سياسي وكفاية إداري وعزيمة عصامي وابتكار عبقري، فلو قيض لها رجل من هؤلاء الرجال لكان للعرب شأن كبير وتاريخ جديد.
لم يبعث لينسخ باطلا بباطل:
ولكنّ محمدًا ﷺ لم يبعث لينسخ باطلًا بباطل ويبدل عدوانًا بعدوان، ويحرم شيئًا في مكان ويحله في مكان آخر، ويبدل أثرة أمة بأثرة أمة أخرى، لم يبعث زعيمًا وطنيًا أو قائدًا سياسيًا، يجر النار إلى قرصه ويصغي الإناء إلى شقه، ويخرج الناس من حكم الفرس والرومان إلى حكم عدنان وقحطان. وإنما أرسل إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، إنما أرسل ليخرج عباد الله جميعًا من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ويخرج الناس جميعًا من ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات، ويحرم عليهم الخبائث، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
فلم يكن خطابه لأمة دون أمة ووطن دون وطن، ولكن كان خطابه للنفس البشرية وللضمير الإنساني، وكانت أمته العربية لانحطاطها وبؤسها أحق من يبدأ به مهمته الإصلاحية وجهاده العظيم، وكانت أم القرى والجزيرة العربية لموقعها الجغرافي واستقلالها السياسي خير مركز لرسالته، وكانت الأمة العربية بخصائصها النفسية ومزاياها الأدبية خير محل لدعوته وخير داعية لرسالته.
قفل الطبيعة البشرية ومفتاحها:
ولم يكن ﷺ من عامة المصلحين الذين يأتون البيوت من ظهورها، أو يتسللون إليها من نوافذها، ويكافحون بعض الأدواء الاجتماعية والعيوب الخلقية فحسب،
فمنهم من يوفق لإزالة بعضها مؤقتًا في بعض نواحي البلاد، ومنهم من يموت ولم ينجح في مهمته (١) .
_________
(١) إن غاندي الزعيم الهندي الكبير هدف من أول حياته السياسية والروحية إلى مبدأين عظيمين حصر فيهما زعامته السياسية وشخصيته الروحية القوية النادرتين في هذا العصر جعلهما شعارًا لمبدئه: الأول " لا عنف ولا مقاومة " وقد دعا إلى هذا المبدأ كديانة وفلسفة، وظل سنين طوالا يدعو إليه بخطبه ومقالاته وصحفه، واستنفد في ذلك جهوده ولما لم يكن ذلك عن طريق التغيير النفسي وعن طريق الدعوة الدينية الأساسية لم تؤثر دعوته في نفسية أمته تأثيرًا عميقًا، وقد جعلت هذه الأمة دعوته هباء منثورا في الاضطرابات الطائفية العظيمة التي وقعت في بنجاب الشرقية ودلهي عاصمة الهند في سبتمبر سنة ١٩٤٧م التي قتل فيها من المسلمين أكثر من نصف مليون، وكانت مجزرة هائلة وقع فيها من القسوة والهمجية والاعتداء على الأطفال والنساء والأعراض ما لا يكاد يصدقه المؤرخون، حتى انتهت باغتيال هذا الرجل العظيم الذي بلغت به أمته حد التقديس والتأليه.
والمبدأ الثاني: نسخ اللمس المنبوذ، ولم ينجح في مهمته هذه كذلك نجاحًا يعتد به، فكان ذلك برهانًا سطعًا على أن طريق الأنبياء هو الطبيعي الصحيح في الإصلاح والتغيير.
1 / 80