ثم إن الكونت يعترض على أن منشور المجمع يتضمن نميمة ضده حركت الناس على شتمه وقذفه بأقبح أنواع المثالب، والذي دعاه أن يعترض هذا الاعتراض هو أن المجمع المقدس ينسب إليه أنه كرجل غيور متعصب ينشر تعاليمه، ويقول تولستوي: إن هذا المدعى لا ظل له من الحقيقة، وهاك كلماته: «إني لم أجتهد أبدا لنشر تعاليمي.»
ولا جرم أن القارئ يستغرب هاته الكلمات؛ لأن تولستوي يعرف تمام المعرفة بأن مؤلفاته «وعلى الأخص الأخيرة» ستطبع برمتها، وتروج رواجا عظيما، وينتشر مئات وألوف منها في جميع أقطار العالم؛ وبالأخص في روسيا، فكيف يقول إذن لا ذنب له بنشر تعاليمه الكاذبة، والمجمع المقدس محق بما قاله من أن تولستوي كمتعصب غيور كان ينشر تعاليمه منذ سنين عديدة، ويكرز بها بقصد هدم عقائد الكنيسة المقدسة، والمجمع جمع بهذا القول جميع أعمال تولستوي العلمية بقطع النظر عن الطرق التي كان يستعملها لبث هذه التعاليم؛ سواء كان يطوف بين الشعب بنفسه للوعظ بها أو كان يرسل بذاته مؤلفاته للمطابع، أو كان يعهد بذلك إلى أصدقائه ومريديه، ومعلوم أن من يقدم السم لإنسان فلا شك أنه يقترف إثما عظيما، ولكن الأعظم منه ذنبا هو ذاك الذي يركب السم؛ لأنه يعلم أن القصد من عمله هلاك شخص ما، وهذا عمل فظيع، وإثم كبير، وبالإجمال، إن هذه النقطة من كتاب تولستوي لا تخلو من الغرابة.
وأغرب من ذلك وأعجب ما قاله الكونت في اعتراضه وتكذيبه المجمع بما جاء في منشوره من أن الكنيسة لم تستعمل أدنى وسيلة لإرشاده مع أنه حضر إليه عدة رهبان بهذا الخصوص فكانوا يحادثونه عن الإيمان، وكان هو يقبلهم ويحادثهم برضاء تام، حتى إنه صرح بذلك لبعض أصدقائه من الأشراف والعظماء، وأخبرهم بما كان يدور بينه وبينهم من المباحث الدينية، وأنه كان يعلم بأن هؤلاء الكهنة يأتون إليه من قبل الأساقفة ككاهن سجن تولا وغيره. فهل بعد ذلك يحق لحضرته أن يقول بأن الكنيسة لم تعظه أو ترشده وتنبهه إلى غلطه العظيم وخطئه الفاحش؟! وربما يدعي بأن المجمع المقدس لم يرسل إليه أحدا رأسا، وأن الكهنة المرسلين من قبل الأساقفة وليس من قبل المجمع، فنجيب على ذلك: إن المجمع والأساقفة مرتبطون ببعضهم ارتباط حلقات السلسلة، وفي كل الأحوال أخطأ كاتبنا الشهير خطأ عظيما لا يغتفر.
ثم يقول الكونت بأنه ترك الكنيسة بعد أن درس تعاليمها بكل دقة وإيضاح، فكان كلما يزيد في الدرس والبحث يزداد شكا في صدق تلك التعاليم. أجل، إن هذا الحادث محزن جدا، ولكنه من جهة أخرى ليس هو الوحيد من هذا القبيل، وإن مثل هذا يحدث ليس من كذب تعاليم الكنيسة ولا من أي شيء يلم بها، بل من ضعف إيمان وتشعب أفكار من يبحث في هذه التعاليم بحثا يخالف وضعها، وينظر إليها نظرا يطابق أفكاره الفاسدة. وقد أوضح الكونت نسبة الإنسان إلى الكنيسة وأسرارها في روايته «حنه كارينينا»؛ وخصوصا عند ذكره الصلاة أمام فراش نقولا ليفين، وهو رجل ابتعد عن الكنيسة ورفض تعاليمها، وبقي على حالته مدة طويلة، غير أنه في آخر حياته أصيب بمرض عضال، وفي إبان مرضه عاد إلى الكنيسة، وأمر أن تقام في غرفته صلاة، وذلك عندما كان على فراش الموت ظانا أنه بواسطة هذه الصلاة يتجدد الإيمان في نفسه، وهذا الإيمان يشفيه من مرض السل؛ فكان ينظر إلى الأيقونة نظر من يسأل شيئا، ثم أخذ يتفرس في وجهه لعله يقرأ في ملامحه جوابا لسؤاله، وكان نقولا يكرر رسم الصليب أمام الأيقونة مرات متواصلة مجتهدا؛ لكي يدب الحرارة في قلبه الميت، ولكنه لم ينل متمناه، وذهبت أتعابه أدراج الرياح، فأمر بعد نهاية الصلاة بطرح الأيقونة خارجا بعد أن وجه إليها كل عبارات السفه والشتائم.
فالكونت تولستوي يوضح تعاليم الكنيسة في رواياته بأمثال كهذه، والإنسان لا يريد أن يفهم بأن الخلاص لا يتم إلا بتهذيب النفس الأدبي، وأنه يقدر أن يشترك مع الله بالقداسة فقط، وهو - أي الإنسان - عجول في كل أموره، ويزعم بأنه إذا فعل بعض المظاهرات الخارجية يرتقي حالا إلى قمة الخلاص الديني، ويقتطف حالا جميع أثماره الشهية، وهو يزعم أيضا بأن الأسرار تقوم بمثابة علاج شاف لذلك، وبمجرد إتمامها يتصور أنه سيشعر فورا بتأثيرها في داخل نفسه، وأعماق قلبه! وما قلناه عن هذا نقوله عن جميع تراتيب الكنيسة. فالإنسان لا يلحظ ولا يشعر بالمفعول الذي ينجم عن تناوله الأسرار أو تتميم جميع فروض الكنيسة؛ لأن حالته الروحية الأدبية التي تؤثر فيها تلك الأسرار والفروض الموضوعة لها قد انفسدت فسادا ظاهرا، فيعتقد أنها عديمة التأثير والنتيجة، وأنها بحد ذاتها لا أهمية لها، ومع اعتقاده هذا يسعى للحصول على اقتطاف أثمارها ليأكلها بقبول وشهية! فأسرار الكنيسة لا تخلص الإنسان عندما يستعملها كعلاج للخلاص، بل تخلصه عندما يتناولها بقصد إنكار النفس الداخلي وحمل الصليب بتقديم نفسه ضحية لله. على هذه الصورة تعرف الكنيسة نفسها، وتفهم معنى أسرارها، ويحذو حذوها جميع أبنائها المسيحيين الحسني العبادة الذين يصرحون بهذا الاعتقاد في كل زمان ومكان، ولا عجب إذا وقع على رهباننا وعلى شعبنا البسيط وجل عظيم لدى مطالعتهم في رواية البعث كتابة تولستوي عن سر المناولة؛ لأنه ما كان يدور بخلدهم أنه يوجد إنسان على الأرض يعرف سر المناولة على طريقة تولستوي المادية. ولنا ملاحظة أخرى على الكونت لا بد لنا من إيضاحها، وهي أنه في آخر كتابه يقول إنه يستطيع أن يغير أفكاره عندما يجد معتقدا أوضح من معتقده، ولكنه لا يقدر أن يرجع إلى أحضان الكنيسة ويحسب من أبنائها، كما أن الطير لا يستطيع أن يرجع إلى قشر البيضة التي خرج منها. فيظهر من كلامه هذا بأنه لم يزل مشككا بصحة مذهبه الجديد، وبذلك يكذب نفسه بنفسه، ولا خير في مذهب لم يزل صاحبه مرتابا بصحته، ثم إن الكونت يقول إنه يؤمن بإله روح ومحبة، ويزعم بأنه إذا جمع عدة ألقاب مرادفة يعبر عن إيمانه، ولكن يا ترى ما هو إله المحبة إذا لم يكن في الوقت نفسه ذاتا؟ وهل لهذه المحبة معنى أزلي بعيد الغور يطابق ناموس الحياة العالمية العامة؟ وهذه المحبة نراها ثابتة حقيقية أزلية في الله المثلث الأقانيم. وتولستوي يستمد أصل معتقده الجديد من الديانة التي تركها، واستهزأ بها، وتهكم عليها، وكذلك ما قاله عن خلود النفس والعقاب والثواب، فإنه مبهم كل الإبهام، وإذا لم يكن هذا الخلود موضحا إيضاحا تاما ومعرفا تعريفا ظاهرا، فإذن بالطبع لا يكون شيء بعد الموت، ولا هنالك ثواب أو عقاب؛ لأن الطبيعة دائما في حالة واحدة غير مائتة وعديمة التغيير، وسوف نرى من يتمنى لنفسه خلودا كالخلود الذي يعتقد به تولستوي؛ حيث لا عقاب ولا ثواب! فالكونت تولستوي كلامه يناقض بعضه؛ فمن جهة ينكر تعاليم الكنيسة عن الثواب والعقاب، ومن جهة أخرى عند كلامه على معتقده بهذا الخصوص يستعمل نفس الكلام الذي تعبر به الكنيسة عن تعليمها فينجم عن ذلك حالة حرجة، وهي أن الإنسان يحب شخصا ويحترمه ويسأله، ويوجه كل أفكاره لتتميم إرادته، ولكن في الوقت ذاته يثبت أن ذلك الشخص ليس له إرادة ولا معرفة، وينهى عن محبته وإكرامه، وإذا كان الكونت يعترف بوجوب الصلاة، ويقول إن أساس الحياة هو الله المحبة ، وأنه يجب على الإنسان أن يتمم إرادته، فمن هذا القبيل يكون هو الإله الحي الذي تعترف به الكنيسة المقدسة، وينكره بالفكر والقول الكونت تولستوي.
ثم إنه لنا مزيد الأمل برجوع الكونت إلى أحضان الكنيسة، وصيرورته من أبنائها، واعتقاده بتعاليمها، وذلك بالنظر لسمو أفكاره وسعة مداركه حقق الله آمالنا به، غير أن تابعيه يحولون دون رجوعه إلى التوبة، ولكنه ما دام معنا، ولم يحن له الوقت للوقوف أمام الديان العظيم، فلا نقنط من مراحم الله غير المتناهية، وينبغي علينا أن نصلي إليه بحرارة إيمان؛ لكي يرحم عبده ويرده إليه، ويؤهلنا معه بقلب واحد وفم واحد أن نمجد اسمه القدوس. ا.ه.
الفصل الثالث
كتاب مكشوف للكونت تولستوي من رجل كان على مذهبه ثم ارتد إلى الكنيسة
أيها الكونت ليون نيكولا يفتش
إنه من ذاك الوقت الذي افترقنا به؛ أي منذ عدت أنا أرثوذكسيا، وقد مر على ذلك نحو ثمانية أعوام لم أعد أخاطبكم بما هو مهم لنا نحن الاثنين، وقد عزمت عدة مرار على أن أكتب لكم، لكنه لإيقاني بأن كتابتي لا تجدي نفعا فأحجم عن ذلك. غير أني الآن لما قرأت ردكم الأخير على قرار المجمع بشأنكم عزمت أن أكتب لكم بعض كلمات، فأخذت اليراع وفؤادي يختلج في صدري من عظم التأثير الذي ألم بي، وأنا لم أر شيئا جديدا في اعترافك الجديد؛ لأنه معلوم لدي منذ كنا سوية.
ناپیژندل شوی مخ