قلنا: إن تجارب البالغ قبل أن يهجم على دلالات الرسل تأتي على جميع ذلك. ولعمري أن لو كان هجومه عليها قبل المعرفة بمجاري وتصريف الدهور وعلاقات الدنيا، والتجربة لتصريف أمورها، لما وصل إلى معرفة صدق النبي إلا بعد مقدمات كثيرة، وترتيبات منزلة؛ لأن مشاهد الشواهد إنما تضطره المشاهدة لها إذا كان قد جرب الدنيا، وعرف تصرفها وعادتها قبل ذلك.
ولو لم يكن جربها قبل ذلك حين عرف منتهى قوة بطش الإنسان وحيلته، وعرف الممكن من الممتنع، وما يمكن قوله بالاتفاق مما لا يمكن، لما عرف ذلك.
فإن قالوا: وكيف جرب ذلك وعقله، وأتقنه وحفظه، وهو طفل غرير وحدث صغير ؛ لأن غير البالغ طفل إلى أن يبلغ، وحين يبلغ فقد هجم على النبي صلى الله عليه وسلم وشواهده، أو هجم عليه النبي بشواهده، إما بخبر مقنع أو بعيان شاف. ففي أية الحالين جرب وعرف، وميز وحفظ، في حال الطفولة والغرارة؟ وهذا غير معروف في التجربة والعادة، والذي عليه ركبت الطبيعة.
أما في حال البلوغ والتمام فحال البلوغ هي الحال التي أبلغه الله الرسالة، وقاده إلى رؤية الحجة، واستماع البرهان ومخرج الرسالة.
فإذا كان الأمر، كما تقولون فقد كان ينبغي أن لا يصل إلى العلم بصدق النبي وقد أراه برهانه، وأسمعه حججه، حتى يمكث بعد ذلك دهرا يمتحن الدنيا ويتعقب أمورها، ويعمل التجربة فيها. فإن كان ذلك كذلك فلم سميتموه بالغا، وليس في طاقته بعد العلم يفصل ما بين النبي والمتنبي؟
مخ ۶۲