يمتلك به الغني الأرض، ويجني ثمار ما يتعب به غيره لا ينطبق على مبدأ من مبادي العدل والإنصاف، وما هو إلا اغتصاب تؤيده القوة الحربية.
وقد صار العمال آلات لقهر إخوانهم بصيرورتهم جنودا للحكومة وآلات في يدها للقتل والفتك، وما دام الناس يحللون قتل غيرهم تبقى الجنود في يد رجال الحكومة؛ أي في يد فريق صغير من الناس، ويبقى هذا الفريق مستعينا بهم على ابتزاز الأموال من الذين يكسبونها بعرق جبينهم، وشر من ذلك أن رجال الحكومة يفسدون جمهور الناس، ولولا ذلك ما استطاعوا التسلط عليهم وابتزاز أموالهم، وأصل كل الشرور ما رسخ في الأذهان من أن تجنيد الجنود لقتل الناس ليس إثما، بل هو شرف كبير وعمل نبيل؛ لذلك لا تزول الشرور من الدنيا بتحرير الفلاحين، ورفع الضرائب، وتكثير الآلات والأدوات، ولا بإبطال الحكومات الحاضرة؛ بل بإبطال كل تعليم ديني يجيز للناس أن يحملوا السلاح لقتل غيرهم.»
وقال في هيئة المجتمع الإنساني: «عبثا يحاول بضع مئات من البشر المتراكمين بعضهم على بعض في مكان ضيق تشويه وجه الأرض التي يعيشون عليها، عبثا يسحقون تربتها بالحجارة حتى لا ينبت فيها نبات، عبثا يفسدون الهواء برائحة البترول والفحم الحجري، عبثا يقطعون الأشجار، عبثا يطاردون الحيوانات والطيور، عبثا يصنعون كل ذلك، فالربيع في المدن لا يزال ربيعا، الشمس فيه تزداد إشراقا، والنبات تدب فيه روح الحياة، لا في جوانب الشوارع الكبرى فقط، بل بين بلاط الطرق أيضا، وكذلك الأشجار والأزهار والطيور وسائر المخلوقات التي تسر وتبتهج بأشعة الشمس المحيية، كلها تكون مسرورة مبتهجة في الربيع إلا الإنسان الذي يستنكر جمال تلك الأمور الطبيعية المقدسة، ولا يرى جميلا غير ما يضعه ويتصوره من الأمور التي يغش بعضه بعضا، ويعذب بعضه بعضا.»
وقال عن أخلاق وأطوار الناس: إن أفكار الناس كلها متفقة على أن الجمال صفة حسنة تغطي كل قبائح ونقائص المرأة، فالغادة الفتانة إذا حدثت خرافة أو حماقة يقبلها السامعون بكل ارتياح، ويعدون تلك الحماقة نبالة زائدة والخشونة رقة وظرف، وإذا اقترفت عملا مستهجنا فإنه يظهر لمحبيها منتهى الآداب والكمال.
وعن الأمهات، قال: إن جميع الأمهات يعلمن تمام العلم فساد سيرة الرجال، ولكنهن يتظاهرن أمام بناتهن بأنهن يعتقدن تمام الاعتقاد بطهارة وعفة الرجال، ويتصرفن بعكس ذلك الاعتقاد الكاذب، ويعرفن بأية صنارة يصدن الرجال لهن ولبناتهن. وقال أيضا: إن إفادة المرأة محصورة في ولادة الأولاد وإرضاعهم وتربيتهم، وكلما أحسنت وظيفتها في ذلك كانت الفائدة أعظم، وهي لا تحسنها تمام الإحسان إلا إذا أحست عند تلك التربية أنها تعد لمستقبل الهيئة الاجتماعية خداما نافعين.
وفي اعتقادي أن المرأة الفاضلة هي التي تبعد عن مفاسد هذا الكون، وتزهد في العالم، وتحصر قوتها في إحكام ما فرض عليها لأولادها أجنة وأطفالا وصبية، تغرس في نفوسهم بذور الفضائل ليشبوا على ما تعلموه، ويفيدوا إخوانهم في المجتمع الإنساني إفادة لا تقوم بثمن.
ولكي تحسن القيام بهذا الواجب لا يلزم لها على رأيي الاندراج في سلك تلامذة المدارس العالية، بل حسبها أن تحسن القراءة والكتابة لتتمكن من مطالعة كتب الدين والآداب التي تنير النفس وتزجرها عن ارتكاب الآثام.
وإني أنظر إلى النساء اللواتي يشاركن الرجال في الأعمال فآسف على عذراء خلقت للحمل والولادة والإرضاع كيف تخرج من دائرتها وتتعدى الحدود التي رسمتها لها الطبيعة إلى ما ينقصها الاستعداد الفطري للقيام به، وما مثلها في ذلك إلا كأرض جيدة التربة زرعت زوانا، وليس تشبيهها بالأرض الجيدة مطابقا من كل وجه؛ لأن الأرض لا تلد غير الخبز، أما المرأة فإنها تلد أسمى المخلوقات وأعلاها مقاما، وهو الإنسان الذي لا تعادله أموال العالم ولا يستطيع أحد أن يلده غير المرأة، ذلك الإنسان الذي يلد فكره بدائع هذا الكون وجميل منشآت الحضارة والعمران!
وقال : على الرجل أن يكد ويشتغل، وما على المرأة إلا أن تقيم في البيت؛ لأنها زوجة، أو بعبارة أخرى: لأنها إناء لطيف سريع الانثلام.
وقال عن الحب: إن دوام الحب بين الزوجين من رابع المستحيلات، إنه قد يكون حب ولكن إلى وقت قصير جدا، ثم لا يدوم إلا في الروايات فقط، وأما بين الناس فعديم الاستقرار في قلبين معا، وكل رجل - متزوجا كان أو غير متزوج - إذا اجتازت به غادة فتانة فأكثر ما يكون منه أن يوجه إليها التفاته، وقد يبذل بعضهم كل مرتخص وغال بعد ذلك في سبيل الوصول إليها.
والمرأة من هذا القبيل كالرجل، فإنها تجتهد للاتصال بأكثر من واحد دائما، وما دام يمكنها هذا الاتصال فهي نائلة إربها لا محالة. ا.ه.
هذه بعض فقرات من فلسفة هذا الفيلسوف العظيم، وأقواله المأثورة التي أحدثت دويا في أقطار الأرض، وصادفت قبولا وإقبالا من الطبقة العلياء من شبان الروس، واستحسانا من فلاسفة وعلماء أوروبا وأميركا، وكان لها وقع كبير في النفوس، ولكنها لم ترق لرجال الدين في روسيا كونها مخالفة للتعليم المسيحي، خصوصا بعد أن أنكر جوهر الإيمان الذي هو سر الفداء والثالوث الأقدس وألوهية المسيح؛ فأنذره المجمع المقدس أن يرجع عن اعتقاده هذا، ويبطل تعاليمه المخالفة للدين المسيحي عموما والمذهب الأرثوذكسي خصوصا، فلم يذعن لهم، ولذلك اجتمع رؤساء المجمع المقدس تحت رئاسة السيد الجليل أنطوني مطران بطرسبرج وحرمه وقطعه من الكنيسة كصاحب ضلالة.
ونحن ننشر الحرم، واعتراض زوجته، ورده عليه، وردود رجال الدين عليهما مترجما عن اللغة الروسية حرفيا.
هوامش
القسم الثاني
الفصل الأول
قرار المجمع المقدس أو حرمان تولستوي
في 20 فبراير/شباط سنة 1901 نومر و557 رسالة المجمع المقدس إلى أبناء الكنيسة الأرثوذكسية المؤمنين بخصوص الكونت ليون تولستوي.
إن المجمع المقدس لاهتمامه بأبناء الكنيسة الأرثوذكسية، وحفظهم من العثرات المؤدية إلى الهلاك وخلاص الضالين قد أصدر حكما ضد الكونت ليون تولستوي، وتعاليمه الكاذبة المضادة للمسيح والكنيسة، ووجد مناسبا لحفظ سلام الكنيسة أن ينشر ذلك الحكم في جريدة «أخبار الكنيسة». «برحمة الله »
من المجمع المقدس إلى أبناء الكنيسة الأرثوذكسية المؤمنين. «لنفرح بالرب»
وأطلب إليكم أيها الأخوة أن تلاحظوا الذين يصنعون الشقاقات والعثرات خلافا للتعليم الذي تعلمتموه، وأعرضوا عنهم «رومية ص16 عدد 17».
إن كنيسة المسيح منذ إنشائها احتملت اضطهادات شديدة، وتجديفا عليها من كثيرين من الهراطقة وعبدة الأوثان الذين كانوا يسعون لهدمها وتقويض أركان جوهر تعليمها المؤسس على الإيمان بالمسيح ابن الله الحي، غير أن جميع قوات الجحيم حسب وعد الرب لن تقوى على الكنيسة المقدسة التي تبقى غير مغلوبة إلى الأبد، وفي أيامنا الحاضرة ظهر معلم كاذب هو الكونت تولستوي.
إن الكاتب الروسي الشهير الكونت تولستوي الذي ذاع ذكره في العالم حتى طبق الخافقين أرثوذكسي المولد، واعتمد وتهذب في الأرثوذكسية، قد غره عقله المتعظم على أن يقاوم بوقاحة الرب ومسيحه وميراثه المقدس، وقد أنكر علانية أمام الجميع أمه الكنيسة الأرثوذكسية التي هذبته وثقفته، وكرس جميع مواهبه العقلية وقواه العلمية لنشر التعاليم المضادة للمسيح والكنيسة ليزيل من عقول وقلوب الناس إيمان آبائهم، الإيمان المستقيم الذي ثبت المسكونة، والذي عاش به وخلص أسلافنا وأجدادنا، والذي تمسكت به للآن روسيا وتعززت فيه، وإنه في تآليفه يكتب كرجل غيور متعصب لهدم جميع طقوس الكنيسة وجوهر الإيمان المسيحي، وهو ينكر الله الحي في الثالوث الأقدس الممجد خالق وضابط المسكونة، وينكر الرب يسوع المسيح الإله والإنسان فادي ومخلص العالم الذي تألم من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا، وقام من بين الأموات، وينكر الحبل بالرب يسوع المسيح بالجسد بدون زرع، وينكر بقاء والدة الإله الطاهرة عذراء قبل الولادة وبعدها، ولا يعتقد بالحياة بعد الموت ولا بالعقاب والثواب، وينكر جميع أسرار الكنيسة وقوة نعمة الروح القدس فيها، ويهزأ بجميع أواني الكنيسة المقدسة، ولم يخجل من أعظم أسرارها الذي هو سر الأفخارستيا المقدس، والكونت تولستوي كرز بهذه الأمور بدون انقطاع بالكلام والكتابة لعثرة جميع الشعب الأرثوذكسي، ويا ليته جمح في غوايته سرا؛ بل هو جاهر بالضلال عن عمد وقصد، وسلخ نفسه عن الكنيسة. وبما أن جميع المساعي التي بذلت لإرشاده لم تتكلل بالنجاح، فقد اعتبرته الكنيسة ساقطا من أعضائها وغير تابع لها ما لم يتب ويرجع عن ضلاله، والآن نحن نشهد بذلك أمام الكنيسة؛ لتثبيت المؤمنين، وإرشاد الضالين، وعلى الأخص إرشاد الكونت تولستوي.
إن كثيرين من أقاربه الذين لم يزالوا محافظين على الإيمان أظهروا شدة حزنهم على بقائه في أيامه الأخيرة بدون إيمان بالله والرب مخلصنا بإنكاره إياه، وابتعاده عن نيل بركة وصلاة الكنيسة.
ومع شهادتنا واعترافنا بأنه أنكر الكنيسة وشجب تعاليمها نطلب له لكي يعطيه الله توبة لمعرفة الحق «2 تي ص2 عدد 25»، ثم نطلب إليك أيها الإله الرحوم الذي لا تريد أن يموت الخطاة بخطيتهم أن تستجيب صلاتنا وترحمه وترشده إلى طريق كنيستك المقدسة آمين.
التواقيع بيد كل موقع: الوضيع «أنطوني مطران بطرسبرج»، الوضيع: «لاثيوغونست مطران كييف»، الوضيع «فيلاديمير مطران موسكو»، الوضيع «إيوروتيم رئيس أساقفة فارشافا»، الوضيع «يعقوب أسقف كيثسينيسي»، الوضيع «ماركيل أسقف»، الوضيع «بوريس أسقف».
فلما انتشر هذا الحكم تناقلته الجرائد، وتهافت الناس على مطالعته تهافت الجياع على القصاع، وانقسم قراؤه إلى قسمين مختلفين؛ فالقسم الأول: وهم تلميذات وتلاميذ المدارس العالية الذين هاجوا هياجا عظيما؛ لشغفهم الشديد بتولستوي، وافتخارهم به على كل فلاسفة وعلماء أوروبا، فأرسل مئات منهم العرائض إلى المجمع المقدس يطلبون منه أن يحرمهم مع فيلسوفهم الذي يفدونه بأرواحهم، وعدا ذلك فقد قاموا بمظاهرات خشنة في الكنائس والمدارس، فالتزمت الحكومة أن تجنح إلى القوة؛ لتسكين الاضطراب، وألقت القبض على كثيرين وزجتهم في السجن، وقد حدث الهياج في 36 مدينة روسية، واتهم بعض الناس الفيلسوف تولستوي بأنه هو الذي كان يحرض على الفتنة، وتكذيبا لذلك نورد ما قالته جريدة الرقيب الغراء
1
بهذا الصدد: لقد قالت شركة روتر إن الفيلسوف تولستوي كان أكبر المحرضين على الثورة، وهذا القول خطأ محض؛ لأن الذين طالعوا مؤلفات هذا الرجل الكبير لا يرتابون في أنه من أعداء كل فتنة واضطراب؛ لاعتقاده بأنهما لا يجديان نفعا، وأن من أخذ بالسيف فبالسيف يؤخذ، وما عدا ذلك فقد قال في بعض كتبه: إن الذين يحاولون قلب هيئة الحكومة في هذه الأيام بواسطة الثورات يخيبون سعيا؛ ذلك أن لكل حكومة جيشا عظيما تكبح به جماح الثائرين، ولديها السكك الحديدية، والتلغراف، والتلفون، وكلها أعمال شديدة التأثير في كبح الثورات، فلا يحاول الناس أمرا مستحيلا في هذه الأيام، فإن الثورة تنقلب على مثيريها؛ لقوة الهيئة الحاكمة. ا.ه.
وأما القسم الثاني، فهو الشعب الروسي البسيط، بلغ منه الحقد على تولستوي مبلغا عظيما، ورشقه بألسنة حداد، وأرسل إليه كثيرون كتبا مشحونة بأنواع السفه والشتايم واللعنات، ولو تسنى لهم لفتكوا به.
وعلى أثر ذلك أرسلت زوجة الكونت تولستوي كتابا إلى سيادة مطران بطرسبرج بصفته رئيس المجمع المقدس تحتج به على قطع زوجها من الكنيسة، وهاك نصه، موسكو في 11 مارس سنة 1901:
سيادة المطران أنطوني
طالعت أمس في الجرائد حكم المجمع الصارم الصادر بحرمان زوجي الكونت ليون نيكولا يفتش تولستوي من الكنيسة، ورأيت بين تواقيع رعاتها الذين وقعوا الحكم توقيع سيادتكم، فتأثرت تأثرا شديدا، حتى إني لم أستطع أن أضع حدا لحزني الشديد، وليس ذلك ناجما عن اعتقادي بأن نفس زوجي تهلك من تلك الورقة التي كتبتم عليها حكمكم الجائر؛ لأن خلاص الأنفس لا يتوقف على الناس، بل ذلك مختص بالله وحده، وإذا نظرنا إلى حياة النفس نظرة دينية فنراها أنها لم تزل مجهولة تمام الجهل، ولا يعرفها أحد غير الله وحده، ومن حسن الحظ أنه لا سلطة للبشر عليها، ولكني لما أرى الكنيسة التي أنا تابعة لها، والتي لا أزال أتبعها ولن أحيد عنها، تلك الكنيسة التي أنشأها المسيح نفسه باسم الله لتبارك حياة الإنسان الكبرى من الولادة، والزواج، والموت، والأفراح، والأتراح، والتي وظيفتها النداء بناموس الرحمة، والصفح، ومحبة أعدائنا، والذين يبغضوننا، والصلاة من أجل الجميع، فمن هذا القبيل لا أعود أفهم أو أدرك تصرف المجمع. أما إذا كان القصد من حرمان ليون نيكولا يفتش تنفير الناس منه واستمالتهم عنه، فهو خطأ واضح؛ لأن جميع الناس زادوا تعلقا به وميلا إليه، وسخطوا من هذا الحرمان، ولا تزال تردنا الشواهد على ذلك من جميع أقطار العالم، ثم إني لا أقدر أن أخفي عنكم الغم الذي أحاق بي عندما بلغني قرار المجمع السري سابقا بشأن منع الكهنة عن الصلاة على جثة زوجي في الكنيسة بعد مماته، والامتناع من دفنه بموجب طقوس الكنيسة، فمن قصدتم أن تقاصوا بهذا القرار؟ هل تقصدون به الميت، أو جثته الجامدة، أو أقرباءه المؤمنين؟ وإذا كان هذا القرار تهديدا فإلى من توجهون هذا التهديد؟ وماذا تقصدون؟
وهل تظنون حقيقة أنني لا أجد للصلاة على جثة زوجي في الكنيسة كاهنا صالحا مستقلا عن الناس لاهتمامه برضى الله الحقيقي، إله المحبة والغفران أكثر من رضى الناس، أو كاهنا فاسدا أنال منه مرادي بواسطة المال؟
ولكنني لا أحتاج إلى هذا الأمر مطلقا؛ لأنني أعتبر الكنيسة بناء روحيا لا ماديا، ولا أعرف لها رؤساء إلا الذين يفهمون حقيقتها، ويعملون طبق وصاياها، ولو كنت أعتبر أن الكنيسة هي عبارة عن مجمع بشري لا يتردد أحيانا لرداءة البشر عن مخالفة أعظم وصايا المسيح التي هي وصية المحبة، لكنا خرجنا منها منذ زمن طويل، نحن الذين نحفظ وصاياها، فليس الهراطقة والجاحدون إذن هم أولئك الذين يضلون وهم يفتشون عن الحقيقة، ولكنهم هم أولئك الذين لما جعلتهم كبرياؤهم رؤساء الكنيسة نزلوا أنفسهم منزلة القتلة الروحين، وخالفوا شريعة الكنيسة، التي هي شريعة المحبة، والتواضع، وإنكار الذات، وترك ملاذ العالم، ولو ماتوا خارج الكنيسة. أما الذي يعيشون في داخلها معيشة الفخفخة ويملأون صدورهم بالنياشين، ويزينون رءوسهم بالتيجان، ويطردون «كالرعاة الأردياء» الناس من الحظيرة التي هم رعاتها، فلا ريب أنه يجب أن يكونوا أقل أملا منهم في الغفران، وإذا حاول الرياء تأويل كلامي هذا فعبثا يحاول؛ لأن العقل السليم لا ينخدع، بل يفهم مقصودي منه.
الكونتس صوفيا تولستوي
فأجابها المطران بالكتاب الآتي:
حضرة الفاضلة الكونتس صوفيا تولستوي
إن المجمع المقدس بإعلانه سقوط زوجك من الكنيسة لم يتصرف بصرامة مطلقا، وإنما الصرامة بدت من زوجك بإنكاره الإيمان بيسوع المسيح ابن الله الحي فادينا ومخلصنا، فكان يجب عليك أن تحزني لهذا الأمر فقط، ولا مراء بأن زوجك لا يهلك من قطعة تلك الورقة المطبوعة، ولكنه يهلك لابتعاده عن ينبوع الحياة الأبدية؛ لأن لا حياة للمسيحي بدون الاتحاد مع المسيح الذي يقول: إنه لا يهلك كل من يؤمن به، بل تكون له الحياة الأبدية؛ لأنه هكذا أحب الله معالم حتى بذل ابنه الوحيد كي لا يهلك كل من يؤمن به؛ بل تكون له الحياة الأبدية، والذي يؤمن بالابن له حياة أبدية، والذي لا يؤمن بالابن لن يرى حياة، بل يمكث عليه غضب الله. الحق الحق أقول لكم، إن الذي يسمع كلامي ويؤمن بالذي أرسلني فله حياة أبدية ولا يأتي إلى دينونة، بل قد انتقل من الموت إلى الحياة. «يوحنا ص3 عدد 15 و16 وص5 عدد 24». ولذلك نقدر أن نقول كلمة واحدة عمن ينكر المسيح، وهو أنه ينتقل من الحياة إلى الموت، وعلى ذلك يتوقف هلاك زوجك، وإنه هو وحده جنى على نفسه هذا الهلاك وليس أحد سواه.
إن الكنيسة تتألف من جماعة المؤمنين بالمسيح، والتي لم تزالي أنت تابعة لها مع المؤمنين بها وأعضائها. نعم، إن تلك الكنيسة تبارك باسم الله جميع حوادث حياة الإنسان الكبرى من الولادة، والزواج، والموت، والأفراح، والأتراح، ولكنها لا تستطيع ولن تستطيع أن تفعل ذلك مع الغير المؤمنين، مع الوثنين، مع المجدفين على اسم الله الذين ينكرونها، والذين لا يقبلون منها الصلاة والبركة، وبالإجمال مع جميع الذين لا يعدون ذواتهم أعضاء لها، ومن هذا القبيل كان تصرف المجمع غير قابل الانتقاد، بل مفهوما واضحا كيوم الله، وهي لم تحد يمينا أو شمالا عن شريعة المحبة والصفح والرحمة. نعم، إن رحمة الله لا تحيد، ولكنها لا تصفح عن الجميع، ولا عن كل شيء، «ومن جدف على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي.» «متى ص12 عدد 32».
إن الرب بحسب محبته لنا يريد خلاص الإنسان، ولكن الإنسان يبتعد أحيانا عن هذه المحبة، ويهرب من وجه الله فيهلك نفسه، وإن المسيح صلى من أجل أعدائه عندما كان مرفوعا على الصليب، ولكنه في تلك الصلاة لفظ كلمة مرة لمحبته وهي «أنه لم يهلك أحد منهم إلا ابن الهلاك»، وأما زوجك فما دام حيا لا نقدر أن نحكم عليه بالهلاك، ولكننا صرحنا بحقيقة حاله بأنه سقط من الكنيسة، ولم يعد عضوا لها ما لم يتب ويرجع إليها، وإن المجمع في منشوره لم يكن إلا شاهدا على نفس عمل الكونت فقط، ولذلك فلا يسخط عليه إلا الذين لا يدركون ما يفعلون. تقولين في كتابك إن الناس زادوا تعلقا بزوجك وإن الشواهد على ذلك تردكم من جميع أقطار الأرض، ولا عجب في ذلك، ولكني أقول لك: إنه ليس في ذلك شيء من التعزية لقلبك؛ لأنه لا يوجد مجد عالمي ومجد إلهي، قال الرسول: «كل مجد إنسان كزهر عشب الحقل، العشب يبس وزهره سقط، وأما كلمة الرب فتثبت إلى الأبد.» «مط 1 ص1 عدد 24 ود 35».
ولما نشرت الجرائد في العالم الماضي خبر مرض زوجك الكونت تولد لدى رجال الدين سؤال عام، هو هل يجوز لهم أن يصلوا على جثته ويدفنوه بموجب طقوس الكنيسة مع إنكاره الإيمان بالمسيح والكنيسة؟ وعلى أثر ذلك وردت للمجمع أسئلة عديدة بهذا الشأن، فأصدر إذ ذاك أمرا سريا للكهنة، لا يستطيع إصدار غيره، وهو أنه إذا مات الكونت دون أن يتوب ويرجع إلى الكنيسة، فلا يجوز لهم الصلاة عليه ودفنه حسب طقوس الكنيسة، وليس في ذلك تهديد لأحد، وأنا لا أظن أنه يوجد كاهن حتى ولو فاسدا يقدم للصلاة على الكونت، ولو أنه صلى عليه كغير مؤمن فيكون عمله مخالفا لأساس الطقس المقدس، ولماذا تستعملين القوة على زوجك؟ فإنه بدون شك لا يريد أن يدفن بحسب الديانة المسيحية.
أنت لم تزالي حية، وما دمت تعدين نفسك عضوا للكنيسة التي هي بالحقيقة رباط أشخاص أحياء عقلاء يعيشون مع بعضهم باسم الله الحي، وأن إقرارك بأنك تعتبرين الكنيسة بناء روحيا يسقط ادعاؤك سقوطا تاما، وعبثا توبخين خدمة الكنيسة، وتنسبين إليهم الرداءة، ومخالفة أعظم وصايا المسيح التي هي وصية المحبة ، فالمجمع بإصداره ذلك الحكم لم يخالف تلك الوصية؛ بل بالعكس فإن عمله عمل محبة، ودعوة زوجك للرجوع إلى الكنيسة، ودعوة المؤمنين للصلاة من أجله. أما رعاة الكنيسة فإن الرب جعلهم في رأسها، وليس الكبرياء كما تدعين، وإنهم يرتدون التيجان والنجوم في وقت خدمتهم فقط، وأما في الخارج فإنهم يرتدون المسوح، ولم يزالوا يعاملون بالطرد والاضطهاد والاحتقار.
وفي الختام أرجوك المعذرة؛ لأني أخرت جوابي إليك لحد الآن، فإنني انتظرت ريثما يخمد وطيس غضبك وتأثرك الشديد، ثم إني أسأله تعالى أن يباركك، ويحفظك، ويرحم الكونت زوجك.
أنطوني مطران، سان بطرسبرج
رد تولستوي على قرار المجمع
أما الكونت فإنه لم يجب بادئ بدء على قرار المجمع بشأنه، غير أن بعض الظروف التي ذكرها في كتابه حملته أن يرد عليه بما يأتي: قال: إنني لم أقصد بادئ بدء أن أرد على ما قرره المجمع بشأني، لولا أن ذلك القرار دعا كتابا كثيرين لا أعرفهم يرسلون إلي الرسائل تترى مشحونة بملامتي وعذلي، بل وشتمي؛ فالبعض منهم يوبخني على إنكاري ما لست أنكره، والبعض الآخر ينصحني بأن أومن بمن لم أترك الإيمان به، وبعضهم يوافقني على أفكاري، ولكني لا أعتقد أنه يوجد من يعتقد اعتقادي، وإن وجد فلا يجسر أن يصرح به على رءوس الأشهاد.
وقد عزمت أن أرد على قرار المجمع، وأظهر للملأ فساده، وأرد أيضا على جميع مراسلي الذين لا أعرفهم.
أما قرار المجمع فإنه يحتوي على نقائص عديدة؛ أولا: لأنه غير قانوني وذو وجهين متناقضين. ثانيا: هوائي عديم الحق والأساس، وعدا ذلك فإنه يتضمن نميمة ظاهرة؛ لأنه كان محركا لصفات ومقاصد سيئة.
غير قانوني وذو وجهين متناقضين لأنه إذا كان مقصودا به إبعادي عن الكنيسة فإنه لا يوافق عقائدها التي تمنع إصدار مثل هذا القرار، وإذا كان مقصودا به الإعلان بأن من لا يؤمن بالكنيسة وعقائدها ينفصل عنها، ومن هذا القبيل لم تكن له غاية سوى تهييج الأفكار ضدي، وإيجاد الشغب بين الشعب.
وهوائي لأنه يخطئني وحدي فقط بعدم الإيمان بجميع عقائد تعاليم الكنيسة الموضوعة، مع أنه جميع الناس المتنورين يشاركونني برفض تلك الاعتقادات، وصرحوا به في الكلام والقراءة والنشرات والكتب.
وهو عديم الأساس لأن معظم فحواه مبني على أنني نشرت بين الناس تعاليم كاذبة كانت سببا لتشويش أفكارهم، وضعضعت إيمانهم، مع أنني أؤكد أن الذين وافقوني على أفكاري لا يبلغون المائة عدا؛ لأن المراقبة كانت حاجزا حصينا دون انتشار تعاليمي بخصوص الدين، وقد لاحظت من الكتب الواردة لي بأن جميع الذين طالعوا قرار المجمع بشأني لم يفهموا ما كتبته بخصوص الدين.
والقرار عديم الصحة لأنه جاء في بنوده بأن الكنيسة استعملت أنجع الوسائل لرجوعي إليها، ولكن مساعيها لم تتكلل بالنجاح، وليس لذلك ظل من الحقيقة أبدا، ولم أعلم بشيء من ذلك.
والقرار يتضمن نميمة ظاهرة لأنه حرك الناس لجلب الضرر لي. وأخيرا أقول: إنه كان محركا عظيما لاقتراف أعمال قبيحة كما كان منتظرا منه؛ لأنه حرك الناس الجهلاء والبسطاء على بغضي والهياج ضدي وتهديدي بالقتل، وذلك ظاهر من الكتب التي وردت لي؛ فقد كتب لي واحد: «إنك الآن وقعت تحت اللعنة والحرمان أيها الشرير، وستذهب روحك بعد موتك إلى العذاب الأبدي ... حيث تموت كالكلب ... أنت محروم أيها الشيطان القديم ... فلتكن ملعونا!» وآخر يوبخ الحكومة التي لم تزجني بالسجن، أو تقصيني لأحد الأديرة، وقد ملأ كتابه بالشتائم القبيحة. وثالث كتب لي: «إذا كانت الحكومة لا توقفك عند حدك فنحن نجبرك على السكوت!» وأنهى كتابه باللعنات.
وجاء في كتاب رجل رابع: «عندي وسائل فعالة لإيقاف جنونك عند حده.» ثم شتائم ولعنات.
وفي الخامس والعشرين من فبراير «شباط»، وهو اليوم الذي أذاع به المجمع إعلان قطعي من الكنيسة خرجت إلى الساحة العامة في موسكو فاستقبلني الجمهور باللعنات، والشتائم، والسب، والقذف، وكانوا يصرخون بصوت واحد قائلين: «هو ذا شيطان بصورة إنسان!» ولولا أني قفلت راجعا إلى منزلي لقتلني الجمهور لا محالة كما قتل منذ أعوام رجلا على باب كنيسة بندلايمون.
ومجمل القول أن قرار المجمع كان في غاية الرداءة كالرجال الذين كتبوه وأمضوه وهم يعتقدون بصحة كلامهم اعتقادا متينا؛ لكونهم يطلبون من الله أن يغير ما بي لأصير مثل واحد منهم، وإني أحمد الله لأنه لم يستجب دعاءهم.
أرد بهذا الكلام ردا إجماليا على ما جاء في تقرير المجمع، وقد رأيت أن أفصل هذا الرد لزيادة الإيضاح، فأقول: جاء في قرار المجمع ما يأتي: «إن الكاتب الروسي الكونت تولستوي الذي اشتهر ذكره في العالم حتى طبق الخافقين أرثوذكسي المولد، واعتمد وتهذب في الأرثوذكسية قد غره عقله المتعظم على أن يقاوم بوقاحة الرب ومسيحه وميراثه المقدس، وقد أنكر علانية أمام الجميع الكنيسة الأرثوذكسية التي هذبته وثقفته.» ا.ه.
أما إنكاري للكنيسة التي تدعو نفسها مسيحية فذلك صحيح لا ريب فيه، وبإنكاري لها لم أقاوم الرب؛ بل بالعكس إني أنكرتها لأقدر أن أخدمه بكل قوى نفسي، وقبل أن أنكرها كنت أحترمها كثيرا، غير أني شككت مرة في صحة تعاليمها وحقيقتها فكرست عدة سنين للبحث عن ذلك، فطالعت كل ما استطعت مطالعته من كتب تعاليمها، ودرست عقائد خدمة القداس الإلهي درسا محكما؛ فظهر لي بعد هذا البحث الطويل، والتروي الزائد، والتنقيب المدقق، أن تعاليم الكنيسة ما هي إلا كذب ظاهر مضر، وعقائدها ما هي إلا مجموعة خرافات خشنة وسحر محكم الوضع قد أخفى إخفاء تاما جوهر التعليم المسيحي.
وما على القارئ إلا أن يطالع كتاب خدمة القداس الإلهي بإمعان زائد، ويطالع ما به من الطقوس التي ما زال رجال الدين يتممونها تحت اسم الخدمة الإلهية المسيحية، فيظهر له أن جميع تلك الطقوس ما هي إلا أعمال سحرية موضوعة لجميع مطاليب واحتياجات الحياة، منها: إذا مات طفل فلكي نستطيع إدخاله الجنة أو الفردوس فما علينا قبل موته إلا أن ندهنه بالزيت ونغطسه بالماء ثلاث دفعات مع قراءة بعض كلمات، ولكي تطهر المرأة الوالدة من النجاسة ينبغي أن يقرأ عليها الكاهن بعض عبارات، أو لكي نتوفق في أعمالنا، أو نعيش عيشة هنيئة في المنزل الجديد، أو لكي تثمر الأشجار وتنمو المزروعات، أو ينقطع الجدب، أو نبرأ من المرض، أو لكي تهنأ نفس الميت في العالم الثاني؛ فلجميع هذه الأمور، ولألوف مثلها ، ما علينا إلا أن ندعو الكاهن إلى مكان معلوم فيتمم بعض الطقوس الموضوعة لتلك الغاية فننال ما نتمنى، ويزول الضرر والخطر عنا.
أجل، إنني أنكرت الكنيسة وانقطعت عن تتميم طقوسها، وكتبت لجميع أقاربي أعلمهم بأن لا يدعوا عند موتي أحدا من خدمة الكنيسة؛ بل عليهم أن يطرحوا جثتي الجامدة بدون أن يصلى عليها كما يطرحون الشيء الفاسد الذي لا لزوم له؛ لكي لا يزعج الناس بوجوده.
ثم جاء أيضا في قرار المجمع بأنني قد كرست كل قواي العلمية والهبة المعطاة لي من الله؛ لكي أنشر بين الشعب التعاليم المضادة للمسيح والكنيسة، وإنني في تآليفي ورسائلي التي عممت نشرها مع تلاميذي في سائر أقطار الأرض وعلى الأخص في أنحاء وطننا العزيز أكرز كرجل غيور متعصب لأهدم جميع طقوس الكنيسة وجوهر الإيمان المسيحي. ولا صحة لهذا الكلام أبدا؛ لأنني لم أجتهد في حياتي لنشر تعاليمي. نعم، إنني قد ألفت لذاتي اعتقادي بتعليم المسيح، ولم أخف هذا التأليف عن الناس الذين طلبوا إلي أن يعرفوها، ولكنني لم أطبع أنا كتابا منها، وقد أظهرت لمن كان يطلب مني أفكاري، وأعطيتهم من كتبي التي كانت توجد عندي.
ثم جاء في ذلك القرار أنني أنكر الله المثلث الأقانيم الممجد والخالق، وأني أنكر الرب يسوع المسيح الإله والإنسان معا، فادي ومخلص العالم الذي تألم من أجلنا نحن البشر، ومن أجل خلاصنا، وقام من بين الأموات ... إلخ. نعم، إنني أنكر الحبل بالرب يسوع المسيح من غير زرع، وأنكر بقاء والدة الإله الطاهرة عذراء قبل الولادة وبعدها، وإنني أنكر التثليث المبهم، ومعمى سقوط الإنسان الأول، وتاريخ الإله المولود من عذراء لافتداء الجنس البشري من الخطية، وإنني أعترف بأن الله واحد، وهو روح ومحبة وأصل كل شيء، وأجتهد أن أكرس حياتي وأعمالي لإتمام مشيئة الله المصرحة في تعليم المسيح.
وجاء أيضا في ذلك القرار «بأنني لا أعترف بالحياة العتيدة بعد الموت، ولا بالعقاب والثواب». نعم، إنني لا أعتقد اعتقادهم بالحياة الأخرى التي ينتظرونها بالمجيء الثاني؛ إما عذاب أبدي مع الأبالسة في جهنم، أو غبطة دائمة في الفردوس، وإنما أعتقد بحياة أبدية وثواب هنا وفي كل مكان الآن وفي كل أوان، وأتمسك بهذا الاعتقاد تمسكا زائدا، ولا أتمنى لنفسي حتى النقطة الأخيرة من حياتي موتا جسديا ماديا؛ أعني ولادة لحياة جديدة، وأعتقد أن كل عمل جيد يزيد سعادة حياتي الأبدية، وكل عمل رديء ينقص تلك السعادة. وجاء أيضا في ذلك القرار «بأني أنكر كل أسرار الكنيسة»، وهذا ما لا ريب فيه؛ لأني أعد الأسرار سحرا دنيئا لا تطابق التعاليم عن الله والمسيح، وعدا ذلك فهي تناقض مناقضة ظاهرة تعاليم الإنجيل الواضحة. هذا ما أردت أن أرد به على ما نسبه إلي المجمع، والحق يقال بأنني لا أعتقد بما يعتقدون، ولكنني أعتقد بأمور كثيرة يدعون أنني لا أعتقد بها.
أما أنا فإني أعتقد أو أومن بما يأتي: أومن بالله أنه روح ومحبة وأصل كل شيء، وأومن أيضا أنه في وأنا فيه، وأومن بأن مشيئة الله موضحة إيضاحا تاما في تعليم الإنسان المسيح الذي لا أعتقد به إلها، وأعد الصلاة إليه تهكما عليه، وأومن بأن سعادة الإنسان الحقيقية تقوم بإتمامه إرادة الله التي تأمر الناس أن يحبوا بعضهم بعضا، حتى إذا حافظوا على هذه الوصية يستطيعون أن يفعلوا مع غيرهم ما يريدون أن يفعل الناس معهم، وهذا مصرح به في الإنجيل بأعظم صراحة، وأن في ذلك الناموس والأنبياء، وأعتقد بأن جوهر معيشة كل إنسان ينبغي أن يوجه إلى هذا المعنى؛ أي إلى زيادة المحبة فيه، وأن زيادة المحبة تقود كل إنسان بمفرده في هذه الحياة إلى سعادة عظمى، ويكون مقدار السعادة التي ينالها في الحياة الأخرى بقدر المحبة التي تكون فيه، وبواسطة هذه المحبة ينتشر ويسود ملكوت الله على الأرض، وبذلك تتبدل حالة معيشة الناس الحالية المبنية على الفساد والنفاق والبغض والنميمة والخداع، بحب أخوي متبادل وصدق عام، وأعتقد بأنه توجد وسيلة واحدة لانتشار هذه المحبة وهي الصلاة، ولا أعني بها الصلاة العامة في الكنائس التي حرمها المسيح نفسه «متى ص6 عدد 5 وعدد 13»، بل الصلاة التي أرانا مثالها المسيح وهي صلاة الإنفراد التي تكون بتوجيه كل الأفكار نحو العزة الإلهية، وحصرها لتتميم إرادة الحق. فإذا كانت معتقداتي هذه تحزن أحدا أو تكون عثرة له أو تغيظه أو لا تعجبه، فأنا لا أستطيع تغييرها، كما أني لا أستطيع تغيير جسدي، فأنا أحيا لنفسي وأموت لنفسي، ولذلك لا أقدر أن أعتقد بخلاف ذلك، وعلى هذا الاعتقاد أستعد للذهاب إلى ذلك الإله الذي خرجت من عنده. ثم إنني لا أجزم بأن اعتقادي هو الحق بذاته، ولكنني لحد الآن لم أجد إيمانا أوضح منه يسلم به عقلي وقلبي، وإذا اهتديت إلى أحسن من معتقدي الحالي فإني أقبله بكل سرعة؛ لأن الله لا يريد غير الحق، وكذلك لا أستطيع أن أرجع إلى ذلك المعتقد الذي تخلصت منه بعد تلك العذابات الشديدة كما أن الطير لا يستطيع أن يرجع إلى قشرة البيضة التي خرج منها. قال كولريد: «إن الذي يحب الديانة المسيحية أكثر من الحق فذاك لا ريب أنه سيحب كنيسته أو معتقده أكثر من الديانة المسيحية، وينتهي ذلك الشخص بمحبة ذاته «راحته» أكثر من كل شيء في العالم».
أما أنا فسرت راجعا في طريق أخرى؛ فابتدأت بمحبة إيماني المستقيم أكثر من راحتي وهنائي، ثم أحببت المسيحية أكثر من كنيستي، والآن أحب الحق أكثر من كل شيء في العالم، وللآن أرى هذا الحق مطابقا للديانة المسيحية كما أفهمها أنا، ولذلك أنا أومن بهذه الديانة المسيحية الحقيقية فأعيش بسرور وراحة وبهناء وهدو أدنو من الموت.
ليون تولستوي
هوامش
الفصل الثاني
رد على اعتراض تولستوي
قلنا فيما سبق إن تلاميذ المدارس العالية أظهروا شدة استيائهم من قطع تولستوي، وشاركهم في ذلك سواد الروسيين المتنورين من الطبقة العلياء، وكلهم بلسان واحد ولهجة واحدة، رشقوا المجمع المقدس وأعضاءه بكلام أشد من ضرب الحسام ووقع السهام، ونسبوا إليهم الجنوح عن جادة الصواب، ومحجة الإنصاف، ومخالفة شريعة المسيح التي هي شريعة المحبة والصفح والرحمة، وزادوا في التطاول زيادة أفرغت صبر رجال الدين، فردوا افتراءهم وفندوا أقوالهم ، وأظهروا بالحجج الدامغة والأدلة الساطعة عدالة المجمع المقدس، وأنه ما فعل إلا واجباته، ومن ذلك ما قاله بهذا الشأن:
حضرة الفاضل الكاهن فلاديمير بابورا
إن الكنيسة الأرثوذكسية تهتم اهتماما زائدا بخلاص أبنائها، وحفظهم من الضلالات والتعاليم الكاذبة المؤدية إلى الهلاك، ولذلك أصدر المجمع المقدس رسالة ضافية ضد تعاليم الكونت تولستوي الذي أنكر جهارا المسيح والكنيسة، ورد ردا مفحما على كل بنود تعاليمه الفاسدة، وهو - أي المجمع - يشهد بتلك الرسالة بأن الكنيسة من الآن فصاعدا لا تعتبر تولستوي من أبنائها، ما لم يتب ويرجع عن أفكاره الفاسدة، ولقد تصرف المجمع تصرفا عادلا مجردا عن كل غرض، ولم يكن له سوى غاية حسنة ومقصد نبيل، وهما: تثبيت أبناء الكنيسة الذين لم يزالوا منضمين إليها في الإيمان الحقيقي المستقيم، وإرشاد الذين قبلوا تلك الضلالة، وتحذيرهم من مناولة السم الزعاف المدسوس في تلك التعاليم الكاذبة، وعلى الأخص لإرشاد نفس الكونت تولستوي وإفهامه بأن تعاليمه وأفكاره واهية فاسدة، وبذلك يوقظ ضميره من سبات الضلالة. ولقد ختم المجمع المقدس حكمه بعبارة مفعمة من الرأفة والحنان طبقا للمحبة المسيحية، فإنه جهر بالدعاء إلى الإله المتعال ليعطيه - «أي لتولستوي» - الرب توبة لمعرفة الحق، ويرجعه إلى طريق الحق ويرشده إليها.
ومع ذلك فقد صادف قرار المجمع عند فريق من الناس المسيحيين استياء شديدا، وتضاربت الآراء والأفكار، ونسبوا للكنيسة وممثليها القساوة وعدم الإنصاف والظلم بمعاملتهم تولستوي تلك المعاملة الشنيعة على رأيهم، والتي ما أنزل الله بها من سلطان، وقالوا إن الكنيسة لم تتصرف طبقا لشريعة المسيح التي تأمر بالمحبة، وغفران الزلات، ولقد شذت عن دائرة هذا التعليم الواضح، والحق يقال إن هذه الأقوال أوهى من نسيج العنكبوت؛ لأنها ثقيلة على الأسماع وغريبة في بابها، وقد بلغت أقصى حدود الجهالة، وخطا قائلوها خطوة شاسعة في العقوق والتطاول، وعصوا أمهم الكنيسة الأرثوذكسية التي تهتم بهم اهتماما زائدا، ونسبوا لها أمورا نجل قدرها عنها، ولا يخفى أن الرعاة يعلمون رعيتهم ويعظونهم كأب لأولاده «ات ص2 عدد 11».
ويطلبون منهم أن يرتجعوا ويتجنبوا المباحثات السافلة والأفكار الساقطة، ولا يجوز للآباء أن يصمتوا في ظروف كهذه، بل عليهم أن يعظوا ويعلموا؛ ليضحدوا التعاليم الكاذبة والهرطقات قبل أن ينتشر الشر ويتسع الخرق، ويأصل في قلوب الرعية.
إن الكنيسة هي ترتيب إلهي أسسها على الأرض ربنا يسوع المسيح لأجل خلاص الناس، ويختص بها جميع المؤمنين سواء كانوا صالحين أم خطاة، ونفس مؤسسها الرب يسوع المسيح شبهها بالحقل الذي ينمو فيه بإرادة صاحبه حتى الحصاد القمح والزوان معا «متى ص12 عدد 24 و30». غير أنه يحدث أحيانا أن الخطاة يتوغلون في الخطية توغلا يوجب قطعهم كأعضاء ميتة في جسم الكنيسة بقوة سلطتها المنظورة أو بقوة حكم الله غير المنظور، بناء عليه لا نعتبر الأشخاص الآتي بيانهم أعضاء في كنيسة المسيح:
أولا:
أولئك الذين ارتدوا عن الإيمان المسيحي، ورجعوا إلى عبادة الأوثان، أو حسب قول الرسول: من داس ابن الله، وحسب دم العهد الذي قدس به دنسا، وازدرى بروح النعمة «عب ص10 عدد 39».
ثانيا:
الهراطقة الذين لم ينكروا تماما الإيمان المسيحي، ولكنهم لجهالتهم أو لتشعب أفكارهم يفسدون معتقدات الكنيسة، ويحملونها على محمل يخالف ما وضعت له «كالكونت تولستوي»، وهم في ذلك لا يخشون وعيد الرسول القائل: ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما «غلا ص1 عدد 8 و9».
ثالثا:
المنشقون عن الكنيسة الذين مع أنهم لا يرفضون عقائد الكنيسة، ولكنهم لا يرضخون للسلطة الكنائسية، وينفصلون عنها بذواتهم وإرادتهم الخاصة، ومثل هؤلاء يصدق عليهم كلام المخلص القائل: «وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار.» «متى ص18 عدد 17».
رابعا وأخيرا:
كل الذين ترى الكنيسة بموجب السلطة المعطاة لها من الرب ضرورة قطعهم منها لانحرافهم عن الإيمان؛ قال الرب: الحق أقول، كم كل ما تربطونه على الأرض يكون مربوطا في السماء، وكلما تحلونه على الأرض يكون محلولا في السما «متى ص18 عدد 18».
فيظهر لنا مما تقدم أن الكنيسة بناء على أساس تعاليمها ينبغي عليها أن تبحث عن أبنائها بحثا مدققا، وتفصل الأجرب من بين خراف قطيعها الصحيح السليم لئلا يعديه، والمجمع المقدس كرئيس عال للكنيسة الروسية المستقيمة الرأي قد فعل واجباته ضد هرطقة الكونت تولستوي، وأعلن قطعه بعدل تام دون غاية طبقا للمحبة المسيحية السامية.
عظيمة هي خطيئة الكونت تولستوي أمام أمنا الكنيسة الجامعة المقدسة، ولكن رحمة الله عظيمة لا تقاس ولا تحد، وروح قدسه الإلهي الذي يكمل كل شيء يرشد ويقود الخطاة إلى الخلاص، إنه مقتدر أن يخلص وينير بنور الحق نفس الكونت الساقطة؛ لأنه جبلته وصنع يديه.
إن مؤسس الكنيسة الرب يسوع المسيح جاء إلى الأرض لكي يخلص ما قد هلك، وكان يفرح فرحا عظيما بوجود الخروف الضال «متى ص18 عدد 11 و13»، وكذلك الآن، فإن الكنيسة الأرثوذكسية بشخص ممثليها ورؤسائها توجه كل اهتمامها لخلاص أبنائها، ولا تترك في ميدان الإهمال أولئك الذين بسبب إظلام فكرهم يتجنبون عن حياة الله بسبب الجهل الذي فيهم «إفسس ص4 عدد 18»، ويبتعدون عن أمهم الكنيسة التي غذتهم بتعاليمها، وعن رعاتها الساهرون على الخراف الناطقة.
لقد جاء في منشور المجمع المقدس أن الوسائل التي استعملتها الكنيسة لرد الكونت لم تتكلل بالنجاح؛ فلذلك اهتم المجمع أيضا هذه المرة اهتماما أبويا؛ ليدعوه للرجوع إلى أحضان الكنيسة الإلهية ينبوع الخلاص على أمل أنه في أيام حياته الأخيرة المضطربة يدرك حقيقة الله، ويحب مخلصنا وإلهنا الحقيقي، ويندب أمامه خطاياه. وبناء عليه أصدر المجمع ذلك المنشور الذي أعلن به بأن الكونت تولستوي ابتعد عن الكنيسة بإرادته واختياره، ومع ذلك فقد التمس من الرب الرحوم أن يرحمه ويرده إلى طريق الخلاص والحق.
ولقد ظهر كالشمس في رابعة النهار بأن منشور المجمع المقدس لا يشتم منه رائحة القساوة، كما يدعي بعض الناس الذين أسدلت الغباوة حجابا كثيفا على عيونهم فحكموا عفوا على أمور مسلمة دون ترو وإمعان، فكان حكمهم فاسدا لا يقبله العقل السليم، وإذا كان البعض لم يزالوا ممتعضين من المجمع لإصداره مثل ذلك المنشور فليكن معلوما لديهم أن المجمع لا يستطيع أن يتصرف بخلاف ذلك ؛ لأنه للحصول على غاية الكنيسة الموكول إليها المحافظة على وديعة تعليم الإيمان الخلاصي الثمين يطلب من المجمع المقدس أن يحافظ أيضا على تعاليمها حتى لا يطرأ عليها ضرر أو تغيير، بل يبقى ذلك التعليم صحيحا كاملا بعيدا عن التحريف، وإذا وجد أحد كالهراطقة والمعلمين الكاذبين الأقدمين «ومثل الكونت تولستوي الآن» ينكرون عقائد المسيحية، ويقدحون في جوهر الإيمان المسيحي، فهل يسوغ للمجمع أن يسكت عنهم؟ أوليس أنه محق بإعلانه سقوط تولستوي بإرادته من أحضان الكنيسة؛ ليدافع بذلك عن الإيمان، ويثبت التعليم الإلهي الحقيقي، ويوطد حسن العبادة في قلوب المؤمنين؟
إن بولص الرسول معلم المسكونة العظيم يعلم تلميذه هكذا: احفظ الوديعة معرضا عن الكلام الباطل الدنس، ومخالفات العلم الكاذب الاسم الذي إذا تظاهر به قوم زاغوا من جهة الإيمان «تي ص6 عدد 20 و21»، وأيضا أوصاه بما يأتي: تمسك بصورة الكلام الصحيح الذي سمعته مني في الإيمان والمحبة في المسيح يسوع: احفظ الوديعة الصالحة بالروح القدس الساكن فينا «2 تي ص1 عدد 12 و14». ورعاة الكنيسة المعينون حراسا لهذه الوديعة الروحية المنتشرون في سائر أقطار الأرض بأمر مخلصنا يسوع المسيح فهم خلفاء للرسل الذين سلموهم التعليم الحقيقي، ومطلوب منهم أن يعظوا رعيتهم بمواضيع توافق ظروف المكان والزمان والأحوال لأجل منفعتهم، وجلب الكل إلى طريق الحق والخلاص، ولكننا نقول، والأسف يملأ منا الجوارح، إن أناسا كثيرين لقلة إدراكهم، أو لضلالهم، أو لعدم فهمهم ومعرفتهم واجبات رؤساء الكنيسة، قد رشقوا المجمع المقدس بعبارات السفه لقطعه الكونت تولستوي، ولو علم هؤلاء قول الرسول لكفونا وكفوا أنفسهم مئونة البحث في هذا الموضوع: «أطيعوا مرشديكم، واخضعوا لهم؛ لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم كأنهم سوف يعطون حسابا لكي يفعلوا ذلك بفرح لا آنين؛ لأن هذا غير نافع لكم.» «عب ص12 عدد 17». فكان واجب عليهم أن يتذكروا كلام الرسول القائل أيضا: «أن تعتبروهم جدا في المحبة من أجل عملهم.» «أ. تي ص5 عدد 12». ولقد ظهرت عدالة المجمع المقدس القانونية المبنية على تعاليم المسيح والرسل في حادثة تولستوي الذي اعترف بإنكاره الإيمان بالمسيح، وعقائد الكنيسة المقدسة التي لا تعتبره ابنا لها ما لم يرتد إليها من نفسه. ا.ه.
وهاك ما أجاب المطران أنطوني في 30 حزيران «يونيو» سنة 1901 رادا على كتاب تولستوي الذي أجاب به المجمع المقدس بداعي قطعه من الكنيسة.
نشر في شهر أفريل الكونت تولستوي بين الناس رسالة رد بها على ما قرره بشأنه المجمع المقدس، فرأيت من الضرورة أن أجيب عنها بكل إيجاز:
إن الكونت يؤيد برسالته صحة وعدالة ما نسبه إليه المجمع المقدس، غير أنه علق على ذلك المنشور بعض ملاحظات كان بودي أن أفندها واحدة فواحدة لو لم تكن مجلة الإرسالات الدينية كفتنا مئونة الرد عليها بما نشرته من المقالات الضافية بخصوص ذلك.
إن الكونت تولستوي ينكر برسالته، بجسارة زائدة، أن الكنيسة لم تستعمل أدنى وسيلة لرده إليها؛ بل إن المجمع المقدس بعد أن اطلع على أفكاره الدينية قطعه من الكنيسة، وأصدر بحقه حكما جائرا، وقد كذب هذا الادعاء عدة من كتابنا فلم يدعوا مجالا لقائل، وإنني في عجالتي هذه أورد بهذا الشأن شهادة رجل من أعاظم الروسيين الأتقياء هو الكونت فلاديمير بوبرنيسكي الذي ليس لي به سابق معرفة، ولكنه أرسل لي كتابا مدبجا بيراع الأسف الذي خامر فؤاده لدى اطلاعه على رسالة الكونت تولستوي التي يرد بها على المجمع المقدس، وبالأمس أرسلت كتابا ألتمس به منه إذنا بنشر كتابه؛ لأنه يتضمن شهادة واضحة لا تحتاج إلى إثبات على أن الكنيسة استعملت الوسائل الواجبة لإرشاد تولستوي وإرجاعه عن أفكاره، فأجابني الكونت بوبرنيسكي بكتاب ثان جاء فيه بعد الديباجة:
إذا كنت أيها الحبر ترى في نشر كتابي منفعة للكنيسة فأنا أوافق على نشره، وأعد موافقتي فرضا لازبا علي أمام الحق والكنيسة المقدسة التي عظمت في عيني بعد قراءتي الإهانة التي ألحقها بها الكونت تولستوي ...
وهذا نص الكتاب الأول:
أيها السيد الكلي القداسة، قرأت بالأمس من أيادي الناس جواب الكونت تولستوي على منشور المجمع المقدس، وقد أثر بي تأثيرا سيئا ما ورد به، وهو أن الكنيسة لم تسع لإرشاده ورده عن ضلاله، وبما أن ادعاءه هذا افتراء محض، ولدحضه أورد لكم ما سمعته بأذني من نفس الكونت تولستوي.
منذ عام زرت الكونت في قرية ياسانيا بوليانيا، وفي أثناء إقامتي عنده علمت أن كاهن سجن تولا يتردد عليه مرارا عديدة، فسألت الكونت عما إذا كان يسر بزيارة ذلك الكاهن؛ فأجابني ما نصه بالحرف الواحد: «إن كاهن سجن تولا رجل حسن السيرة دمث الأخلاق لين العريكة، وفوق ذلك فإنه مؤمن إيمانا حقيقيا، وإني أسر كثيرا بمسامرته، غير أن سروري ينعكس لدى معرفتي بأنه يأتي إلي من قبل رئيس الكهنة لإرشادي ووعظي».
أكتب لكم هذه الشهادة وليس لي بذلك غاية سوى إظهار الحقيقة التي لو سكت عنها لم أسلم من نخس الضمير؛ بل كنت أشعر دائما بأني أخشى غضب الكاتب الشهير أكثر من غضب الله عز وجل. ا.ه.
أما بقية ما جاء في جواب الكونت تولستوي فإن الفؤاد يجمد جزعا لتلاوتها، ويقشعر الجسم من هول ما تضمنته تلك الرسالة؛ لأنه يعد تاريخ تجسد المسيح، وتعاليم الفداء، ومعرفة المسيح إلها، تهكما وتجديفا، أعني أنه يمحو بذلك كل الديانة المسيحية، فلما طالعت ذلك، وعرفت أنه كان يتمنى الحصول على رخصة لطبع كل كتبه بخصوص الدين، ولو نال متمناه فلا ريب أنه كان لا يمضي وقت وجيز على الكنيسة إلا ويخرج منها الناس أفواجا، ولا يبقى فيها غير الزعانف فأحاق بي خوف عظيم من أعمال وأفكار هذا الرجل التعيس، وتمثل أمامي يوليان الذي أراد أن يمحو عن وجه الأرض تعليم المسيح، وتذكرت هلاكه وتاريخه المشين، ففهت بنبوة أشعياء النبي على بابل: اصعد إلى السموات، وارفع كرسي فوق كواكب الله، وأصير مثل العلي، لكنه انحدر إلى الهاوية إلى أسفل الجب.
ولقد جمد فؤادي من تجديف الكونت تولستوي الغير المعقول، فإن ذلك ما هو إلا مخاصمة الله وإشهار حرب على المسيح ابن الله الحي الذي سيدين الأحياء والأموات. قال بولص الرسول: «إن كان أحد لا يحب الله الرب يسوع المسيح فليكن أناثيما ماران أثا.» «1 ك ص16 عدد 22»، وجاء في بشارة متى: «من ينكر الرب يسوع فالمسيح ينكره.» «ص10 عدد 33»، ومن ينكر ألوهية يسوع المسيح ويتمسك بهذا التجديف فهو محروم، وإنكاره هذا يجلب عليه اللعنة دون أن يوجهها إليه أحد، ويبعد نفسه عن الله، ويحرمها الحياة الإلهية، ويبتعد عن روح قدسه، ولقد قال الرسول: «ليس أحد وهو يتكلم بروح الله يقول يسوع أناثيما، وليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس.» «1 ك ص12 عدد 3»، وإن الكونت تولستوي قال هذه الأناثيما على الرب يسوع المسيح.
خطرات أفكار لأسقف أرثوذكسي طالع اعتراف تولستوي الجديد
أيجوز بعد هذا الإقرار الجديد الذي جاهر به الكونت تولستوي أن ندعوه تابعا للكنيسة الأرثوذكسية المقدسة أو مؤمنا باستقامة رأيها، فإذا كان أحد لم يزل مشككا بذلك، فلا ريب أنه بعد مطالعته رسالة الكونت الأخيرة تزول من نفسه تلك الشكوك، ولم يكتف الكونت بأنه أنكر جهارا جميع عقائد الديانة المسيحية، وجاهر بالابتعاد عن الكنيسة المستقيمة الرأي، وجحد جميع أسرارها المقدسة، وسمى تعاليمها مجموعة أكاذيب وخداع وخرافات خشنة، وزاد على ذلك بأنه أعلن جميع أقاربه بأن لا يدفنوه حسب طقوس تلك الكنيسة، فهل بعد هذا يجوز للمجمع المقدس أن يصمت بعد أن سمع هرطقة تولستوي وشاهد تعاليمه التي انتشرت بسرعة في سائر أقطار الأرض ولو أنه لم يقبلها أحد ولكنها وجهت التفات الناس إليها؟ ثم أليس أن المجمع بسكوته يكون سببا لعثرة أبناء الكنيسة المؤمنين، وتركهم الإيمان القويم، وخروجهم عن حظيرتها؟ وهل يسوغ للمجمع أن يأذن بالصلاة على جثة تولستوي الذي طبق ذكره أربع أقطار المسكونة؟ أليس أنه يجلب بذلك هزؤ وسخرية جميع أعداء الكنيسة، وعليه نقول: إن المجمع المقدس تصرف بقطعه تولستوي بحكمة زائدة، وما فعل إلا واجباته المطلوبة منه، ولا يختلف في ذلك اثنان، فنسأل الله أن يوطد دعائم الكنيسة، حتى إنها لا تخجل من المجاهرة بمعتقداتها وإيمانها بالله وبنفسها. أما الكونت، فقد اعترف وأقر بأنه ابتعد عن الكنيسة، وأيد أفكاره التي جاهر بها، غير أنه علق بعض ملاحظات على منشور المجمع ضده، وانتقد بعض مواضع منه انتقادا أملاه عليه الغرض الذي تملكه، فاعترض على المجمع لأنه قطعه وحده من الكنيسة مع وجود كثيرين يعتقدون اعتقاده، وصرحوا باعتقادهم في الكلام والحديث والنشرات والكتب، ولكن المجمع لم يقطع أحدا منهم عن الكنيسة سواه، وفي ذلك ما فيه من الانحراف عن جادة الحق والإنصاف، وأشار في كتابه إشارة خفية بأنه هو الكاتب الشهير الذي قبل العالم أفكاره، وترجم كتبه إلى جميع اللغات في نفس وقت ظهورها باللغة الروسية، وأنه لا يجوز مساواته بزعانف الكتاب. ثم قال بأن أتباعه بخصوص الدين قليلون؛ لأن المراقبة كانت تمنع انتشار كتبه الدينية فأضحى وجودها من جراء ذلك كالعدم، ونحن لا نوافقه على ذلك أبدا؛ لأنه وإن كان أتباعه قليلين فمؤلفاته انتشرت في كل مكان عرف به اسم تولستوي، وهذا الاسم أصبح أشهر من نار على علم؛ لأنه ما من إنسان يحسن القراءة في العالم إلا ويعرفه، وإذا كان يجهله بعض بسطاء روسيا فسيأتي وقت يتنور به الجميع ويطالعون مؤلفات تولستوي التي ستدوم إلى الأبد، فينبغي علينا من الآن أن ننبه أفكار البسطاء الذين ستشرق عليهم أنوار العلم في المستقبل، ونوضح لهم بأجلى بيان وأقوى برهان فساد هذه البدعة أو الضلالة، حتى لا ينغروا بسفاسف الأقوال، ويسقطوا في مهاوي الضلال.
وشهرة تولستوي بعثت الكنيسة لأن تفقه واجباتها، فألقت الحرم والقطع على كل من ينكر تعاليمها، ولم تهتم بالكتاب الذين هم في الخفاء فيما سبق، وهذه عادة جرت عليها الكنيسة منذ إنشائها إلى يومنا هذا؛ لأنها تعلم ضعف الجنس البشري، ولذلك تتجاوز كثيرا ما عن هفوات بعض أبنائها الخوارج، ولذلك كانت تقطع الرجل الذي تتيقن تهوره الزائد وتتأكد بأنه لا يمكن إصلاحه وإرجاعه عن ضلاله، وتصرفها هذا إذا تأملناه بعين الحقيقة نراه بالغا منتهى العدالة والإنصاف، وهي تعلم بأن مصير الإنسان النهائي لا يتوقف على قطعة ورق مكتوبة أو مطبوعة، ولا على فرزه من بين أعضائها بالحرم، بل يتوقف على خروجه وابتعاده عن طريق الحق وينبوع الحياة، وحرم الكنيسة في مثل هذه الأحوال لا يكون إلا كشاهد على ذلك، ولو فرضنا أن رجال الكنيسة الروحيين تغاضوا عن وجود شخص شذ بين المؤمنين، وتساهلوا بعدم قطعه، أو أنهم لم يعلموا بوجوده، فإنه لا يستطيع أن يختفي من أمام قضاء الله العادل الذي لا تخفى عنه خافية، وكذلك لا يضر قداسة الكنيسة، وعدا هذا فاللعنة أو الأناثيما ما هي إلا آلة عقاب للانتقام من الخاطي؛ لأن الرب يقول: «لي الانتقام، أنا أجازي، يقول الرب.» والكنيسة تعلم هذه الكلمات أكثر من غيرها، واللعنة الكنائسية ما هي إلا واسطة لإرجاع الخاطئ، وإذ لم يكن ذلك في الإمكان فإنه يقصد بها إعلان جماعة الكنيسة عن ظهور ضلال بدعة، وبذلك تمنع ضلال البسطاء؛ لأنها في قطعها الضال وإظهار زيغه وضلاله توطد عقائد إيمانها وتؤيدها بالبينات الدامغة فتمنع انتشار الضلال، وكما قدمنا إن الكنيسة كانت تجنح إلى مثل ذلك فقط في الحوادث المهمة التي يخشى منها جلب الضرر والتعب كما فعلت الآن بظهور ضلالة تولستوي الشهير.
ثم إن الكونت يعترض على أن منشور المجمع يتضمن نميمة ضده حركت الناس على شتمه وقذفه بأقبح أنواع المثالب، والذي دعاه أن يعترض هذا الاعتراض هو أن المجمع المقدس ينسب إليه أنه كرجل غيور متعصب ينشر تعاليمه، ويقول تولستوي: إن هذا المدعى لا ظل له من الحقيقة، وهاك كلماته: «إني لم أجتهد أبدا لنشر تعاليمي.»
ولا جرم أن القارئ يستغرب هاته الكلمات؛ لأن تولستوي يعرف تمام المعرفة بأن مؤلفاته «وعلى الأخص الأخيرة» ستطبع برمتها، وتروج رواجا عظيما، وينتشر مئات وألوف منها في جميع أقطار العالم؛ وبالأخص في روسيا، فكيف يقول إذن لا ذنب له بنشر تعاليمه الكاذبة، والمجمع المقدس محق بما قاله من أن تولستوي كمتعصب غيور كان ينشر تعاليمه منذ سنين عديدة، ويكرز بها بقصد هدم عقائد الكنيسة المقدسة، والمجمع جمع بهذا القول جميع أعمال تولستوي العلمية بقطع النظر عن الطرق التي كان يستعملها لبث هذه التعاليم؛ سواء كان يطوف بين الشعب بنفسه للوعظ بها أو كان يرسل بذاته مؤلفاته للمطابع، أو كان يعهد بذلك إلى أصدقائه ومريديه، ومعلوم أن من يقدم السم لإنسان فلا شك أنه يقترف إثما عظيما، ولكن الأعظم منه ذنبا هو ذاك الذي يركب السم؛ لأنه يعلم أن القصد من عمله هلاك شخص ما، وهذا عمل فظيع، وإثم كبير، وبالإجمال، إن هذه النقطة من كتاب تولستوي لا تخلو من الغرابة.
وأغرب من ذلك وأعجب ما قاله الكونت في اعتراضه وتكذيبه المجمع بما جاء في منشوره من أن الكنيسة لم تستعمل أدنى وسيلة لإرشاده مع أنه حضر إليه عدة رهبان بهذا الخصوص فكانوا يحادثونه عن الإيمان، وكان هو يقبلهم ويحادثهم برضاء تام، حتى إنه صرح بذلك لبعض أصدقائه من الأشراف والعظماء، وأخبرهم بما كان يدور بينه وبينهم من المباحث الدينية، وأنه كان يعلم بأن هؤلاء الكهنة يأتون إليه من قبل الأساقفة ككاهن سجن تولا وغيره. فهل بعد ذلك يحق لحضرته أن يقول بأن الكنيسة لم تعظه أو ترشده وتنبهه إلى غلطه العظيم وخطئه الفاحش؟! وربما يدعي بأن المجمع المقدس لم يرسل إليه أحدا رأسا، وأن الكهنة المرسلين من قبل الأساقفة وليس من قبل المجمع، فنجيب على ذلك: إن المجمع والأساقفة مرتبطون ببعضهم ارتباط حلقات السلسلة، وفي كل الأحوال أخطأ كاتبنا الشهير خطأ عظيما لا يغتفر.
ثم يقول الكونت بأنه ترك الكنيسة بعد أن درس تعاليمها بكل دقة وإيضاح، فكان كلما يزيد في الدرس والبحث يزداد شكا في صدق تلك التعاليم. أجل، إن هذا الحادث محزن جدا، ولكنه من جهة أخرى ليس هو الوحيد من هذا القبيل، وإن مثل هذا يحدث ليس من كذب تعاليم الكنيسة ولا من أي شيء يلم بها، بل من ضعف إيمان وتشعب أفكار من يبحث في هذه التعاليم بحثا يخالف وضعها، وينظر إليها نظرا يطابق أفكاره الفاسدة. وقد أوضح الكونت نسبة الإنسان إلى الكنيسة وأسرارها في روايته «حنه كارينينا»؛ وخصوصا عند ذكره الصلاة أمام فراش نقولا ليفين، وهو رجل ابتعد عن الكنيسة ورفض تعاليمها، وبقي على حالته مدة طويلة، غير أنه في آخر حياته أصيب بمرض عضال، وفي إبان مرضه عاد إلى الكنيسة، وأمر أن تقام في غرفته صلاة، وذلك عندما كان على فراش الموت ظانا أنه بواسطة هذه الصلاة يتجدد الإيمان في نفسه، وهذا الإيمان يشفيه من مرض السل؛ فكان ينظر إلى الأيقونة نظر من يسأل شيئا، ثم أخذ يتفرس في وجهه لعله يقرأ في ملامحه جوابا لسؤاله، وكان نقولا يكرر رسم الصليب أمام الأيقونة مرات متواصلة مجتهدا؛ لكي يدب الحرارة في قلبه الميت، ولكنه لم ينل متمناه، وذهبت أتعابه أدراج الرياح، فأمر بعد نهاية الصلاة بطرح الأيقونة خارجا بعد أن وجه إليها كل عبارات السفه والشتائم.
فالكونت تولستوي يوضح تعاليم الكنيسة في رواياته بأمثال كهذه، والإنسان لا يريد أن يفهم بأن الخلاص لا يتم إلا بتهذيب النفس الأدبي، وأنه يقدر أن يشترك مع الله بالقداسة فقط، وهو - أي الإنسان - عجول في كل أموره، ويزعم بأنه إذا فعل بعض المظاهرات الخارجية يرتقي حالا إلى قمة الخلاص الديني، ويقتطف حالا جميع أثماره الشهية، وهو يزعم أيضا بأن الأسرار تقوم بمثابة علاج شاف لذلك، وبمجرد إتمامها يتصور أنه سيشعر فورا بتأثيرها في داخل نفسه، وأعماق قلبه! وما قلناه عن هذا نقوله عن جميع تراتيب الكنيسة. فالإنسان لا يلحظ ولا يشعر بالمفعول الذي ينجم عن تناوله الأسرار أو تتميم جميع فروض الكنيسة؛ لأن حالته الروحية الأدبية التي تؤثر فيها تلك الأسرار والفروض الموضوعة لها قد انفسدت فسادا ظاهرا، فيعتقد أنها عديمة التأثير والنتيجة، وأنها بحد ذاتها لا أهمية لها، ومع اعتقاده هذا يسعى للحصول على اقتطاف أثمارها ليأكلها بقبول وشهية! فأسرار الكنيسة لا تخلص الإنسان عندما يستعملها كعلاج للخلاص، بل تخلصه عندما يتناولها بقصد إنكار النفس الداخلي وحمل الصليب بتقديم نفسه ضحية لله. على هذه الصورة تعرف الكنيسة نفسها، وتفهم معنى أسرارها، ويحذو حذوها جميع أبنائها المسيحيين الحسني العبادة الذين يصرحون بهذا الاعتقاد في كل زمان ومكان، ولا عجب إذا وقع على رهباننا وعلى شعبنا البسيط وجل عظيم لدى مطالعتهم في رواية البعث كتابة تولستوي عن سر المناولة؛ لأنه ما كان يدور بخلدهم أنه يوجد إنسان على الأرض يعرف سر المناولة على طريقة تولستوي المادية. ولنا ملاحظة أخرى على الكونت لا بد لنا من إيضاحها، وهي أنه في آخر كتابه يقول إنه يستطيع أن يغير أفكاره عندما يجد معتقدا أوضح من معتقده، ولكنه لا يقدر أن يرجع إلى أحضان الكنيسة ويحسب من أبنائها، كما أن الطير لا يستطيع أن يرجع إلى قشر البيضة التي خرج منها. فيظهر من كلامه هذا بأنه لم يزل مشككا بصحة مذهبه الجديد، وبذلك يكذب نفسه بنفسه، ولا خير في مذهب لم يزل صاحبه مرتابا بصحته، ثم إن الكونت يقول إنه يؤمن بإله روح ومحبة، ويزعم بأنه إذا جمع عدة ألقاب مرادفة يعبر عن إيمانه، ولكن يا ترى ما هو إله المحبة إذا لم يكن في الوقت نفسه ذاتا؟ وهل لهذه المحبة معنى أزلي بعيد الغور يطابق ناموس الحياة العالمية العامة؟ وهذه المحبة نراها ثابتة حقيقية أزلية في الله المثلث الأقانيم. وتولستوي يستمد أصل معتقده الجديد من الديانة التي تركها، واستهزأ بها، وتهكم عليها، وكذلك ما قاله عن خلود النفس والعقاب والثواب، فإنه مبهم كل الإبهام، وإذا لم يكن هذا الخلود موضحا إيضاحا تاما ومعرفا تعريفا ظاهرا، فإذن بالطبع لا يكون شيء بعد الموت، ولا هنالك ثواب أو عقاب؛ لأن الطبيعة دائما في حالة واحدة غير مائتة وعديمة التغيير، وسوف نرى من يتمنى لنفسه خلودا كالخلود الذي يعتقد به تولستوي؛ حيث لا عقاب ولا ثواب! فالكونت تولستوي كلامه يناقض بعضه؛ فمن جهة ينكر تعاليم الكنيسة عن الثواب والعقاب، ومن جهة أخرى عند كلامه على معتقده بهذا الخصوص يستعمل نفس الكلام الذي تعبر به الكنيسة عن تعليمها فينجم عن ذلك حالة حرجة، وهي أن الإنسان يحب شخصا ويحترمه ويسأله، ويوجه كل أفكاره لتتميم إرادته، ولكن في الوقت ذاته يثبت أن ذلك الشخص ليس له إرادة ولا معرفة، وينهى عن محبته وإكرامه، وإذا كان الكونت يعترف بوجوب الصلاة، ويقول إن أساس الحياة هو الله المحبة ، وأنه يجب على الإنسان أن يتمم إرادته، فمن هذا القبيل يكون هو الإله الحي الذي تعترف به الكنيسة المقدسة، وينكره بالفكر والقول الكونت تولستوي.
ثم إنه لنا مزيد الأمل برجوع الكونت إلى أحضان الكنيسة، وصيرورته من أبنائها، واعتقاده بتعاليمها، وذلك بالنظر لسمو أفكاره وسعة مداركه حقق الله آمالنا به، غير أن تابعيه يحولون دون رجوعه إلى التوبة، ولكنه ما دام معنا، ولم يحن له الوقت للوقوف أمام الديان العظيم، فلا نقنط من مراحم الله غير المتناهية، وينبغي علينا أن نصلي إليه بحرارة إيمان؛ لكي يرحم عبده ويرده إليه، ويؤهلنا معه بقلب واحد وفم واحد أن نمجد اسمه القدوس. ا.ه.
الفصل الثالث
كتاب مكشوف للكونت تولستوي من رجل كان على مذهبه ثم ارتد إلى الكنيسة
أيها الكونت ليون نيكولا يفتش
إنه من ذاك الوقت الذي افترقنا به؛ أي منذ عدت أنا أرثوذكسيا، وقد مر على ذلك نحو ثمانية أعوام لم أعد أخاطبكم بما هو مهم لنا نحن الاثنين، وقد عزمت عدة مرار على أن أكتب لكم، لكنه لإيقاني بأن كتابتي لا تجدي نفعا فأحجم عن ذلك. غير أني الآن لما قرأت ردكم الأخير على قرار المجمع بشأنكم عزمت أن أكتب لكم بعض كلمات، فأخذت اليراع وفؤادي يختلج في صدري من عظم التأثير الذي ألم بي، وأنا لم أر شيئا جديدا في اعترافك الجديد؛ لأنه معلوم لدي منذ كنا سوية.
قلت في ردك إن حكم المجمع بشأنك جائر؛ لأنه حكم عليك وحدك بالخروج عن محجة الكنيسة، وجادة الحق والصواب، مع أن كثيرين يعترفون اعترافك. أقول: إنك محق في كلامك، ولكنك من جهة أخرى غير محق؛ ذلك لأن الذين يعترفون اعترافك لم يجاهروا بهذا المعتقد كما جاهرت أنت، ولم يحملوا حملتك على الكنيسة ورئيسها وأسرارها وخدمتها. ثم إنني أقدم لك برهانا دامغا على عدائك الشديد للكنيسة، واستياء أعاظم الكتاب منك؛ كلام رجل لا تستطيع أن تنكره، ولا ريب تذكر ما كتبه في حقك صديقك الحميم الكاتب الشهير فلاديمير سولوفييف في رسائله الثلاث تحت عنوان «حديث تحت النخل»، وتذكر أيضا أنني كتبت له أسأله عن سبب النفور بينك وبينه، حتى أدى ذلك إلى عداوة شديدة بينكما بدلا عن تلك الصداقة، وقد أطلعتك إذ ذاك على جوابه الذي قال في ختامه: «إن حملة تولستوي على الله وتهكمه على مسيحه في روايته البعث قد أثرت بي تأثيرا شديدا وهيجتني ضده.» ثم إنك في كلامك عن طقوس الكنيسة ومعتقداتها وأسرارها تقول بأنها ما هي إلا مجموعة أكاذيب وسحر وخداع، ولا أخوض عباب الرد عليك في هذا الشأن؛ لأن رجال الكنيسة لم يدعوا مجالا لقائل، وإنما وجدت من الضرورة أن ألقي نظرة عامة على ردك الأخير، وأجيب عليه بكل إيجاز فأقول: إن في بعض فصول اعتراضاتك على عقائد اللاهوت قلت بأنك تعتبر الكنيسة بأنها مؤلفة من ألوف من الرجال الهمج ذوي شعر طويل طائعين طاعة عمياء لمئات من ذوي الشعور الطويلة مثلهم، فتعني بذلك رجال الدين. ولا أرد على تعريفك هذا للكنيسة؛ لأن الاعتراض عليه لا يجدي نفعا؛ لأنه بعيد عن الحقيقة مراحل، ودليل على جهلك تمام الجهل لحقيقة الكنيسة وإنشائها وتأليفها. ولو فرضنا أن تعريفك هو حقيقي، وأن الكنيسة ما هي إلا رجال الإكليروس، وأنهم كلهم فاسدو السيرة ومتكبرون، ويحافظون بالتواتر على تعليم الكنيسة الذي تسلموه، ولكن ألم يخطر على بالك متى نشأ هذا التعليم؟ ومن وضعه؟ فإنه كما لا يخفاك ليس الإكليروس الحالي المتكبر الفاسد الأخلاق «على رأيك» هم الذين وضعوا الأسرار وألفوا العقائد ونظموا الشعائر، بل معظمها نراها واردة في العهد الجديد. وأوجه التفاتك إلى كلام بولس الرسول في رسالته إلى أهل كورنتوس كيف أنه يفهم كلام الرب عن الجسد والدم كما نفهمها نحن الأرثوذكسيون، وأنه وضع ترتيب المائدة المقدسة بقوله: «لأن الذي يأكل ويشرب بدون استحقاق يأكل ويشرب دينونة لنفسه غير مميز جسد الرب» ... إلخ «1 كو ص11». ثم أليس أن المسيح يعترف في الإنجيل بالله كما نعترف به نحن؟
أليس في رسائل الرسل موضحا أتم إيضاح أن عمل الفداء حجر زاوية هذا التعليم ؟ أليس أن أقرب تلاميذ المسيح «ونفس رسول المحبة» كانوا يذهبون إلى هيكل أورشليم لأجل الصلاة؟ وأنه في الأجيال الأولى المسيحية انتشرت خدمة القداس الإلهية ووضعت الترتيبات الكنائسية، وأن تلاميذ المسيح والذين تتلمذوا لهم كانوا يحافظون على هذه التعاليم أشد المحافظة، ويبذلون دمهم في سبيل صيانتها من التعدي عليها؟ أليس أنك جرحت إحساسهم وأهنتهم في تسميتك هذه التعاليم كذبا وسحرا وخداعا؟
يا حضرة الكونت تولستوي، تقول إنك تحب الحق أكثر من كل شيء في العالم، فأرنا ذلك بالفعل، وما عليك لذلك إلا أن تطرح أفكارك الحاضرة عن الكنيسة، ولو إلى أمد قصير، وعندما تنساها وجه أفكارك إلى الأجيال الأولى من ظهور الدين المسيحي. فهل يا ترى بعد ذلك تستطيع أن تتهم بالوقاحة ومحبة الفضة وقلة الشرف والعظمة أولئك المسيحيين الذين جاهدوا جهادا حسنا في سبيل انتشار الديانة المسيحية، وأدهشوا العالم بأعمالهم العظيمة حتى أقر لهم الملوك بالفضائل، ومالوا بكليتهم إليها؛ لأنهم أخرسوا العلماء والفلاسفة بحكمتهم وفلسفتهم الحقيقية؟! اذكر بوليكارب، والفيلسوف يوستين، وأنطوني ومكاريوس العظيمين، ويوحنا الذهبي الفم، وباسيلوس العظيم، وغريغوريوس المتكلم باللاهوت، وأفغوستين المغبوط ... وغيرهم من الذين احتملوا اضطهادات جمة لأجل توطيد دعائم الدين المسيحي، بماذا يا ترى تفسر خدماتهم العظيمة التي قاموا بها نحو الحق مع خدمة ألوف مثلهم؟ ألا يدل ذلك دلالة صريحة على صدق تعليم الكنيسة الذي جاهد في سبيله هؤلاء الرجال المشهورون بالتقوى والصلاح، المعروفون بالغيرة والنشاط، والذي أنت تسميه ضلالا وكذبا وخداعا؟!
ومما لا سبيل لإنكاره هو أنه وافق على تعليم الكنيسة هذا وتعليم السيد المسيح والرسل الأطهار في عدة أجيال رجال من شعوب مختلفة ومرام متباينة، مختلفون في المعارف، والجنس، والإدراك، ولم يقم من بينهم واحد يعتقد اعتقادك، ويسعى ليفسد جوهر الإيمان كما سعيت أنت، ومع مرور الأيام وكرور الأعوام لم يستطع أحد أن يدحض الإيمان المسيحي الصحيح، ولا أن يشوبه بشائبة. وقد قام في كل زمان ومكان رجال شهد لهم العالم بسمو المدارك وسعة الاطلاع، ولم يشكك واحد منهم بلاهوت المسيح أو بالتثليث، وأقرب شاهد على ذلك باسكال، وغلادستون، وسولوفييف الروسي، ولقد طالعت عدة مرات دستور إيمانك الجديد فكنت أشعر لدى مطالعتي إياه بحزن شديد مؤثر للغاية. نعم، إن كلماتك التي تقر بها عن الله حسنة ، وهي أن الله روح ومحبة وصدق، ولكن لدى قراءتها لا تتأثر النفس كما يجب، بل تبقى بعيدة عن الإحساس بعد الحقيقة عن معتقدك، وإنني ما زلت أتذكر ترجمتك للفصل الأول من إنجيل يوحنا، وكيف أنك حرفت الترجمة تحريفا قبيحا ظاهرا؛ حيث الأصل الحقيقي يقول: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله.» فحرفتها هكذا بقولك: «في البدء كان المعرفة، والمعرفة صارت عوض الله، ثم صارت المعرفة الله.»
فيا حضرة الكونت، ما هو الله المعرفة؟ فبجسارة أقول لك: إن إلهك ما هو إلا مجموعة أفكارك التي أحببتها وما زلت عليها، ولم تزل تنقلها من جهة إلى أخرى مدة عشرين سنة، وهي أفكار متشعبة مضطربة لا تستقر على حال من القلق.
ولا يخفاك بأن الإيمان على نوعين: إيمان بالخبر «رومية ص10 عدد 17»، وإيمان بالثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا ترى «عب ص11 عدد 1»، وهذا هو الإيمان الحي المنتظر الذي يهب الناس ثقة لا تتزعزع بما لا يرى، وهو - أي الإيمان - بعيد عنك بعد السماء عن وهاد الأرض؛ لأنه يعطى من المسيح الإله والإنسان الذي أنكرته، ونحن ما دمنا أحياء على الأرض ننال بواسطته وحده الزلفى إلى الأب السماوي القدير فنحصل على مواهب رحمته العظمى، وأنت بإنكارك المسيح الفادي تحرم نفسك مواهب نعمته السامية، ولعدم اختيارك الروحي قوة تلك المواهب فلا تستطيع أن تميز محبة المسيح من محبة الطبيعة، ولا التواضع من الكبرياء؛ ذلك لأنك لا تدرك قوة الإيمان بالمسيح المصلوب الذي قام من بين الأموات، ومن جهلك ضرورة ذلك الإيمان لولادة الإنسان الجديدة.
ومما يستحق الاستغراب والدهشة هو أنك لحد الآن تجهل تمام الجهل معرفة حياة نفس الإنسان التي عرفها أبسط الناس العديمي العلم والمعرفة، الذين قال عنهم رسول الأمم: «إن الله اختار جهال العالم ليخزي الحكماء ، واختار ضعفاء العالم ليخزي الأقوياء؛ حتى لا يفتخر كل ذي جسد أمام الله.» وكيف أننا لا نستغرب ذلك؟ فإن الله كشف لبولص البسيط الوحي الروحي الإلهي، وأخفاه عن تولستوي الفيلسوف الشهير، ثم إنك أوردت شهادة على حسن اعتقادك بعض أسطر لكولريد الشهير التي رأيت ضرورة إعادتها، وهي أن الذي يحب الديانة المسيحية أكثر من الحق فذاك لا ريب أنه سيحب كنيسته أو معتقده أكثر من الديانة المسيحية، وينتهي ذلك الشخص بمحبة ذاته «راحته» أكثر من كل شيء في العالم، فخذ لك مثالا على فساد هذا الكلام وبعده عن الحقيقة: بولس الرسول الذي تكرهه كرها شديدا لإيضاحه تعليم المسيح أكثر من بقية الرسل الذين شادوا جميعا كنيسة المسيح المقدسة، فإلى أي شيء انتهى هذا الرسول؟ أإلى محبة ذاته «راحته» أكثر من كل شيء في العالم؟ إن عدو الحق المبغض لا يستطيع أن يقول عنه ذلك، أليس أن هذا الرسول الأمين قضى حياته باحتمال الاضطهاد والمشقات والأتعاب من أجل المسيح؟
وأذكرك بأقرب التلاميذ للمسيح؛ وهما: بطرس ويوحنا، وأوجه أنظارك إلى رسائلهما عن تعليم المسيح، ترى أنهما أتما حياتهما بالطرد والاضطهاد والموت شهيدين. ثم إني لا أذكرك بأيام الاضطهادات الشديدة التي ثارت على المسيحيين وأقلقت راحتهم، حتى إن كثيرا منهم أهرقوا دماءهم من أجل اسم المسيح القدوس وكنيسته الطاهرة، ولا أذكرك بحالة نساك البراري وما قاسوه من شظف المعيشة والتقشف والإمساك؛ كأنطوني ومكاريوس وغيرهما، الذين تركوا ملذات هذا العالم، وقمعوا شهوات النفس، كل ذلك من أجل محبتهم للمسيح.
وقبل أن أختم كلامي أقول: إن وقتنا قد دنا للنهاية، وإني لا أقطع الرجاء ولا أيأس من أنك في دقائق غربتك الأخيرة على الأرض ستضطرم صورة الفادي في نفسك، وتخرجك من الظلمة إلى النور العجيب المدهش، كالسعيد الذكر غوستين.
الفصل الرابع
خاتمة الكتاب
رد مطول لحضرة العلامة الشهير واللاهوتي الفاضل الكاهن قسطنطين إجييف، أستاذ التعليم المسيحي في كلية الإمبراطور نقولا الأول للإناث في مدينة كييف، وقد وجه كلامه فيه لأدباء الهيئة الاجتماعية ونخبة كتاب الروس الأفاضل، حيث قال:
من الغريب أن أفاضل ونبلاء هيئتنا الاجتماعية أبدوا استياء شديدا من رسالة المجمع المقدس التي أصدرها في حق تعاليم تولستوي، واتخذوها واسطة لإظهار تعلقهم به وحبهم الشديد له، فقد صاغوا على أثر صدورها من مبتكرات قرائحهم تلغرافا يشف عن رقة زائدة ومحبة أكيدة وميل شديد لفيلسوف روسيا العظيم، أرسلوه له في 28 فبراير «شباط» عام 1901، وكان يجب أن تترك تلك المظاهرات حتى ينسج عليها الإهمال نسيج النسيان، غير أننا سمعنا كثيرين يرددون عبارات الأسف لصدور مثل ذلك عن أشخاص مختلفي المشارب، وهم من الأهمية بمكان عظيم، وفي الوقت ذاته يدعون بأنهم أبناء مخلصون للكنيسة الأرثوذكسية.
نعم، إنه لا يخفى علينا أساس مصدر تلك المظاهرات التي ولا شك هي تلك الجريدة التي أعلنت حرمان المجمع المقدس، وأحدثت ذلك التأثير السيئ الذي أصاب فؤادنا من سهم حاد؛ لأننا لا ننكر فضل الكونت تولستوي مؤلف الصبوة، والفتوة، والحرب والسلام، وحنه كارينينا ... وغيرها من الكتب السامية المغزى. أفلعلنا نسينا تلك اللذة العذبة التي كنا نشعر بها عند مطالعتنا تلك المؤلفات التي رسم بها الفيلسوف مضار الهيئة الاجتماعية، وأبان ما فيها من أنواع الفساد الحيواني؟ ثم هل نسينا بأننا مديونون للفيلسوف بإيضاحه كثيرا من الحقائق الصادقة المهمة، ولم تزل ترن في آذاننا للآن كلماته القائلة: «لا توجد عظمة حيث لا توجد بساطة وصلاح وصدق»؟!
ولقد تألم فؤادي من قراءة شهادة جميع الكهنة الروس الذين نسبوا إلى الفيلسوف قلة الإدراك وفساد المعارف، وكان من الواجب عليهم أن يجعلوا مدار كتاباتهم ومحور ردهم على أقوال الفيلسوف الدينية ليس إلا.
ولذلك فلا تحزنن قلوب المؤمنين الروس الذين يكرمون ويحترمون فيلسوفهم العظيم الذي طارت شهرته في سائر أقطار المعمور عند مطالعتهم حكم المجمع المقدس ضده، فإن من له أقل إلمام بالتاريخ يعرف أنه في كل زمان ومكان كانت الحرب عوانا بين الدين والعلم، وتلك سنة لا يمكن تغييرها ما دام العلم علما والدين دينا، وهما على طرفي نقيض؛ فالإنسان يستطيع حسب استعداده أن يكون نابغة عصره في العلوم وسعة المدارك، ويمكنه أن يكون أيضا كريم الأخلاق حميد السجايا، ومع ذلك يكون خارجا عن دائرة الكنيسة، وخروجه هذا لا يحط بقدر معارفه وعلومه، ولا يعيب صفاته النبيلة، ومن جهة أخرى فالإيمان لا ينبغي له معارف زائدة؛ لأنه لا يتوقف على البراهين الساطعة والأفعال المجيدة، بل يتوقف على بناء الإنسان الروحي مع مادة الإيمان، وهو لا ريب نتيجة عمل مجموع قوى الإنسان في أشد حالات ظهورها، ولذا ينبغي للإيمان أيضا اتفاق جميع أوتار النفس حتى تضرب على وتر واحد، والإيمان هو فعل الروح الحر؛ أعني اقتناع القلب وتصديقه بالأشياء المنظورة كالمنظورة والمرغوبة المنتظرة كالحاضرة، ولا يحوزه الإنسان إلا بدقة التبصر حتى يسلم به العقل السليم والفؤاد الطاهر الكريم. فيحتمل أيضا أن يكون الإنسان عالما مشهورا في علم من العلوم، ولكنه فاقد التبصر ودقة النظر، فيحصر اجتهاده لنشر النواميس التي يسنها في هذا العالم، فإنسان مثل هذا لا يستطيع أن يجد الله، ولا يمكنه أن يتبع شرائعه، ولا يكون ابنا حقيقيا للكنيسة مثل لابلاس.
كما أنه يوجد أناس كثيرون متصفون بالإخلاص، واللطف، وطهارة القلب، ولكنهم يفتخرون بذواتهم، ويتكلون على نفوسهم، وذلك مما يقودهم إلى الحرية المتطرفة، فيصير من الصعب عليهم إمالة أسماعهم لطاعة الإيمان بالنظر لاعتقادهم بأن الطاعة ما هي إلا استعباد النفس، ومن هذا الوجه فهم يفضلون ترك الافتكار والاهتمام بالعالم الثاني على الخضوع للقوانين التي تفرضها الكنيسة، ومثل هؤلاء ليسوا بعيدين عن ملكوت الله، ولكنهم أيضا ليسوا فيه، والكنيسة في مثل هذه الحالة تستعمل وسائل ناجعة لقيادتهم إليها، فيتعدون الحد الذي يفصلهم عن الكنيسة، فيصبحون إذ ذاك أبناء مخلصين لها، فيجدون في ربوعها راحة نفوسهم المضطربة.
ومن هذا القبيل كان الإيمان في كل زمان ومكان سببا لوجود الأحزان في الكنيسة، والتاريخ يصرح بكل وضوح بأن العلماء والفلاسفة كانوا ولم يزالوا يبتعدون عن الديانة المسيحية، ويحملون عليها حملات شديدة، فاليونان الذين كانوا حائزين درجة عظمى من التقدم في العلوم والمعارف لم تسبقهم إليه أمة، حسبوا ذلك الدين جهالة عظمى حسب قول الرسول، وبهذا المعنى قال السيد - له المجد - بأن أتباعه سينقصون رويدا رويدا، حتى إنه لدى مجيئه الثاني لا يجد الإيمان على الأرض.
1
عندما تمت حياة مخلصنا الفادي على الأرض، ودنا ذلك اليوم الذي أتم به خدمته الخلاصية للجنس البشري، كان قد أخبر تلاميذه الذين اختارهم لإتمام عمل الكرازة بالآلام التي سيحتملها، ثم كشف لهم مشيئته الأخيرة التي ينبغي على المؤمنين أن يسيروا بموجبها فقال: أنا الكرمة الحقيقية، وأبي الكرام، اثبتوا في وأنا فيكم، كما أن الغصن لا يقدر أن يأتي بثمر من ذاته إن لم يثبت في الكرمة، كذلك أنتم أيضا إن لم تثبتوا في. أنا الكرمة وأنتم الأغصان، الذي يثبت في وأنا فيه هذا يأتي بثمر كثير؛ لأنكم بدوني لا تقدرون أن تفعلوا شيئا «يو ص15 عدد 1 و4 و5».
إن اتحاد المؤمنين بالمسيح أو ثبوتهم فيه ينحصر بمعرفتهم تعاليمه، وسيرهم طبقا لإرادته ووصاياه، وخضوعهم بكليتهم له، ومن يتخذ هذا الاتحاد مع المسيح يغدو معه كنفس واحدة، وهو - أي الاتحاد - مكمل لخلاصنا، أو هو الغاية الوحيدة التي ينبغي أن يكون مدار حياتنا عليه كما قال كاروز الأمم: إنه يجب علينا في جميع أيام حياتنا أن نعمل لخلاصنا، ثم إن اتحاد الواحد مع المسيح يجر وراءه اتحاد جميع المسيحيين مع بعضهم، وإذ ذاك تتم كلمات مخلصنا التي لفظها بصلاته للآب السماوي، حيث قال: «ليكن الجميع واحدا، كما أنك أنت أيها الآب في وأنا فيك؛ ليكونوا هم أيضا واحدا فينا، ليؤمن العالم أنك أرسلتني وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني؛ ليكونوا واحدا كما أننا نحن واحد؛ أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد.» «يو 17 عدد 21-24». وعليه فإن جميع المؤمنين بالمسيح يؤلفون واحدا صحيحا، وذلك لا يحتاج إلى زيادة بحث، فإن الإنسان الذي يبذل وسعه للاتحاد مع المسيح لا يمكنه أن يكره أو يحسب الذين يسعون سعيه ويحذون حذوه غرباء عنه، فالمؤمنون إذن متحدون بوحدة الإيمان، والمسيح مخلصنا يستقبلنا في طريق الخلاص، فإذا كان - له المجد - يبدي لي مساعدة بالحصول على الخلاص، فهل يخطر على بال بأنه يضن به على واحد من المؤمنين به والساعين للحصول عليه، ولذلك فالمؤمنون بالمسيح يتحدون كلهم به كواحد، قال الرسول: «إنه هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحدا، ونقض حائط السياج المتوسط الفاصل بين السماء والأرض، وعلى الأرض بين اليهود واليونان، وقد صالح هؤلاء وأولئك بالصليب قاتلا العداوة به، فجاء وبشركم بسلام أنتم البعيدين والقريبين؛ لأن لنا كلينا قدوما في روح واحد إلى الآب.» «إفسس ص2 عدد 18». وكنيسة المسيح تقوم بذلك الاتحاد الذي أشرنا إليه؛ لأنها هي جماعة المؤمنين التي هي جسده وهو يترأسها ويحييها بنعمة الروح القدس، والمسيح كرأس الكنيسة سن لها أحسن القوانين التي تتضمن جميع وسائل الخلاص وكمال الحق القريبة لمداركنا، وكذلك وضع فيها الأسرار التي ترشد الجنس البشري إلى النعمة الخلاصية بواسطة صلبه المجيد «أي الأسرار»، تقدسهم وتبني منهم مسكنا لله بالروح «إفسس ص2 عدد 22». وبناء على ما تقدم فاتحاد المؤمنين بالمسيح لا يمكن أن يتم إلا في الكنيسة، وفيها وحدها ينبغي الاعتراف بالحق الصريح، وفيها نستطيع أن نعيش تلك العيشة الهنيئة الطاهرة؛ لأن مخلصنا - له المجد - قد وعدها وعدا صادقا بأنه سيكون معها إلى انقضاء الدهر، وقد قال أيضا: «إني أبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها.» ثم إن السيد المسيح لم يسلم الحقائق المسيحية لكل تلميذ على حدة، بل علمها لجميعهم معا، وقد أوصاهم أيضا أن يحبوا بعضهم بعضا محبة مشتركة، وهكذا تسلموا اتحادهم من مصطفيهم الإلهي الذي سلمهم أيضا كنيسته، وأمرهم بالكرازة والإنذار، فإذن الكنيسة التي يديرها رئيسها الإلهي ويحييها الروح القدس الساكن فيها هي وحدها مناط بها المحافظة على الحقائق الإلهية، وتعليمها، ونشرها، وهي أيضا بمثابة كلية أدبية يستقي منها أعضاؤها قوى النعمة التي تشدد ضعفهم وتقوي عزائمهم للثبوت على السير في طريق الخلاص الشاق، وقد تنبأ النبيان أشعيا «ص2 عدد 2 و4» وميخا «ص4 عدد 1 و8» عن حالة الكنيسة في مستقبل الأيام، حيث قالا: «ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتا في رأس الجبال ، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه كل الأمم، وتسير شعوب كثيرة، ويقولون هلم نصعد إلى جبل الرب، إلى بيت إله يعقوب، فيعلمنا من طرقه، ونسلك في سنبله؛ لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب.»
ولما كانت الكنيسة - كما قدمنا - هي جماعة المؤمنين بالمسيح رئيسها ومحييها بنعمة الروح القدس، فقد أوجدت دائرة خاصة بها خارجية كمركز لحياتها الداخلية، وهي الكهنوت ودرجاته، وتلك الدائرة بحسب واجباتها نحو الرعية تحافظ أولا على تعليم المسيح صحيحا دون أن يمسه تغيير، وتنشره لدى اقتضاء الظروف والأحوال، وتكون واسطة لاتحاد المؤمنين بالمسيح بواسطة الأسرار، والمحافظة على طهارة الإيمان وآداب أعضاء الكنيسة، ثم إنه طبقا لنظام الوجود فإن الكنيسة الواحدة الجامعة تنوجد بصفة كنائس منفردة خاصة مرتبطة بالروح، ومنقسمة بحسب المكان والمجمع المكاني الذي يلتئم مؤقتا، أو يكون بصفة دائمة كالمجامع المقدسة «السينودس»، فهو مركز للكنيسة الخاصة.
إن رعاة الكنيسة كخلفاء للرسل، يتخذون بعض أعضاء لها بإلهام إلهي لمساعدتهم، وتنحصر وظيفتهم في حق الحل والربط، أو أنهم عند الاقتضاء يرشدون الناس طرق الخلاص أو يمنعونهم عن بعضها، ولا يدعون إليهم سبيلا للانتفاع بتلك الطرق، وهذا الحق مبني على كلام مؤسس الكنيسة الإلهي القائل: «وإن أخطأ إليك أخوك فاذهب وعاتبه بينك وبينه وحدكما؛ إن سمع منك فقد ربحت أخاك، وإن لم يسمع منك فخذ معك أيضا واحدا أو اثنين لكي تقوم كل كلمة على فم شاهدين أو ثلاثة، وإن لم يسمع منك فقل للكنيسة، وإن لم يسمع من الكنيسة فليكن عندك كالوثني والعشار.» «مت ص18 عدد 15-17». ومعنى كلام السيد المسيح هو: إذا أخطأ مؤمن مثلك، أو قريبك، أو أخوك بالروح، ضد إيماننا؛ سواء كان بالفكر أو بالقول أو الفعل فوبخه باحتراس على حدة كأخ، فإذا لم يسمع منك وحدك فوبخه بتعقل ولطف أمام شاهدين أو ثلاثة من إخوانك في الإيمان؛ فإذا لم يسمع منكم جميعا فأعلم الكنيسة به وهي فلتوبخه بلطف كأب يوبخ أولاده، وإذا لم يسمع من الكنيسة فلا يبقى له محاكمة على الأرض، بل اترك محاكمته النهائية على عناده إلى قضاء الله، واعتبره إذ ذاك غريبا عنك وبعيدا منك ومفروزا، ولقد سارت الكنيسة منذ إنشائها حسب كلام مؤسسها، وعملت به مع الذين كانوا ينكرون جوهر تعاليمها وأساس حياتها، ولقد طرق مرة مسامع رسول الأمم بأنه ظهر في كنيسة غلاطية التي أسسها معلمون كذبة قد حولوا بعض أعضائها البسطاء عن الإيمان فكتب إليهم: إنني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعا عن الذي دعاكم بنعمة المسيح إلى إنجيل آخر، ولكن إن بشرناكم نحن أو ملاك من السماء بغير ما بشرناكم فليكن أناثيما «أي مفروزا» «غلا ص1 عدد 6 و8».
ولقد كتب أيضا إلى كنيسة كورنتوس: بلغني خبر صادق، وهو أنه ظهرت بينكم خطية عظمى لم يسمع بمثلها عند الوثنيين ... ثم آمر بأن يفصل الفاعل عن الكنيسة، وتصرف الرسول هذا يورث الانذهال والعجب؛ لأننا إذا طالعنا الفصل الثالث عشر من كورنتوس، ورأينا ما نادى به هذا الرسول من فضل المحبة وواجباتها نستكبر كيف أنه الآن ضاق ذرعا، ونفد صبرا، وتصرف بمثل ذلك التصرف، ولم يستطع احتمال ظهور تلك الخطية بين المؤمنين، ومن هذا القبيل إذا مرض أحد أعضاء الجسم، فإما أن نعالجه حتى يبرأ أو أن نبتره لئلا يفسد بقية الأعضاء، وهكذا تفعل الكنيسة مع الأعضاء الفاسدة التي لا تقبل الشفاء؛ لأن لها نظامات وشرائع تسير عليها، ولن تحيد عنها مطلقا، وهي توجه الأناثيما لكل من يسعى بتقويض أركان حياتها وخرق قوانينها ونظاماتها.
غير أنه لسوء الحظ يوجد كثيرون في روسيا وغيرها لا يدركون معنى تلك اللفظة؛ إما لقلة إدراكهم أو لابتعادهم عن المسيح، ولعدم فهمهم كلامه الواضح، فأولئك هم المخطئون؛ لأنهم هم قد أوجدوا بغير عدل كلام اللعنة، ونحن لا نغلط إذا عبرنا عن الأناثيما الحقيقي الذي توجهه الكنيسة المقدسة إلى أعضائها المضرين بها، وغير الخاضعين لها بهاتين الكلمتين: «اتركونا وشأننا» ونتبعهما بالصلاة إلى الإله الرحوم؛ لكي يردهم إلى أحضان كنيسته. ثم بعد ذلك نقول لهم: إنكم لا تؤمنون كما أمرنا الرب أن نؤمن، بل إنكم ترفضون وصاياه المقدسة ، وتجتهدون لملاشاة نعمته الطاهرة، وتهزأون بشرائع كنيسته التي أنشأها واشتراها بدمه، ووعد أن يحفظها إلى انقضاء الدهر، وقد وضع فيها جميع كنوز عمله الفدائي، وفوق ذلك فإنكم تسعون لكي تدخلوا فيها جميع تعاليمكم، وبنات أفكاركم الفاسدة، وعدا ذلك فإنكم تحتقرون وظائف رجال الكنيسة، وتتهكمون على شعائرها ونظاماتها، ولا تعتبرون فيها شيئا مقدسا، ولا تحتاجون لشيء منها «فاتركونا وشأننا» ونحن نبقى مع ذلك مسالمين لكم كبقية الناس الذين لا يعرفون تعليم المسيح ويجهلون شريعته، ولا جناح علينا من مجاورتكم ومشاركتكم في أتعاب الحياة، ولكن لا نستطيع مشاركتكم في الأفكار الدينية، ولا في الصلوات والأسرار، ولا في رباط المحبة الروحية.
وكذلك لا نستطيع مشاطرتكم آمالنا ورجاءنا؛ لأنكم صرتم وثنيين، وأنكرتم طهارة وكمال الإيمان المسيحي، وأصبحتم عندنا كما كان العشارون عند قدماء اليهود، ولذلك فنحن نعتبركم كما أمرنا ربنا بقوله: «وليكن عندك كالوثني والعشار.» وأنتم لكم الخيار ومطلق الحرية أن تكونوا كيفما تريدون، ونحن تأمرنا واجباتنا أن نعتبركم كما أمرنا ربنا يسوع المسيح الذي نؤمن به، وننتظر منه الخلاص الأبدي، وإنما حسب وصيته ينبغي علينا أن نصلي من أجلكم قائلين: «أيها الثالوث الأقدس، اطلع وأنر عقولهم؛ لكي يعرفوا نور تعليمك الحقيقي السرمدي».
ثم إني أوجه السؤال الآتي إلى معشر الأدباء، وهو: هل تستطيع الكنيسة أن تصرح أو تشير بأن من يعلم الإيمان على طريقة تخالف معتقداتها وشرائعها بأنه من أبنائها؟ أو هل تستطيع الكنيسة أن تنظر بارتياح إلى أعضائها الذين يتبعون في اعتقاداتهم اعتقادا مخالفا لها؟ وهل تستطيع أن تصمت عندما تشاهد أعضاءها يقطعون رباط اتحادهم معها ويسيرون على طريق الهلاك الأدبي؟ فإذا سكتت في مثل هذه الظروف تكون قد قصرت بواجباتها كذاك الذي يضع السراج تحت المكيال وليس على المنارة. أجل، إن الكنيسة تعرف نفسها بأنها وحدها حائزة كمال الحقائق الدينية، وأن الابتعاد عنها يسبب الهلاك لأولئك الذين يفتشون على الخلاص، ولذلك فإنه يتعين عليها أن تجاهر علنا على مسمع العالم كله بقطع النظر عن الأشخاص وأهميتهم بذلك الحق، وتنادي به على رءوس الأشهاد غير ملتفتة إذا جلبت لها تلك المناداة ملاما أو عداء، ثم إنه لا يخفى على ذوي الفكرة النقادة بأن كل جمعية سواء كانت علمية أو سياسية يكون لها قانون يسير عليه أعضاؤها، ولا يسوغ لأحد منهم مخالفته إذا كان اللهم لا يريد الانسلاخ عن تلك الجمعية؛ ذلك لأن حياتها تتوقف على محافظة الأعضاء عليه، وموتها يتوقف على مخالفته، وعلى هذا القياس ينبغي علينا أن نعتبر الكنيسة وأعضاءها المرتبطين معا بالإيمان وشريعة الله المقدسة وأسراره الطاهرة، فإذا أمعنتم النظر تتفقون معنا بأن الكنيسة لا تقدر أن تصمت عندما ترى أعضاءها يدوسون شرائعها، وما دامت حية «وستكون حية إلى انقضاء الدهر» ينبغي عليها أن ترفع صوتها شهادة للحق؛ لأنها عامود الحق وقاعدته «1 تي ص3 عدد 15»، وعلى ذلك تتوقف حياتها.
ولا ريب بعد هذا تزول الشكوك من نفوس أولئك المعتقدين خلاف هذا الاعتقاد، ويتفقون معنا على أن الكنيسة لها الحق؛ بل يقتضي عليها أن تؤدي شهادة صريحة عن الأشخاص التابعين لها والخارجين عنها، وإنما يبقى علينا أن نعرف أمرا واحدا، وهو هل لديها قاعدة تسير عليها في معرفة تابعي المسيح الصادقين والكاذبين؟ فنجيب على ذلك: نعم، إنه لديها قاعدة صحيحة مسلمة لها وهي: أن المسيحي هو ذاك الذي يؤمن بالإله الذي جاء بالجسد، ولقد كتب بهذا المعنى الرسول الإنجيلي حبيب المسيح الذي استند إلى صدره ليلة العشاء السري فقال: أيها الأحباء لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح، هل هي من الله؛ لأن أنبياء كذبة كثيرين قد خرجوا إلى العالم، بهذا تعرفون روح الله. كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فهو من الله، وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد فليس من الله، وهذا هو روح ضد المسيح الذي سمعتم أنه يأتي، والآن هو في العالم. أنتم من الله أيها الأولاد، وقد غلبتموهم؛ لأن الذي فيكم أعظم من الذي في العالم.
وهذه هي القاعدة التي تقدر بها الكنيسة أن تعرف الخراف التي تخص قطيع المسيح، أو - حسب كلام المخلص - التي تسمع صوت راعيها «يوحنا ص10 عدد 26».
وبناء على ذلك فإنه ليس كل روح تسير على الأرض في النور الذي أتى به المسيح، بل تلك الروح التي تعترف بأن المسيح قد جاء إلى الأرض بالجسد، وتعترف أيضا بأنه هو ابن الله حقيقة الذي تجسد من مريم العذراء، وهذا التعليم يؤلف أهم فصول دستور الإيمان الذي وضعه المجمع المسكوني الثاني، وصار من ذلك الوقت دستورا للكنيسة المسيحية؛ لتعرف بموجبه التابعين لها والخارجين عنها.
1
إن الكونت ليون نيقولا يفتش تولستوي روسي المولد، واعتمد وتهذب في الكنيسة الأرثوذكسية المقدسة، لقد جاهر بأفكاره الدينية منذ عدة سنين، وسلخ نفسه عن أمه الكنيسة التي هذبته وثقفته، ثم عن الدين المسيحي بوجه الإجمال. ولقد ورد في كتاب للفيلسوف عنوانه «بأي شيء إيماني» طبعه في باريس عام 1885 ما يأتي: لقد ظهر في الأجيال الأولى من التاريخ المسيحي تغيير عظيم، واختلاف كبير في الديانة المسيحية بدخول بعض العقائد الجديدة عليها، وقد أخطأ في ذلك قبل الآخرين بولص الرسول الذي جدد الإيمان، وأدخل عليه أمورا غير صحيحة قال إنها صادقة، ولذلك فقد ظهرت عقائد كثيرة لا وجود لها في الإنجيل كالتعليم عن ذات الله، وألوهية يسوع المسيح، والحبل به بدون زرع، وتجسده من مريم العذراء الطاهرة، وخلود نفس الإنسان، وعن العقاب والثواب بعد الموت ... ولقد مرت الأجيال العديدة والكنيسة في هذه الضلالات «طالع اعتراف تولستوي». ولقد ظهرت الآن تلك الضلالات للفيلسوف تولستوي الذي بواسطته يمكن ملاشاة جميع تعاليم الأناجيل الكاذبة، وإظهار ونشر التعليم المسيحي الحقيقي ... وحينئذ يظهر في عالم الوجود إنجيل الكونت البديع، ولقد ضربنا صفحا عن تلخيص أقواله من هذا القبيل، وإنما نقول بأن الفيلسوف حصر جميع تعاليم المسيح في الخمس وصايا الآتية:
أولا:
لا تقاوم الشر بالشر.
ثانيا:
لا تحاكم أحدا.
ثالثا:
لا تزن.
رابعا:
لا تحلف باطلا.
خامسا:
لا تحارب.
ويا حبذا لو وقف الفيلسوف في كلامه عند هذا الحد، فإنه حصر جميع قواه العقلية وذكائه لمحاربة التعليم المسيحي، وهدم أساسات الكنيسة، ولقد أحزن بذلك وأساء كثيرين من المغرمين بمطالعة كتبه، المعجبين بمواهبه السامية الذين يقدرون ذكاءه حق قدره؛ لأنه استعمل هذه المواهب الجليلة لغير ما وضعت لها من الغاية النبيلة. فكم قد تحامل على الديانة المسيحية، وتظاهر ضد الكنيسة المحافظة عليها، ثم إنه كتب في كتابه «ملكوت الله في وسطه» طبعه في برلين عام 1894، ولا يجوز الاعتقاد بأقوال ذلك الكتاب؛ لأنه جاء فيه عن خطبة المسيح على الجبل «التطويبات» ودستور الإيمان ما يأتي: إن رجال الكنيسة قد اختاروا دستور الإيمان للقراءة والتعليم في الكنائس كصلاة، وقد حذفوا خطبة الجبل من فصول الأناجيل التي تقرأ في الكنائس فلا يسمعها الشعب إلا في تلك الأيام التي يتلى بها الإنجيل كله.
ولا أقدر أن أعرف كيف يفوه فيلسوفنا بمثل هذا الكلام الذي هو ولا ريب تهكم، أو تحامل، أو قل ما شئت من عبارات التلطيف كما نسميه نحن تجديفا على الكنيسة، وعلى ذلك نجيب: فليأخذ الفيلسوف العهد الجديد الذي طبعه المجمع المقدس عام 1896، ويطالع ملحقه أو ذيله الموضح فيه قراءة فصول الأناجيل لجميع أيام السنة، وإذ ذاك فليحكم هو بنفسه على كلامه.
إن الكونت تولستوي مؤسس حاذق، وقائد لجماعة كبيرة من الناس، وعقيدته الجديدة أثارت عداء شديدا، وتعصبا أعمى ضد الكنيسة، وهو يعد ذاته معلما للناس، ويجتهد لإدخال تعاليمه في أذهان العامة، ولكلامه تأثير شديد في النفوس، فيجذب وراءه جما غفيرا من الناس الذين يتبعون أقواله، ومما هو من الغرابة على جانب عظيم أن كثيرين من أتباعه يقولون: إن الفيلسوف مسيحي، وإنما قد شذ فقط في بعض نقط من تعاليمه عن الكنيسة، ونفس الكونت يؤيد في تأليفه هذا الفكر الفاسد، وبذلك يسدل غشاوة جهل كثيفة على أعين أدبائنا، ويقودهم إلى الضلال، ولقد حان لنا أن نسأل معشر المتأدبين سؤالا واحدا، وهو أليس أن المجمع المقدس محق بتصرفه مع الكارز بذلك الإيمان؛ لأن المجمع له الحق التام والسلطة المطلقة بالمناداة بالحق على مسمع من العالم أجمع، وإذا كان مجمع أساقفتنا الروسي الأرثوذكسي قد جاهر علنا بعزم ثابت بأفكاره عن تعاليم تولستوي الكاذبة، فذلك يؤيد بأن كنيستنا لم تفتقر بحياتها الداخلية، بل إنها تحافظ على تلك الوديعة المقدسة المودعة في أحضانها، وتذكر أيضا واجباتها الوالدية التي هي تحذير أولادها من السير على تلك الطريق التي لا تقود السائر عليها إلى الحياة بل إلى الموت.
ولا ريب أن صوتها يبدو لكم رهيبا مخيفا، وكنتم تودون أن لا تسمعوا من فم الكنيسة كلام التهديد؛ بل كلام المحبة والرحمة، فأمعنوا النظر، وتبصروا في كلامها، وطالعوا بإمعان رسالة المجمع المقدس، فإنكم لا ترون فيه تهديدا أو وعيدا؛ بل أسفا شديدا وحزنا والديا لا مزيد عليه على أولئك الساقطين من أحضانها، مقرونا ذلك الأسف بصلاة حارة إلى الله لكي يرجعهم إليها. فالأم لما علمت بأن ابنها المحبوب سار في طريق الهلاك، أرسلت له كتابا تحذره فيه من الخطر القادم عليه، وتلتمس منه، بل ترجوه أن يغير هذا الطريق حفظا لحياته الثمينة. فماذا يستنتج من هذا الكتاب؛ أمحبة أم تهديدا؟ وعلى ما يتراءى لي أن التهديد ليس في الكتاب، بل في اعوجاج ذلك الابن وسيره في طريق الهلاك، وإنما يبقى علينا أن نعرف هل تستطيع تلك الأم أن تبعد عواقب ذلك الهلاك؟ نعم، تستطيع على شرط أن يؤثر اهتمامها تأثيرا شديدا على حرية ابنها المطلقة، وإذا لم يتسن لها ذلك فليس لها إلا أن تندب ابنها وترثيه.
ومن هذا القبيل الكنيسة الأرثوذكسية؛ فإنها لما علمت بابتعاد أحد أبنائها عنها وسقوطه من بين أعضائها أعلمته مع أتباعه عن عاقبة ذلك السقوط المخيف. فأين يا ترى التهديد الذي ليس له وجود البتة في رسالة المجمع المقدس التي هي كناية عن حزن شديد ومملوءة من روح السلام، وما التهديد والجنوح عن جادة الصواب إلا في نفس فعل الكونت تولستوي بسقوطه عن الكنيسة، وليس هنالك خوف من الكونت ذاته الذي قاوم الكنيسة، بل من أولئك الذين - حسب قول الرسول - يحسبون الكنيسة سفينة الخلاص «1 بط: ص3 عدد 2». فتحذير الإنسان الواقف على شفير الهاوية من الخطر الذي يتهدده لا يعد تهديدا له، بل اهتماما به. فالكنيسة لم تتهدد الكونت وأتباعه بإعلانها عنهم أنهم خرجوا من حظيرة الكنيسة، بل نبهتهم إلى الخطر المحدق بهم، فالاهتمام والتذكير ليسا إلا وسائط توافق روح الكنيسة التي قامت بواجباتها، ولم يبق عليها بعد ذلك إلا أن تصلي من أجلهم قائلة : ونبتهل إليك أيها الإله الرحوم الذي لا تريد أن يموت الخطاة بخطيتهم أن تستجيب وترحم وترد الساقطين إلى كنيستك المقدسة، فليت شعري هل يوجد ألطف وأرق من هذا التعبير لكي تعبر به الكنيسة عن مرادها؟ والحق يقال، فإن رسالة المجمع المقدس لا يشتم منها رائحة الانتقام والقصاص، بل ما هي إلا شهادة مملوءة بالأسف، وليس في سطورها أقل كراهة أو بغض للفيلسوف؛ بل تضمنت صلاة حارة لرجوعه إليها، ودعوة أبناء الكنيسة الحقيقيين إلى تلاوة تلك الصلاة مرارا وتكرارا.
ثم إني لا أرى مندوحة من زيادة الخوض في عباب هذا الموضوع إتماما للفائدة، وأن ألقي نظرة عامة على ما أحدثته رسالة المجمع المقدس من سوء التفاهم، والتأثير السيئ في نفوس بعض أفراد هيئتنا الأدبية، فأقول: إنني طالما سمعت من أدباء شباننا يقولون:
عندما كنا نطالع في الأيام الماضية انتقاد رجال الدين كتب تولستوي الدينية لم نبد حينئذ أقل استياء من ذلك؛ لأننا وجدنا الحق في جانب رجال الدين لانتقادهم الأدبي لآراء الفيلسوف الدينية المخالفة لاعتقادهم، وكنا نقرأ مناظراتهم بكل ارتياح، وأما الآن عندما سمعنا صوت المجمع المقدس بحالته الرسمية يعنف فيلسوفنا العظيم فلم ترتح أفكارنا لذلك، ولا اطمأنت خواطرنا لسماع ذلك الصوت الجهوري الذي يجبرنا أن نلتفت إلى تعاليم فيلسوفنا بطريقة محدودة لا نستطيع أن نتعداها، ولا يخفى ما في ذلك من الضغط الشديد على أفكارنا.
هذه أفكار أدبائنا الأفاضل الغريبة، فهل يا ترى كان يجوز لهم قبل ذلك كأبناء للكنيسة أن يسمعوا بارتياح تعاليم تولستوي؟ وهل يسوغ للإنسان العاقل أن يخلط بين الكذب والصدق وإلباس حقيقة الكتاب المقدس وأقواله ثوبا من البهتان؟ وهل يا ترى تنطلي على العاقل تلك السفاسف التي ما أنزل الله بها من سلطان؟ والمجمع المقدس ما أصدر تلك الرسالة إلا لإفهام أبناء الكنيسة حتى يميزوا بين الصحيح والفاسد، والحق إذا كان حقا ساطعا لا يسبب الاعتراف به ضغطا على النفوس، بل انطلاقا لها، وزيادة في حريتها، ودليلا ساطعا على وجود الحرية الحقيقية بين الناس. ثم هل أخطأت الكنيسة يا ترى بإعلانها لأبنائها التابعين لها والخارجين عنها حتى لا تدعهم هائمين في فيافي الشك واليقين، وغير خاف أن النور يبدد غياهب الظلام، وينير الأشياء التي يقع عليها دون أن يغير منظرها، ولهذا فإن معرفة الإيمان هي مقياس محكمة الوضع لمعرفة الكذب من الضلال في دائرة الإيمان، ولذلك فلا يظنن أحد بأن قبول النور لا يطابق حرية الأفكار.
وإني لا أنكر أنه يوجد علوم كثيرة لا علاقة لها أصلا بالإيمان، ولا تدخل تحت حكم الكنيسة، ثم إن شريعة الكنيسة وتأليف آبائها الأطهار كلها تصرح أعظم صراحة بأنها لا تضغط على حرية أفكار أعضائها، بل قد فوضت لكل واحد الحرية المطلقة في إبداء الأفكار التي تخطر في باله، والمجامع المسكونية التي كانت تلتئم من ممثلي الكنيسة شهود عدل على ذلك؛ لأنه في إبان التئامها لحل أي مسألة كان لكل واحد ملء الحرية لإبداء رأيه وأفكاره دون مراعاة برئاسة أو سلطة، ونحن إذا تأملنا بعين العدل نرى أن كل إنسان قابل للضلال، ولهذا فإن صوت الكنيسة يوقف أي إنسان ضل، ويرشده إلى طريق الحق، ويقوده إلى الصراط المستقيم، وحوادث تاريخ الكنيسة الماضية تؤيد بأن اهتمامها أثر تأثيرا عظيما في إنارة عقول بنيها الخوارج، وانتشالهم من وهدة الضلال بحكمها العادل المبني على دعائم الحق والمحبة، وتأكد أولئك الأبناء بأن حرية النفس لا تقوم بانفصالها عن الكنيسة انفصالا مبنيا على الأوهام، بل تقوم تلك الحرية الحقيقية بالخضوع المبني على الاقتناع بإخلاص زائد لشريعة المسيح الحقة.
ولا يخفى أنه يوجد في لندن جمعية تعرف بجمعية «البوزيتيغست» لها نظام خصوصي يسير عليه أعضاؤها، ومؤسس تلك الجمعية أغوست كونت الذي ألف مذهبا جديدا وهو عدم الاعتقاد بشيء مما فوق الطبيعة، وعدم الاعتقاد بأقوال الكتب الإلهية المعروفة عند جميع الطوائف، وقد تبعه جمهور غفير، وأصحاب هذه البدعة يكرمون على السواء: موسى وهوميروس، وأرسطو، وقيصر، وبولس الرسول، وكارلوس الكبير، وغيرهم من الرجال العظام. وهم يؤلهون قوة علوية سامية كشفت لأغوست كونت. ولهذه الجمعية بيت للصلاة كائن في شارع «شابيل ستريت»، ولدى اجتماع الأعضاء للصلاة يكون لكل واحد مطلق الحرية أن يوجه صلاته لمن يشاء؛ سواء لبولص أو لغيره، وإذا خطر لواحد بأن أغوست ليس بخادم حقيقي للقوة العلوية، فيطلب من رئيس الجماعة أن يفتش له على مصدر آخر يوجه إليه صلاة ترتاح منها حواسه الدينية، ولا يخفى بأن بلاد الإنكليز هي محط رحال الكنيسة الواسعة المبنية على الانقسام والتفريق، ورؤساء تلك الكنيسة لا يستطيعون على توحيد كلمة الناس للاتفاق على رأي واحد، ولكن الحمد لله أن الكنيسة الأرثوذكسية بعيدة عن ذلك؛ لأن شعارها الاتحاد ولواؤها الاتفاق. ثم سمعت من أفواه كثيرين بأن رسالة المجمع المقدس لم يقصد بها إيجاد السلام، بل عكس ذلك؛ لأنها هيجت أفكار الشبان والشابات المشغوفين بحب تولستوي، ويفتخرون به على فلاسفة العالم، وهم في مثل هذه الحالة لا يستطيعون الرجوع عن حبه ومطالعة تآليفه وسماع أقواله، ولهذا فرسالة المجمع قد كانت سببا لزيادة أعداء الكنيسة الذين هم بدون ذلك كثيرون. فأجيب على هذه الأقوال: إننا ننظر أولا إلى رسالة المجمع المقدس كتعبير ضروري لإظهار حالة حياة الكنيسة الداخلية بقطع النظر عن النتيجة التي تنجم عن ذلك حميدة كانت أم وخيمة، فالذي يرفع صوته أو يجاهر دفاعا عن الحق أو إظهارا له ذلك لا يخشى الخطر. من يعتقد بأن الله يدبر هذا العالم ذلك يجتهد لكي تكون جميع أعماله موافقة لروح الصدق والمحبة، وأفعاله مطابقة لأساس شريعة التعليم المسيحي الذي هو اتحاد الرحمة والحق، على أمل أن تكون نتيجة تلك الأعمال والأفعال عائدة لاقتطاف أثمار شهية.
نعم، إن الكنيسة تحزن وتكتئب لزيادة أعدائها، ولكنها لا تحيد عن واجباتها المقدسة إكراما وإرضاء لأولئك الأعداء حتى يبقوا بين أعضائها، وفي مثل هذه الحالة يمر في مخيلتنا عن غير قصد حديث المخلص مع تلاميذه عن سر الإفخارستيا، حيث قال لهم غير تارك مجالا للمناقشة في هذا المعنى: إن المؤمنين به الحقيقيين ينبغي عليهم للاتحاد معه كينبوع الحياة الأبدية أن يتناولوا جسده الطاهر ودمه الكريم تحت شكل الخبز . فلما سمع ذلك تلاميذه قالوا: إن هذا الكلام صعب جدا، من يقدر أن يسمعه «يو: ص6». أجابهم يسوع: أهذا يعثركم؟ فإن رأيتم ابن الإنسان صاعدا إلى حيث كان أولا، ومن هذا الوقت رجع كثيرون من تلاميذه إلى الوراء؛ فحزن مخلصنا لهذا الأمر، ولكنه لم يشأ أن يتنازل لإرجاعهم بطريقة ضعيفة، ولذلك قال يسوع للاثني عشر: «ألعلكم أنتم تريدون أن تمضوا؟» أي إنكم أنتم أيضا إذا لم تقبلوا هذا الحق فبالطبع تمضون عني مهما كان ذلك ثقيلا علي، فأجابه الرسل: «يا رب، إلى من نذهب؟ كلام الحياة الأبدية عندك.»
وإني لا أغلط إذا قلت بأنه لا يوجد بين أفراد هيئتنا الإجتماعية من يغار غيرة حقيقية على فرائض الكنيسة ويقدرها حق قدرها؛ لأني سمعت تقريعا شديدا بخصوص حكم المجمع المقدس ضد الكونت، كذلك لم تبرح من ذهني تلك العبارة الواردة في كتاب الكونتس صوفيا تولستوي، وهي: هل يسوغ من أجل اختلاف الآراء أن يقطع رباط الاتحاد مع الإنسان؟ نعم، إن قطع ذلك الرباط ضروري ولو أنه آلم قاطعه، وهذا الأمر لم يخف على فادينا إله الرحمة، حيث قال لتابعيه: أتظنون أني جئت لألقي سلاما على الأرض؟ كلا، أقول لكم بل انقساما؛ لأنه يكون من الآن خمسة في بيت واحد منقسمين ثلاثة على اثنين، واثنان على ثلاثة، ينقسم الأب على الابن، والابن على الأب، والأم على البنت، والبنت على الأم، والحماة على كنتها، والكنة على حماتها «لو ص12 عدد 49». ولذلك فلا ينبغي أن يحول بيننا وبين اتحادنا مع المسيح شيء من اهتمامات هذا العالم، حتى إن قيود القرابة الدموية لا تستطيع أن تقيد ذلك الذي مست فؤاده نار محبة المسيح.
ثم هل تظنون أنه يسهل على الكنيسة فصل أولئك الناس الذين يبتعدون عنها بالإيمان كالكونت تولستوي وغيره من أتباعه الموافقين أفكاره الدينية؟ والجواب: كلا، ولكن من جهة أخرى نقول إنه مهما زاد عدد أعداء الكنيسة، ومهما زاد خروج أبنائها من أحضانها؛ فإنه ينبغي عليها أن تبقى محافظة على تعاليمها الحقيقية وناشرة عهد المسيح.
قال أحد الأدباء في رده: إنه لا يستطيع أحد أن يتكدر من تصرف المجمع؛ إلا ذاك الذي أسدلت الغاية على بصره حجابا كثيفا فلا يدري ماذا يفعل، ثم إنه مر على صدور حكم المجمع عدة أشهر جرت في أثنائها حوادث كثيرة، وكلها تشهد بأن نبلاءنا وأدباءنا لم يفهموا للآن ولم يدركوا جوهر حكم المجمع وروحه؛ بل وضرورته، وعدا ذلك فلنا كل يوم شاهد جديد يدلنا على زيادة تعلقهم بالفيلسوف كقيامهم بمظاهرات خارجية مختلفة، غير عالمين بأن التلغرافات والأكاليل التي تهدى لغير مستحقيها تخالف المعنى الجليل الذي وضعت له، وهي أيضا لا تعزي المرسلة إليه تعزية حقيقية، وربما أيضا لا يقبلها.
ولا مراء، فإن الكنيسة تحزن حزنا شديدا من هذه الأعمال التي يقترفها أبناؤها، ولكنها لا تخاف منها، ولا تضطرب من تلك الأعمال أفئدة المؤمنين بالمسيح إيمانا حقيقيا؛ لأنهم يقرءون في كتابه العزيز آيات مملوءة تعزية وتنشيطا مثل قوله: لا تخف أيها القطيع الصغير؛ لأن أباكم قد سر أن يعطيكم الملكوت «لو ص12 عدد 32»، ولذلك فنحن نعترف بفضل عمل الكونت، ونقدره حق قدره، ونشكره على الخير الذي نلناه بواسطته، ومع ذلك فإننا نضاعف حزننا؛ لأنه أنكر مخلصنا يسوع المسيح ينبوع الحياة الأبدية، وبذلك قد ذهب من الحياة إلى الموت. فنصلي إليك أيها الإله الرحوم أن تطلع على نفس الكونت المضطربة فيلسوف أرض روسيا العظيم، وتنير فؤاده بنور محبتك حتى يمحو جميع ضلالاته، وأفكاره التي أبعدته عن الكنيسة، ولو كان ذلك في آخر حياته. آمين. (انتهى) (1) ذيل
وقد رأينا إتماما للفائدة أن نذيل هذا الكتاب برسالتين؛ إحداهما رأي هذا الفيلسوف العظيم في التربية والتعليم، كتبها لإحدى نسيباته نقلا عن جريدة الأهرام الغراء، والأخرى من رجل غريب في أطواره يدعى «أندريا باسيليفيتس لابسف» وجواب الفيلسوف عليه نقلا عن مجلة الجامعة البهية، وهاك الرسالة الأولى بنصها الشائق ومعناها الرائق:
رأي فيلسوف حكيم في التربية والتعليم
لقد سرني أني حادثت فلانا في أمر تربية الأطفال، وضاعف في سروري أننا نحن الاثنان كنا على اتفاق تام بأن يعلم الطفل قليلا، وإنه لخير للطفل أن يكبر ويشب وهو يعرف قليلا من أن يكبر وهو يعرف كثيرا من أخلاط القول وتضاعيف الأشياء التي يتلقاها الأطفال عن معلمين لا يدركون هم أنفسهم كنه ما يعلمون، فإذا تعلم الطفل شيئا لم يدرك كنهه عسر عليه فهمه وإدراكه وحل غوامضه وقبوله بحذافيره، فيتولد في صدره كره الدرس والتعلم، ومن هنا نستنتج أنه لا يجب أن يعلم الطفل أو الفتى إلا ما يقبله عقله، وتميل إليه نفسه، وتقدر على الإحاطة به مخيلته، ويكون على قابلية لتلقيه، وإني أقسم لك أني لا أكتب هذه الآراء اعتباطا، بل إني أكتبها وأنا على يقين تام بأهميتها ... نعم، إنك ستقولين لي ماذا نفعل بأطفالنا إذا نحن لم نعلمهم، وبماذا نشغلهم ونلهيهم، أندعهم مع أطفال العامة يلعبون ويتلهون، ويتلقون منهم كل كلام منكر وعمل مستقبح؟ فأنا أقول لك: إن هذه الحجة - ونحن على تلك المعيشة معيشة السادة الكرام المترفعين عن سائر الأنام - لا تخلو من الصواب، ولكن هل يجب علينا أن نعود أبناءنا هذه المعيشة المترفعة؟ وأن نفهمهم أن كل حاجاتهم تقضى لهم بدون أن يقضوا منها حاجة واحدة بأيديهم؟
إني أعتقد أن رأس التربية الصحيحة، وأساس التهذيب الجيد هو أن نعلم أبناءنا أن كل ما يحتاجون إليه لا يهبط إليهم من السماء، بل هو يصنع بأيدي الناس، وأن نعلمهم أن كل ما يعيشون به ومنه مصنوع بأيدي أناس لا يحبونهم ولا يعرفونهم. نعم، إن تفهيم ذلك للأطفال وغرسه في صدورهم أمر عزيز المنال (ولكني أسأل الله أن يفهم ذلك كل طفل عندما يكبر ويشب)، على أن الطفل يدرك ويفهم أن خادمته تنظف ما يوسخ وهي غاضبة، وأنها تمسح حذاءه بلا مسرة ولا انشراح صدر، وأنها إذا فعلت ذلك كله إنما هي لا تفعله حبا به، بل لأسباب أخرى يجهلها، فإذا لم يخجل من عمله كانت مبادي تربيته قاصرة، وكان مستقبله عبوسا؛ إذ تتأصل في صدره أصول الغطرسة القبيحة. فعليك أيتها العزيزة أن تحمي بنيك من هذه المنكرات، واسمعي في ذلك نصيحة رجل قد وقف مع الشيخوخة والهرم على حافة قبره، فعلمي أولادك أن يخدموا أنفسهم، ويقضوا حاجاتهم بأيديهم، علميهم أن يملئوا أباريقهم، وأن يطرحوا ماء الغسل، وأن ينظفوا أثوابهم، وأن يمسحوا أحذيتهم، وأن يمهدوا أسرتهم وفرشهم، وأن يضعوا النظام في غرفهم، وثقي أيتها العزيزة أن هذه الأعمال التي أوصيك الآن بها هي على حقارتها الأساس الكبير لسعادة أبنائك ونجاحهم في الأعمال الخطيرة، بل هي أهم من درس اللغات، ومعرفة التاريخ، وخطط البلدان ... إلخ إلخ.
ولا أكتمك أن الصعوبة في الوصول إلى هذه الغاية ليست في تعليم الطفل أن يفعل ذلك، بل في حمله على أن يفعله بلا تذمر، وبما أن الولد يفعل كل ما يفعله أبواه فلهذا أنا أقول لك اشتغلي أنت في شئونك وشئون بيتك على مرأى من أولادك، فإذا فعلت وجدت في العمل لذة كبيرة، واصبري واثبتي في ذلك شهرا تعرفي صدق ما أقول، ويكن أبناؤك أكبر مسرة بالعمل منك، فإذا زدت على ما قلته لك أنك حملتيهم على العمل في الحقل والبستان والحديقة زدتيهم في ذلك انتفاعا، وإن يكن العمل في الحديقة شيئا يعد قتلا للوقت، ولم يختلف أخلاقيان ولا مهذبان عاقلان على أن أحسن تهذيب للنفس وأفضل تربية للبدن هي بأن يقوم الناشئ بأعماله وبحاجاته؛ لأنه بالعمل يدرك أن الناس كلهم إخوة متساوون، فالطفل يعرف إذا اعتمل واشتغل لنفسه لماذا لا يترك النجار أو الحداد أو الصراف أعمالهم التي يرتزقون منها هم وعيالهم، ولكن كيف يفهم الطفل والناشئ الذي لا يشتغل، بل تقدم له حاجاته، ويخدم في كل شئونه كبيرة كانت أو صغيرة، سبب اشتغال غيره لأجله بما هو قادر على فعله؛ فتفسير ذلك كله يكون عنده واحدا، وهو أن الناس قسمان؛ قسم سائد وقسم مستعبد، فإذا أتيناه بعد ذلك بكل برهان، وأقمنا له كل حجة على أن الناس متساوون، وعلى أنهم إخوة في شروط الحياة ومرافقها، كذب ذلك بدليل ما يلاقيه من خدمة غيره له منذ الصباح حتى المساء، ومتى سقطت حجة واحدة أمام الطفل الناشئ سقطت كل حجة، فإذا لم يقتنع بهذا في البداءة عز على أهله وإن كانوا شيوخا، وعلى الشيوخ وإن كانوا علماء أن يقنعوه بأمر أو قول عن التهذيب وكرم الخلق. نعم، إنه يسمع بأذنيه، ولكن نبضات قلبه تقول له إن كل ما يلقى عليك كذب ومين، فلا يصدق واحدا من أهله ولا غيرهم، وينتهي أمره بأنه يكذب كل ما يقال له عن كل أدب وفضيلة.
ولم يبق لي قبل ختام كتابي هذا إلا أن أقول لك كلمة واحدة في هذا الموضوع، وهي أنه إذا تعذر على الطفل أو الناشئ أن يقوم بكل ما أوصيتك به فلا أقل من أن يشعر بأنه قد أنقص مما فرض عليه حتما، وأضرب لك مثلا: إن الولد إذا لم ينظف أثوابه ولم يمسح حذاءه أفهميه أنه لا يقدر على الخروج بأثواب متسخة وبحذاء بلا مسح، وأنه إذا لم يملأ إبريقه ولم ينظف طسته لا يعطى ماء ليشرب أو ليغسل، وحذار من أن يأخذك الخجل إذا لم تدعيهم يخرجون ويشربون، فإن أكثر الأعمال السيئة ناتجة عن خجل الناس من أنهم لم يأتوها مع معرفتهم فسادها.
وهاك الرسالة الثانية بحروفها:
كتاب غريب وجوابه
باكو في 6 أكتوبر سنة 1899
إلى الحكيم العظيم المحترم ليون نيكولا يفتش تولستوي، سلام باحترام كثير من أندريا باسيليفيتش لابسف.
أريد أن أعترف لك باختصار أنني بدأت أومن منذ سنة 1869، فقد قال المسيح: من أراد أن يكون معي فليحمل صليبه وليترك نفسه ويتبعني. فهذا القول يدل على أن كل واحد يمكنه أن يكون كالمسيح، وقال أيضا: ليس العبد أفضل من سيده، يكفي العبد أن يكون كسيده. يعني أن كل رجل من تلامذة المسيح يجب أن يكون رجلا كاملا كما كان السيد.
ورغبة في أن أكون أنا كاملا أيضا قطعت كل علاقة لي في هذا العالم؛ فتركت اسمي واعتقادي وعيلتي، وأصبحت مالك أمري أقول للناس: «لست منكم، ولكنني إنسان وحيد مفرد، أنا ملك نفسي.»
فمن أجل هذا قبضوا علي وأخذوني إلى القاضي ليسألني عن اعتقادي ، فلما وصلت إليه جلست، فقال لي: انزع قبعتك. فأجبته: أمام من؟ قال: أمام السلطة. فقلت: ما هو مصدر السلطة؟ فقال: الله. فقلت: هل أنت الله لأنزع أمامك قبعتي؟ فأجاب: كلا. فقلت: إذا لم تكن الله فلماذا تطلب مني أن أنزع قبعتي؟
فقال لي: انهض واقفا، فسألته أمام من؟ فقال: أمام القانون. فأجبته: إنني لا أعرف هذا القانون. فسألني: ما هي مهنتك؟ فقلت: هل أعطيتني مهنة حتى تسألني عنها. فقال: ما هو اسمك؟ فقلت: ليس لي اسم. قال: بماذا تؤمن. قلت: بماذا تريدون أن أؤمن؟ فإنني قلت لكم أنني لست منكم فلم تصدقوني. فسألني: أتؤمن بالله؟ فقلت: أي إله. فسألني: كيف تسأل أي إله! فإنه لا يوجد غير إله واحد. فقلت له: أين هو؟ وهل تعرفه؟ أرني إياه لأصدقك. فأجاب: في السماء. فقلت: هل صعدت إلى السماء ونظرته. فأجاب: كلا. فقلت: من أدراك إذن أنه في السماء؟ فالتفت القاضي إلي ساخطا، وقال: اترك هذا البحث الآن. فقلت له: اترك أنت هذا السؤال أيضا.
ثم سألني: ما هو وطنك؟ فقلت: ليس لي وطن. فقال: ولكنك تعترف بالقيصر. قلت: أي قيصر؟ فقال: إسكندر الثاني. قلت: القيصر هو القيصر، وأنا أنا لا يهمني أمره كما لا يهمه أمري. فقال: ولكنك ستدفع ضريبة النفوس (يعني الضريبة الموضوعة على كل نفس). فقلت: هل أنتم الذين أعطيتموني نفسي لأدفع ضريبة عنها؟ فقال: وستدفع الرسوم أيضا. فقلت: إنني لا أدفع شيئا. قال: ولكن جميع الناس يدفعونها. فقلت: إذا كان جميع الناس يدفعون وجب أن لا يدفعوا؛ لأنه لا يعود يوجد من يقبض. فقال لي: يوجد القيصر. فقلت: القيصر هو القيصر، وأنا أنا فلا يهمني أمره كما لا يهمه أمري.
وبعد سجنهم إياي تسعة شهور حاكموني لدى محكمة، فقال لي القاضي: انزع قبعتك. فسألت: لماذا؟ قال: لأن المحكمة مجتمعة. فقلت: المحكمة محكمتكم وأنا ملك نفسي. فقال: يجب أن تنزعها. فسألته: أمام من؟ فقال: أمام المحكمة. فقلت: إنني لا أعرف المحكمة ولذلك لا أكشف لها رأسي احتراما. فتقدم مني رجل ونزع القبعة عن رأسي بالرغم عني، فجلست حينئذ على الأرض غير مبال بهم.
فقال لي الرئيس: أيها المتهم انهض. قلت: أنا لست متهما. فقال: تفضل وانهض احتراما للقانون. فقلت: إن القانون لم يوضع من أجلي، ولكن من أجل الأشقياء، وإذا كنتم أنتم خاضعين للقانون فإنكم لا تستحقون أن تكونوا قضاة لي.
فقال القاضي: أتعترف بذنبك؟ فأجبته: وأنت تعترف بذنبك؟ قال: أي ذنب؟ فقلت: وأنا أي ذنب؟ قال: ذنبك عصيت المحكمة ورفضت نزع قبعتك. فقلت له حينئذ: إذا كنت لم أنزع قبعتي فذلك لأنني حريص على صحتي. فإنكم هنا تدخنون، وتبصقون على الأرض؛ فالبصاق يمتزج بالتراب، ثم يجف، ويتطاير في هواء الغرفة، ويقع على الرءوس، فإذا كان رأسي مكشوفا وصل الغبار إليه، ثم دخل إلى الدماغ، وأحدث فيه اضطرابا، ولذلك ترون عقولكم أنتم الجالسون ههنا كلها مضطربة، ولماذا تعذبونني؟ إنني لم أؤذ قط أحدا، ولم أضر أحدا، ولم أسرق ولم أقتل، ومع ذلك فإنكم أودعتموني السجن مع القتلة واللصوص، أليس هذا دليلا على أن عقولكم مضطربة.
فقرع الرئيس حينئذ الجرس ودخلوا للمذاكرة، ثم خرجوا، وأصدروا الحكم، ونصه: «برئت ساحة المتهم، ولكن يجب أن يدخل إلى مستشفى قزان لفحص قواه العقلية.»
فلما دخلت إلى المستشفى المذكور جاءني طبيبه قائلا: لقد كتبوا إلي أنك لا تؤمن بالله، فهل ذلك صحيح؟ فقلت له: وأين الله؟ فقال في كل مكان. قلت: لا تقل في كل مكان، فإنه لو كان في كل مكان لكان ساكنا في الذين يقتلون والذين يضطهدون. فسألني: أين هو إذن؟ فأجبت: إنه ساكن في الضمير الصحيح والعقل السليم؛ لأن العقل والضمير لا يشتركان في القتل والآثام. فقال الطبيب: اسمع يا لابسف إنني لا أريد لك إلا كل خير، ولكنهم كتبوا لي أنك فرد مؤذ مضر من أفراد الهيئة الاجتماعية. فقلت له: إذا كنت مؤذيا ومضرا فأرسلني إلى مكاني الحقيقي. فقال: أين مكانك الحقيقي؟ قلت: حيث لا يكون لكم ولشرائعكم من أثر. فقال: لا أقدر على ذلك؛ لأني لا أعرف في العالم مكانا خاليا من الشرائع والسلطة. فأجبته: فهل الذنب ذنبي إذا كنتم قد جعلتم أنفسكم على مثال الآلهة فاستوليتم على الأراضي والشعوب لتتصرفوا فيها تصرفكم بأملاككم الخصوصية؟ إن الصانع يستبد بمصنوعاته فيكسرها ويلقيها دون أن يسأله أحد عنها لأن ذلك من حقه، فهل إن الشعوب ملك لكم حتى تصنعوا بها كذلك؟
فقال الطبيب: لا تنطق بهذا الكلام يا لابسف فإن الإنسان أصبح اليوم حرا وهو سيد نفسه. فقلت: نعم، هو سيد نفسه على الورق فقط وفي بطون الكتب، أما في الحقيقة فهو ليس سيدا، وإذا كان كل واحد سيدا لنفسه فلماذا تعذبونني؟ هل للسيد أن يعذب السيد؟ إنكم فرقتم بيني وبين رفيقتي التي كنت أعيش معها بلا موجب لذلك، أنتم تفرقون بين الرجال ونسائهم ثم ترسلونهم إلى الجندية للقتل والذبح، وبذلك تنشرون فساد الأخلاق بين البشر؛ لأن الرجل والمرأة حينئذ يرتكبان الخطيئة وأنتم السبب في ذلك. لماذا فرقتم بيني وبين امرأتي وسجنتموني ههنا تطعمونني وتسقونني كأنني خنزير يعلف ليسمن؟ أنا لست خنزيرا، ولا أحب أن آكل خبز غيري في البطالة والكسل؛ لأنني قوي الجسم قادر على كسب خبزي دون أن أسفك الدم المسيحي كما تصنعون. إن الرجل الذي يأكل خبز غيره من غير بذل عرق جبينه يكون خبزه مغموسا بالدم، فكأنه كان قاتلا. فأنا لا أريد أن أكون قاتلا. أنا لا أريد أن آكل خبزا دمويا. فلماذا لا تتركوني أعمل لآكل خبزي بعرق جبيني؟ لماذا تلزمونني بهذه الخطيئة؟
فقال الطبيب: اترك هذه التخرصات يا لابسف. قلت: ما هذا الكلام بتخرص، ولكنه كلام ذي عقل سليم. إن الله لا يكره الإنسان على الخير ولا على الشر، وأما أنتم فتكرهونني على كل شر. فقال: على أي شيء أكرهناك؟ قلت: تكرهونني على أن أنزع قبعتي عن رأسي، وأجثو أمامكم لأعبدكم، ولا يوجد إلا إبليس الذي يطلب أن يعبدوه، أنا لا أريد أن أجثوا أمام أحد، ولم يطلب أحد من خدمة الله أن يجثو الناس أمامهم، بل قد حرموا ذلك؛ لأن العبادة حرام إلا لله، ومع ذلك فعبادة الله تكون بالروح لا بالجسد؛ لأن الله روح هو. من أجل هذا أرى من التجديف والكفر بنعمة الله أن يجثو مخلوق أمام مخلوق، وبما أنني كرهت أن أجثو أمام الناس قبضوا علي وسجنونني، فجاء سجني طبقا لقول يوحنا: سيأتي زمن يضعكم فيه إبليس في السجن ليجربكم، فإبليس هو الذي أودعني السجن.
ثم أقمت في هذا المستشفى ستة أسابيع، وبعد ذلك أرسلوني لأقيم في قرية كوفانتزا التابعة لإقليم أرزاماس من ولاية نيجني نوفوكورود.
فاستدعيت في نيجني للمحاكمة مرة ثانية فلم أجب المحكمة بشيء، فأبقتني في السجن سنة، ثم حكمت علي بالحبس ثلاثة شهور.
وفي سنة 1881 قتل القيصر إسكندر الثاني، فرفضت أن أقسم يمين الطاعة لخلفه إسكندر الثالث؛ لأنني لا أعترف بشرائع البشر ونظامهم، فقالوا لي: أتريد إذن أن تدخل السجن يا لابسف؟ قلت: ولماذا؟ قالوا: لأنك لا تقسم يمين الطاعة للقيصر. فأجبتهم بما أجبتهم به قبلا: القيصر هو القيصر وأنا أنا فلا يعنيني أمره كما أنه لا يعنيه أمري.
وبعد ذلك جئت باكو، ثم انتقلت منها إلى إليزابتبول والقرص، فأقمت في القوقاز عشر سنوات، ثم سافرت إلى فلاديفوستوك، ومنها رجعت في 28 الماضي إلى باكو لأرى بعض الأصدقاء وأفسر لهم آيات سألوني تفسيرها.
هذا ما أنقله إليك أيها المحترم ليون نيكولا يفتش، وهو يتضمن كل إيماني، فإذا كان ينقصني شيء فأخبرني عنه في رسالة منك، قد قرأت كتابك «سيروا في النور ما دام النور موجودا» فوجدته منطبقا كل الانطباق على أفكاري، ولذلك كتبت لك هذا. أنا في هذا التاريخ في الحياة والصحة، فأرجو مثلهما لك.
أندريا باسيليفيتش لابسف
الذي لا يعرفك وهو في الخمسين من عمره
جواب الفيلسوف تولستوي
فأجاب الفيلسوف تولستوي عن هذا الكتاب بالكتاب التالي:
أيها الأخ المحترم أندريا باسيليفيتش
تناولت كتابك، وسررت بأنني عرفتك وعرفت إيمانك.
والآن أخبرك أن نفس الاضطهاد الذي أصابك يدل على أنك سائر في طرق المسيح، وكل رجل يسير في هذه الطرق لا بد أن يصدم في طريقه ملك هذا العالم. إن الإنسان يجب أن لا يخفي النور تحت المكيال، بل أن يضعه في مكان ينير الناس، وهذا أمر لا يريده ملك هذا العالم؛ لأن النور يظهر ظلمه وأعماله؛ فلذلك يجب على الراغبين في مساعدة التقدم وإنشاء مملكة الله في الأرض أن يكشفوا الستار عن أعماله مهما أصابهم من الاضطهاد، وبناء عليه فإني أسأل الله أن يعينك.
أنا من رأيك في كل ما ذكرته في كتابك، وأوافق على أقوالك كل الموافقة، غير أنني أريد أن أقدم لك نصيحة، وهي أنك حين كشف الستار عن كذب الناس لا تنس المحبة الواجبة لأخيك التائه الذي تكشف ذنبه، واعتمد بالأكثر على العقل والمحبة لا على آيات الكتاب؛ لأن الكتاب مكتوب بيد الإنسان، فليس هو بمعصوم، وكل واحد يفسره كما يشاء، أما العقل السليم فإنه يردنا رأسا من الله، وهو واحد لا يتغير في التتر كما في الصينيين وفي سائر الشعوب، وليس في استطاعتنا إنكار شعوره وتكذيب تعليمه؛ إذ لا ينكره ويكذبه إلا الذين يرفضون معرفة الحقيقة.
وإني أضع لك في كتابي هذا مقالات صغيرة عن الإيمان الذي أؤمن به، منها مقالتان من قلمي؛ إحداهما عنوانها «وصايا المسيح»، والثانية «كيف يجب أن نقرأ الإنجيل»، وأما المقالات الأخرى فليست من قلمي، ولكني موافق على ما فيها. ا.ه.
أخوك الذي يحبك
ليون تولستوي
هوامش
ناپیژندل شوی مخ