«اعلم أن العجم والروم لما توارثوا الخلافة قرونًا كثيرة وخاضوا في لذة الدنيا ونسوا الدار الآخرة واستحوذ عليهم الشيطان، وتعمقوا في مرافق المعيشة وتباهوا بها، وورد عليهم حكماء الآفاق يستنبطون لهم دقائق المعيشة ومرافقها، فما زالوا يعملون بها ويزيد بعضهم على بعض ويتباهون بها حتى قيل إنهم كانوا يعيرون من كان يلبس من صناديدهم منطقة أو تاجًا قيمتها دون مائة ألف درهم أو لا يكون له قصر شامخ وآبزن (١) وحمام وبساتين، ولا يكون له دواب فارهة وغلمان حسان، ولا يكون له توسع في المطاعم وتجمل في الملابس وذكر ذلك يطول، وما تراه من ملوك بلادك يغنيك عن حكاياتهم، فدخل كل ذلك في أصول معاشهم، وصار لا يخرج من قلوبهم إلا أن تمزع، وتولد من ذلك داء عضال دخل في جميع أعضاء المدينة وآفة عظيمة، ولم يبق منهم أحد من أسواقهم ورستاقهم وغنيهم وفقيرهم، إلا قد استولت عليه وأخذت بتلابيبه، وأعجزته في نفسه وأهاجت عليه غمومًا وهمومًا لا أرحاء لها، وذلك أن تلك الأشياء لم تكن لتحصل إلا ببذل أموال خطيرة، ولا تحصل تلك الأموال إلا بتضعيف الضرائب على الفلاحين والتجار وأشباههم والتضييق عليهم، فإن امتنعوا قاتلوهم وعذبوهم، وإن أطاعوا جعلوهم بمنزلة الحمير والبقر تستعمل في النضح والدياس والحصاد، ولا تقتنى إلا ليستعان بها في الحاجات، ثم لا تترك ساعة من الغناء، حتى صاروا لا يرفعون رؤوسهم إلى السعادة الأخروية أصلًا ولا يستطيعون ذلك، وربما كان إقليم واسع ليس فيه أحد يهمه دينه (٢» .
_________
(١) فسقية.
(٢) حجة الله البالغة «باب إقامة الارتفاقات وإصلاح الرسوم»
1 / 76